ولستُ بصدد استقصاء ما خاض من الغمرات وكشف به الكربات، فتلك محاولة رغم طول شقتها لا تفي بتعريف ماضمت عليه جوانح هذا الرجل العجيب ولكني أسلك للتعريف عن تلكم (الهبة الإلهية) عبر شواهد التقييم الصادرة عن نبيّ الإسلام أولاً، وما يحكيه البطل الفذ عن ذاته ثانياً، وما رصده حملة التأريخ وأرباب السير ثالثاً.
1 ـ إنّه منّي وأنا منه:
" قال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لعلي (عليه السلام) يوم أحد وقد كثرت عليه الكتائب: يا علي اكفني هذه الكتبية فحمل عليها وإنها لتقارب خمسين فارساً، وهو(عليه السلام)راجل فمازال يضربها بالسيف حتى تتفرق عنه ثم تجتمع عليه هكذا مراراً حتّى قتل بني سفيان بن عويف الأربعة وتمام العشرة منها، فقال جبرئيل(عليه السلام)لرسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): يا محمّد إنّ هذه المواساة قد عجبت الملائكة من مواساة هذا الفتى، فقال رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم): ومايمنعه وهو مني وأنا منه، فقال جبرئيل: وأنا منكما"(1).
وقد سُمع ذلك اليوم صوت في السماء لا يرى شخص الصارخ به ينادي مراراً: "لا سيف إلاّ ذو الفقار ولا فتى إلاّ علي، فسُئل رسول الله(صلى الله عليه وآله وسلم) عنه فقال: هذا جبرئيل"(2). أجل إنّ علياً في الملأ الأعلى له شأن وأي شأن حيث تُعجب بشجاعته ومواساته ملائكة السماء.
2 ـ ربّ لا تذرني فرداً:
" إنّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) لما بارز علي عَمْراً ما زال رافعاً يديه مقمحاً رأسه نحو السماء داعياً ربه قائلاً: اللّهم إنّك أخذت منّي عبيدة يوم بدر وحمزة يوم أحد، فاحفظ عليَّ اليوم علياً ( رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَأَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ )(3).
أرأيت كيف يكون علي من النبي؟ فإنّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وحوله أصحابه يحوطونه
____________
1- محب الدين أحمد الطبري: ذخائر العقبى في مناقب ذوي القربى، ص: 68، بيروت ـ دار المعرفة وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج14 / ص: 250 ـ 251.
2- أبو جعفر محمّد بن جرير الطبري: تأريخ الطبري، ج2 / ص: 514، ط2، دار المعرفة ـ مصر. ابن الأثير: الكامل في التأريخ، ج2 / ص: 107، دار الفكر ـ بيروت 1398 هـ.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج19 / ص: 60. وللإطلاع على مظان ذلك يراجع "إحقاق الحق"، ج7 / ص: 44 ـ 45، و ج17 / ص: 12، وج20 / ص: 624 ـ 626.
3 ـ كرّار غير فرّار:
وأعدت اليهود عدتها وكل قواها في خيبر لكيد الإسلام وسحق المسلمين وحمي الوطيس ودفع النبي لواء الحرب إلى أبي بكر مرّة، وإلى عمر أخرى، وإلى غيرهما ثالثة، فما كان من هؤلاء إلاّ أن رجع كل منهم خائباً يجبن أصحابه ويجبنونه فانكشف المسلمون وسرى الرعب في نفوسهم وبدا الضعف على صفوفهم(1). ولم يبق مَن ينقذ الموقف ويعيد الروح المعنوية إلاّ البطل المجرب والفاتك المهاب، إنّه ابن أبي طالب... ولكن وأنّى له بخوض الغمرات ودك الحصون ومقارعة الأقران وهو يشكو رمداً في عينيه وقد عصبهما.
أجل لابدّ من عناية السماء لانقاذ أهل الأرض فيعلن النبي على رؤوس الاشهاد من جنود وقواد بعد أن لم يفلح أحدهم في حسم المعركة الشائكة: لأعطينّ الراية غداً إلى رجل يحب اللّه ورسوله ويحبه اللّه ورسوله كرّار غير فرّرا يأخذها عنوة.
وفي الغد دعا علياً فأتى به سلمة آخذاً بيده فرقاه النبي من ريقه الشريف فزال الوجع وأعطاه اللواء فنهض مبادراً للحرب وسرعان ما جدل بطل خيبر المجرب المهاب بضربة على هامته حتى عض السيف منه بأضراسه وسمع أهل العسكر صوت ضربته فما تتام آخر الناس مع علي(عليه السلام) حتى فتح اللّه له ولهم(2).
4 ـ ولقد كان علي(عليه السلام) يبوح بالحديث عن شجاعته في عموم أدوار حياته شاكراً بذلك نعم ربّه عليه ومذكراً العتاة المردة من أعداء اللّه بسيفه الذي حمى به الإسلام فيقول ـ صلوات اللّه على ملكاته ـ: "أنا وضعتُ في الصغر بكلاكل العرب، وكسرت نواجم قرون ربيعة ومضر"(3).
ويكتب إلى معاوية مذكراً ومحذراً: "أنا مرقل نحوك في جحفل من
____________
1- السيد محمّد صادق الصدر: حياة أمير المؤمنين، ص: 246، بيروت.
2- الطبري، ج3 / ص: 12.
3- نهج البلاغة، الخطبة القاصعة، ص: 300.
وقد استوت أيام شجاعته وأيده فلم تختلف فترة الشباب والعنفوان عن زمان الشيخوخة ووهن القوى، فاسمعه واصفاً كاشفاً: "وكأني بقائلكم يقول: إذا كان هذا قوت ابن أبي طالب فقد قعد به الضعف عن قتال الأقران ومنازلة الشجعان، ألا وإنّ الشجرة البرية أصلب عوداً، والروائع الخضرة أرق جلوداً، والنباتات العِذْيَةُ أقوى وقوداً وأبطأ خموداً، وأنا من رسول اللّه كالضوء من الضوء والذراع من العضد، واللّه لو تظاهرت العرب على قتالي لما ولّيت عنها ولو أمكنت الفرص من رقابها لسارعتُ إليها"(3).
وها هو يكرّر هذه المقولة في كتابه لأهل مصل مع واليه مالك الأشتر: "إني واللّه لو لقيتهم واحداً وهم طلاع الأرض كلها ما باليت ولا استوحشت"(4).
وقال(عليه السلام) ـ عن حروبه ـ: "للّه أبوهم! وهل أحد أشدّ مراساً وأقدم فيها مقاماً مني، لقد نهضتُ فيها وما بلغتُ العشرين وها أنذا قد ذرّفت على الستين"(5).
وقال(عليه السلام) مقارناً بين القتل والموت: "إنّ أكرم الموت القتل، والذي نفس ابن أبي طالب بيده لألف ضربة بالسيف أهون عليّ من ميتة على الفراش في غير طاعة اللّه"(6).
5 ـ وأما ما رصده التاريخ وحفظته السير فدونك تأريخ الإسلام في حروبه ومغازيه وأيامه الشدائد، فهل كاشف الكربات ورادُ الكتائب وهازم الأحزاب سوى ابن أبي طالب، وكفى بقول فاطمة الزهراء بضعة محمّد في وصف بعلها:
____________
1- نهج البلاغة، ص: 389.
2- نهج البلاغة، ص: 454.
3- نهج البلاغة، ص: 418.
4- نهج البلاغة، ص: 452.
5- نهج البلاغة، ص: 71.
6- نهج البلاغة، ص: 180.
الفصل الثاني
ممارسة دور الإمامة في حياة النبي
فمضافاً إلى النصوص الجلية الدالة على الخلافة والإمامة فإنا نلحظ اهتماماً بالغاً من النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) بإناطة جملة من المهام الجليلة والتي تعد من شؤونه فيوكل القيام بها إلى شخص الإمام (عليه السلام) رغبة فيه عمن سواه.
أولا: بعث براءة
وفي قصته سبح طويل لا يتسق وقصر البحث، ولكني مجمل القول فيه عبر النقاط التالية:
1 ـ إن موضوعه إبلاغ الناس في موسم الحجّ ومشاهده جملة من البلاغات الإلهية والآيات القرآنية، وقد نزل بذلك وحي من قبل اللّه تعالى: ( وَأَذانٌ مِنَ اللّهِ وَرَسُولِهِ إِلَى النّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الأَكْبَرِ أَنَّ اللّهَ بَرِيءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَرَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللّهِ وَبَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذاب أَلِيم )(2).
2 ـ إن النبيّ الأكرم (صلى الله عليه وآله وسلم) وجه أبا بكر للقيام بأداء تلكم المهمة، وخرج أبو بكر فلما بلغ (ضجنان) أو (ذا الحليفة) أو (الجحفة) بعث إليه وردّه، وأناط المهمة بعلي فارتحل ناقة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى أن أبا بكر لما سمع رغاءها ظنّ أن رسول اللّه هو القادم.
____________
1- الخطبة الشريفة الشهيرة.
2- سورة براءة، الآية: 3.
4 ـ وتحكي أيضاً مزيداً من قلق أبي بكر وتأثيره فقد عبر بعضها "فانصرف أبو بكر وهو كئيب" وفي الكثير منها: "يا رسول اللّه أنزل فيّ شيء" وفي ثالث: "فخرج أبو بكر فزعاً" وفي رابع: "فوجد أبو بكر في نفسه" وفي خامس أنه بكى.
5 ـ عللت روايات (بعث براءة) عزل أبي بكر وتولية علي بهذا النحو: لا يذهب إلاّ رجل من أهل بيتي، ولكني أمرتُ أن لا يبلغها إلاّ أنا أو رجل مني، لا يؤدي عني إلاّ أنا أو رجل من أهل بيتي، لا ينبغي أن يبلغ هذا إلاّ رجل من أهلي، لا يقيم بها إلاّ أنا أو رجل من أهل بيتي، لا يخطب بها...، لن يؤدي عنك إلاّ أنت أو رجل منك، إنّي أمرت أن أبلغه أنا أو رجل من أهل بيتي، لا يؤدي عني إلاّ أنا أو علي، علي منّي وأنا من علي ولا يبلغ عنّي إلاّ علي، لا يؤذن بها إلاّ أنا أو رجل من أهل بيتي.
واقترن تعليل التخصيص والعزل في كثير من تلك الروايات بقوله (صلى الله عليه وآله وسلم)ولكن جبرئيل جاءني، أو ولكني أمرت، ولكن قيل لي، فنزل عليه جبرئيل فقال، وجاء في نقل الشيخ المفيد: "يا رسول اللّه إنك أهلتني لأمر طالت الأعناق إليّ فيه فلما توجهت رددتني عنه، ما لي أنزل فيّ قرآن؟ فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): لا ولكن الأمين جبرئيل (عليه السلام) هبط إليّ عن اللّه عزّ وجلّ بأنه..."(1).
6 ـ ومن حديث ذلك: (ما من بد من أن أذهب بها أنا أو تذهب بها أنت، قال: وإن كان لابدّ فسأذهب أنا، فقال: انطلق فإن اللّه عزّ وجلّ يثبت لسانك ويهدي قلبك، ثمّ وضع يده على فمي وقال: انطلق فاقرأها على الناس"(2).
7 ـ وإذا حللنا هذا البعث والإرسال بما يستحق وتأملنا فيه بما يليق رأينا أن الموقف عظيم بما يحمل من الإنذار والإعذار، وبما يستدعي من مقومات
____________
1- الشيخ المفيد: الارشاد لمن طلب الرشاد، ص: 37.
2- يلاحظ في ذلك: الحاكم الحسكاني: شواهد التنزيل لقواعد التفضيل، ج1 / ص: 231 ـ 243. المسند لأحمد بن حنبل، ج1 / ص: 151، 331.
وهذه الروايات تشرح ملابسات الموقف وتكشف عن واقع قضاياه:
"فلما دخل مكّة اخترط سيفه وقال: واللّه لا يطوف بالبيت عريان إلاّ ضربته بالسيف، حتى ألبسهم الثياب فطافوا وعليهم الثياب"(1).
"ثم لمع بسيفه فأسمع الناس وكرّرها فقال الناس: من هذا الذي ينادي في الناس؟ فقالوا: علي بن أبي طالب، وقال من عرفه من الناس: هذا ابن عم محمّد وما كان ليجترئ على هذا غير عشيرة محمّد".
وأنجز على المهمة وأبطأ على النبي قدومه فغمّه ذلك حتى بشّر به فخرج لاستقباله مع أصحابه فتلقاه والتزمه وعانقه ووضع خدّه على منكب علي (عليه السلام)وبكي (صلى الله عليه وآله وسلم) فرحاً وبكى علي (عليه السلام) معه ثمّ قال له رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): ما صعنت بأبي أنت وأمي؟ فإن الوحي أبطأ عليّ في أمرك، فأخبره بما صنع، فقال رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم): كان اللّه عزّ وجلّ أعلم بك منّي حين أمرني بارسالك"(2).
أقول: وقد وقفتُ على رواية تشرك عمر في البعث والإرجاع مع صاحبه أبي بكر(3).
وبعد، فقد قال السيد المرتضى (رضي الله عنه): "قد علمنا من العادة أن من يرشح لكبار الاُمور لابدّ أن يدرج إليها بصغارها لأن مَن يريد بعض الملوك تأهيله للأمر من بعده لابد من أن ينبه عليه بكل قول وفعل يدل على ترشيحه لتلك المنزلة ويستكفيه من أموره وولاياته ما يعلم عنده أو يغلب في الظن صلاحه لما يريده له، وأن من يرى الملك مع حضوره وامتداد الزمان وتطاوله لا يستكيفه شيئاً من الولايات ومتى ولاه عزله وإنما يولي غيره ويستكفي سواه لابد أن يغلب في الظن أنه ليس بأهل للولاية وإن جوزنا أنه لم يوله بأسباب كثيرة سواه"(4).
وقال السيد الصدر(رحمه الله): "وهو مقدمة تمهيدية ترمز للخلافة العامة، فإنّ الذي
____________
1- إعلام الورى، ص: 76.
2- بحار الأنوار، ج35 / ص: 289.
3- المستدرك على الصحيحين، ج3 / ص: 51.
4- بحار الأنوار، ج35 / ص: 312 عن الشافعي للسيد المرتضى.
ثانياً: الاستخلاف على المدينة في غزوة تبوك
والآيات النازلة والأحاديث الواردة في أجواء الغزوة وظروفها تحكي تثاقل جملة من المسلمين عن النهوض في ركب رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) وإحجام المنافقين ورغبتهم في البقاء في المدينة، هذا والسفر بعيد الشقة، عظيم المشقة، وستفرغ المدينة لفترة طويلة يدبر فيها المنافقون أمرهم فينقضون ويبرمون في أمن من مراقبة الرسول ووقوفه على ما يحيكون بشكل مباشر وقريب.
ونلحظ طرفاً آخر مهماً في خضم شؤونها ألا وهو: إرجاف المرجفين بعلي(عليه السلام) وإغراضهم في أمره وتبرمهم من مقامه في المدينة.
وبدلا من الإحالة أعرض شواهد من الآيات والروايات:
قال اللّه تعالى: ( يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللّهِ اثّاقَلْتُمْ إِلَى الأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الآخِرَةِ إِلاّ قَلِيلٌ * إِلاّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَيَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ )(2).
( انْفِرُوا خِفافاً وَثِقالاً وَجاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَأَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَسَفَراً قاصِداً لاَتَّبَعُوكَ وَلكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَسَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَاللّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ )(3).
( إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ * وَلَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَلكِنْ كَرِهَ اللّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَقِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ )(4).
( لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَقَلَّبُوا لَكَ الأُمُورَ حَتّى جاءَ الْحَقُّ وَظَهَرَ أَمْرُ اللّهِ
____________
1- حياة أمير المؤمنين، ص: 214.
2- سورة التوبة، الآية: 38 ـ 39.
3- سورة التوبة، الآية: 41 ـ 42.
4- سورة التوبة، الآية: 45 ـ 46.
( وَيَحْلِفُونَ بِاللّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَما هُمْ مِنْكُمْ وَلكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ )(2).
( يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ ) ( يَحْلِفُونَ بِاللّهِ ما قالُوا وَلَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَكَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَهَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا ) ( فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللّهِ وَكَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَأَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ) ( ما كانَ لأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَمَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللّهِ وَلا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ).
ومن الروايات: ما جاء عن سعيد بن المسيّب عن سعد بن أبي وقاص قال: "لما غزا رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) غزوة تبوك خلّف علياً ـ كرم اللّه وجهه ـ في المدينة قالوا: ملّه وكره صحبته، فتبع علي(رضي الله عنه) النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى لحقه في الطريق قال: يا رسول اللّه خلّفتني بالمدينة مع الذراري والنساء حتى قالوا ملّه وكره صحبته، فقال النبي(صلى الله عليه وآله وسلم): يا علي إنّما خلّفتك على أهلي أما ترضى..."(3).
قال الطبري عن ابن اسحاق: "فأرجف المنافقون بعلي بن أبي طالب وقالوا: ما خلّفه إلاّ استثقالا له وتخففاً منه، فلما قال ذلك المنافقون أخذ علي سلاحه ثمّ خرج حتى أتى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) وهو بالجرف فقال: يا نبي اللّه، زعم المنافقون أنك إنما خلّفتي أنك استثقلتي..."(4).
ونحوه ما جاء في (الرياض النضرة ج2 / 162): "طعن رجال من المنافقين في إمرة علي (عليه السلام) وقال إنما خلفه استثقالا..."(5).
ولفهم عملية الاستخلاف وممارسة أدوار الإمامة نعالج ذلك عبر الوقفات التالية:
الاُولى: إن موقع علي من محمّد موقع النفس فلا تحوم حوله شبهة في
____________
1- سورة التوبة، الآية: 48.
2- سورة التوبة، الآية: 56.
3- إحقاق الحق، ج5 / ص: 159 عن الخصائص للنسائي.
4- الطبري، ج2 / ص: 103.
5- السيد مرتضى الفيروزآبادي: فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج1 / ص: 363، ط2، بيروت 1402هـ.
الثانية: إن علياً جيش الإسلام، وبسيفه قامت دعائمه، وهو وحده قوة ترهب العدو وتعز الصديق فلا يتوهم في حقه تلكؤ أو ظن بالنفس طلباً للعافية من خوض غمار الحرب.
الثالثة: إنّ الغزوة كانت في السنة التاسعة من الهجرة وقد كان لعلي السجل الحافل بالتضحية والأمجاد المركزية.
الرابعة: إنّ من تخلف في المدينة من المنافقين والمتخاذلين كانوا على وفرة وقوة، وليس من الحكمة والحنكة أن يشخص الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) ويترك المدينة دونما راع وناظر وبمستوى من الكفاءة واللياقة لمعالجة ما يحاك من دسائس وما يعاث من فساد.
الخامسة: مَن المعترض والمرجف؟ أهم الغيارى على نجاح مهمة الرسول في غزوته؟ وهل هم إلاّ المنافقون والخاذلون وطلاّب العافية ومنتهزو الفرص؟ وها هم يرون أن الساحة الواسعة ـ وهي مركز الدولة والدين ـ قد خلت من الرقيب فقد صفا لهم الجو وتهيأ الأسباب لانفاذ أغراضهم ومقاصدهم الخبيثة.
السادسة: وإن نظرة منصفة لما قاله النبي العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) إقامة لعلي المقام الكريم، ودحضاً لمزاعم المغرضين تفصح بجلاء عن إناطة المهمة الكبرى بالبطل الكفؤ.
فإلى نصوص المأثور والتأمل فيها بموضوعية حتى نقف على الانسجام بين الحكم والموضوع:
1 ـ "كذبوا، ولكني إنما خلّفتك لما ورائي فارجع فاخلفني في أهلي وأهليك، أفلا ترضى يا علي أن تكون مني بمنزلة هارون من موسى إلاّ أنه لا نبي بعدي"(1).
2 ـ "فنادى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) في الناس: ما منكم أحد وله حاجة بابن أبي طالب، أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة.. قال علي(عليه السلام): رضيتُ عن اللّه عزّ وجلّ وعن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)".
____________
1- الطبري، ج2 / ص: 104.
4 ـ "أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة هارون... قال: نعم، قال: وإنك خليفتي في كل مؤمن"(2).
5 ـ "إلاّ أنه لا نبي بعدي، ولو كان لكنته"(3).
6 ـ "فإن المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك"(4).
7 ـ "أما ترضى أن تكون منّي بمنزلة...؟ قال: بلى يا رسول اللّه، قال: فأدبر علي(عليه السلام) مسرعاً كأني أنظر إلى غبار قدميه يسطع"(5).
8 ـ "إنه لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي"(6).
9 ـ "إنّه لابدّ من أن أقيم أو تقيم"(7).
10 ـ "أما ترضى أن تكون لك من الأجر ما لي ولك من المغنم مثل ما لي؟"(8).
أقول: تلكم نماذج من روايات الموضوع يقف عليها الباحث مبثوثة قد ملأت بطون التفاسير ومجاميع الحديث وصحاحها وكتب السير ووثائق التاريخ، حتى عادت وعدت من متواتر الحديث، فقل لي بربّك ماذا تعني هذه الجمل وإلى مَ ترمي؟
كذبوا خلفتك لما ورائي، إنّ المدينة لا تصلح إلاّ بي أو بك، لا ينبغي أن أذهب إلاّ وأنت خليفتي، لابدّ من أقيم أو تقيم.
ثمّ ما موقع حديث المنزلة؟ وأي مناسبة في الحدث حتى تتم المقارنة لولا
____________
1- إحقاق الحق، ج5 / ص: 37.
2- إحقاق الحق، ج15 / ص: 630.
3- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج1 / ص: 349.
4- المصدر السابق، ج1 / ص: 350.
5- فضائل الخمسة من الصحاح الستة، ج1 / ص: 351.
6- المصدر السابق، ج1 / ص: 352.
7- المصدر السابق، ج1 / ص: 355.
8- المصدر السابق، ج1 / ص: 364.
هذا والمتأمل يرى الانسجام والالتحام ـ وكما يقال ـ وضع الرجل المناسب في المحل المناسب، ففي هذا الموطن يتخلف علي ـ وذلك للخلافة ـ ويذهب النبي وفي بعث براءة يعزل غيره ويعزم عليه هو والنبي يبقى، وفي كليهما الحكمة تتجلى.
وأود للراغب في متابعة القراءة والتأمل في فصول الأمرين الإشارة إلى نقطتين:
الاُولى: إن الحادثتين وقعتا في السنة التاسعة للهجرة ونزلت في موضوعهما سورة واحدة وهي سورة "التوبة".
الثانية: إن المنافقين ـ وكان خطرهم عظيماً ـ لما لم يفلحوا في مساعيهم وخابوا حاولوا أثناء عودة النبي من تبوك أن يفتكوا بالنبي يوم حملوا عليه في العقبة ولكنهم باؤوا بالفشل وافتضح أمرهم.
الفصل الثالث
سياسة الإمام
السياسة:
المدلول اللغوي: (و) من المجاز (سست الرعية سياسة) بالكسر (أمرتها ونهيتها) وساس الأمر قام به (و) يقال (فلان مجرب قد ساس وسيس عليه) أي (أدّب واُدّب) وفي الصحاح أي أمَرَ وأُمِرَ عليه والسياسة القيام بالشيء بما يصلحه"(1).
"ساسة سياسة: رأسه: دبره وقام بأمره... ومن ذلك ساس الوالي الرعية إذا
____________
1- السيد محمّد مرتضى الزبيدي: تاج العروس، ج4 / ص: 169، ط 1، المطبعة الخيرية، مصر 1306هـ.
وفي وصف الأئمة(عليهم السلام) "أنتم ساسة العباد" وفيه "الإمام عارف بالسياسة" وفيه: "ثم فوض إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمر الدين والأمة ليسوس عباده" كل ذلك من سست الرعية سياسية: أمرتها ونهيتها، وساس زيد سياسة: أمر وقام بأمره، وفي الخبر: "كان بنو إسرائيل تسوسهم أنبياؤهم" أي تتولى أمرهم كالأمراء والولاة بالرعية من السياسة وهو القيام على الشيء بما يصلحه"(2).
سياسية الإمام علي (عليه السلام)
ويمتلك الإمام من مقومات السياسة ماجعله عدلا للقرآن ـ فعلي مع القرآن والقرآن مع علي ـ وتوأماً للحق متحدين لا يفترقان ـ فعلي مع الحق والحق مع علي ـ وأعظم بسياسة هي القرآن والحق، وكفى بهما دليلا وبرهاناً يمتاز بهما علي دون سواه ممّن حكم قبله وبعده. ولقد تمثلت في حياة الإمام ـ بمختلف أدوارها ـ أنماط سياسته ومرتكزاتها وأبعادها مما لا تفي هذه العجالة بعرضه فضلا عن شرحه وتحليله.
أجل... إنها تتمحور حول هذه الأسس:
أ ـ إقامة الحق والعدل.
ب ـ الوضوح في المنهج والعمل.
ج ـ الإصرار على أنه أولى الأمة بالأمة.
د ـ التسامح فيما يعدو إلى حقّه والشدة فيما يتعلّق بحق الأمة.
هـ ـ سعة الأفق في تأسيس الدولة وإدارتها.
وكان هذه المحاور والأسس شعب وقضايا، وفيما يلي عرض نماذج من ذلك وشواهد على ما يحمله فكر الإمام وما تضمه جوانحه وما يمتاز به في خلقه وهديه وقوله وفعله.
____________
1- الشيخ أحمد رضا: معجم متن اللغة، ج3 / ص: 247، بيروت 1377هـ.
2- الشيخ فخر الدين الطريحي: مجمع البحرين، ج4 / ص: 78، تحقيق السيد أحمد الحسيني، ط 2 بيروت 1403هـ.