توطئة:
أ ـ تتفاوت الذوات، وتختلف القابليات، والناس معادن. والموهوبون على ندرة في البشر، ومن يرتفع عن مقياس العباقرة الموهوبين أعز وأندر.
ب ـ والكمال المطلق لواهبه، ويتقاسم الأفذاذ من مائدة الكمال كل قدر وعائه، وملء إنائه، فالقلوب أوعية وخيرها أوعاها. وقد رشح الدهر بعينات نادرة اختصت بصنف من الملكات يكاد منجمها وقفاً على تلكم الأفذاذ.
جـ ـ أما من تتعانق فيه غر الكمالات، وتتزاخر فيه درر الملكات، ويتزاحم إلى الانتساب إليه أكمل ما يتفاوت فيه النبلاء، وأجمل ما يتسابق إليه العقلاء ـ ومن العيار الثقيل الفريد ـ فهو ما لا يجود به عمر الدهر على فسحه مداه إلاّ لماماً.
وَعَليٌّ نُسخَةٌ في كِتابِ الوجودِ فَرِيدَة
ولاستجلاء ذاته في كمالاته، وكمالاته في ذاته، حتى ندنو من كوّه النور فيهدينا إلى منجم ما فوق العبقريات لابد من التملي في باقات من جنبات حياته وجنائن أفكاره المخصبة الوديان، والواسعة الآفاق، تهطل سماؤها مطراً، وتنبت أرضها ثمراً.
الفصل الأوّل
عبق السيرة
1 ـ إطلالة الإشراق:
ونبدأ بالحديث عن علي في ولادته في عالم الأرض لا في عالم السماء والملأ الأعلى ـ حيث حديث النور ـ وإن امتزج حديثهما واتحد عالمهما فلا يكادان إلاّ متصلين.
وإشراقة (عليّ) حملت أوسمتها معها، وآذنت بالشأن الفريد لمولود الكعبة الوحيد، ورمزت إلى الإعداد الإلهي لشخصية فذة ـ ومن يومها الأول ـ تناط بها مهمات عظام تلتقي وجلال الحديث المميز.
قال شهاب الدين محمود الآلوسي ـ صاحب تفسير الكبير ـ في "سرح الخريدة الغيبية في شرح القصيدة العينية" لعبد الباقي العمري ص: 15 عند قول الناظم:
أَنْتَ العَلِيُّ الّذي فَوقَ العُلَى رُفِعَا | بِبَطنِ مَكَّةَ وَسْطَ البَيتِ إذْ وُضِعَا |
"وكون الأمير ـ كرّم الله وجهه ـ وُلد في البيت مشهور في الدنيا وذكره في كتب الفريقين السنة والشيعة... ولم يشتهر وضع غيره ـ كرّم الله وجهه ـ كما اشتهر وضعه بل لم تتفق الكلمة إلاّ عليه، وما أحرى بإمام الأمة أن يكون وضعه فيما هو قبلة للمؤمنين، وسبحان مَن يضع الأشياء في مواضعها وهو أحكم الحاكمين"(1).
وقال الشيخ محمّد حسين آل كاشف الغطاء: "وفي ولادته رمز آخر لعلّه أدق وأعمق، وهو أن حقيقة التوجه إلى الكعبة هو التوجه إلى ذلك النور المتولد فيها، ولو أن القصد محصور على محض التوجه إلى تلك البنية وتلك الأحجار لكان نوعاً من عبادة الأصنام ـ معاذ الله ـ ولكن التناسب يقضي بأن البدن وهو تراب يتوجه إلى الكعبة التي هي تراب، والروح التي هي جوهر مجرد تتوجه إلى النور المجرد، وكل جنس لاحق بجنسه، والتراب للتراب..."(2).
وقال أيضاً: "ولكن لم يبحث أحد من العلماء الراسخين عن سر هذا الرمز الإلهي والإيمان الربوبي، ولعلّه إشارة إلى ما بينه وبين الكعبة من المناسبة، فكما أن الصلاة لا تقبل ولا تصح إلاّ بالتوجّه إليه(3) فكذلك الأعمال كلّها لا تقبل إلاّ
____________
1- الشيخ عبد الحسين الأميني: الغدير، ج6 / ص: 38، ط4، مطبعة الحيدري، طهران ـ ايران. وقد أغرق الشيخ المؤلف نزعاً في إيراد المصادر والأشعار ولم يبق في القوس منزعاً رضي الله عنه وأرضاه.
2- الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء: جنة المأوى، ص: 45، تحقيق السيد محمّد علي القاضي الطباطبائي، ط2، 1397هـ، مطبعة شفق ـ ايران ـ تبريز.
3- هكذا جاء بالتذكير، ولعلّ الصحيح (إليها). [ وكذا في قوله وهو كعبة الظواهر، العاكف... ولعل الصحيح (وهي) وكون الجمع لذريته والمفرد له بعيد عن السياق. اللجنة ].
ولعل الحق ـ جلّ شأنه ـ إنما شرّفها في عالم الأزل لسابق علمه الأزلي بأنها ستكون مهبط ذلك النور الأقدم، ومحط ذلك التجلّي الأعظم، وموضع بزوغ ذلك القبس الإلهي، والعلم الغير المتناهي، ويشير إلى هذا ما هو المشهور من حديث مفاخر كربلاء والكعبة الذي صدع وسطع منه النداء الربوبي للكعبة: قرّي ياكعبة وتطامني، فلولا كربلاء ومَن حلّ فيها لما خلقتك ولا شرّفتك.
وإلاّ فليست الكعبة والمشاعر ولا البيت ولا الحجر ولا المروة ولا الصفا لولا طلوع الأنوار منها، وسطوع هاتيك الأقمار الربوبية عنها إلاّ كسائر الأماكن والبقاع، وحقاً مايقول القائل من أعمامنا:
هُمْ كَعبَةُ البَيتِ ومَنْ هُمُ هُمُ | هُمْ عَرفاتٌ والصَّفا وزَمْزَمُ |
ما الرُّكْنُ مالكَعبَةُ ما المَشاعِرُ | هُمْ باطِنُ الأَمرِ وهذا الظاهِرُ(1) |
أجل تلكم بداية تنم عن غاية، وتلكم مقدمة تكمن فيها نتيجة، ولله في خلقه شؤون. وبعد فقد جاء في الزيارة الجامعة الكبرى: (خلقكم الله أنواراً فجعلكم بعرشه محدقين، حتّى منّ علينا بكم فجعلكم في بيوت أذن الله أن ترفع ويذكر فيها أسمه)(2)، وقد كان بيته الحرام أوّل بيت جعله مولداً لعليّ وهو البيت الأرفع الذي ذكره فيه اسمه.
2 ـ التربية الإلهية:
قال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا أديبُ الله وعليُّ أديبي"(3).
____________
1- الشيخ محمّد حسين كاشف الغطاء: جنة المأوى، ص: 305، تحقيق السيد محمّد علي القاضي الطباطبائي، والقائل كما ذكره محقق الكتاب هو الشيخ عباس بن الشيخ حسن بن الشيخ جعفر كاشف الغطاء.
2- وهي مروية عن الإمام علي بن محمّد الهادي(عليه السلام) وهي أعلى وأغنى الزيارات مبنى ومعنى.
3- العلامة الطباطبائي: سنن النبي، ص: 81، المطبعة الإسلامية، ايران ـ طهران 1354هـ.
ولقد كنتُ أتّبعه اتّباع الفصيل أثر امّه، يرفع لي في كل يوم من أخلاقه علماً ويأمرني بالاقتداء به، ولقد كان يجاور في كل سنة بحراء، فأراه ولا يراه غيري، ولم يجمع بيت واحد يومئذ في الإسلام غير رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وخديجة وأنا ثالثهما، أرى نور الوحي والرسالة وأشمّ ريح النبوة، ولقد سمعت رنّة الشيطان حين نزل عليه الوحي فقلت يارسول اللّه ماهذه الرنّة؟ فقال: هذا الشيطان قد آيس من عبادته، إنك تسمع ماأسمع وترى ما أرى، إلاّ إنك لست بنبي ولكنك لوزير، وإنك لعلى خير"(1). "ولئن قرن اللّه بنبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) أعظم ملائكته منذ أن كان فطيماً يسلك به طريق المكارم فلقد قرن اللّه بعليّ أعظم أنبيائه وخاتمه رسله وسيّد خلقه وبريته محمّداً (صلى الله عليه وآله وسلم) فكان كما قال (عليه السلام) يقفوا أثره ويقتدي به ويلازمه"(2).
3 ـ الإنذار الأوّل وخلافة عليّ ووصايته:
قال اللّه العظيم: ( وَأَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الأَقْرَبِينَ )، وقال الرسول الكريم: "فأيكم يؤازرني على أمري هذا على أن يكون أخي ووصيّي فيكم؟ فقال علي الفتى: أنا يا نبيّ اللّه أكون وزيرك عليه، فأخذ محمّد النبي برقبة علي الوصي وقال إن هذا أخي ووصي وخليفتي فيكم فاسمعوا وأطيعوا. فتضاحك القوم قائلين لأبي طالب: لقد أمرك أن تسمع لابنك وتطيع"(3).
____________
1- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، فضل الوحي، ص: 300 ـ تحقيق الدكتور صبحي الصالح، ط 1، بيروت 1980 م.
2- علم الغيب عند الأئمة، ص: 134، بيروت 1411هـ.
3- والحديث قد حفلت به مجاميع النقل، لاحظ بعض مصادره في كتاب "مرجع الخلاف إلى الخلافة" للمؤلف، ص: 51.
ولَعَمْر الحق إنها لجديرة بالدراسة المستوعبة والنظرة الفاحصة الدقيقة فلها من الجلال والخطر مايستوقف الفكر ويلح بالتأمل وتجديد التأمل، وخطة البحث تأبى السبح الطويل(1). وأكتفي بهذه الإشارة والإثارة.
إنّ استنطاق النصوص يقضي بأن قول النبي الحكيم والمبلغ المعصوم: "فاسمعوا له وأطيعوا" ولا سيّما مع مراعاة سوابق هذا القول ولواحقه يدل دلالة جلية على أن نجم الخلافة سيلمع لو آذنت آنذاك شمس النبوة بالغروب.
4 ـ الجود بالنفس أسمى غاية الجود:
وسجّل تاريخ عليّ الحافل بالأمجاد مواقف لم يعهد التاريخ لها مثيلا، فقد ضرب أروع أمثلة التضحية والفداء لمن اتحدث روحه بروحه ونفسه بنفسه، حتى آثره على ذاته فلم يكن عند تفاقم الشدائد وغلواء المحن نظير لابن أبي طالب في مؤازرة النبي ونصرته.
أ ـ فقد روى التاريخ بأن أبا طالب (عليه السلام) كان أيام حصار بني هاشم في الشعب يقيم النبي الأكرم من مضجعه وينيم فلذة كبده علياً منامه فقال علي (عليه السلام): يا أبتاه انّي مقتول ذات ليلة، فقال أبو طالب:
اصبرن يا بنيّ فالصبر أحجى | كل حيّ مصيره لشعوب |
قـد بـلوناك والبلاء شـديد | لفداء الحبيب وابن الحبيب |
لفداء الأعز ذي الحسب الثا | قب والباعِ والفناء الرحيب |
فقال علي (عليه السلام):
أتأمرني بالصبر في نصر أحمد | فواللّه ما قلتُ الذي قلت جازعا |
____________
1- وقد تناولت بنحو من التفصيل لجملة من ملابسات هذا الحديث المثير ضمن أحاديث حول الإمام علي (عليه السلام) وعسى التوفيق يحالفها فتجتمع في كتاب.
ولكنّني أحببتُ أن تـرى نصرتي | وتـعـلم أني لـم أزل لك طائعا |
وسعيي لوجه اللّه في نصر أحمد | نبيّ الهدى المحمود طفلا ويافعا(1) |
ب ـ وبموت أبي طالب (عليه السلام) ناصر الإسلام يشتد خنق المشركين على رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) فيأمره ربه تبارك وتعالى أن يهاجر إلى المدينة، وقد تعاقد الحاقدون على الفتك بالنبي فلابد من خطة تضمن سلامة الحبيب المصطفى وتفوت عليهم غرضهم وتحول بينهم وبين ما يريدون، فمن يا ترى الكفءُ الكريم الذي يؤثر بقاء الرسالة والرسول على نفسه؟! أجل إنه ابن أبي طالب.
"دعا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) علي بن أبي طالب فقال له: يا علي إنّ الروح هبط عليّ بهذه الآية ( وَإِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَيَمْكُرُونَ وَيَمْكُرُ اللّهُ وَاللّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ ) آنفاً يخبرني أن قريشاً اجتمعت على المكر بي وقتلي وإنه أوحى إليّ عن ربّي عزّ وجلّ أن أهجر دار قومي وأن أنطلق إلى غار ثور تحت ليلتي، إنه أمرني أن آمرك بالمبيت على ضجاعي لتخفي بمبيتك عليه أثري، فما أنت قائل وصانع؟ فقال علي(عليه السلام): أو تسلمن بمبيتي هناك يا نبي اللّه؟ قال: نعم، فتبسم علي (عليه السلام) ضاحكاً وأهوى إلى الأرض ساجداً لما أنبأه به رسول اللّه في سلامته"(2).
وقد قال الإمام عليّ (عليه السلام) في ذلك:
وقيتُ بنفسي خير مَن وطئ الحصى | ومَن طاف بالبيت العتيق وبالحجر |
محمّد لمّا خاف أن يمكروا به | فوقّاه ربّي ذو الجلال من المكر |
____________
1- الشيخ المجلسي: بحار الأنوار ج35 / ص: 93، الطبعة الثانية، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت 1408 هـ.
2- بحار الأنوار، ج19 / ص: 60.
وبتُّ أراعيهم متى ينشرونني | وقد وطنت نفسي على القتل والأسر |
وبات رسول اللّه في الغار آمناً | هناك في حفظ الإله وفي ستر(1) |
5 ـ رد الأمانات:
"وكان علي ـ كرم اللّه وجهه ـ بعد أن توجه رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) قام صارخاً بالأبطح ينادي: من كان له قبل محمّد رسول اللّه أمانة فليأت ترد إليه أمانته"(2).
ويذكر أرباب السير قضاءً طريفاً في إبطال دعوى عمير بن وائل الثقفي على علي(عليه السلام) 80 مثقالا ذهبياً وديعة بإيحاء من حنظلة بن أبي سفيان وأبيه وما لابس تلك الدعوى(3).
6 ـ حمل الفواطم والهجرة إلى المدينة:
"خرج (عليه السلام) بالفواطم وخرج معه أيمن بن أم أيمن مولاة النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)وجماعة من ضعفاء المؤمنين"(4).
7 ـ ودخل النبي وعلي المدينة معاً:
"فأراده أبو بكر على دخول المدينة وألاصه في ذلك فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): فما أنا بداخلها حتى يقدم ابن أمي وأخي وابنتي"(5).
"فلما أمسى رسول اللّه فارقه أبو بكر ودخل المدينة ونزل على بعض الأنصار وبقي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بقباء نازلا على بيت كلثوم بن الهدم"(6).
وينتقل الإسلام بدعوته في مكّة إلى تأسيس دولته في المدينة وتسطع لعلي شمس أمجاده كما أشرقت من قبل، وتكشف أيام الإسلام ما لعلي من موقع مميز
____________
1- ابن الصباغ: الفصول المهمة، ص: 501، ط 1، 1408هـ، مؤسسة الأعلمي ـ بيروت.
2- بحار الأنوار، ج19 / ص: 63. الفصول المهمة، ص: 74.
3- قضاء أمير المؤمنين علي بن أبي طالب، ص: 23، للشيخ محمّد تقي التستري، المطبعة الحيدرية ـ النجف.
4- الفصول المهمة لابن الصباغ، ص: 50.
5- بحار الأنوار 19 / ص: 64. الفصول المهمة، ص: 50.
6- أبو علي الطبرسي: إعلام الورى بأعلام الهدى، ص: 76، 1399 هـ، دار المعرفة بيروت.
واللافت حقاً تنوع تلكم المؤهلات وهاتيك الملكات والكمالات التي يستجليها الباحث في الصور الآتية وأنماطها:
الاُولى: المباهلة
وقد قصّ القرآن في قصصه الحق نبأ ذلك بقوله تعالى: ( فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَأَبْناءَكُمْ وَنِساءَنا وَنِساءَكُمْ وَأَنْفُسَنا وَأَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ )(1).
وإن قراءة مقرونه بالتدبر والإنصاف ناطرة إلى أسباب النزول وسائر ما لابس ذلك توقف الباحث الحر على الشأن الأرفع الذي خصّ به سادات البيت النبوي، وعلى المحل الذي خصّ به من بينهم عليّ.
فقد جاء وفد (نصارى نجران) وفيهم زعماؤهم وعظماؤهم ومنهم (السيد) و (العاقب) و (الأسقف) ولهم ما لهم من فخامة الموكب وجمال الهيئة فلم ير المسلمون وفداً مثل وفدهم، جاؤوا لمحاجة نبي الإسلام، في دينه الجديد وقوله في نبيّ الله عيسى المسيح، وينتهي حسم المحاجة بالاحتكام إلى الله ليحق الحق بكلماته، فإذا بالنبيّ يقابلهم بهذا الموكب فيخرج(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليهم مرط من شعر أسود وقد احتضن الحسين وأخذ بيد الحسن وفاطمة تمشي خلفه وعلي خلفها وهو يقول: "إذا أنا دعوتُ فأمّنوا" فما أن برزوا وجلال الله يغشى الأبصار لم يتمالك أسقف نجران أن قال: يامعشر النصارى إنّي لأرى وجوهاً لو سألوا الله أن يزيل جبلاً لأزاله، فلا تباهلوهم فتهلكوا ولا يبقى على وجه الأرض نصراني إلى يوم القيامة.
ومن أجل التعامل والتفاعل مع القضية بما تستحق أعرض بإيجاز لبعض نقاطها:
أ ـ "أجمع أهل القبلة حتّى الخوارج منهم على أن النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) لم يدع
____________
1- آل عمران: 61.
ب ـ "فالكلام يدل على تحقق كاذبين بوصف الجمع في أحد طرفي المحاجة والمباهلة على أي حال: إما في جانب النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وإما في جانب النصارى، وهذا يعطي أن يكون الحاضرون للمباهلة شركاء في الدعوة فإنّ الكذب لا يكون إلاّ في دعوة، فلمن حضر مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهو علي وفاطمة والحسنان(عليهم السلام) شركة في الدعوى والدعوة مع رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) وهذا من أفضل المناقب التي خصّ الله به أهل بيت نبيّه(عليهم السلام) كما خصّهم باسم الأنفس والنساء والأبناء لرسوله(صلى الله عليه وآله وسلم) من بين رجال الأمة ونسائهم وأبنائهم"(2). هذا وقد نفى أن معنى ذلك أنهم شركاء في النبوة فليلاحظ.
جـ ـ سأل المفتي الآلوسي ـ صاحب التفسير ـ الشيخ حسن الشيخ جعفر كاشف الغطاء في محضر جماعة من العلماء عن وجود نص من الكتاب على النهي عن تخلف الناس عن خلافة أمير المؤمنين(عليه السلام)، فقال: نعم، فتعجب الحاضرون فقال المفتي: فأت به، فقرأ الشيخ آية المباهلة، فقال المفتي: وما الدلالة فيها؟! فقال الشيخ: أسألك ما المراد بـ (أنفسنا)؟ فقال المفتي: المراد به النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) وعليّ(عليه السلام). فقال الشيخ: قال الله تعالى: ( ما كانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ... أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ) وأراد الله بلفظ (نفسه) هو علي(عليه السلام) لا الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) وإلاّ لقال (عنه) فإنّه أوجز وأبلغ وأصرح، وعليه فيكون أهل المدينة بعد الرسول(صلى الله عليه وآله وسلم) قد فعلوا مانهوا عنه وهو التخلّف عن نفس الرسول والرغبة عنها(3).
____________
1- السيد عبد الحسين شرف الدين: الكلمة الغراء في تفضيل الزهراء، ص: 197، ط5، دار النعمان ـ النجف الأشرف.
2- العلامة الطباطبائي: الميزان في تفسير القرآن، ج3 / ص: 224، ط2، بيروت ـ 1392هـ.
3- موسوعة النجف، ج6 / ص: 152. بإشراف الحاج جعفر الدجيلي.
وبعد... فأي مقام أعلى وأي محل أسمى يرتقي فيه (عليّ) فيبلغ في ارتقائه فيتبوأ موطناً يتحد فيه ويلتحم بأقدس الذوات البشرية. ولا يفوت الباحث النظر إلى أن الآية الشريفة تعالج الخصومة بين دين الإسلام الجديد الناسخ ودين النصرانية المنسوخ، ورعى الله مَن أعطى التأمل حقّه.
الثانية: جيش الإسلام
ولابد للحق من قوة تصونه وتحوطه وتدفع عنه العادية وترهب العدو وتحمي الولي، وكان علي(عليه السلام) مفرداً جيش الإسلام كلّه وقوته ومدار شوكته ومركز عزته، فدى نفسه فبات على فراش رسول الله فادياً ومشى خلف النبي حامياً وامتشق الحسام في المعارك ولواء الإسلام يخفق بين يديه فهو حامله لا سواه، وعلى يديه تتم الفتوح دون مَن عداه، فلنلم بشذرات من تلكم الشواهد المآثر والمشاهد:
1 ـ السجل الحافل:
" أتت فاطمة(عليها السلام) النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) فذكرت عنده ضعف الحال فقال لها: أما تدرين ما منزلة عليّ عندي؟ كفاني أمري وهو أبن اثنتي عشرة سنة، وضرب بين يدي بالسيف وهو ابن ست عشرة سنة، وقتل الأبطال وهو ابن تسع عشرة سنة، وفرّج همومي وهو ابن عشرين سنة، ورفع باب خيبر وهو ابن اثنتين وعشرين سنة كاملة، وكان لا يرفعه خمسون رجلاً، قال: فأشرق لون فاطمة(عليها السلام) ولم تقر قدماها حتّى أتت علياً(عليه السلام) فأخبرته فقال: كيف لو حدّثتك بفضل الله عليّ كلّه"(2).
2 ـ سهم الله:
و في حديث أهل الطائف وإبائهم على النبي فقال (صلى الله عليه وآله وسلم) لوفدهم: أما
____________
1- السيد القاضي التستري: إحقاق الحق، ج3 / ص: 46 ـ 76. ج5 / ص: 39، 50، 102. ج9 / ص: 70 ـ 91. ج14 / ص: 131 ـ 148. ج18 / ص: 389، تعاليق السيد المرعشي ط1، لبنان.
2- أبو جعفر محمّد بن علي القمي: الأمالي، ص: 325، ط5، بيروت 1400هـ.
وفي مثل هذا المشهد تمنى فيه عمر بن الخطاب الإمارة ونصب للنبي صدره رجاء أن يشير إليه، ويحدث أبو ذر الغفاري قائلاً: "فما راعني إلاّ برد كف عمر في حجزتي من خلفي يقول: مَن تراه يعني؟ فقلتُ: إنّه لا يعنيك وإنّما يعني خاصف النعل بالبيت"(2).
3 ـ ملك الموت مع علي:
"وكانت قريش إذا رأته في الحرب تواصف خوفاً منه وقد نظر إليه رجل وقد شقّ العسكر فقال: علمت بأن ملك الموت في الجانب الذي فيه علي. وقد سمّاه رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) كراراً غير فرار في حديث خيبر، وكان النبي(صلى الله عليه وآله وسلم) يهدّد الكفار به(عليه السلام)"(3).
4 ـ محا سيف علي الصنائع:
"كان إذا رأى عمر بن الخطاب معدي كرب قال: الحمد لله الذي خلقنا وخلق عمراً وكان كثيراً مايسأل عن غاراته فيقول: قد محا سيف علي الصنائع"(4).
أجل إنّ شجاعة علي نادرة في البطولات كما أن بطلها فريد في الأبطال وقد سبق في مفتتح الحديث إشادة النبيّ الأعظم بالسجل الحافل والتأريخ المشرق لذلكم الأنموذج الفذ الذي واكب وساير أيام النبوة وامتدّ إلى أن ختم له بالشهادة.
____________
1- بحار الأنوار، ج40 / ص: 31.
2- ابن أبي الحديد: شرح نهج البلاغة، ج9 / ص: 167، ط2، بيروت ـ 1385هـ، عن مسند أحمد بن حنبل.
3- بحار الأنوار، ج41 / ص: 68.
4- بحار الأنوار، ج41 / ص: 96.