ندبته عليه السلام
*روى الحافظ ابن عساكر من طريق محمد بن عبد الله المقري : حدثني سفيان بن عيينة عن الزهري قال : سمعت علي بن الحسين سيد العابدين يحاسب نفسه ويناجي ربه : - يا نفس حتام إلى الدنيا سكونك ، وإلى عمارتها ركونك ، أما اعتبرت بمن مضى من أسلافك ومن وارته الارض من الافك ؟ ومن فجعت به من إخوانك ، ونقل إلى الثرى من أقرانك ؟
فهم في بطون الارض بعد ظهورها |
|
محاسنهم فيها بوال دواثر |
خلت دورهم منهم وأقوت عراصهم |
|
وساقتهم نحو المنايا المقادر |
وخلوا عن الدنيا وما جمعوا لها |
|
وضمهم تحت التراب الحفائر |
كم خرمت أيدي المنون من قرون بعد قرون ، وكم غيرت الارض ببلائها ، وغيبت في ترابها ، ممن عاشرت من صنوف وشيعتهم إلى الامارس ، ثم رجعت عنهم إلى عمل أهل الافلاس :
وأنت على الدنيا مكب منافس |
|
لخطابها فيها حريص مكاثر |
على خطر تمشي وتصبح لاهيا |
|
أتدري بماذا لو عقلت تخاطر
|
وإن امرءا يسعى لدنياه دائبا |
|
ويذهل عن أخراه لا شك خاسر |
* فحتام على الدنيا إقبالك ؟ وبشهواتها اشتغالك ؟ وقد وخطك القتير ، وأتاك النذير ، وأنت عما يراد بك ساه وبلذة يومك وغدك لاه ، وقد رأيت انقلاب أهل الشهوات ، وعاينت ما حل بهم من المصيبات :
وفي ذكر هول الموت والقبر والبلى |
|
عن اللهو واللذات للمرء زاجر |
أبعد اقتراب الاربعين تربص |
|
وشيب قذال منذر للكابر |
كأنك معنى بما هو ضائر |
|
لنفسك عمدا وعن الرشد حائر |
انظر إلى الامم الماضية والملوك الفانية كيف اختطفتهم عقبان الايام ، ووافاهم الحمام ، فانمحت من الدنيا آثارهم ، وبقيت فيها أخبارهم ، وأضحوا رمما في التراب ، إلى يوم الحشر والمآب :
أمسحوا رميما في التراب وعطلت |
|
مجالسهم منهم وأخلى مقاصر |
وحلوا بدار لا تزاور بينهم |
|
وأ نى لسكان القبور التزاور
|
فما أن ترى الا قبورا قد ثووا بها |
|
مسطحة تسفى عليها الاعاصر |
كم من ذي منعة وسلطان وجنود وأعوان ، تمكن من دنياه ، ونال فيها ما تمناه ، وبنى فيها القصور والدساكر ، وجمع فيها الاموال والذخائر ، وملح السراري والحرائر .
فما صرفت كف المنية إذا أتت |
|
مبادرة تهوي إليه الذخائر |
ولا دفعت عنه الحصون التي بنى |
|
وحف بها أنهاره والدساكر |
ولا قارعت عنه المنية حيلة |
|
ولا طمعت في الذب عنه العساكر |
أتاه من الله ما لا يرد ، ونزل به من قضائه ما لا يصد ، فتعالى الله الملك الجبار ، المتكبر العزيز القهار ، قاصم الجبارين ، ومبيد المتكبرين ، الذي ذل لعزه كل سلطان ، وأباد بقوته كل ديان .
مليك عزيز لا يرد قضاؤه |
|
حكيم عليم نافذ الامر قاهر |
عنى كل عز لعزة وجهه |
|
فكم من عزيز للمهيمن صاغر |
لقد خضعت واستسلمت وتضاءلت |
|
لعزة ذي العرش الملوك الجبابر |
فالبدار البدار والحذار الحذار من الدنيا ومكايدها ، وما نصبت لك من مصايدها ، وتحلت لك من زينتها ، وأظهرت لك من بهجتها ، وأبرزت لك من شهواتها ، وأخفت عنك من قواتلها وهلكاتها :
وفي دون ما عاينت من فجعاتها |
|
إلى دفعها داع وبالزهد آمر |
فجد ولا تغفل وكن متيقظا |
|
فعما قليل يترك الدار عامر |
فشمر ولا تفتر فعمرك زائل |
|
وأنت إلى دار الاقامة صائر |
ولا تطلب الدنيا فإن نعيمها |
|
وإن نلت منها غبه لك ضائر
|
فهل يحرص عليها لبيب ، أو يسر بها أريب ؟ وهو على ثقة من فنائها ، وغير طامع في بقائها ، أم كيف تنام عينا من يخشى البيات ، وتسكن نفس من توقع في جميع أموره الممات :
ألا لا ولكنا نغر نفوسنا |
|
وتشغلنا اللذات عما نحاذر |
وكيف يلذ العيش من هو موقف |
|
بموقف عدل يوم تبلى السرائر |
كأنا نرى أن لا نشور وأننا |
|
سدى مالنا بعد الممات مصادر |
وما عسى أن ينال صاحب الدنيا من لذتها ويتمتع به من بهجتها ، مع صنوف عجائبها وقوارع فجائعها ، وكثرة عذابه في مصابها وفي طلبها ، وما يكابد من أسقامها وأوصا بها وآلامها .
أما قد نرى في كل يوم وليلة |
|
يروح علينا صرفها ويباكر |
تعاورنا آفاتها وهمومها |
|
وكم قد ترى يبقى لها المتعاور |
فلا هو مغبوط بدنياه آمن |
|
ولا هو عن تطلا بها النفس قاصر
|
كم قد غرت الدنيا من مخلد إليها ، وصرعت من مكب عليها ، فلم تنعشه من عثرته ، ولم تنقذه من صرعته ، ولم تشفه من ألمه ، ولم تبره من سقمه ، ولم تخلصه من وصمه .
بل أوردته بعد عز ومنعة |
|
موارد سوء ما لهن مصادر |
فلما رأى أن لا نجاة وأنه |
|
هو الموت لا ينجيه منه التحاذر |
تندم إذ لم تغن عنه ندامة |
|
عليه وأبكته الذنوب الكبائر |
ذ بكى على ما سلف من خطاياه ، وتحسر على ما خلف من دنياه ، واستغفر حتى لا ينفعه الاستغفار ولا ينجيه الاعتذار ، عند هول المنية ونزول البلية .
أحاطت به أحزانه وهمومه |
|
وأبلس لما أعجزته المقادر |
فليس له من كربة الموت فارج |
|
وليس له مما يحاذر ناصر |
وقذ جشأت خوف المنية نفسه |
|
ترددها منه اللها والحناجر |
هنالك خف عواده ، وأسلمه أهله وأولاده ، وارتفعت البرية بالعويل ، وقد أيسوا من العليل ، فغمضوا بأيديهم عينيه ، ومد عند خروج روحه رجليه ، وتخلى عنه الصديق ، والصاحب الشفيق .
فكم موجع يبكي عليه مفجع |
|
ومستنجد صبرا وما هو صابر |
ومسترجع داع له الله مخلصا |
|
يعدد منه كل ما هو ذاكر |
وكم شامت مستبشر بوفاته |
|
وعما قليل للذي صار صائر |
فشقت جيوبها نساؤه ، ولطمت خدودها إماؤه ، وأعول لفقده جيرانه ، وتوجع لرزيته إخوانه ، ثم أقبلوا على جهازه ، وشمروا لابرازه . كأنه لم يكن بينهم العزيز المفدى ، ولا الحبيب المبدى .
وحل أحب القوم كان بقربه |
|
يحث على تجهيزه ويبادر |
وشمر من قد احضروه لغسله |
|
ووجه لما فاض للقبر حافر |
وكفن في ثوبين واجتمعت له |
|
مشيعة إخوانه والعشائر |
فلو رأيت الاصغر من أولاده ، قد غلب الحزن على فؤاده ، ويخشى من الجزع عليه ، وخضبت الدموع عينيه ، وهو يندب أباه ويقول : يا ويلاه واحراباه :
لعاينت من قبح المنية منظرا |
|
يهال لمرآه ويرتاع ناظر أكابر |
أولاد يهيج اكتئابهم |
|
إذا ما تناساه البنون الاصاغر |
وربة نسوان عليه جوازع |
|
مدامعهم فوق الخدود غوازر |
ثم أخرج من سعة قصره ، إلى ضيق قبره ، فلما استقر في اللحد وهيئ عليه اللبن ، احتوشته أعماله وأحاطت به خطاياه ، وضاق ذرعا بما رآه ، ثم حثوا بأيديهم عليه التراب ، وأكثروا البكاء عليه والانتحاب ، ثم وقفوا ساعة عليه ، وأيسوا من النظر إليه ، وتركوه رهنا بما كسب وطلب .
فولوا عليه معولين وكلهم |
|
لمثل الذي لاقى أخوه محاذر |
كشاء رتاع آمنين بدا لها |
|
بمدينة بادي الذراعين حاسر |
فريعت ولم ترتع قليلا وأجفلت |
|
فلما نأى عنها الذي هو جازر |
عادت إلى مرعاها ، ونسيت ما في أختها دهاها ، أفبأفعال الانعام اقتدينا ؟ أم على عادتها جرينا ؟ عد إلى ذكر المنقول إلى دار البلى ، واعتبر بموضعه تحت الثرى ، المدفوع إلى هول ما ترى .
ثوى مفردا في لحده وتوزعت |
|
مواريثه أولاده والاصاهر |
وأحنوا على أمواله يقسمونها |
|
فلا حامد منهم عليها وشاكر |
فيا عامر الدنيا ويا ساعيا لها |
|
ويا آمنا من أن تدور الدوائر |
كيف أمنت هذه الحالة وأنت صائر إليها لا محالة ؟ أم كيف ضيعت حياتك وهي مطيتك إلى مماتك ؟ أم كيف تشبع من طعامك وأنت منتظر حمامك ؟ أم كيف تهنأ بالشهوات ، وهي مطية الآفات .
ولم تتزود للرحيل وقد دنا |
|
وأنت على حال وشيك مسافر |
فيا لهف نفسي كم أسوف توبتي |
|
وعمري فان والردى لي ناظر |
وكل الذي أسلفت في الصحف مثبت |
|
يجازي عليه عادل الحكم قادر |
فكم ترقع بآخرتك دنياك ، وتركب غيك وهواك ، أراك ضعيف اليقين ، يا مؤثر الدنيا على الدين أبهذا أمرك الرحمن ؟ أم على هذا نزل القرآن ؟ أما تذكر ما أمامك من شدة الحساب ، وشر المآب أما تذكر حال من جمع وثمر ، ورفع البناء وزخرف وعمر ، أما صار جمعهم بورا ، ومساكنهم قبورا :
تخرب ما يبقى وتعمر فانيا |
|
فلا ذاك موفور ولا ذاك عامر |
وهل لك إن وافاك حتفك بغتة |
|
ولم تكتسب خيرا لدى الله عاذر |
أترضى بان تفنى الحياة وتنقضي |
|
ودينك منقوص ومالك وافر([1]) |