العتبة العلوية المقدسة - لقاء ابن مهزيار به عليه السلام -
» سيرة الإمام » » المناسبات » حياة الامام المهدي والغيبتين والظهور » من معاجز الامام المهدي عليه السلام » لقاء ابن مهزيار به عليه السلام

 

لقاء ابن مهزيار به عليه السلام  

 

*وفيه قال: حدثنا محمد بن موسى بن المتوكل (رحمه الله), قال: حدثنا عبد الله بن جعفر الحميري عن إبراهيم بن مهزيار قال: قدمت مدينة الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) فبحثت عن أخبار آل أبي محمد بن الحسن بن علي الأخير (عليهم السلام) فلم أقع على شيء منها، فرحلت منها إلى مكة مستبحثاً عن ذلك، فبينا أنا بالطواف إذ تراءى لي فتى اسمر اللون رائع الحسن، جميل المخيلة يطيل التوسم في, فعدلت إليه مؤملاً منه عرفان ما قصدت له، فلما قربت منه سلمت فأحسن الإجابة ثم قال: من أي البلاد أنت؟

 

قلت: رجل من أهل العراق.

 

قال: من أي العراق؟

 

قلت: من الأهواز.

 

قال: مرحباً بلقائك، هل تعرف بها جعفر بن حمدان الخصيـبي؟

 

قلت: دُعي فأجاب.

 

قال: رحمة الله عليه، ما كان أطول ليله واجزل نيله، فهل تعرف إبراهيم بن مهزيار؟

 

قلت: أنا إبراهيم بن مهزيار.

 

فعانقني ملياً ثم قال: مرحباً بك يا أبا إسحاق، ما فعلت العلامة التي وشجت بينك وبين أبي محمد؟

 

فقلت: لعلك تريد الخاتم الذي آثرني الله به من الطيب أبي محمد الحسن بن علي (عليه السلام)؟

 

قال: ما أردت سواه فأخرجته إليه، فلما نظر إليه استعبر وقبله ثم قرأ كتابته يا الله يا محمد يا علي ثم قال: بابي يدا طال ما جلت فيها وتراخى بنا فنون الأحاديث، إلى أن قال لي: يا ابا إسحاق اخبرني عن عظيم ما توخيت بعد الحج.

 

قلت: وأبيك ما توخيت إلا ما سنعلمك مكنونه.

 

قال: سل عما شئت فإني شارح لك إن شاء الله.

 

قلت: هل تعرف من أخبار آل أبي محمد الحسن بن علي صلوات الله عليه شيئاً؟

 

قال: وأيم الله إني لاعرف الضوء بجبين محمد وموسى ابني الحسن بن علي صلوات الله عليهما، وإني لرسولهما إليك قاصداً لأتيانك أمرهما، فان أحببت لقاءهما, والاكتحال بالتبرك بهما فارحل معي إلى الطائف، وليكن ذلك في خفية من رجالك واكتتام.

 

قال إبراهيم: فشخصت معه إلى الطائف أتخلل رملة فرملة، حتى اخذ في بعض مخارج الفلاة فبدت لنا خيمة شعر قد أشرقت على أكمة رمل, تتلألأ تلك البقاع منها تلألوءً، فبدرني إلى الإذن ودخل مسلِّماً عليهما واعلمهما بمكاني، فخرج عليّ أحدهما وهو الأكبر سناً م ح م د بن الحسن صلوات الله عليه، وهو غلام أمرد ناصع اللون، وضاح الجبين، ابلج الحاجب، مسنون الخد، أقنى الأنف، أشم اردع، كأنه غصن بان, وكأن صفحة غرته كوكب دري، بخده الأيمن خال كأنه فتاتة مسك على بياض الفضة، فإذا برأسه وفرة سحماء سبطة تطالع شحمة أُذنه، له سمت ما رأت العيون اقصد منه ولا اعرف حسناً وسكينة وحياء، فلما مثل لي أسرعت إلى تلقيه فأكببت عليه ألثم كل جارحة منه.

 

فقال لي: مرحباً بك يا أبا إسحاق، لقد كانت الأيام تعدني وشك لقائك, والمعاتب بيني وبينك على تشاحط الدار، وتراخي المزار يتخيل لي صورتك حتى كأنا لم نخل طرفة عين من طيب المحادثة، وخيال المشاهدة، وأنا احمد الله ربي وليّ الحمد على ما قيض من التلاقي ورفه من كربة التنازع والاستشراف. ثم سألني عن أحوالي متقدمها ومتأخرها.

 

فقلت: بابي أنت وأمي مازلت افحص عن أمرك بلدا فبلداً منذ استأثر الله بسيدي أبي محمد (عليه السلام) فاستغلق عليّ ذلك حتى مَنّ الله عليّ بمن أرشدني إليك، ودلني عليك، والشكر لله على ما أوزعني فيك من كريم اليد والطول، ثم نسب نفسه وأخاه موسى واعتزل بِيَ بناحية ثم قال: إن أبي صلوات الله عليه عهد إليّ أن لا أُوطن من الأرض إلا أخفاها وأَقصاها إسراراً لأمري، وتحصينا لمحلي من مكائد أهل الضلال والمردة، من أحداث الأمم الضوال، فنبذ بي إلى عالية الرمال، وجبت صرائم الأرض ننظر في الغاية التي عندها يحل الأمر وينجلي الهلع، وكان صلوات الله عليه انبط لي من خزائن الحكم، وكوامن العلوم، ما إن أشعت إليك جزءاً منه أغناك عن الجملة.

 

اعلم يا أبا إسحاق إنه قال صلوات الله عليه: يا بني إن الله جل ثناؤه لم يكن ليخلي أطباق أرضه، وأهل الجد في طاعته وعبادته بلا حجة يستعلي بها، وإمام يؤتم به، ويقتدى بسبل سنته ومنهاج قصده، وارجو يا بني أن تكون أحد من أعدّه الله لنشر الحق، وطي الباطل، وإعلاء الدين، وإطفاء الضلال، فعليك يا بنيّ بلزوم خوافي الأرض وتتبع أقاصيها فان لكل ولي من أولياء الله عز وجل عدواً مقارعاً، وضداً منازعاً افتراضاً لمجاهدة أهل نفاقه، وخلافة أُولى الإلحاد والعناد، فلا يوحشنك ذلك.

واعلم أن قلوب أهل الطاعة والإخلاص نزَّع إليك مثل الطير إذا أمت أوكارها، وهم معشر يطلعون المخائل الذلة والاستكانة، وهم عند الله بررة أعزاء يبرزون بأنفس مختلة محتاجة, وهم أهل القناعة والاعتصام، استنبطوا الدين فوازروه على مجاهدة الأضداد، خصهم الله باحتمال الضيم ليشتملهم باتساع العز في دار القرار، وجبلهم على خلائق الصبر, لتكون لهم العاقية الحسنى، وكرامة حسن العقبى، فاقتبس يا بني نور الصبر على موارد أمورك تفز بدرك الصنع في مصادرها، واستشعر العز فيما ينوبك تحظ بما تحمد عليه إن شاء الله، فكأنك يا بني بتأييد نصر الله، قد آن وتيسير الفرج وعلو الكعب قد خان، وكأنك بالرايات الصفر والاعلام البيض تخفق على اثناء اعطافك ما بين الحطيم وزمزم, وكأنك بترادف البيعة وتصافي الولاء يتناظم عليك تناظم الدر في مثاني العقود، وتصافق الأكف على جنبات الحجر الأسود، تلوذ بفنائك من ملءٍ برأَهم الله من طهارة الولاء، ونفاسة التربة، مقدسة قلوبهم من دنس النفاق، مهذبة أفئدتهم من رحيق الشقاق، ليّنة عرائكهم للدين خشنة ضرائهم عن العدوان واضحة بالقبول أوجههم, نضرة بالفضل عيدانهم يدينون بدين الحق وأهله، فإذا اشتدت أركانهم وتقومت أعمادهم قدت بمكافثتهم طبقات الامم إذ تبعتك في ظلال شجرة دوحة بسقت أفنان غصونها على حافات بحيرة الطبرية، فعندها يتلألأ صبح الحق وينجلي ظلام الباطل، ويقصم الله بك الطغيان، ويعيد معالم الإيمان, يظهر بك أسقام الآفاق وسلام الرفاق، يود الطفل في المهد لو استطاع إليك نهوضاً ونواسط الوحش لو يجدك نهول مجازاً تهتز بك أطراف الدنيا بهجة، وتهز بك أغصان العز نضرة، وتستقر بواني العز في قرارها، وتؤوب شوارد الدين إلى أدكارها، يتهاطل عليك سحائب الظفر فتحنق كل عدو وتنصر كل ولي، فلا يبقى على وجه الأرض جبارٌ قاسط، ولا جاحد غامط، ولا شانئ مبغض ولا معاند كاشح: ﴿ومن يتوكل على الله فهو حسبه إن الله بالغ أمره(

[1]).

 

ثم قال: يا أبا إسحاق ليكن هذا مجلسي عندك مكتوماً إلا عن أهل الصدق والاخوة الصادقة في الدين، إذا بدت لك أمارات الظهور والتمكين فلا تبطئ بإخوانك عنا، وبأهل المسارعة على منار اليقين وضياء مصابيح الدين، تلق راشدا إن شاء الله.

 

قال إبراهيم بن مهزيار فكنت عنده معيناً اقتبس ما ادري من موضحات الأعلام، ونيرات الأحكام، واروي نبات الصدور من نضارة ما ذخره الله في طبائعه من لطائف الحكم، وطرائف فواصل القسم، حتى خفت إضاعة مخلفي بالأهواز، لتراخي اللقاء عنهم، فاستأذنته في القفول وأعلمته عظيم ما اصدر عنه من التوحش لفرقته، والتجرع للظعن عن محاله، فأذن وأردفني من صالح دعائه ما يكون ذخرا عند الله لي ولعقبي وقرابتي إن شاء الله.

 

فلما أزف ارتحالي، وتهيأ إعزام نفسي غدوت عليه مودعاً ومجدداً للعهد، وعرضت عليه مالاً كان معي يزيد على خمسين ألف درهم، وسألته أن يتفضل بالأمر بقبوله مني، فتبسم وقال: يا أبا اسحاق استعن به على منصرفك فان الشقة قذفة، وفلوات الأرض أمامك جمة، ولا تحزن لإعراضنا عنه، فإنا قد حدثنا لك شكره ونشره، وربضناه عندنا بالتذكرة، وقبول المنة، فبارك الله لك فيما حولك، وأدام لك مأمولك، وكتب لك احسن ثواب المحسنين، واكرم آثار الطائعين، فان الفضل له ومنه اسأل الله أن يردك إلى أصحابك بأوفر الحظ من سلامة الاربة، وأكناف الغبطة بلين المنصرف، ولا أوعث إليه لك ولا خير لك دليلاً واستودعه نفسك وديعة لا تضيع ولا تزول بمنه ولطفه إن شاء الله.

يا أبا إسحاق: إن الله قنعنا بعوائد إحسانه، وفوائد امتنانه وصان أنفسنا عن معاوند الأولياء إلا عن الإخلاص في النية، وامحاض النصيحة والمحافظة على ما هو اتقى وأبقى وارفع ذكراً.

 

قال: فاقفلت عنه حامداً لله عز وجل على ما هداني وأرشدني عالماً بأن الله لم يكن ليعطل أرضه ولا يخليها من حجة واضحة وامام قائم، والقيت هذا الخبر المأثور والنسب المشهور توضيحاً للزيادة في بصارة أهل اليقين، وتعريفا لهم ما منَّ الله عز وجل به من إنشاء الذرية الطيبة والبرية الزكية، وقصدت أداء الامانة والتسليم لما استبان ليضاعف الله عز وجل الملة الهادية والطريقة المرضية قوة عزم وتأييد منه وشدة ازر واعتقاد عصمته والله يهدي من يشاء إلى صراط مستقيم.



([1]) الطلاق: 3.