اسرار مبيت الامام علي على فراش النبي
* - قال ابن طاووس في إقبال الأعمال : ذكر ما فتحه الله علينا من أسرار هذه المهاجرة وما فيها من العجائب الباهرة :
منها : تعريف الله جل جلاله لعباده لو أراد قهر أعداء رسوله محمد صلوات الله عليه ما كان يحتاج إلى مهاجرة ليلا على تلك المأثرة ، وكان قادرا أن ينصره و هو بمكة من غير مخاطرة ، بآيات وعنايات باهرة ، كما أنه كان قادرا أن ينصر عيسى ابن مريم عليه السلام على اليهود بالآيات والعساكر والجنود ، فلم تقتض الحكمة الإلهية إلا رفعه إلى السماوات العلية ، ولم يكن له مصلحة في مقامه في الدنيا بالكلية فليكن العبد راضيا بما يراه مولاه له من التدبير في القليل والكثير ، ولا يكن الله جل جلاله دون وكيل الانسان في أموره الذي يرضى بتدبيره ، ولا دون جاريته أو زوجته في داره التي يثق إليها في تدبير أموره .
ومنها : التنبيه على أن الذي صحبه إلى الغار ما تضمنه وصف صحبته في الاخبار ما كان يصلح في تلك الحادثات إلا للهرب ، ولا في أوقات الذل والخوف من الاخطار إلا للتي يصلح لها مثل النساء الضعيفات والغلمان الذين يصيحون في الطرقات عند الهرب من المخافات وما كان يصلح للمقام بعده ليدفع عنه خطر الأعداء ، ولا أن يكون معه بسلاح ولا قوة لمنع شئ من البلاء
ومنها : أن الطبري في تاريخه وأحمد بن حنبل رويا في كتابيهما أن هذا الرجل المشار إليه ما كان عارفا بتوجه النبي صلى الله عليه وآله وأنه جاء إلى مولانا علي عليه السلام فسأله عنه فأخبره أنه توجه ، فتبعه بعد توجهه حتى ظفر به ، وتأذى رسول الله صلى الله عليه وآله بالخوف منه لما تبعه ، وعثر بحجر فلق قدمه ، فقال الطبري في تاريخه ما هذا لفظه : فخرج أبو بكر مسرعا ولحق نبي الله صلى الله عليه وآله في الطريق ، فسمع جرس أبي بكر في ظلمة الليل فحسبه من المشركين ، فأسرع رسول الله صلى الله عليه وآله يمشي فقطع قبال نعله ففلق إبهامه حجر وكثر دمها فأسرع المشي ، فخاف أبو بكر أن يشق على رسول الله صلى الله عليه وآله حين أتاه ، فانطلقا ورجل رسول الله صلى الله عليه وآله تسيل دما حتى انتهى إلى الغار مع الصبح ، فدخلاه ، وأصبح الذين كانوا يرصدون رسول الله صلى الله عليه وآله فدخلوا الدار ، وقام علي عليه السلام على فراشه ، فلما دنوا منه عرفوه فقالوا له : أين صاحبك ؟ قال : لا أدري ، أو رقيبا كنت عليه ؟ أمرتموه بالخروج فخرج فانتهروه وضربوه وأخرجوه إلى المسجد فحبسوه ساعة ، ثم تركوه ونجا رسول الله صلى الله عليه وآله . أقول : وما كان حيث لقيه يتهيأ أن يتركه النبي صلى الله عليه وآله يبعد منه خوفا أن يلزمه أهل مكة فيخبرهم عنه وهو رجل جبان ، فيؤخذ النبي صلى الله عليه وآله ويذهب الاسلام بكماله ، لان أبا بكر أراد الهرب من مكة ومفارقة النبي صلى الله عليه وآله قبل هجرته على ما ذكره الطبري في حديث الهجرة ، فقال ما هذا لفظه : وكان أبو بكر كثيرا ما يستأذن رسول الله صلى الله عليه وآله في الهجرة ، فيقول له رسول الله صلى الله عليه وآله : لا تعجل .
أقول : فإذا كان قد أراد المفارقة قبل طلب الكفار له فكيف يؤمن منه الهرب بعد الطلب ؟ وكان أخذه معه حيث أدركه من الضرورات التي اقتضاها الاستظهار في حفظ النبي صلوات الله وسلامه عليه من كشف حاله لو تركه يرجع عنه في تلك الساعة ، وقد جرت العادة أن الهرب مقام تخويف يرغب في الموافقة عليه قلب الجبان الضعيف ، ولا روي فيما علمت أن أبا بكر كان معه سلاح يدفع به عدوا عن النبي صلى الله عليه وآله ولا حمل معه شيئا يحتاج إليه ، وما أدري كيف اعتقد المخالفون أن لهذا الرجل فضيلة في الموافقة في الهرب وقد استأذنه مرارا أن يهرب ، ويترك النبي صلى الله عليه وآله في يد الأعداء الذين يتهددونه بالعطب ؟ إن اعتقاد فضيلة لأبي بكر في هذا الذل من أعجب العجب .
ومنها : التكدير على النبي صلى الله عليه وآله بجزع صاحبه في الغار ، وقد كان يكفي النبي صلى الله عليه وآله تعلق خاطره المقدس بالسلامة من الكفار ، فزاده جزع صاحبه شغلا في خاطره ، ولو لم يصحبه لاستراح من كدر جزعه ، واشتغال سرائره .
ومنها : أنه لو كان حزنه شفقة على النبي صلى الله عليه وآله أو على ذهاب الاسلام ما كان قد نهى عنه ، وفيه كشف أن حزنه كان مخالفا لما يراد منه .
ومنها : أن النبي صلى الله عليه وآله ما بقي يأمن إن لم يكن أوحي إليه أنه لا خوف عليه أن يبلغ صاحبه من الجزع الذي ظهر عليه إلى أن يخرج من الغار ويخبر به الطالبين له من الأشرار ، فصار معه كالمشغول بحفظ نفسه من ذل صاحبه وضعفه ، زيادة على ما كان مشغولا بحفظ نفسه .
ومن أسرار هذه المهاجرة أن مولانا عليا عليه السلام بات على فراش المخاطرة وجاد بمهجته لمالك الدنيا والآخرة ولرسوله صلى الله عليه وآله فاتح أبواب النعم الباطنة و الظاهرة ، ولولا ذلك المبيت واعتقاد الأعداء أن النائم على الفراش هو سيد الأنبياء صلى الله عليه وآله لما كانوا صبروا عن طلبه إلى النهار حتى وصل إلى الغار ، فكانت سلامة صاحب الرسالة من قبل أهل الضلالة صادرة عن تدبير الله جل جلاله بمبيت مولانا علي عليه السلام في مكانه ، وآية باهرة لمولانا علي عليه السلام شاهدة بتعظيم شأنه ، و أنزل الله جل جلاله في مقدس قرآنه : ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله والله رؤوف بالعباد فأخبر أن لمولانا علي عليه السلام كانت بيعا لنفسه الشريفة ، وطلبا لرضاء الله جل جلاله دون كل مراد ، وقد ذكرنا في الطرائف من روى هذا الحديث من المخالف ، ومباهات الله جل جلاله تلك الليلة بجبرئيل وميكائيل في بيع مولانا علي عليه السلام بمهجته ، وأنه سمح بما لم يمسح به خواص ملائكته .
ومنها : أن الله جل جلاله زاد مولانا عليا عليه السلام من القوة الإلهية والقدرة الربانية إلى أنه ما قنع له أن يفدي النبي صلى الله عليه وآله بنفسه الشريفة ، حتى أمره أن يكون مقيما بعده في مكة مهاجرا للأعداء قد هربه منهم وستره بالمبيت على الفراش ، وغطاه عنهم ، وهذا ما لا يحتمله قوة البشر إلا بآيات باهرة من واهب النفع ودافع الضرر .
ومنها : أن الله جل جلاله لم يقنع لمولانا علي عليه السلام بهذه الغاية الجليلة حتى زاده من المناقب الجميلة ، وجعله أهلا أن يقيم ثلاثة أيام بمكة لحفظ عيال سيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله ، وأن يسير بهم ظاهرا على رغم الأعداء وهو وحيد من رجاله ، ومن يساعده على ما بلغ من المخاطرة إليه .
ومنها : أن هذا الاستسلام من مولانا علي عليه السلام للقتل وفديه النبي صلى الله عليه وآله أظهر مقاما وأعظم تماما من استسلام جده الذبيح إسماعيل لإبراهيم الخليل عليه وعليهما السلام ، لان ذلك استسلام لوالد شفيق يجوز معه أن يرحمه الله جل جلاله ويقيله من ذبح ولده كما جرى الحال عليه من التوفيق ، ومولانا علي عليه السلام استسلم للأعداء الذين لا يرحمون ولا يرجون لمسامحة في البلاء .
ومنها : أن إسماعيل كان يجوز أن الله جل جلاله يكرم إياه بأنه لا يجد للذبح ألما ، فإن الله تعالى قادر أن يجعله سهلا رحمة لأبيه وتكرما ، ومولانا علي عليه السلام استسلم للذين طبعهم القتل في الحال على الاستقصاء وترك الابقاء و التعذيب إذا ظفروا بما قدروا من الابتلاء .
ومنها : أن ذبح إسماعيل بيد أبيه الخليل عليهما السلام ما كان فيه شماتة ومغالبة ومقاهرة من أهل العداوات ، وإنما هو شئ من الطاعات المقتضية للسعادات و العنايات ، ومولانا علي عليه السلام كان قد خاطر بنفسه لشماتة الأعداء والفتك به بأبلغ غايات الاشتقاء والاعتداء والتمثيل بمهجته الشريفة والتعذيب له بكل إرادة من الكفار سخيفة .
ومنها : أن العادة قاضية وحاكمة أن زعيم العسكر إذا اختفى واندفع عن مقام الاخطار وانكسر علم القوة والاقتدار فإنه لا يكلف رعية المعلقون عليه أن يقفوا موقفا قد فارقه زعيمهم ، وكان معذورا في ترك الصبر عليه ، ومولانا علي عليه السلام كلف الصبر والثبات على مقامات قد اختفى فيها زعيمه الذي يعول عليه وانكسر علم القوة الذي تنظر عيون الجيش إليه ، فوقف مولانا علي عليه السلام وزعيمه غير حاضر فهو موقف قاهر ، فهذا فضل من الله جل جلاله لمولانا علي عليه السلام باهر بمعجزات تخرق عقول ذوي الألباب ، ويكشف لك أنه القائم مقامه في الأسباب .
ومنها : أن فدية مولانا علي عليه السلام لسيدنا رسول الله صلى الله عليه وآله كانت من أسباب التمكين من مهاجرته ومن كل ما جرى من السعادات والعنايات بنوبته ، فيكون مولانا علي عليه السلام قد صار من أسباب التمكين من كل ما جرت حال الرسالة عليه ومشاركا في كل خير فعله النبي صلوات الله عليه ، وبلغ حاله إليه ، وقد اقتصرت في ذكر أسرار المهاجرة الشريفة النبوية على هذه المقامات الدينية ، ولو أردت بالله جل جلاله أوردت مجلدا منفردا في هذه الحال ، ولكن هذا كاف شاف للمنصفين وأهل الاقبال .