الحمدُ للهِ الذي توحّدَ بصنع الأشياء على غير مثالٍ سبقه في إنشائِها ، ولا إعانة مُعين على ابتداعها ، ابتدعها بلطفِ قدرته ، خاضعاً لمشيئته مُسْتَحْدثَة لأمرهِ ، فهو الواحد بغير حدٍّ ولا زوالٍ ، و الدائم بغير أمد ولا نفاد ، لم يزل كذلك ولا يزال ، لا تغيّره الأزمنة ، ولا تحيط به الأمكنة ، ولا تبلُغُ مقامَه الألسنة ، ولا يأخذه نوم ولا سِنة، لم تَرَهُ العيون فتُخْبر عنه برؤيته ، ولم تهجم عليه العقول فتتوهم كُنْهَ صفته ، ولم تدرِ كيفَ هو إلا بما اخبرَ عن نفسه . ابتدع الأشياء بلا تفكير ، و خلقها بلا ظَهير ، وفَطَرها بقدرته ، وصيّرها بمشيئَتِه ، وصاغ أشباحها وبرأ أرواحها .اشهدُ أن الأعين لا تدرِكُكَ و الأوهامَ لا تلحقُك ، و العقولَ لا تَصفُكَ و المكانَ لا يسعك ، وكيف يسع المكان مَنْ خَلَقه وكان قبله ، أم كيف تدركه الأوهام ولا نهاية له ولا غاية ، وكيف تكونُ له نهايةٌ وغاية ، وهو الذي ابتدأ الغايات و النهايات ، فسبحانك مَلَأْتَ كل شيء وباينت كل شيء ولا يَفْقِدُك شيء ، كل مُدْرَك من خَلْقِك ، وكل محدود من صنعك .
ومنها في تنقل النبي صلى الله عليه واله وتقلبه في ظهور آبائه
نقَلتهُ إلى إبراهيم فأسعدت بذلك جَدَّه ، و أعظمت به مجده ، وقَدَّسته في الأصفياء وسمّيتَهُ دونَ رُسِلك خليلا ، ثم خَصَصتَ به إسماعيل دونَ ولد إبراهيم فأنطقت لسانه بالعربية التي فضلتَها على سائر اللغات ، ولم تزل تنقله من أب إلى أب تأخذ له بمجامع الكرامة ومواطن السلامة ، فسبحانك ! أيَّ صلب أسكنته فيه فلم ترفع ذكرَهُ ، و أي ساحة من الأرض سَلَكْتْ به لم يظهر بها قدسُه ، حتى الكعبة التي جعلت منها مُخْرَجَه حرّمت وحشها وشجرها ،وقدست حَجَرَها ومَدَرها ، وجعلتها مسلكاً لوحيك ، ومنسكاً لخلقك ، ولم تُودِعْهُ صُلباً إلا جلَّلتْه نوراً تأنسُ به الأبصار وتطمئن إليه القلوب ، فأي جَدّ أسرةٍ ومجتمع عترة ومُخرج طُهر ومَرْجعِ فخر – جعلت يا رب هاشماً ! ثم نقلته من هاشم إلى عبد المطلب فأنهجته سبيل إبراهيم ، و ألهمته رشداً للتأويل ، ثم أذِنْتَ لعبد الله في نبذه عند ميقات تطهيرِ أرضك من كفار الأمم الذين جهلوا معرفتك ، وجحدوا ربوبيتك ، و أنكروا وحدانيتك ، فاتخذوا لك أنداداً وجعلوا لك شركاء و أولاداً وصَبَوْا ([1]) إلى طاعة الشيطان وعبادة الاوثان فصلواتك على محمدٍ عبدِك ونبيِك وخيرتِك وصفيِك ، أيُّ منيعة لم تهدمها دعوته ،و أيُّ فضيلة لم تنلها عترته ، جعلته خير أئمةَ للناس يأمرون بالمعروف وينهون عن المنكر ، ويجاهدون في سبيلك ويتواصون بدينك ، باعوك أنفسهم ، شِعثَةً رؤوسُهم ، تَرِبةً وجوههم ، تكاد الأرض من طهارتهم تقبضهم إليها ، ومن فضلهم أن تميد بمن عليها ، فأي شرف يا ربي جعلته في محمد وعترته وما أُزكِّي نفسي ! ولكن أُحَدِّثُ بنعمة ربي ، و أنا صاحبُ القبلتين وحامل الرايتين ، و أبو السِّبْطَين ، أنا علم الهدى وكهف التقى، وخير من آمن و اتقى ، و أكملُ من تًقًمّص ([2]) و ارتدى ، بعد النبي المصطفى .
أيُّها الناسُ ! بنا أنار الله السبل و أقام المَيَل ، وعُبِدَ الله في أرضه ، فتوفى الله محمداً صلى الله عليه واله سعيداً شهيداً هادياً مهدياً قائماً بما استكفاه ، حافظاً لما استرعاه ، تمم به الدين و أوضح به اليقين ، فاندمغ الباطل زاهقاً ووضح العدل ناطقاً وعطَّل مَظَانَّ الشيطان و أوضح الحق و البرهان ، فأجعل اللهم فواضل صلواتك ونواميَ بركاتك على نبي الرحمة وعلى أهل بيته الطاهرين .
([2]) تقمص : أي لبس القميص ولعل المراد به قميص الحرب وهو إذن كناية عن الشجاعة .