العتبة العلوية المقدسة - سبب تكنية علي عليه السلام بأبي تراب -
» » سيرة الإمام » اسماؤه عليه السلام ومعانيها » سبب تكنية علي عليه السلام بأبي تراب

 

سبب تكنية علي عليه السلام بأبي تراب
 
وسبب تسمية النبي صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام بأبي تراب، هو أنه صلى الله عليه وآله جاء وعلي عليه السلام نائم في التراب، فقال: أحق أسمائك أبو تراب، أنت أبو تراب. ([1])
وقد علل ابن عباس هذه التكنية بوجه دقيق وعميق، فقد روى سليمان بن مهران، عن عباية بن ربعي، قال: قلت لعبد الله بن عباس: لم كنى رسول الله صلى الله عليه وآله علياً عليه السلام أبا تراب؟!
قال: لأنه صاحب الأرض، وحجة الله على أهلها بعده، وبه بقاؤها، وإليه سكونها. ولقد سمعت رسول الله صلى الله عليه وآله يقول:
إنه إذا كان يوم القيامة، ورأى الكافر ما أعد الله تبارك وتعالى لشيعة علي عليه السلام من الثواب والزلفى والكرامة، قال: يا ليتني كنت تراباً. يعني: يا ليتني من شيعة علي عليه السلام. وذلك قول الله عز وجل: {وَيَقُولُ الْكَافِرُ يَا لَيْتَنِي كُنْتُ تُرَاباً}([2])
قال المجلسي رحمه الله: يمكن أن يكون ذكر الآية لبيان وجه آخر لتسميته عليه السلام بأبي تراب، لأن شيعته لكثرة تذللهم له وانقيادهم لأوامره سُمّوا تراباً، كما في الآية الكريمة.
ولكونه عليه السلام صاحبهم، وقائدهم، ومالك أمورهم، سمي أبا تراب([3])
وقد قال عبد الباقي العمري مشيراً إلى ذلك:
يا أبا الأوصياء أنت لِطه

 
صهره وابن عمه وأخوهُ

إن لله في معانيك سراً

 
أكثر العالمين ما علموه

أنت ثاني الآباء في منتهى الدور

 
وآبــاؤه تعــد بنـوه

خلق الله آدماً من تراب

 
وهو ابن له وأنت أبوه ([4])

 
يقول السيد العاملي في الصحيح من السيرة معلقا على هذا اللقب لماذا الوضع والإختلاق؟!:
ولعل سر وضع هذه الترهات هو:
1 ـ إنهم يريدون أن يظهروا: أنه قد كان في بيت علي عليه السلام من التناقضات والمخالفات مثل ذلك الذي كان في بيت النبي صلى الله عليه وآله، مما كانت تصنعه بعض زوجاته صلى الله عليه وآله.
وليمكن ـ من ثم ـ أن يقال: إن ذلك أمر طبيعي، ومألوف، وهو من مقتضيات الحياة الزوجية؛ فلا غضاضة فيه على أحد، ولا موجب للطعن والإشكال على أي كان، فزوجة النبي تتصرف كما كانت تتصرف بنت النبي صلى الله عليه وآله.
وكما كانت عائشة تغضب النبي صلى الله عليه وآله، فإن فاطمة كانت تغضب علياً عليه السلام، وكانت خشنة معه.
2 ـ ومن الجهة الثانية، فكما أن قوله صلى الله عليه وآله من أغضبها أي فاطمة فقد أغضبني، ينطبق على فلان وفلان، فإنه ينطبق على علي نفسه، إذاً فكما أغضب أبو بكر وعمر بن الخطاب فاطمة عليها السلام، فقد أغضبها علي أيضاً..
وتكون واحدة بواحدة، فلا يكون ذلك موجباً للإشكال على أولئك دونه عليه السلام. ويكون كلام النبي صلى الله عليه وآله عن غضبها من قبيل المجاملة، وأنه كلام لا معنى له وراء العاطفة الأبوية.
3 ـ هل يريدون أن يظهروا علياً عليه السلام بصورة الفظ الغليظ، وهي الصفات التي وصفوا بها عمر بن الخطاب، لكي يتشارك هو وإياه في ذلك؟!
4 ـ بل هم يريدون بذلك: أن يظهروا علياً عليه السلام بصورة الرجل الذي لم يكن مرضياً من فاطمة، وقد تزوجته وهي كارهة، وبدون رضى منها.
ولعل قبول النبي صلى الله عليه وآله بتزويجه كان لأجل دفع غائلته وشره، وبذلك يسلبون عنه فضيلة الصهر للنبي صلى الله عليه وآله.
قيمة هذه الكنية:
وقد كان علي عليه السلام يعتز ويأنس بكنية أبي تراب، لأنه كان لا يرى الدنيا هدفاً له، يعيش من أجله ويضحي في سبيله، وإنما يعتبرها وسيلة إلى هدفه الأسمى، وغايته الفضلى، ومن يرى نفسه منسجماً في تصرفاته مع هدفه، ومع نظرته؛ لابد أن يرتاح، وينشرح لذلك.
فكانت هذه الكنية من النبي صلى الله عليه وآله له بمثابة إعلام له:
بأنه سوف يبقى في مواقفه وتصرفاته محتفظاً بالخط المنسجم مع أهدافه، وأنه سوف يستمر في وضعه للدنيا في موضعها الذي يليق بها، ولن تغره بزبارجها وبهارجها، ولن يبتلي بالتناقض بين مواقفه وتصرفاته، وبين ما يعتبره هدفاً له.
فمن أجل ذلك وسواه كانت هذه الكنية أحب كناه إليه عليه السلام.
وأما الأمويون، الذين كانوا يعيِّرونه عليه السلام بهذه الكنية، فقد كان موقفهم أيضاً منسجماً مع نظرتهم ومع ما يمثل القيمة عندهم، فإن غايتهم وهدفهم هو الدنيا، وعلى أساس وجدانها وفقدانها يقيّمون الأشخاص والمواقف، فيحترمون أو يحتقرون.
وإذا كان علي أبا تراب، ولا يهتم بالدنيا، ولا يسعى لأن ينال منها إلا ما يحفظ له خيط حياته، انطلاقاً من الواجب الشرعي، ويبلغه إلى أهدافه التي رسمها الله سبحانه له، فإن بني أمية سوف يرونه فاقداً للعنصر الأهم الذي يكون به المجد الباذخ، والكرامة والسؤدد بنظرهم، ويصبح من الطبيعي أن يعيروه بكنية من هذا القبيل، فإن ذلك هو المنسجم كل الانسجام مع غاياتهم ونظرتهم تلك التي تخالف الدين والقرآن، ولا تنسجم مع الفطرة السليمة والمستقيمة.
الراية الترابية: علم وسخاء:
وقد أظهرت بعض النصوص: أن الترابية أصبحت نهجاً وطريقاً ولقباً لفئة من الناس، وأن هذا اللقب أصبح محوراً وشعاراً رائعاً في دلالاته
في نطاق التداول بين الأفرقاء: من الأعداء والأصدقاء على حد سواء.
فمن يهتم بالعلم، ونشره، ويعرف بالسخاء والبذل صار يعتبر رافعاً راية ترابية، فقد روي: أنه دخل عبد الله بن صفوان على عبد الله بن الزبير، وهو يومئذٍ بمكة فقال: أصبحت كما قال الشاعر:
فإن تصبك من الأيام جائحة
لا أبك منك على دنياً ولا دين
فقال: وما ذاك يا أعرج؟!
فقال: هذا عبد الله بن عباس يفقه الناس، وعبيد الله أخوه يطعم الناس، فما أبقيا لك؟!
فأحفظه ذلك، فأرسل صاحب شرطته، عبد الله بن مطيع، وقال له: انطلق إلى ابني عباس، فقل لهما: أعمدتما إلى راية ترابية قد وضعها الله، فنصبتماها؟! بددا عني جمعكما، ومن ضوى إليكما من أهل الدنيا، وإلا فعلت وفعلت.
فقال ابن عباس: ثكلتك أمك، والله ما يأتينا من الناس غير رجلين: طالب فقه، أو طالب فضل. فأي هذين تمنع؟!
فقال أبو الطفيل:
لا در در الليـالي كـيـف تضحكنـا منها خطـوب أعاجيب وتبكينــا
ومثـل مـا تحـدث الأيـام مـن غِـيَرٍ يـا ابـن الزبـير عـن الدنيا تسلينـا
كنـا نـجـيء ابن عباس فيقبـسنــا عـلماً، ويـكسبنا أجراً ويهــدينــا
ولا يــــزال عـبـيـد الله متــرعــة جفـانه، مطعـماً ضـيـفاً ومسكينـا
فـالـبر، والـديـن، والدنيا بدارهمـا ننــال منهــا الـذي نبغي إذا شينـا
إن الـنـبـي هو النور الذي كشـفت بـه عـمايــات بـاقينــا ومـاضينــا
ورهطـه عصمـة في ديننـا ولــهــم فضـل علينـا وحـق واجـب فينــا
ولست فـاعلمْه أولى مـنـهمُ رحمــاً يـا بـن الـزبــير ولا أولى بـه دينـا
فـفـيـم تـمـنـعهم عنــا وتمـنـعـنـا عنهـم وتـؤذيهـمُ فـينــا وتـؤذينـا
لـن يـؤتِيَ الله مـن أخـزى ببغضهم في الدين عزاً ولا في الأرض تمكيناً [5]
فابن الزبير يعتبر راية العلم، وراية الجود من الرايات الترابية التي اكتسبها أتباع أبي تراب منه صلوات الله وسلامه عليه.
أترابية وعصبية؟!:
كما أن أتباع أمير المؤمنين عليه السلام أبي تراب كانوا كإمامهم أبعد عن العصبية للعرق والعشيرة، ويشهد لذلك قول كثيِّر عزَّة، حينما قتل آل المهلب بالعقر: ما أجل الخطب! ضحى آل أبي سفيان بالدين يوم الطف، وضحى بنو مروان بالكرم يوم العقر، ثم انتضحت عيناه باكياً.فبلغ ذلك يزيد بن عبد الملك، فدعا به، فلما دخل عليه قال: عليك بهلة الله، أترابية وعصبية؟!([6])
مما يعني: أن هاتين الصفتين لا تجتمعان في علي عليه السلام وشيعته.
 


([1])راجع: مجمع الزوائد للهيثمي ج9 ص101 والمعجم الأوسط للطبراني ج1 ص237 وتاريخ مدينة دمشق لابن عساكر ج42 ص18 والغدير للشيخ الأميني ج6 ص334 وموسوعة الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام في الكتاب والسنة والتاريخ ج1 ص82 وكنز العمال ج11 ص627 وشرح إحقاق الحق (الملحقات) ج6 ص543 و 545 وج15 ص592 وج20 ص423 و 429 و 431.
([2])بحار الأنوار ج35 ص51 وج65 ص123 وغاية المرام للبحراني (ط إيران) ج1 ص58 و (ط أخرى) ج1 ص60 وعلل الشرايع ج1 ص187 و188 و (ط الحيدرية ـ النجف الأشرف) ج1 ص156 ومعاني الأخبار للشيخ الصدوق ص120 وشجرة طوبى ج2 ص220 والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام للهمداني ص56 والصافي ج5 ص278 وج7 ص387 وتفسير نور الثقلين ج5 ص496 وبشارة المصطفى ص28 و29 والبرهان (تفسير) ج8 ص202 ومناقب آل أبي طالب ج2 ص305.
([3])راجع: بحار الأنوار ج35 ص51.
([4])راجع: الغدير للشيخ الأميني ج6 ص338 ومستدرك سفينة البحار ج7 ص380 والإمام علي بن أبي طالب عليه السلام للهمداني ص56 و 373 واللمعة البيضاء للتبريزي الأنصاري ص130 والكنى والألقاب للشيخ عباس القمي ج2 ص98 وشجرة طوبى ج2 ص220.
 
([5])الأغاني (ط ساسي) ج13 ص168 وأنساب الأشراف ج3 ص32 والإستيعاب (ط دار الجيل) ج3 ص938 والدرجات الرفيعة ص148 وتاريخ مدينة دمشق ج26 ص129 وسير أعلام النبلاء ج3 ص356 وخزانة الأدب ج4 ص40.
([6])الأغاني ج8 ص6 وأعيان الشيعة ج1 ص169 و 325 ومختصر أخبار شعراء الشيعة ص69 والدرجات الرفيعة ص588.