الإمام الحسين ( عليه السلام ) في مكّة
*- المفيد : ولمّا دخل الحسين ( عليه السلام ) مكّة ، كان دخوله إيّاها ليلة الجمعة ، لثلاث مضين من شعبان ، دخلها وهو يقرأ : ( وَلَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقَاءَ مَدْيَنَ قَالَ عَسَى رَبِّى أَن يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ ) ([1]) ثمّ نزلها فأقبل أهلها يختلفون إليه ومن كان بها من المعتمرين أهل الآفاق ، وابن الزبير بها قد لزم جانب الكعبة ، وهو قائم يصلّي عندها ويطوف ويأتي الحسين ( عليه السلام ) فيمن يأتيه ، فيأتيه اليومين المتواليين ، ويأتيه بين كلّ يومين مرّة ، وهو أثقل خلق الله على ابن الزبير وقد عرف أنّ أهل الحجاز لا يبايعونه ما دام الحسين ( عليه السلام ) في البلد ، وأنّ الحسين ( عليه السلام ) أطوع في الناس منه وأجلّ . ([2])
*- الخوارزمي : ( قال ) الإمام أحمد بن أعثم الكوفي : ولمّا دخل الحسين ( عليه السلام ) مكّة فرح به أهلها فرحاً شديداً ، وجعلوا يختلفون إليه غدوة وعشية ، وكان قد نزل بأعلى مكّة وضرب هناك فسطاطاً ضخماً ، ونزل عبد الله بن الزبير داره بقيقعان ، ثمّ تحوّل الحسين إلى دار العبّاس ، حوّله إليها عبد الله بن عبّاس ، وكان أمير مكّة من قبل يزيد يومئذ عمر بن سعد بن أبي وقّاص ([3]) ، فأقام الحسين مؤذّناً يؤذّن رافعاً صوته فيصلّي بالناس ، وهاب ابن سعد أن يميل الحجّاج مع الحسين لما يرى من كثرة اختلاف الناس إليه من الآفاق ، فانحدر إلى المدينة وكتب بذلك إلى يزيد ، وكان الحسين أثقل خلق الله على عبد الله بن الزبير لأنّه كان يطمع أن يتابعه أهل مكّة ، فلمّا قدم الحسين اختلفوا إليه وصلّوا معه ، ومع ذلك فقد كان عبد الله يختلف إليه بكرة وعشية ويصلّي معه . ([4])
*- ابن أعثم : وأقام الحسين ( عليه السلام ) بمكّة باقي شهر شعبان ورمضان وشوّال وذي القعدة ، قال : وبمكّة يومئذ عبد الله بن عبّاس وعبد الله بن عمر بن الخطّاب ، فأقبلا جميعاً حتّى دخلا على الحسين ( عليه السلام ) ، وقد عزما على أن ينصرفا إلى المدينة ، فقال له ابن عمر : أبا عبد الله ! رحمك الله ، اتقّ الله الذي إليه معادك ! فقد عرفت من عداوة أهل هذا البيت لكم ، وظلمهم إيّاكم ، وقد ولي الناس هذا الرجل يزيد بن معاوية ، ولست آمن أن يميل الناس إليه لمكان هذه الصفراء والبيضاء فيقتلونك ويهلك فيك بشر كثير ، فإنّي قد سمعتُ رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وهو يقول : حسين مقتول ، ولئن قتلوه وخذلوه ولن ينصروه ليخذلهم الله إلى يوم القيامة ، وأنا أشير عليك أن تدخل في صلح ما دخل فيه النّاس ، واصبر كما صبرت لمعاوية من قبل ، فلعلّ الله أن يحكم بينك وبين القوم الظالمين . فقال له الحسين ( عليه السلام ) : أبا عَبْدِ الرَّحْمنِ ! أَنَا أُبايِعُ يَزيدَ وَأَدْخُلُ في صُلْحِهِ ، وَقَد قالَ النَّبيُّ ( صلى الله عليه وآله ) فيهِ وَفي أبَيهِ ما قالَ ؟ ! فقال ابن عبّاس : صدقت أبا عبد الله ! قال النبىّ ( صلى الله عليه وآله ) في حياته : ما لي وليزيد لا بارك الله في يزيد ! وإنّه يقتل ولدي وولد ابنتي الحسين ( عليه السلام ) . والذي نفسي بيده لا يقتل ولدي بين ظهراني قوم فلا يمنعونه إلاّ خالف الله بين قلوبهم وألسنتهم ! ثمّ بكى ابن عبّاس ، وبكى معه الحسين ، ( عليه السلام ) وقال : يَا ابْنَ عَبّاس ! تَعْلَمُ أَنّي ابْنُ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) ؟ فقال ابن عبّاس : أللّهمّ نعم ، نعلم ونعرف أنّ ما في الدنيا أحد هو ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) غيرك ، وإنّ نصرك لفرض على هذه الأُمّة كفريضة الصلاة والزكاة التي لا يقدر أن يقبل أحدهما دون الأُخرى . قال الحسين ( عليه السلام ) : يَا ابْنَ عَبّاس ! فَما تَقُولُ في قَوْم أَخْرَجُوا ابْنَ بِنْتِ رَسُولِ اللهِ ( صلى الله عليه وآله ) مِنْ دارِهِ وَقَرارِهِ وَمَوْلِدِهِ ، وَحَرَمِ رَسُولِهِ ، وَمُجاوَرَةِ قَبْرِهِ ، وَمَوْلِدِهِ ، وَمَسْجِدِهِ ، وَمَوْضِعِ مَهاجِرِهِ ، فَتَرَكُوهُ خائِفاً مَرْعُوباً لا يَسْتَقِرُّ في قَرار ، وَلا يَأْوي في مَوْطِن ، يُريدُونَ في ذلِكَ قَتْلَهُ وَسَفْكَ دَمِهِ ، وَهُوَ لَمْ يُشْرِكْ بِاللهِ شَيْئاً ، وَلا اتَّخَذَ مِنْ دُونِهِ وَليِّاً ، وَلَمْ يَتَغَيَّرْ عَمّا كانَ عَلَيْهِ رَسُولُ اللهِ ! ؟ فقال ابن عبّاس : ما أقول فيهم إلاّ ( أَنَّهُمْ كَفَرُواْ بِاللهِ وَبِرَسُولِهِ وَلاَ يَأْتُونَ الصَّلَوةَ إِلاَّ وَهُمْ كُسَالَى ) ([5]) ، ( يُراءُونَ النَّاسَ وَلاَ يَذْكُرُونَ اللهَ إِلاَّ قَلِيلاً مُّذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذَلِكَ لاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَلاَ إِلَى هَؤُلاَءِ وَمَن يُضْلِلِ اللهُ فَلَن تَجِدَ لَهُو سَبِيلاً ) ([6]) ، وعلى مثل هؤلاء تنزل البطشة الكبرى ، وأمّا أنت يا ابن بنت رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ! فإنّك رأس الفخار برسول الله ( صلى الله عليه وآله ) وابن نظيرة البتول ، فلا تظنّ يا ابن بنت رسول الله ! أن الله غافل عما يعمل الظالمون ، وأنا أشهد أنّ من رغب عن مجاورتك وطمع في محاربتك ومحاربة نبيّك محمّد ( صلى الله عليه وآله ) فما له من خلاق . فقال الحسين ( عليه السلام ) : الّلهُمَّ اشْهَدْ ! فقال ابن عبّاس : جعلت فداك يا ابن بنت رسول الله ! كأنّك تريدني إلى نفسك ؟ وتريد منّي أن أنصرك ؟ والله [ الذي ] ، لا إله إلاّ هو ! إن لو ضربت بين يديك بسيفي هذا حتّى انخلع جميعاً من كفّي ، لما كنتُ ممّن أوفي من حقّك عشر العشر ! وها أنا بين يديك مرني بأمرك . فقال ابن عمر : مهلاً ، ذرنا من هذا يا ابن عبّاس ! ثمّ أقبل ابن عمر على الحسين ( عليه السلام ) فقال : أبا عبد الله ! مهلاً عمّا قد عزمت عليه ، وارجع من هنا إلى المدينة ، وادخل في صلح القوم ، ولا تغب عن وطنك وحرم جدك رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) ، ولا تجعل لهؤلاء الذين لا خلاق لهم على نفسك حجّة وسبيلاً ، وإن أحببت أن لا تبايع فأنت متروك حتّى ترى برأيك ، فإنّ يزيد بن معاوية - لعنه الله - عسى أن لا يعيش إلاّ قليلاً ، فيكفيك الله أمره . فقال الحسين ( عليه السلام ) : أُفٍّ لِهذَا الْكَلامِ أَبَداً ما دامَتِ السَّماواتُ والأرضُ ! أَسْأَلُكَ بِاللهِ يا عَبْدَ اللهِ ! أَنَا عِنْدَكَ عَلى خَطَأ مِنْ أَمْري هذا ؟ فَإِنْ كُنْتُ عِنْدَكَ عَلى خَطَأ فَرُدَّني فَإِنّي أَخْضَعُ وَأَسْمَعُ وَأُطيعُ . فقال ابن عمر : أللّهمّ لا ! ولم يكن الله تعالى يجعل ابن بنت رسوله على خطأ ، وليس مثلك من طهارته وصفوته من الرسول ( صلى الله عليه وآله ) على مثل يزيد بن معاوية - لعنه الله - باسم الخلافة ، ولكن أخشى أن يضرب وجهك هذا الحسن الجميل بالسيوف ، وترى من هذه الأُمّة ما لا تحبّ ، فارجع معنا إلى المدينة ، وإن لم تحبّ أن تبايع فلا تبايع أبداً ، واقعد في منزل . فقال الحسين ( عليه السلام ) : هَيْهاتَ يا ابْنَ عُمَرَ ! إِنّ الْقَوْمَ لا يَتْرُكُوني وَإِنْ أَصابُوني ، وَإِنْ لَمْ يُصيبُوني فَلا يَزالُونَ حَتّى أُبايِعَ وَأَنَا كارِهٌ ، أَوْ يَقْتُلُوني ، أَما تَعْلَمُ يا عَبْدَ اللهِ ! أَنَّ مِنْ هَوانِ هذِهِ الدُّنْيا عَلىَ اللهِ تَعالى أَنَّهُ أُتِىَ بِرَأْسِ يَحْيي بْنِ زَكَرِيّا ( عليه السلام ) إِلى بَغيَّة مِنْ بَغايا بَني إِسْرائيلَ وَالرَّأْسُ يَنْطِقُ بِالْحُجَّةِ عَلَيْهِمْ ؟ ! أَما تَعْلَمُ أَبا عَبْدِ الرّحْمنِ ! أَنَّ بَني إِسرائيلَ كانُوا يَقْتُلوُنَ ما بَيْنَ طُلُوعِ الْفَجْر إِلى طُلُوعِ الشَّمْسِ سَبْعينَ نَبيّاً ثُمَّ يَجْلُسُونَ في أَسْواقِهِمْ يَبيعُونَ وَيَشْتَروُنَ كُلُّهُمْ كَأَنَّهم لَمْ يَصْنَعُوا شَيْئاً ، فَلَمْ يُعَجِّلِ اللهُ عَلَيْهِمْ ، ثُمَ أَخَذَهُمْ بَعْدَ ذلِكَ أَخْذَ عَزيز مُقْتَدِر ؛ اِتَّقِ الله أَبا عَبْدِ الرَّحْمنِ ! وَلا تَدَعَنَّ نُصْرَتي وَاذْكُرْني في صَلاتِكَ ، فَوَالَّذي بَعَثَ جَدّي مُحَمَّداً ( صلى الله عليه وآله ) بَشيراً وَنَذيراً لَوْ أَنَّ أَباكَ عُمَرَ بْنَ الْخَطّابِ أَدْرَكَ زَماني لَنَصَرَني كَنُصْرَتِهِ جَدّي ، وَأَقامَ مِنْ دُوني قِيامَهُ بَيْنَ يَدَي جَدّي ، يا ابْنَ عُمَرَ ! فَإِنْ كانَ الْخُرُوجُ مَعي مِمّا يَصْعُبُ عَلَيْكَ وَيَثْقُلُ فَأَنْتَ في أَوْسَعِ الْعُذْرِ ، وَلكِنْ لا تَتْرُكَنَّ لِي الدُّعاءَ في دُبُرِ كُلِّ صَلاة ، وَاجْلِسْ عَنِ الْقَومِ ، وَلا تَعْجَلْ بِالْبَيْعَةِ لَهُمْ حَتّى تَعْلَمَ إِلى ما تَؤُولُ الأُْمُورُ . قال : ثمّ أقبل الحسين ( عليه السلام ) على عبد الله بن عبّاس ؛ فقال : يا ابْنَ عَبّاس ! إِنَّكَ ابْنُ عَمِّ والِدي ، وَلَمْ تَزَلْ تَأْمُرُ بِالْخَيرِ مُنْذُ عَرَفْتُكَ ، وَكُنْتَ مَعَ والِدي تُشيرُ عَلَيْهِ بِما فيهِ الرَّشادُ ، وَقَدْ كانَ يَسْتَنْصِحُكَ وَيَسْتَشيرُكَ فَتُشيرُ عَلَيْهِ بِالصَّوابِ ، فَامْضِ إِلَى الْمَدينَةِ في حِفْظِ اللهِ وَكَلائِهِ ، وَلا يَخْفى عَلَيَّ شَىْءٌ مِنْ أَخْبارِكَ ، فَإِنّي مُسْتَوْطِنٌ هذَا الْحَرَمَ ، وُمُقيمٌ فيهِ أَبَداً ما رَأَيْتُ أَهْلَهُ يُحِبّوُني ، وَيَنْصُرُوني ، فَإِذا هُمْ خَذَلوُني اسْتَبْدَلْتُ بِهِمْ غَيْرَهُمْ ، وَاسْتَعْصَمْتُ بِالْكَلِمَةِ الّتي قالَها اِبْراهيمُ الْخَليلُ ( عليه السلام ) يَوْمَ أُلْقيَ فِي النّارِ ( حَسْبي اللهُ وَنِعْمَ الْوَكيلُ ) فَكانَتِ النّارُ عَلَيْهِ بَرْداً وَسَلاماً . قال : فبكى ابن عبّاس وابن عمر في ذلك الوقت بكاء شديداً ، والحسين ( عليه السلام ) يبكي معهما ساعة ، ثمّ ودّعهما وصار ابن عمر وابن عبّاس إلى المدينة ، وأقام الحسين ( عليه السلام ) بمكّة قد لزم الصوم والصلاة . ([7])
*- ابن الأثير : روى ابن كثير : وأمّا الحسين ( عليه السلام ) وابن الزبير فإنّهما قدما مكّة فوجدا بها عمرو بن سعيد بن العاص فخافاه وقالا : إِنّا جِئْنا عُوّاذًا بِهذَا الْبَيْتِ . ([8])
*- المجلسي : روى الشهيد الثاني ؛ بإسناده ، عن ابن قولويه ، عن أبيه ، عن سعد ، عن ابن عيسى ، عن أبيه ، عن عبد الله بن سليمان النوفلي قال : كنت عند جعفر بن محمّد الصادق ( عليه السلام ) ، قال : فقد حدّثني محمّد بن عليّ بن الحسين ( عليه السلام ) قال : لمّا تجهّز الحسين ( عليه السلام ) إلى الكوفة أتاه ابن عبّاس فناشده الله والرحم أن يكون هو المقتول بالطفّ . فقال : أَنَا أَعْرَفُ بِمَصْرَعي مِنْكَ ، وَما وَكْدي ([9]) مِنَ الدُّنْيا إِلاّ فِراقُها ، أَلا أُخْبِرُكَ يا ابْنَ عَبّاس ! بِحَديثِ أَميرِ الْمُؤْمِنينَ ( عليه السلام ) وَالدُّنْيا ؟ فقال له : بلى لعمري إنّي لأُحبّ أن تحدّثني بأمرها . فقال أبي : قال عليّ بن الحسين ( عليهما السلام ) : سمعت أبا عبد الله الحسين ( عليه السلام ) يقول :حَدَّثَني أَميرُ الْمُؤْمِنينَ ( عليه السلام ) قالَ : إنّي كنت بفدك في بعض حيطانها ، وقد صارت لفاطمة ( عليها السلام ) ، قال : فإذا أنا بامرأة قد هجمت عليّ وفي يدي مسحاة وأنا أعمل بها ، فلمّا نظرت إليها طار قلبي ممّا تداخلني من جمالها فشبّهتها ببثينة بنت عامر الجمحي ، وكانت من أجمل نساء قريش ، فقالت : يا ابن أبي طالب هل لك أن تتزوّج بي فأُغنيك عن هذه المسحاة ، وأدلّك على خزائن الأرض ، فيكون لك الملك ما بقيت ولعقبك من بعدك ؟ فقال لها : من أنت حتّى أخطبك من أهلك ؟ فقالت : أنا الدنيا ، قال لها : فارجعي واطلبي زوجاً غيري ، فلست من شأني . وأقبلتُ على مسحاتي ، وأنشأت أقول :
لقد خاب من غرّته دنيا دنيّة * وما هي إن غرَّت قروناً بنائل
أتتنا على زيّ العزيز بثينة * وزينتها في مثل تلك الشمائل
فقلت لها : غرّي سواي فإنّني * عزوف عن الدنيا فلستُ بجاهل
وما أنا والدنيا فإنّ محمّداً * أحلّ صريعاً بين تلك الجنادل
وهبها أتتنا بالكنوز ودرِّها * وأموال قارون وملك القبائل
أليس جميعاً للفناء مصيرنا * ويطلب من خزّانها بالطّوائل
فغرّي سواي إنّني غير راغب * بما فيك مِن ملك وعزّ ونائل
فقد قنعت نفسي بما قدر زقته * فشأنك يا دنيا ! وأهل الغوائل
فإنّي أخاف الله يوم لقائه * وأخشى عذاباً دائماً غير زائل ([10])