أولاً: مما قاله في الحق: "وأيم اللّه لأبقرنّ الباطل حتى أخرج الحق من خاصرته"(1). "وأعظم ما افترض اللّه سبحانه من تلك الحقوق حقّ الوالي على الرعية وحقّ الرعية على الوالي" "فإذا أدّت الرعية إلى الوالي حقّه وأدّى الوالي إلى الرعية حقّها عزّ الحق بينهم"(2).
وقال في العدل: "فإن في العدل سعة ومَن ضاق عليه العدل فالجور عليه أضيق"(3) "إنّ اللّه تعالى فرض على أئمة العدل أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس"(4) "وإنّ أفضل قرة عين الولاة استقامة العدل في البلاد"(5).
ثانياً: الموضوعية والوضوح: وتلك سمة سياساته حيث لا خداع ولا شراء ضمائر وأصوات وإنما هي مقولة الحق ودعوة الصدق وقد صدع بها قولا ومثّلها عملا. قال (عليه السلام) وقد ازدحمت عليه الأمة بعد مقتل عثمان: "دعوني والتمسوا غيري، فإنا مستقبلون أمراً له وجوه وألوان، لا تقوم له القلوب، ولا تثبت عليه العقول، وإنّ الآفاق قد أغامت، والمحجّة قد تنكّرت، واعلموا أني إن أجبتكم ركبت بكم ما أعلم ولم أصغ إلى قول القائل وعتب العاتب"(6).
وقد قال في قوم لحقوا بمعاوية: "إنهم واللّه لم ينفروا من جور ولم يلحقوا بعدل"(7).
وهو القائل يوم الشورى حينما جعل ابن عوف من ركائز الحكم العمل بسيرة الشيخين أبي وعمر فقال في جوابه: بل على كتاب اللّه وسنّة رسوله واجتهاد رأيي"(8).
وهو القائل أيام خلافته: "وإني لعالم بما يصلحكم ويقيم أودكم ولكني لا
____________
1- نهج البلاغة، خ140 / ص: 150.
2- نهج البلاغة، خ216 / ص: 333.
3- نهج البلاغة، خ15 / ص: 57.
4- نهج البلاغة، خ309 / ص: 325.
5- نهج البلاغة، كتاب 53 / ص: 433.
6- نهج البلاغة، خ 92 / ص: 137.
7- نهج البلاغة، كتاب 70 / ص: 461.
8- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج1 / ص: 188.
وعُوتب على التسوية في العطاء وأن ذلك باعث على تفرق الناس عنه فأجابهم: "أتأمروني أن أطلب النصر بالجور فيمن ولّيت عليه! واللّه لا أطور به ما سمر سمير وما أمّ نجم في السماء نجماً"(2).
وهكذا قال عما يراه مخالفاً لأحكام اللّه تعالى مما سنّه من سبقه من الحكام: "لو قد استوت قدماي من هذه المداحض لغيّرت أشياء"(3).
ثالثاً: إمامة الأمة: لم يكن علي يوماً في لبس من أمره بل كان على بينة من ربّه وعلم بمقامه، وكيف لا وهو المجعول من ربّه على لسان نبيّه إماماً وهادياً يتولى أمر أمة محمّد بعد فقد محمّد (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذا فقد كان يجهر بهذه الحقيقة أيامه، بل وتحمل من أجلها ما تحمل.
ولعلي في الخلافة اتجاهان:
واللافت حقاً أن نجد لدى علي اتجاهين في الخلافة متضادين ومعبرين عن رغبتين مختلفتين ظاهراً ألا وهما: الاستئثار والزهادة. ولكنّه ـ سلام اللّه على روحه الكريمة ـ سرعان ما كان يبدد ذلكم الوهم ويجلي الحقيقة، فالخلافة كما يرى أمانة اللّه وعهده وميثاقه وهي حقّه الثابت المؤكد لا يقال منها ولا يستقبل، ومن جهة اُخرى بالنسبة لديه لا شأن لها في ذاته ما لم تحقق أغراضها وهدفها.
فاستمع إليه (عليه السلام) كاشفاً شارحاً موضحاً: فيقول عن حقّه المغتصب وإرثه المنتهب ومقام الإمامة المضاع ومرتبته التي أزيل عنها: "واللّه ما زلتُ مدفوعاً عن حقّي، مستأثراً عليّ منذ قبض اللّه نبيّه (صلى الله عليه وآله وسلم) حتى يوم الناس هذا"(4).
وكم بثّ همومه وجاش بحسراته في شقشقيته يوم هدر فقال: "... متى اعترض الريب فيّ مع الأوّل منهم حتى صرتُ أقرن إلى هذه النظائر" وقال فيها عن أبي بكر: "أما واللّه لقد تقمّصها ابن أبي قحافة وإنه ليعلم أنّ محلّي منها محل القطب من الرحى، ينحدر عنّي السيل، ولا يرقى إلى الطير... وطفقتُ أرتئي بين
____________
1- نهج البلاغة، خ69 / ص: 99.
2- نهج البلاغة، خ126 / ص: 183.
3- نهج البلاغة، كلمة 272 / ص: 523.
4- نهج البلاغة، خ6 / ص: 53.
وقال بعد أحداث السقيفة ونتائجها: "فإن أقل يقولوا: حرص على الملك وإن أسكت يقولوا: جزع من الموت هيهات بعد اللتيا والتي"(2).
وطالما أباح وصرّح بتبرمه ومن ذلك قوله يوم الشورى: "وقد قال قائل: إنك على هذا الأمر يابن أبي طالب لحريص، فقلتُ: بل أنتم واللّه لأحرص وأبعد، وأنا أخصّ وأقرب، وإنما طلبتُ حقاً لي وأنتم تحولون بيني وبينه وتضربون وجهي دونه"(3).
ويعبر عن زهده (عليه السلام) في الحكم والدنيا، ويكشف عن نفسيته الشريفة وملكاته اللطيفة كما يحكي ذلك حبر الأمة ابن عباس (رضي الله عنه): دخلتُ على أمير المؤمنين (عليه السلام) بذي قار وهو يخصف نعله، فقال لي: ما قيمة هذه النعل؟ فقلتُ: لا قيمة لها! فقال (عليه السلام): واللّه لهي أحب إليّ من إمرتكم إلاّ أن أقيم حقّاً أو أدفع باطلا"(4).
والدنيا وخطرها عند عليّ كما يصفها في تشبيهه البليغ الرائع من جهة والبشع من جهة اخرى: "واللّه لدنياكم هذه أهون في عيني من عِراق خنزير في يد مجذوم"(5).
وبعد.. فقد أبان بمقولته: "اللهم إنك تعلم أنه لم يكن الذي كان منا منافسة في سلطان، ولا التماس شيء من فضول الحطام ولكن لنرد المعالم من دينك
____________
1- نهج البلاغة، خ3 / ص: 49.
2- نهج البلاغة، خ5 / ص: 52.
3- نهج البلاغة، خ172 / ص: 246.
4- نهج البلاغة، خ33 / ص: 76.
5- نهج البلاغة، كلمة 236 / ص: 510.
رابعاً: تسامحه فيما يعدو إلى حقّه وشدته فيما يتعلّق بحقّ الأمة: ولقد تجلى تسامحه ووسع قلبه الكبير مَن أبى بيعته رغم انثيال الأمة إليها وتزاحمهم عليها، فلم يُكره أحداً فضلا عن أن يتتبع ويعاقب، بل ولم يستمل أحداً بترغيب، كيف لا وهو بنفسيته الشريفة الزاهد في الحكم والامرة ومَن لا تزيده كثرة الناس حوله عزّه ولا تفرقهم عنه وحشة.
المقارنة بين سياسته وسياسة من سبقه
وإذا ما أردنا استجلاء تلكم الذات العظيمة بكل ما للكلمة من معنى فلنقارن بين ما كان عليه من خلق وبين ما سلكه أرباب الحكم في السقيفة، فالأشيأ تعرف بأضدادها.
سياسة مَن سبقه:
فمن ممارسات القوم ما ذكره التاريخ فقد حكى عنهم:
أ ـ "وإذا قائل يقول: القوم في سقيفة بني ساعدة، وإذا قائل آخر يقول: قد بويع أبو بكر لم ألبث وإذا أنا بأبي بكر قد أقبل ومعه وعمر وأبو عبيدة وجماعة من أصحاب السقيفة وهم محتجزون بالأزر الصنعانية لا يمرون بأحد إلاّ خبطوه وقدموه فمدّوا يده فمسحوها على يد أبي بكر يبايعه إن شاء ذلك أو أبى"(2).
ب ـ "وعن قيس بن أبي حازم قال: رأيت عمر بن الخطاب وبيده عسيب نخل وهو يقول: اسمعوا لخليفة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) "(3).
ج ـ وحديث ما جرى من الهجوم على دار عليّ وفاطمة والوعيد والتهديد بإحراق الدار ومَن فيها واقتياد الإمام إلى السقيفة، وكذا ما قيل وفعل بسعد بن عبادة وغيره ممّن أبى البيعة يكشف عن المسلك الوعر والخشونة في الارغام
____________
1- نهج البلاغة، خ131 / ص: 189.
2- أبو كبر الجوهري: السقيفة وفدك، ص: 48، تحقيق الشيخ محمّد هادي الأميني، ط2، شركة الكتبي ـ بيروت 1413هـ.
3- علي المتقي الهندي: كنز العمال، ج1 / ص: 658، ط1، 1389هـ.
د ـ "وبلغ الخبر أبا بكر وعمر فأرسلا إلى أبي عبيد والمغيرة بن شعبة فسألاهما الرأي فقال المغيرة: أن تلقوا العباس فتجعلوا له من هذا الأمر نصيباً فيكون له ولعقبه فتقطعوا به من ناحية علي وتكون لكم حجة عند الناس على علي إذا مال معكم العباس..."(2).
هـ ـ وكذلك صنعوا مع أبي سفيان فقد قال لما قدم المدينة وقد رجع من سعايته وقد تم الأمر لأبي بكر: "إنّي لأرى عجاجة لا يطفئها إلاّ الدم، فقال: فكلم عمر أبا بكر فقال: إن أبا سيفان قد قدم وإنا لا نأمن شره فدفع له ما في يده فتركه ورضي"(3).
و ـ "فلما اجتمع الناس على أبي بكر قسم قسماً بين نساء المهاجرين والأنصار، فبعث إلى امرأة من بني عدي بن النجار قسمها مع زيد بن ثابت فقالت: ما هذا؟ قال: قسم قسمه أبوبكر للنساء، قالت: أتراشونني عن ديني، واللّه لا أقبل منه شيئاً، فردّت عليه"(4).
سياسته (عليه السلام):
وأما خلق الإمام ونهجه السياسي وتسامحه فيما يعود إلى حقه فإليك مثلا من مثاليته:
1 ـ "جاؤوا بسعد (بن أبي وقاص) فقال علي: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس واللّه ما عليك من بأس، قال: خلّوا سبيله".
2 ـ "وجاؤوا بابن عمر فقال: بايع، قال: لا أبايع حتى يبايع الناس، قال: ائتني بحميل (كفيل) قال: لا أرى حميلا، قال الأشتر: خل عني أضرب عنقه، قال علي: دعوه أنا حميله، إنك ماعلمتُ لسيء الخلق صغيراً وكبيراً"(5).
3 ـ وجاء وفد بني امية (مروان بن الحكم وسعيد بن العاص والوليد بن
____________
1- ابن قتيبة الدينوري: الإمامة والسياسة، ج1 / ص: 16 ـ 21، تحقيق د. طه محمّد الزيني.
2- الإمامة والسياسة، ج1 / ص: 50.
3- الإمامة والسياسة، ج1 / ص: 39.
4- الإمامة والسياسة، ج1 / ص: 51.
5- الطبري، ج4 / ص: 428.
وتلك ذاته وسجية نفسه وسعت مَن لم يبايع ومَن بايع ونكث كطلحة والزبير ونظائرهما. وما أكرم ابن أبي طالب فلم تضق نفسه حتى بمَن قام في وجهه وحزّب الأحزاب ضده كما صنعت عائشة "ولو كانت فعلت بعمر ما فعلت به وشقت عصا الأمة عليه ثمّ ظفر بها لقتلها ومزقها إرباً ولكن علياً كان حليماً كريماً"(2).
خامساً: لا هوادة في حق الأمة: ولقد تحلّى بالفكر الإلهي والأدب النبوي ـ وهما جماع الكمال ـ وأراد لهما التطبيق في حياة الفرد والمجتمع والأمة فكراً ونظاماً وممارسة في كل شؤونها، وبالتالي تعيش الأمة في ظل الدولة بسياستها الإلهية فتجني خير ثمارها وطيب بركاتها.
وإننا لنلحظ مناحي في حياة هذا الرجل الفذ سواء في أقواله وممارساته ذلكم النهج المحيط بمقومات الدولة ومؤهلات القائم عليها، وسائر ما يكتنفها من شؤون الدين والدنيا. فلنساير علياً في تلكم الحلقات والأبعاد حتى نقرأ ونقف على قيمة (الإنسان) وهو المحور الذي تصاغ الدولة وتدار من أجله.
مؤهلات إمام الأمة ورئيس الدولة
قال (عليه السلام): "وقد علمتم أنه لا ينبغي أن يكون الوالي على الفروج والدماء
____________
1- أحمد بن أبي يعقوب: تاريخ اليعقوبي، ج2 / ص: 178، بيروت 1379هـ.
2- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج15 / ص: 105 وج17 / ص: 254.
الإمام قدوة وأسوة
ولقد ضرب أروع المثل بكريم ما عاشه من خلال، وتحلى به من خصال، فما هشّ للحكم، ولم يغير من جميل أخلاقه، ولم يزدد بذلك إلاّ تواضعاً ونكران ذات. "ألا وإنّ لكل مأموم إماماً يقتدي به ويستضيء بنوره علمه، ألا وإنّ إمامكم قد اكتفى من دنياه بطمريه، ومن طعمه بقرصيه، ألا وإنكم لا تقدرون على ذلك، ولكن أعينوني بورع واجتهاد، وعفّة وسداد، فواللّه ما كنزلت من دنياكم تبراً، ولا ادّخرت من غنائمها وفراً، ولا أعددتُ لبالي ثوبي طمراً، ولا حزت من أرضها شبراً، ولا أخذت منها إلاّ كقوت أتان دبرة، ولهي في عيني أوهى وأهون من عفصة مقرة...".
ولم يترك ما ترك عجزاً وعدم قدرة بل هي مستطاعة، ولكن نفس علي تتجه نحو الأسمى والأعلى "ولو شئتُ لاهتديتُ الطريق إلى مصفّى هذا العسل ولباب هذا القمح، ونسئج هذا القز، ولكن هيهات أن يغلبني هواي ويقودني جشعي إلى تخيّر الأطعمة، ولعلّ بالحجاز أو اليمامة من لا طمع له في القرص ولا عهد له بالشبع، أو أبيت مبطاناً وحولي بطون غرثى وأكبار حرّى، أو أكون كما قال القائل:
وحسبك داء أن تبيت ببطنة | وحولك أكباد تحنّ إلى القدّ" |
ويمضي أمير المؤمنين ليبرز الركيزة القويمة في شخصية والي الأمة فيقول: "أأقنع من نفسي بأن يُقال: هذا أمير المؤمنين، ولا أشاركهم في مكاره الدهر، أو أكون أسوة لهم في جشوبة العيش فما خلقت ليشغلني أكل الطيبات، كالبهيمة المربوطة همها علفها، أو المرسلة شغلها تقممها، تكترش من أعلافها وتلهو عما يراد بها، أو أترك سدى، أو أهمل عابثاً، أو أجر حبل الضلالة، أو أعتسف طريق المتاهة"(2).
____________
1- نهج البلاغة، خ131 / ص: 47.
2- نهج البلاغة، ك 45 / ص: 416.
رعاية الرعية
ويولي الإمام الرعية همه ورعايته، وينص عليها في دستور حكمه وبنوده فيوصي الوالي من قبله بما تفيض مشاعره الكريمة من رحمة وعطف ولطف: "وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم، واللطف بهم، ولا تكوننّ عليهم سبعاً ضارياً تغتنم أكلهم فإنهم صنفان: إما أخ لك في الدين، أو نظير لك في الخلق، يفرط منهم الزلل وتعرض لهم العلل، ويؤتى على أيديهم في العمد والخطأ، فأعطهم من عفوك وصفحك مثل الذي تحب وترضى أن يعطيك اللّه من عفوه وصفحه، فإنك فوقهم، ووالي الأمر عليك فوقك واللّه فوق مَن ولاّك"(1).
أرأيت قمية (الإنسان) عند الإمام علي(عليه السلام)، وحقه في دولته، ووصيته بالمواطن مسلماً كان أو غير مسلم، وأرهف حسك وسمعك حتى تسمع دقات قلبه وتدرك فيض حنانه، وذوبان نفسه حين ورد خبر غزو الأنبار بجيش معاوية "وقد بلغني أن الرجل منهم كان يدخل على المرأة المسلمة والأخرى المعاهدة فينتزع حجلها وقُلْبَها وقلائدها ورُعُثَها ما تمتنع منه إلاّ بالاسترجاع والاسترحام... فلو أن امرأ مسلماً مات من بعد هذا أسفاً من كان به ملوماً، بل كان به عندي جديراً"(2).
ويسترعيه ويروعه منظر شيخ مكفوف كبير يسأله بيده: "فقال أمير المؤمنين ماهذا؟ قالوا: يا أمير المؤمنين نصراني، فقال أمير المؤمنين(عليه السلام): استعملتموه حتى إذا كبر وعجز منعتموه! أنفقوا عليه من بيت المال"(3).
ويمتزج في خلق الإمام العدل وإلغاء الطبقية وعدم التفضيل في العطاء فلا محاباة لقريب وإن كان أخاه عقيلا ولا لقريشة على عجمية ولا لمولى على معتقه فكلهم في الحق والعدل سواء. "فقال لعبيد اللّه بن أبي رافع (كاتبه) ابدأ
____________
1- نهج البلاغة، ك 53 / ص: 427 ـ 428.
2- نهج البلاغة، خ27 / ص: 69 ـ 70.
3- الشيخ أبو جعفر الطوسي: تهذيب الأحكام، ج6 / ص: 293، بيروت 1401هـ.
السيّدة القرشية والعجوز الفارسية
"وقد أمسكت السيّدة بيد العجوز إلى الإمام وقالت: هل من العدل أن تساوي بيني وبين الأمة الفارسية؟ فرمقها الإمام بطرفه وتناول قبضة من التراب وجعل ينظر إليه ويقلّبه وهو يقول: لم يكن بعض هذا أفضل من بعض، فتلا قوله تعالى: ( إِنّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَر وَأُنْثى وَجَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَقَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللّهِ أَتْقاكُمْ )"(2).
وهكذا كانت المساواة قائمة حتى مع مَن يرجى نفعه ويخشى عصيانه ولكن لم يكن من مبادئ الإمام إلاّ العدل، فقد حاور طويلا طلحة والزبير ـ وهما هما ـ وممّا قاله لهما: "لا أستأثر عليكما ولا على عبد حبشي مجدع بدرهم فما دونه لا أنا ولا ولداي هذان"(3).
ولم تقتصر عناية الإمام والنظر في مصالح العباد على جهة أو فئة فقد شملت إصلاحاته ورعايته لمرافق الحياة وحتى للدقيق منها ممّا لا يحسب له غيره حساباً، وفيما نعرضه من نماذج حكاية لما يحمل هذا الحاكم الحكيم من رؤى وفكر إصلاح ومناهج خير وريادة، وهي بالتالي سياسته التي يحمل هديها وهم الأمة فيها.
1 ـ بيت المظالم والقصص: "وكان كما يقول المؤرخون أوّل حاكم في الإسلام بنى بيتاً للمظالم يضع فيه المظلومون والمعتدى عليهم رقاعاً يذكرون فيها ما أصابهم من اعتداء أو مكروه، وكان بنفسه يشرف عليها فيأخذ لهم بحقّهم ويدفع عنهم ما أصابهم من أذىً ومكروه"(4).
2 ـ مؤسس السجون الإصلاحية: وكان قد أسّس سجنين (النافع) و(المخيس) وكانت العبادات الشرعية والآداب التهذيبية والتعاليم القرآنية
____________
1- شح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج10 / ص: 37 ـ 42.
2- الشيخ باقر القرشي: حياة الإمام الحسين، ج1 / ص: 407، ط2، ايران ـ قم المقدسة، 1397هـ، ونحو ذلك في شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج2 / ص: 200.
3- شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد، ج10 / ص: 37 ـ 42.
4- حياة الإمام الحسين، ج2 / ص: 415. شرح نهج البلاغة، ج17 / ص: 87.
"إذا كان الإعلام العالمي ـ بعد كل التطور الذي مرّ على ضمير البشرية ـ قد طلب أن يعامل السجين معاملة إنسانية، فإن الإمام قد فرض قبل صدور هذه الوثيقة الإنسانية العظمى بأجيال عديدة أن يكون السجن وسيلة تهذيب، لا طريقة إذلال، ومقدمة وأد، وأوصى للسجين بالمأكل والمشرب والملبس، في الصيف والشتاء، وتجاوز ذلك طالباً توفير مايضمن له بعد خروجه من السجن مايضمن له انسانيته"(2).
3 ـ مربد الضوال: عن سعيد بن المسيب: "رأيت علياً بنى للضوال مربداً فكان يعلفها علفاً لا يسمنها ولا يهزلها من بيت المال فمَن أقام عليها بينته أخذه وإلاّ أقرها على حالها"(3). أجل وإنه القائل: "اتّقوا اللّه في عباده وبلاده فإنّكم مسؤولون حتى عن البقاع والبهائم"(4).
دستور الدولة الإسلامية
ومما اختص به الإمام علي (عليه السلام) من مميزات ما خلّفه من تراث يحكي فكره وتطلعاته وآماله، وما كان يسعى جهده لإقامته وتشييده.
والناظر في المأثور في عهوده إلى ولاته ورسائله وتوصياه في شؤون الحرب وجبابة المال ومصارفه ومعالجة ما يتعلّق بالنظام والأمة يقف على سعة الأفق ورحابة الفكر ومدى الامتياز بين علي وغيره وسواء في النظرية أو التطبيق.
ولا يفوتنا الاشارة إلى أن الإمام لم يتأت له مواصلة مسيرة نبي الإسلام العظيم (صلى الله عليه وآله وسلم) فيسير بهم سيراً سجحاً وإنما آلت إلى الاُمور وهي تنوء بتركة ثقيلة
____________
1- الشيخ د. أحمد الوائلي، أحكام السجون بين الشريعة والقانون، ص: 123، بيروت.
2- روكس زائد العزيزي: الإمام على أسد الإسلام وقدّيسه، ص: 185.
3- بحار الأنوار، ج31 / ص: 18.
4- نهج البلاغة، خ167 / ص: 242.
ولا تسمح خطة البحث بسبر تلكم الشؤون وما حفلت به من شجون والموقوف عند كل قضية وإنما نكتفي بما سبق من شذرات حكت فكره ونفسيته وأنماط سيرته المعبرة عن سريرته مضيفين إلى ذلك الحديث بإجمال عن الوثيقة التأريخية التي رشح بها الفكر العملاق وتحتل الريادة في السياسة وسن الدستور ولا يزال الفكر يغترف من سلسلها العذب ومعينها الدافق.
تلكم هي (العهد لمالك الأشتر) وقد أفاض في تشكيل الدولة وأركانها وعوامل بقائها وأولى كل جهة ركائزها واعتد من الأسس القويمة أهدافاً سياسية أربعة:
1 ـ مالية الدولة (الموارد) وعبر عنها بـ (جباية الخراج).
2 ـ الدفاع والأمن وعنونه بـ (جهاد العدو).
3 ـ الإصلاح الاجتماعي وقد عبر عنها بـ (استصلاح أهلها).
4 ـ التنمية الاقتصادية وعبرها عنها بـ (عمارة البلاد).
ومن الخير أن نلم ولو بنحو الفهرست بمضامين العهد العلوي عبر هذه الاشارات:
1 ـ عمد إلى التوصية باصلاح الذات ومراقبة اللّه في السر والعلن، فالتقوى هي الضمان لانضباط الحاكم، وطالما كرّر الإمام هذه الوصية في عهده بأنحاء متعددة تبصر بالدين وتهدي إلى سواء السبيل.
2 ـ حكم الرأي العام على سياسة وإدارة الحاكم ومقارنتهم عهده بعهود سابقة.
3 ـ أخلاق الحاكم، ويا لروعة هذه الركيزة في كلمه: " وأشعر قلبك الرحمة للرعية والمحبة لهم واللطف بهم ".
4 ـ الإنصاف الدقيق وما أجمل ما صدر به التوصية بقوله: "أنصف اللّه وأنصف الناس من نفسك ومن خاصة أهلك وممّن لك فيه هوى".
6 ـ الهيئة الاستشارية والخبراء ودقائق ما يليق بأوصافهم.
7 ـ الوزراء ومؤهلاتهم وتأريخهم.
8 ـ البطانة والحاشية.
9 ـ الاحسان إلى الرعية عامل الثقة المتبادلة.
10 ـ الدقة في الحفاظ على السنن الحسنة وعدم تبديلها.
11 ـ ترابط الطبقات والفئات في المجتمع وعدم غنى بعضها عن الآخر، وأن تركيبة المجتمع تضم هذه الأقسام:
أ ـ جند اللّه.
ب ـ الهيئة الإدارية من كتاب العامة والخاصة وعمال الإنصاف والرفق.
ج ـ قضاة العدل.
د ـ أهل الجزية والخراج من أهل الذمة والمسلمين.
هـ ـ التجار وأهل الصناعات.
و ـ الفقراء.
12 ـ الترابط العضوي بين تلكم الطبقات والفئات.
13 ـ قادة الجيش واختيارهم والنظر في أمورهم وعلاقتهم بالجند والتوصيات الجليلة في ذلك.
14 ـ مواصفات القاضي وضمانات نزاهة القضاء وضرورة القيام بشؤونه، وفيضة النفس بثها الإمام ناعياً بها قضاء السوء "فإنّ هذا الدين قد كان أسيراً في أيدي الأشرار يعمل فيه الهوى وتطلب به الدنيا".
15 ـ اختيار عمال الدولة ورجال الإدارة وتوفير عطائهم ومراقبة المخلصين لهم سراً "ثم تفقد أعمالهم وابعث العيون من أهل الصدق والوفاء عليهم فإن تعاهدك في السر لأمورهم حدوة لهم على استعمال الأمانة والرفق بالرعية".
16 ـ عقوبة الخائن منهم.
17 ـ رعاية أمر الخراج بما يصلح أمر الناس.
18 ـ الكتّاب والوزراء وكيفية اختيارهم ودقائق في شؤونهم.