العتبة العلوية المقدسة - خلافة الامام الحسن وقضية الصلح -
» » سيرة الإمام » اولاد الامام علي عليه السلام » الامام الحسن بن علي عليه السلام » خلافة الامام الحسن وقضية الصلح

خلافة الامام الحسن وقضية الصلح

 

إن المسلمين قد بايعوا الإمام الحسن عليه السلام بعد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام، ومعاوية قد نكث هذه البيعة وأخذ يحارب الإمام عليه السلام، والإمام رعاية لدماء المسلمين ولحفظ الدين الإسلامي صالحه بشروط لم يف بها معاوية.

قال ابن عساكر في تاريخه، ترجمة الإمام الحسن عليه السلام تحت الرقم 292 ـ 293، بإسناده عن عباس عن أبيه:

(لما قتل علي بايع الناس الحسن بن علي فوليها سبعة أشهر وأحد عشر يوماً)([1]).

وابن عساكر أيضا تحت الرقم 290، بسنده عن وهب بن جرير قال: قال أبي: (فلما قتل علي بايع أهل الكوفة الحسن بن علي وأطاعوه وأحبوه أشد من حبهم لأبيه) ([2]).

وقال القندوزي الحنفي في ينابيعه بعدما ذكر صورة الصلح بين الإمام عليه السلام ومعاوية: ثم صعد الحسن عليه السلام المنبر وقال: (أيها الناس قد علمتم أن الله جل ذكره وعزّ اسمه هداكم بجدي رسول الله صلى الله عليه واله  وأنقذكم من الضلالة، وخلصكم من الجهالة، وأعزكم به بعد الذلة، وكثركم به بعد القلة، وأن معاوية نازعني حقاً هو لي دونه فنظرت لصلاح الأمة وقطع الفتنة، وقد كنتم بايعتموني على أن تسالموا من سالمني وتحاربوا من حاربني، فرأيت أن أسالم معاوية، وأضع الحرب بيني وبينه، وقد صالحته ورأيت أن حقن الدماء خير من سفكها، ولم أرد بذلك إلا صلاحكم وبقاءكم وأن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين)([3]).

لقد حارب الإمام الحسن عليه السلام معاوية.. وأخذ معاوية يخدع جيش الإمام بالمال وما أشبه وقل أنصار الإمام عليه السلام واحداً بعد واحد وفوجاً بعد فوج، ورأى الإمام أن في استمرار القتال تضعيف لجبهته (وهي جبهة الحق) وانتصار لجبهة الباطل (وهي جبهة معاوية) وكانت النتيجة لاستمرار القتال محو آثار الإسلام ودفن شرائعه وأحكامه، وقتل ذرية الرسول صلى الله عليه واله  بأجمعهم وتقوية بني أمية ولعبهم بالإسلام والمسلمين، فلكل ذلك ولحقن دماء الأبرياء ولفضح معاوية وسلب الشرعية عنه، قبل الإمام عليه السلام بالصلح ـ كما أخبر به رسول الله صلى الله عليه واله  ـ لكن بشروط كان منها أن لا يسمى معاوية بأمير المؤمنين([4]).

وقد خالف معاوية تلك الشروط وكفى بمخالفته وزراً عليه .. فعرف التاريخ كذب معاوية ومكره ولعبه بدين الله وبالمسلمين، وقد قال معاوية ـ كما سيأتي ـ : (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا، إنكم لتفعلون ذلك، وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون)([5]).

وقد قال رسول الله صلى الله عليه واله  (الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا)([6]).

ثم انه من أهم ما يلزم التوجه إليه أن الإمام الحسن عليه السلام لم يبايع معاوية، بل صالحه وعاهده، وذلك حفظاً لدماء المسلمين، وكان الصلح على شروط لم يلتزم بها معاوية..

فكان من شروطه أنه لا يسمي معاوية بأمير المؤمنين وقبل معاوية بذلك،

 

قال أبو الفرج في مقاتل الطالبيين([7]):

ثم إن الحسن بن علي عليه السلام سار في عسكر عظيم وعدة حسنة حتى أتى دير عبد الرحمن فأقام به ثلاثاً حتى اجتمع الناس، ثم دعا عبيد الله بن العباس بن عبد المطلب فقال له:

(يا بن عم إني باعث معك إثنا عشر ألفاً من فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزن الكتيبة، فسر بهم وألن لهم جانبك وأبسط وجهك وافرش لهم جناحك وأدنهم من مجلسك، فإنهم بقية ثقة أمير المؤمنين صلوات الله عليه، وسر بهم على شط الفرات حتى تقطع بهم الفرات ثم تصر إلى مسكن ثم امض حتى تستقبل معاوية، فإن أنت لقيته فاحبسه حتى آتيك فإني في إثرك وشيكاً، وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين؛ يعني قيس بن سعد وسعيد بن قيس، فإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك فإن فعل فقاتل، فإن أصبت فقيس بن سعد على الناس وإن أصيب قيس فسعيد بن قيس على الناس) ثم أمره بما أراد.

وسار عبيد الله حتى انتهى إلى شينور حتى خرج إلى شاهي ثم لزم الفرات والفالوجة حتى أتى مسكن.

وأخذ الحسن عليه السلام على حمام عمر حتى أتى دير كعب ثم بكر فنزل ساباط دون القنطرة فلما أصبح نادى في الناس: (الصلاة جامعة) فاجتمعوا وصعد المنبر فخطبهم فحمد الله فقال:

(الحمد لله كلما حمده حامد، وأشهد أن لا إله إلا الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمداً رسول الله أرسله بالحق وائتمنه على الوحي، صلى الله عليه وآله.

أما بعد، فوالله إني لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله ومنه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملاً على مسلم ضغينة ولا مريداً له سوءاً ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهوني في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة، ألا وإني ناظر لكم خيراً من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردوا علي رأيي، غفر الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا).

قال: فنظر الناس بعضهم إلى بعض، وقالوا: ما ترونه، يريد بما قال؟ قالوا: نظنه والله يريد أن يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه، فقالوا: كفر والله الرجل ثم شدوا على فسطاطه فانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه، فبقي جالساً متقلداً السيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه فركبه، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا منه من أراده ولاموه وضعفوه لما تكلم به.

فقال: ادعوا لي ربيعة وهمدان فدعوا له فأطافوا به ، ودفعوا الناس عنه ومعهم شوب من غيرهم، فقام إليه رجل من بني أسد من بني نصر بن قعين يقال له الجراح بن سنان، فلما مر في مظلم ساباط قام إليه فأخذ بلجام بغلته وبيده معول فقال: الله أكبر يا حسن أشركت كما أشرك أبوك من قبل! ثم طعنه فوقعت الطعنة في فخذه فشقته حتى بلغت أربيته فسقط الحسن عليه السلام إلى الأرض بعد أن ضرب الذي طعنه بسيف كان بيده واعتنقه وخرا جميعاً إلى الأرض فوثب عبد الله ابن الخطل فنزع المعول من يد جراح بن سنان فخضخضه به وأكب ظبيان ابن عمارة عليه فقطع أنفه ثم أخذوا الآجر فشدخوا وجهه ورأسه حتى قتلوه.

وحمل الحسن عليه السلام على سرير إلى المدائن وبها سعد بن مسعود الثقفي والياً عليها من قبله، وكان علي عليه السلام ولاه فأقره الحسن بن علي، فأقام عنده يعالج نفسه.

قال: ثم إن معاوية وافى حتى نزل قرية يقال لها الحيوضية بمسكن، فأقبل عبد الله بن العباس حتى نزل بإزائه، فلما كان من غد وجه معاوية بخيله إليه فخرج إليهم عبيد الله بن العباس فيمن معه، فضربهم حتى ردهم إلى معسكرهم، فلما كان الليل أرسل معاوية إلى عبيد الله بن العباس أن الحسن عليه السلام قد راسلني في الصلح وهو مسلم الأمر  إلي  ـ أقول: وكان هذا كذباً من معاوية وخداعاً ـ فإن دخلت في طاعتي الآن كنت متبوعاً وإلا دخلت وأنت تابع، ولك إن جئتني الآن أن أعطيك ألف ألف درهم، يعجل لك في هذا الوقت النصف وإذا دخلت الكوفة النصف الآخر، فانسل عبيد الله ليلاً فدخل عسكر معاوية فوفى له بما وعده، فأصبح الناس ينتظرون أن يخرج فيصلي بهم فلم يخرج حتى أصبحوا فطلبوه فلم يجدوه فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة ثم خطبهم فقال:

أيها الناس: لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الوله الورع أي الجبان، إن هذا وأباه وأخاه لم يأتوا بيوم خير قط، إن أباه عم رسول الله صلى الله عليه واله  خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري فأتى به رسول الله صلى الله عليه واله  فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين، وإن أخاه ولاه علي أمير المؤمنين عليه السلام على البصرة فسرق مال الله ومال المسلمين فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال، وإن هذا ولاه على اليمن فهرب من بسر بن أرطاة وترك ولده حتى قتلوا وصنع الآن هذا الذي صنع.

قال فتنادى الناس: الحمد لله الذي أجره من بيننا، فانهض بنا إلى عدونا فنهض بهم.

وخرج إليهم بسر بن أرطاة في عشرين ألفاً فصاحوا بهم: هذا أميركم قد بايع وهذا الحسن عليه السلام قد صالح فعلام تقتلون أنفسكم..

وكتب معاوية إلى قيس يدعوه ويمنيه، فكتب إليه قيس: (لا والله لا تلقاني أبداً إلا وبيني وبينك الرمح).

فكتب إليه معاوية:

(أما بعد: فإنما أنت يهودي ابن يهودي تشقى نفسك وتقتلها فيما ليس لك فإن ظهر أحب الفريقين إليك نبذك وعزلك، وإن ظهر أبغضهما إليك نكل بك وقتلك، وقد كان أبوك أوتر غير قوسه، ورمى غير غرضه، فأكثر الحز وأخطأ المفصل فخذله قومه وأدركه يومه فمات بحوران طريداً غريباً، والسلام).

فكتب إليه قيس بن سعد:

(أما بعد: فإنما أنت وثن بن وثن من هذه الأوثان، دخلت في الإسلام كرهاً وأقمت عليه فرقاً، وخرجت منه طوعاً ولم يجعل الله لك فيه نصيباً، لم يقدم إسلامك، ولم يحدث نفاقك، ولم تزل حرباً لله ورسوله وحزباً من أحزاب المشركين فأنت عدوّ الله ورسوله والمؤمنين من عباده. وذكرت أبي، ولعمري ما أوتر إلا قوسه ولا رمى إلا غرضه فشغب عليه من لا تشق غباره ولا تبلغ كعبه، وكان أمراً مرغوباً عنه مزهوداً فيه. وزعمت أني يهودي ابن يهودي ولقد علمت وعلم الناس أني وأبي من أنصار الدين الذي خرجت منه، وأعداء الدين الذي دخلت فيه وصرت إليه، والسلام).

فلما قرأ كتابه معاوية غاظه وأراد إجابته، فقال له عمرو: مهلاً إن كاتبته أجابك بأشد من هذا، وإن تركته دخل فيما دخل فيه الناس، فأمسك عنه.

قال: وبعث معاوية عبد الله بن عامر وعبد الرحمن بن سمرة إلى الحسن عليه السلام للصلح فدعوه إليه، وزهداه في الأمر وأعطياه ما شرط له معاوية وألا يتبع أحد بما مضى ولا ينال أحد من شيعة عليّ بمكروه ولا يذكر عليّ إلا بخير، وأشياء اشترطها الحسن عليه السلام فأجابه الحسن عليه السلام إلى ذلك.

وانصرف قيس فيمن معه إلى الكوفة وانصرف الحسن عليه السلام إليها أيضاً، وأقبل معاوية قاصداً إلى الكوفة واجتمع إلى الحسن عليه السلام وجوه الشيعة وأكابر أصحاب أمير المؤمنين عليّعليه السلام يلومونه ويبكون إليه جزعاً مما فعله.

وحدثني محمد بن الحسين الأشناني وعليّ بن العباس المقالعي قالا: حدثنا عباد بن يعقوب قال: أخبرنا عمرو بن ثابت عن الحسن بن حكم، عن عدي بن ثابت، عن سفيان بن أبي ليلى. وحدثني محمد بن أحمد أبو عبيد قال: حدثنا الفضل بن الحسن المصري، قال: حدثنا محمد بن عمرويه، قال: حدثنا مكي بن إبراهيم، قال: حدثنا السري بن إسماعيل عن الشعبي عن سفيان بن أبي ليلى، دخل حديث بعضهم في حديث بعض وأكثر اللفظ لأبي عبيدة قال:

أتيت الحسن بن عليّ عليه السلام حين بايع معاوية فوجدته بفناء داره وعنده رهط فقلت: السلام عليك يا مذل المؤمنين، فقال: عليك السلام يا سفيان انزل، فنزلت فعلقت راحلتي ثم أتيته فجلست إليه فقال: كيف قلت يا سفيان؟

فقلت: السلام عليك يا مذل رقاب المؤمنين.

فقال: ما جر هذا منك إلينا؟

فقلت: أنت والله ـ بأبي أنت وأمي ـ أذللت رقابنا حين أعطيت هذا الطاغية البيعة وسلمت الأمر إلى اللعين بن اللعين بن آكلة الأكباد ومعك مائة ألف كلهم يموت دونك. وقد جمع الله لك أمر الناس.

فقال: يا سفيان، إنا أهل بيت إذا علمنا الحق تمسكنا به، وإني سمعت عليّاًعليه السلام يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله  يقول: لا تذهب الليالي والأيام حتى يجتمع أمر هذه الأمة على رجل واسع السرم ضخم البلعوم يأكل ولا يشبع، لاينظر الله إليه ولا يموت حتى لا يكون له في السماء عاذر ولا في الأرض ناصر وإنه لمعاوية وإني عرفت أن الله بالغ أمره.

ثم أذن المؤذن فقمنا على حالب يحلب ناقة فتناول الإناء فشرب قائماً ثم سقاني فخرجنا نمشي إلى المسجد فقال لي: ما جاءنا بك يا سفيان؟

قلت: حبكم والذي بعث محمداً صلى الله عليه واله  بالهدى ودين الحق.

قال: فأبشر يا سفيان فإني سمعت عليّاً عليه السلام يقول: سمعت رسول الله صلى الله عليه واله  يقول: يرد على الحوض أهل بيتي ومن أحبهم من أمتي كهاتين، يعني السبابتين، ولو شئت لقلت هاتين يعني السبابة والوسطى إحداهما تفضل على الأخرى.

أبشر يا سفيان فإن الدنيا تسع البر والفاجر حتى يبعث الله إمام الحق من آل محمد صلى الله عليه واله ).

ثم قال أبو الفرج الأصفهاني: وسار معاوية حتى نزل النخيلة وجمع الناس بها فخطبهم قبل أن يدخل الكوفة خطبة طويلة لم ينقلها أحد من الرواة تامة، وجاءت مقطعة في الحديث وسنذكرها ما انتهى إلينا من ذلك.

فعن الشعبي قال: خطب معاوية حين بويع له فقال: (ما اختلفت أمة بعد نبيها إلا  ظهر أهل باطلها على أهل حقها، ثم إنه انتبه فندم فقال: إلا هذه الأمة فإنها وإنها).

و عن أبي إسحاق قال: سمعت معاوية بالنخيلة يقول:

(ألا إن كل شيء أعطيته الحسن بن علي تحت قدمي هاتين لا أفي به)، قال أبو إسحاق: وكان والله غداراً.

و عن سعيد بن سويد قال:

صلى بنا معاوية بالنخيلة الجمعة في الصحن ثم خطبنا فقال: (إني والله ما قاتلتكم لتصلوا ولا لتصوموا ولا لتحجوا ولا لتزكوا إنكم لتفعلون ذلك. وإنما قاتلتكم لأتأمر عليكم وقد أعطاني الله ذلك وأنتم كارهون).

قال شريك في حديثه: هذا هو التهتك.

وعن حبيب بن أبي ثابت قال: لما بويع معاوية خطب فذكر علياً عليه السلام فنال منه ونال من الحسن عليه السلام ، فقام الحسين عليه السلام ليرد عليه فأخذ الحسن عليه السلام بيده فأجلسه، ثم قام عليه السلام فقال:

(أيها الذاكر علياً، أنا الحسن وأبي علي، وأنت معاوية وأبوك صخر، وأمي فاطمة وأمك هند، وجدي رسول الله صلى الله عليه واله  وجدك حرب، وجدتي خديجة وجدتك قتيلة، فلعن الله أخملنا ذكراً، وألأمنا حسباً، وشرنا قدماً، وأقدمنا كفراً ونفاقاً). فقال طوائف من أهل المسجد: آمين. قال فضل: فقال يحيى بن معين: ونحن نقول: آمين. قال أبو عبيد: ونحن أيضاً نقول: آمين. قال أبو الفرج. وأنا أقول: آمين.

قال: ودخل معاوية الكوفة بعد فراغه من خطبته بالنخيلة، وبين يديه خالد ابن عرفطة ومعه رجل يقال له حبيب بن عمار يحمل رايته حتى دخل الكوفة فصار إلى المسجد فدخل من باب الفيل فاجتمع الناس إليه.

عن عطاء بن السائب، عن أبيه قال: بينما علي عليه السلام على المنبر إذ دخل رجل فقال: يا أمير المؤمنين مات خالد بن عرفطة فقال: لا والله ما مات. إذ دخل رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين مات خالد بن عرفطة؟ فقال: لا والله ما مات، إذ دخل رجل آخر فقال: يا أمير المؤمنين مات خالد بن عرفطة؟ فقال: لا والله ما مات ولا يموت حتى يدخل من باب هذا المسجد (يعني باب الفيل) براية ضلالة يحملها له حبيب بن عمار، قال: فوثب رجل فقال: يا أمير المؤمنين أنا حبيب بن عمار وأنا لك شيعة، قال: فإنه كما أقول. فقدم خالد بن عرفطة على مقدمة معاوية يحمل رايته حبيب بن عمار.

قالوا: ولما تم الصلح بين الحسن عليه السلام ومعاوية أرسل إلى قيس بن سعد بن عبادة يدعوه إلى البيعة فأتى به وكان رجلاً طويلاً يركب الفرس المسرف ورجلاه تخطان في الأرض وما في وجهه طاقة شعر، وكان يسمى خصي الأنصار، فلما أرادوا أن يدخلوه إليه قال: إني قد حلفت أن لا ألقاه إلا بيني وبينه الرمح أو السيف، فأمر معاوية برمح أو سيف فوضع بينه وبينه ليبر يمينه.

و في رواية أبي مخنف قال: لما صالح الحسن عليه السلام معاوية اعتزل قيس بن سعد في أربعة آلاف وأبى أن يبايع، فلما بايع الحسن عليه السلام أدخل قيس بن سعد ليبايع. قال أبو مخنف في حديثه: فأقبل على الحسن عليه السلام فقال: أنا في حل من بيعتك، قال: نعم، قال: فألقي لقيس كرسي وجلس معاوية على سريره، فقال له معاوية: أتبايع يا قيس؟ قال: نعم فوضع يده على فخذه ولم يمدها إلى معاوية فجثا معاوية على سريره وأكب على قيس حتى مسح يده على يده فما رفع قيس إليه يده.

عن إسماعيل بن عبد الرحمن: أن معاوية أمر الحسن أن يخطب لما سلم الأمر إليه وظن أن سيحصر، فقال عليه السلام في خطبته:

(إنما الخليفة من سار بكتاب الله وسنة ونبيه صلى الله عليه واله  وليس الخليفة من سار بالجور ذلك ملك ملك ملكاً يمتع به قليلاً ثم تنقطع لذته وتبقى تبعته: ]وإن أدري لعله فتنة لكم ومتاع إلى حين[([8])).

قال: وانصرف الحسن عليه السلام إلى المدينة فأقام بها، وأراد معاوية البيعة لابنه يزيد فلم يكن شيء أثقل من أمر الحسن بن علي عليه السلام وسعد بن أبي وقاص فدس إليهما سماً فماتا منه).([9]).

وقال الشبلنجي الشافعي في نور الأبصار قال:

(فصل: ذكر طرف من أخباره ومصالحته عليه السلام لمعاوية وما يتصل بذلك) قال أصحاب السير لما استشهد علي عليه السلام عمد أهل العراق إلى إبنه الحسن عليه السلام فبايعوه، ثم أشاروا عليه بالمسير ليأخذ الشام من معاوية، وسار معاوية بجيش الشام لقصده، فلما تقارب الجيشان وتراءى الجمعان بموضع يقال له مسكن بناحية الأنبار من أرض السواد، علم الحسن عليه السلام أنه لم تغلب إحدى الفئتين حتى يذهب أكثر الأخرى فرأى أن المصلحة في جمع الكلمة وترك القتال فكتب إلى معاوية يراسله ويخبره بأنه يصير الأمر إليه وينزل عنه على أن يشترط عليه أن لايطالب أحدا من أهل المدينة والحجاز والعراق بشيء مما كان في أيام أبيه، وأن يكون ولي العهد من بعده وأن يمكنه من بيت المال ليأخذ حاجته منه.

ففرح معاوية وأجاب إلى ذلك إلا أنه قال: إلا عشرة أنفس لا أومنهم، فراجعه الحسن فيهم فكتب إليه معاوية إني قد آليت أنني متى ظفرت بقيس بن سعد بن عبادة قطعت لسانه ويده، فراجعه الحسن إني لا أبايعك أبداً وأنت تطلب قيساً وغيره بتبعة قلت أو كثرت.

فبعث إليه معاوية حينئذ برق أبيض وقال له: أكتب ما شئت فيه فأنا ألتزمه، فاصطلحا على ذلك فكتب الحسن عليه السلام كل ما اشترط عليه من الأمور المذكورة واشترط أن يكون له الأمر بعهده فالتزم ذلك كله معاوية، فخلع الحسن نفسه([10]) وسلم الأمر إلى معاوية ببيت المقدس تورعاً وقطعاً للشر.

فلما اصطلحا دخل معاوية الكوفة وارتحل الحسن إلى المدينة وأقام بها (وكان) نزوله عنها سنة إحدى وأربعين في ربيع الأول، وقيل في جمادى الأولى، وقيل غير ذلك، ([11]).

 

وقال الشيخ الصدوق في كتابه القيم (علل الشرائع) باب 159 ـ العلة التي من أجلها صالح الحسن بن علي عليه السلام معاوية بن أبي سفيان وداهنه ولم يجاهده:

عن سدير قال: قال أبو جعفر عليه السلام ومعنا ابني: (يا سدير اذكر لنا أمرك الذي أنت عليه، فإن كان فيه إغراق كففناك عنه، وإن كان مقصراً أرشدناك؟

قال: فذهبت أن أتكلم.

فقال أبو جعفر عليه السلام: إمسك حتى أكفيك، إن العلم الذي وضع رسول الله صلى الله عليه واله  عند علي عليه السلام من عرفه كان مؤمناً ومن جحده كان كافراً، ثم كان من بعده الحسن عليه السلام.

قلت: كيف يكون بذلك المنزلة وقد كان منه ما كان دفعها إلى معاوية؟

فقال: اسكت فإنه أعلم بما صنع، لولا ما صنع لكان أمر عظيم) ([12]).

و عن أبي سعيد عقيصا، قال: قلت للحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام: يا بن رسول الله لم داهنت معاوية وصالحته وقد علمت أن الحق لك دونه وأن معاوية ضال باغ؟

فقال: يا أبا سعيد ألست حجة الله تعالى ذكره على خلقه وإماماً عليهم؟

قلت: بلى.

قال: ألست الذي قال رسول الله صلى الله عليه واله  لي ولأخي: الحسن والحسين إمامان قاما أو قعدا؟

قلت: بلى.

قال: فأنا إذن إمام لو قمت وأنا إمام إذن لو قعدت، يا أبا سعيد علة مصالحتي لمعاوية علة مصالحة رسول الله صلى الله عليه واله  لبني ضمرة وبني أشجع وأهل مكة حين انصرف من الحديبية، أولئك كفار بالتنزيل ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل، يا أبا سعيد إذا كنت إماماً من قبل الله تعالى ذكره لم يجب أن يسفه رأيي فيما أتيته من مهادنة أو محاربة، وإن كان وجه الحكمة فيما أتيته ملتبساً، ألا ترى الخضرعليه السلام لما خرق السفينة وقتل الغلام وأقام الجدار سخط موسى عليه السلام فعله لاشتباه وجه الحكمة عليه حتى أخبره فرضي، هكذا أنا.. سخطتم علي بجهلكم وبجهل الحكمة فيه، ولولا ما أتيت لما ترك من شعيتنا على وجه الأرض أحد إلا قتل) ([13]).

قال محمد بن علي مصنف هذا الكتاب: قد ذكر محمد بن بحر الشيباني رضي الله عنه في كتابه المعروف بكتاب: (الفروق بين الأباطيل والحقوق) في معنى موادعة الحسن بن علي بن أبي طالب عليه السلام لمعاوية، فذكر سؤال سائل عن تفسير حديث يوسف بن مازن الراشي في هذا المعنى، والجواب عنه وهو الذي رواه أبو بكر محمد بن الحسن بن إسحاق بن خزيمة النيسابوري قال:

حدثنا أبو طالب زيد بن أحزم قال: حدثنا أبو داود قال: حدثنا القاسم بن الفضل، قال: حدثنا يوسف بن مازن الراشي، قال: بايع الحسن بن علي عليه السلام معاوية على أن لا يسميه أمير المؤمنين، ولا يقيم عنده شهادة، وعلى أن لا يتعقب على شيعة علي شيئاً، وعلى أن يفرق في أولاد من قتل مع أبيه يوم الجمل وأولاد من قتل مع أبيه بصفين ألف ألف درهم، وأن يجعل ذلك من خراج دار أبجرد، قال: ما ألطف حيلة الحسن عليه السلام هذه في إسقاطه إياه عن إمرة المؤمنين، قال يوسف: فسمعت القاسم بن محيمة، يقول: ما وفى معاوية للحسن بن علي عليه السلام بشيء عاهده عليه، وإني قرأت كتاب الحسن عليه السلام إلى معاوية يعد عليه ذنوبه إليه وإلى شيعة علي عليه السلام فبدأ بذكر عبد الله بن يحيى الحضرمي ومن قتلهم معه([14]).

فنقول رحمك الله، إن ما قال يوسف بن مازن من أمر الحسن عليه السلام ومعاوية عند أهل التمييز والتحصيل تمسى المهادنة والمعاهدة ألا ترى كيف يقول: ما وفى معاوية للحسن بن علي عليه السلام بشيء عاهده عليه وهادنه ولم يقل بشيء بايعه عليه، والمبايعة على ما يدعيه المدّعون على الشرائط التي ذكرناها، ثم لم يف بها لم يلزم الحسن عليه السلام، وأشد ما ههنا من الحجة على الخصوم معاهدته إياه أن لا يسميه أمير المؤمنين، والحسن عليه السلام عند نفسه لا محالة مؤمن فعاهده أن يكون عليه أميراً إذ الأمير هو الذي يأمر فيؤتمر له، فاحتال الحسن عليه السلام لإسقاط الائتمار لمعاوية إذا أمره أمراً على نفسه، والأمير هو الذي أمره مأمور من فوقه، فدلّ على أن عزّ وجلّ لم يؤمره عليه ولا رسوله صلى الله عليه واله  أمره عليه، فقد قال النبي صلى الله عليه واله : لا يلين مفاء على مفيء، يريد أن من حكمه هو حكم هوازن الذين صاروا فيئاً للمهاجرين والأنصار فهؤلاء طلقاء المهاجرين والأنصار بحكم إسعافهم النبي صلى الله عليه واله  فيئهم لموضع رضاعه وحكم قريش وأهل مكة حكم هوازن لمن أمره رسول الله صلى الله عليه واله  عليهم فهو التأمير من الله جلّ جلاله ورسوله صلى الله عليه واله  أو من الناس، كما قالوا في غير معاوية إن الأمة اجتمعت فأمرت فلاناً وفلاناً وفلاناً على أنفسهم فهو أيضاً تأمير غير أنه من الناس لا من الله ولا من رسوله وهو إن لم يكن تأميراً من الله ومن رسوله ولا تأميراً من المؤمنين فيكون أميرهم بتأميرهم فهو تأمير منه بنفسه، والحسن عليه السلام مؤمن من المؤمنين فلم يؤمر معاوية على نفسه بشرط عليه أن لا يسميه أمير المؤمنين فلم يلزمه ذلك الائتمار له في شيء أمره به، وفرغ عليه السلام إذ خلص نفسه من الإيجاب عليها الائتمار له عن أن يتخذ على المؤمنين الذين هم على الحقيقة مؤمنون، وهم الذين كتب في قلوبهم الإيمان، ولأن هذه الطبقة لم يعتقدوا إمارته ووجوب طاعته على أنفسهم، ولأن الحسن عليه السلام أمير المبررة وقاتل الفجرة كما قال النبي صلى الله عليه واله  لعليعليه السلام أمير المؤمنين: (علي أمير المبررة وقاتل الفجرة) فأوجب صلى الله عليه واله  أنه ليس لبر من الأبرار أن يتأمّر عليه وأن التأمير على أمير الأبرار ليس ببر([15]).

 




([1]) تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة الإمام الحسن (ع): ص172.

([2]) تاريخ دمشق لابن عساكر، ترجمة الإمام الحسن (ع): ص171.

([3]) ينابيع المودة: ج1 ص351.

([4]) انظر علل الشرائع: ص250 ب159 ح2.

([5]) مقاتل الطالبيين لأبي الفرج الأصفهاني: ص45.

([6]) راجع كشف الغمة: ج1 ص533.

([7]) مقاتل الطالبيين: ص40 ـ 48.

([8]) سورة الأنبياء: 111.

([9]) مقاتل الطالبيين : ص40-48.

([10]) أي تنازل بحسب الظاهر، والا فهو حجة الله على الخلق.

([11]) نور الأبصار في مناقب آل بيت النبي المختار للشبلنجي الشافعي: ص133.

([12]) علل الشرائع، ص248 ب159 ح1.

([13]) علل الشرائع، ص248 – 249 ب159 ح2.

([14]) علل الشرائع: ص249-250 ب159.

([15]) علل الشرائع: ص250-251 ب159.