العتبة العلوية المقدسة - خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام في التوحيد وصفة النبي صلى الله عليه واله -
» » سيرة الإمام » بلاغة الامام علي وحكمته » خطب الامام علي عليه السلام » خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام في التوحيد وصفة النبي صلى الله عليه واله

خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام

في التوحيد وصفة النبي صلى الله عليه واله 

الحمدُ للهِ الذي توحّدَ بصنع الأشياء على غير مثالٍ سبقه في إنشائِها ، ولا إعانة مُعين على ابتداعها ، ابتدعها بلطفِ قدرته ، خاضعاً لمشيئته مُسْتَحْدثَة لأمرهِ ، فهو الواحد بغير حدٍّ ولا زوالٍ ، و الدائم بغير أمد ولا نفاد ، لم يزل كذلك ولا يزال ، لا تغيّره الأزمنة ، ولا تحيط به الأمكنة ، ولا تبلُغُ مقامَه الألسنة ، ولا يأخذه نوم ولا سِنة، لم تَرَهُ العيون فتُخْبر عنه برؤيته ، ولم تهجم عليه العقول فتتوهم كُنْهَ صفته ، ولم تدرِ كيفَ هو إلا بما اخبرَ عن نفسه . ابتدع الأشياء بلا تفكير ، و خلقها بلا ظَهير ، وفَطَرها بقدرته ، وصيّرها بمشيئَتِه ، وصاغ أشباحها وبرأ أرواحها .اشهدُ أن الأعين لا تدرِكُكَ و الأوهامَ لا تلحقُك ، و العقولَ لا تَصفُكَ و  المكانَ لا يسعك ، وكيف يسع المكان مَنْ خَلَقه وكان قبله ، أم كيف تدركه الأوهام ولا نهاية له ولا غاية ، وكيف تكونُ له نهايةٌ وغاية ، وهو الذي ابتدأ الغايات و النهايات ، فسبحانك مَلَأْتَ كل شيء وباينت كل شيء ولا يَفْقِدُك شيء ، كل مُدْرَك من خَلْقِك ، وكل محدود من صنعك .

ومنها في تنقل النبي صلى الله عليه واله  وتقلبه في ظهور آبائه

نقَلتهُ إلى إبراهيم فأسعدت بذلك جَدَّه ، و أعظمت به مجده ، وقَدَّسته في الأصفياء وسمّيتَهُ دونَ رُسِلك خليلا ، ثم خَصَصتَ به إسماعيل دونَ ولد إبراهيم فأنطقت لسانه بالعربية التي فضلتَها على سائر اللغات ، ولم تزل تنقله من أب إلى أب تأخذ له بمجامع الكرامة ومواطن السلامة ، فسبحانك ! أيَّ صلب أسكنته فيه فلم ترفع ذكرَهُ ، و أي ساحة من الأرض سَلَكْتْ به لم يظهر بها قدسُه ، حتى الكعبة التي جعلت منها مُخْرَجَه حرّمت وحشها وشجرها ،وقدست حَجَرَها ومَدَرها ، وجعلتها مسلكاً لوحيك ، ومنسكاً لخلقك ، ولم تُودِعْهُ صُلباً إلا جلَّلتْه نوراً تأنسُ به الأبصار وتطمئن إليه القلوب ، فأي جَدّ أسرةٍ ومجتمع عترة ومُخرج طُهر ومَرْجعِ فخر – جعلت يا رب هاشماً ! ثم نقلته من هاشم إلى عبد المطلب فأنهجته سبيل إبراهيم ، و ألهمته رشداً للتأويل ، ثم أذِنْتَ لعبد الله في نبذه عند ميقات تطهيرِ أرضك من كفار الأمم الذين جهلوا معرفتك ، وجحدوا ربوبيتك ، و أنكروا وحدانيتك ، فاتخذوا لك أنداداً وجعلوا لك شركاء و أولاداً وصَبَوْا ([1]) إلى طاعة الشيطان وعبادة الاوثان فصلواتك على محمدٍ عبدِك ونبيِك وخيرتِك وصفيِك ، أيُّ منيعة لم تهدمها دعوته ،و أيُّ فضيلة لم تنلها عترته ، جعلته خير أئمةَ للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويجاهدون في سبيلك ويتواصون بدينك ، باعوك أنفسهم ، شِعثَةً رؤوسُهم ، تَرِبةً وجوههم ، تكاد الأرض من طهارتهم تقبضهم إليها ، ومن فضلهم أن تميد بمن عليها ، فأي شرف يا ربي جعلته في محمد وعترته وما أُزكِّي نفسي ! ولكن أُحَدِّثُ بنعمة ربي ، و أنا صاحبُ القبلتين وحامل الرايتين ، و أبو السِّبْطَين ، أنا علم الهدى وكهف التقى، وخير من آمن و اتقى ، و أكملُ من تًقًمّص ([2]) و ارتدى ، بعد النبي المصطفى .

أيُّها الناسُ ! بنا أنار الله السبل و أقام المَيَل ، وعُبِدَ الله في أرضه ، فتوفى الله محمداً صلى الله عليه واله  سعيداً شهيداً هادياً مهدياً قائماً بما استكفاه ، حافظاً لما استرعاه ، تمم به الدين و أوضح به اليقين ، فاندمغ الباطل زاهقاً ووضح العدل ناطقاً وعطَّل مَظَانَّ الشيطان و أوضح الحق و البرهان ، فأجعل اللهم فواضل صلواتك ونواميَ بركاتك على نبي الرحمة وعلى أهل بيته الطاهرين .

 



([1]) صبَوْا : مالوا .

([2]) تقمص : أي لبس القميص ولعل المراد به قميص الحرب وهو إذن كناية عن الشجاعة .