حديث حليمة برواية اخرى
*- وروى حديث حليمة برواية اخرى عن ابن عباس أوردتها أيضا لفوائد فيها ، وهي أنه روي أنه كان من سببها أن الله أجدب البلاد والزمان ، فدخل ذلك على عامة الناس ، وكانت حليمة تحدث عن زمانها وتقول : كان الناس في زمان رسول الله صلى الله عليه وآله في جهد شديد ، وكنا اهل بيت مجدبين ، وكنت امرأة طوافة ، أطواف البراري والجبال ، ألتمس الحشيش والنبات ، فكنت لا أمر على شئ من النبات إلا قلت : الحمد لله الذي أنزل بي هذا الجهد والبلاء ، ولما ولد النبي صلى الله عليه وآله خرجت إلى ناحية مكة ولم أكن دقت شيئا منذ ثلاثة أيام ، وكنت ألتوي كما تلتوي الحية ، وكنت ولدت ليلتي تلك غلاما فلم أدر أجهد الولادة أشكو أم جهد نفسي ، فلما بت ليلتي تلك أتاني رجل في منامي فحملنى حتى قذفني في ماء أشد بياضا من اللبن ، وقال : يا حليمة أكثري من شرب هذا المآء ليكثر لبنك ، فقد أتاك العز وغناء الدهر ، تعرفينني ؟ قلت : لا ، قالك أنا الحمد لله الذي كنت تحمدينه في سرائك وضرائك ، فانطلقي إلى بطحاء مكة ، فإن لك فيها رزقا واسعا ، واكتمي شأنك ولا تخبري أحدا ، ثم ضرب بيده على صدري ، فقال : أدر الله لك اللبن ، وأكثر لك الرزق ، فانتبهت وأنا أجمل نساء بني سعد ، لا اطيق أن أسبل ثديي ، كأنهما الجر العظيم ، يتسيب منهما لبن ، وأرى الناس حولي من نسآء بني سعد ورجالهم في جهد من العيش ، إنما كنا نرى البطون لازقة بالظهور ، والالوان شاحبة متغيرة ، لا نرى في الجبال الراسيات شيئا ، ولا في الارض شجرا ، وإنما كنا نسمع من كل جانب أنينا كأنين المرضى ، وكادت العرب أن تهلك هزالا وجوعا ، فلما أصبحت حليمة وإنها لقي جهد من العيش وتغير من الحال ، وقد أصبحت اليوم تشبه بنات الملوك ، قلن : إن لها شأنا عظيما ، ثم احدقن بي يسألنني عن قصتي ، فكنت لا احير جوابا ، فكتمت شأني لاني بذلك كنت امرت ، ولم تبق امرأه في بني سعد ذات زوج إلا وضعت غلاما ، ورأيت الرؤوس المشتعلة بالشيب قد عادت سودا لبركة مولد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فبينا نحن كذلك إذ سمعنا صوتا ينادي : ألا إن قريشا قد وضعت العام كل بطونها ، وإن الله قد حرم على نساء العام أن يلدن البنات من أجل مولد في قريش ، وشمس النهار ، وقمر الليل ، فطوبى لثدي أرضعته ، ألا فبادرون إليه يا نساء بني سعد ، قالت : فنزلنا في جبل و عزمنا على الخروج إلى مكة ، فخرج نساء بني سعد على جهد منهن ومخمصة ، وخرجت أنا مع بني لي على أتان لي معناق تسمع لها في جوفها خضخضة ، قدبدأ عظامها من سوء حالها ، وكانت تخفضني طورا ، وترفعني آخر ، ومعي زوجي ، فكنت في طريقي أسمع العجائب من كل ناحية ، لا أمر بشئ إلا استطال إلي فرحا ، وقال لي : طوبى لثديك يا حليمة ، انطلقي فإنك ستأتين بالنور الساطع ، والهلال البدري ، فاكتمي شأنك وكوني من ورآء القوم ، فقد نزلت بشاراتك ، قالت : فكنت أقول لصاحبي : تسمع ما أسمع ؟ فيقول : لا ، مالي أراك كالخائفة الوجلة تلتفتين يمنة ويسرة ، مري أمامك ، فقد تقدم نساء بني سعد ، وإني أخاف أن يسبقني إلى كل مولود بمكة ، قالت : فجعلنا نجد في المسير والاتان كأنها تنزع حوافرها من الظهر نزعا ، فينا أنا في مسيري إذا أنا برجل في بياض الثلج ، وطول النخلة الباسقة ، ينادي من الجبل : يا حليمة مري أمامك ، فقد أمرني الله عزوجل أن أدفععنك كل شيطان رجيم ، قالت : حتى إذا صرنا على فرسخين من مكة بتنا ليلتنا تلك ، فرأيت في منامي كان على رأسي شجرة خضرآء ، قد ألقت بأغصانها حولي ، ورأيت في فروعها شجرة كالنخلة ، قد حملت من أنواع الرطب ، و كان جميع من خرج معي من نساء بني سعد حولي ، فقلن : يا حليمة أنت الملكة علينا ، فبينا أنا كذلك إذ سقطت من تلك الجشرة في حجري تمرة فتناولتها ووضعتها في فمي ، فوجدت لها حلاوة كحلاوة العسل ، فلم أزل أجد طعم ذلك في فمي حتي فارقني رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما أصبحت كتمت شأني ، قلت : إن قضى الله لي أمرا فسوف يكون ، ثم ارتحلنا حتى نزلنا مكة يوم الاثنين وقد سبقني نساء بني سعد ، وكان الصبي الذي معي قد ولدته لا يبكي ولا يتحرك ولا يطلب لبنا ، فكنت أقول لصاحبي : هذا الصبي ميت لا محالة ، فكنت إذا قلت ذلك يلتفت إلي الصبي فيفتح عينية ويضحك في وجهي ، وأنا متعجبة من ذلك ، فلما توسطنا مكة قلت : لصاحبي : سل من أعظم الناس قدرا بمكة ، فسأل عن ذلك فقيل له : عبدالمطلب بن هاشم ، فقلت له : سل من أعظم قريش ممن ولد له في عامه هذا ، فقيل لي : آل مخزوم ، قالت : فأجلست صاحبي في الرحل وانطلقت إلى بني مخزوم ، فإذا أنا بجميع نساء بني سعد قد سبقننى إلى كل مولود بمكة ، فبقيت لا أدري ما أقول ، وندمت على دخولي مكمة ، فبينا أنا كذلك إذا بعبدالمطلب ، وجمته تضرب منكبه ، ينادي بنفسه بأعلى صوته : هل بقي من الرضاع أحد ، فإن عندي بنيا لي يتيما وما عند اليتيم من الخير ، إنما يلتمس كرامة الآباء ، قالت : فوقفت لعبد المطلب وهو يومئذ كالنخلة طولا ، فقلت : أنعم صباحا أيها الملك المنادي ، عندك رضيع ارضعه ، فقال هلمي ، فدنوت منه ، فقال لي : من أين أنت ؟ فقلت : امرأة من بني سعد ، فقال لي : إيه إيه كرم وزجر ، ثم قال لي : ما اسمك ؟ فقلت : حليمة ، فضحك وقال : بخ بخ خلتان حسنتان : سعد وحلم ، هاتان خلتان فيها غنى الدهر ، ويحك يا حليمة عندي بني لي يتيم اسمه محمد ، وقد عرضته على جميع نساء بني سعد فأبين أن يقبلنه ، وأنا أرجو أن تسعدي به ، قالت : فقلت له : إني منطلقة إلى صاحبي ومشاورته في ذلك ، قال لي : إنك لترضعين غير كارهة ، قالت : قلت : بالله لارجعن إليك ، قالت : فرجعت إلى صاحبي فلما أخبرته الخبر كأن الله قد قذف في قلبه فرحا ، ثم قال لي : يا حليمة بادري إليه لا يسبقك إليه أحد ، قالت : وكان معي ابن اخت لي يتيم ، قال : هيهات إني أراكم لا تصيبون في سفركم هذا خيرا ، هؤلاء نساء بني سعد يرجعن بالرضاع والشرف ، وترجعون أنتم باليتيم ، قالت : فأردت والله لارجع إليه ، فكأن الله قذف في قلبي إن فارقك محمد لا تفلحين ، وأخذتني الحمية وقلت : هؤلاء نسآء بني سعد يرجعن بالرضاع والشرف ، وأرجع أنا بلا رضاع ؟ والله لآخذنه وإن كان يتيما ، فلعل الله أن يجعل فيه خيرا ، قالت : فرجعت إلى عبدالمطلب ، فقلت له : أيها الملك الكريم هلم الصبي ، قال : هل نشطت لاخذه ؟ قالت : قلت : نعم ، فخر عبدالمطلب ساجدا ، ورفع رأسه إلى السمآء وهو يقول : اللهم رب المروة والحطيم ، اسعدها بمحمد ، ثم مر بين يدي يجر حلته فرحا حتى دخل بي على آمنة ام رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإذا أنا بامرأة ما رأيت في الآدميين أجمل وجها منها ، هلالية بدرية ، فلما نظرت إلى ضحكت في وجهي ، وقالت : ادخلي يا حليمة ، فدخلت الدار فأخذت بيدي ، فأدخلتني بيتا كان فيه رسول الله صلى الله عليه وآله ، فإذا أنابه ووجهه كالشمس إذا طلعت في يوم ديجانها ، فلما رأيته على هذه الصفة استدر كل عرق في جسدي بالضربان ، فناولتني النبي صلى الله عليه وآله ، فلما أن وضعته في حجري فتح عينيه لينظر إلى فسطع منهما نور كنور البرق إذا خرج من خلال السحاب فألقمته ثديي الايمن فشرب منه ساعة ، ثم حولته إلى الايسر فلم يقبله ، و جعل يميل إلى اليمنى فكان ابن عباس يقول : الهم العدل في رضاعه ، علم أن له شريكا ، فناصفه عدلا وكانت الثدي اليمنى تدر لرسول الله صلى الله عليه وآله ، والثدي اليسرى تدر لابني ، وكان ابني لا يشرب حتى ينظر إلى محمد صلى الله عليه وآله قد شرب ، وكنت كثيرا ما أسبق إلى مسح شفتيه ، فكنت أسبق إلى ذلك فنام في حجري ، فجعلت أنظر إلى وجهه ، فرأيت عينيه مفتوحتين ، وهو كالنائم ، فلم أتما لك فرحا ، وأخذتني العجلة بالرجوع إلى صاحبي ، فلما أن نظر إليه صاحبي لم يتمالك أن قام وسجد ، وقال : يا حليمة ما رأيت في الآدميين أجمل وهها من هذا ، قالت : فلما كان في الليل وطاب النوم وهدأت الاصوات انتبهت فإذا به وقد خرج منه نور متلالئ ، وإذا أنا برجل قائم عند رأسه ثوب أخضر ، فانبهت صاحبي وقلت : ويحك ألا ترى إلى هذا المولود ؟ قالت : فرفع رأسه فلما نظر إليه قال لي يا حليمة اكتمي شأنه ، فقدأخذت شجرة كريمة لا يذهب رسمها أبدا ، قالت : فأقمنا بمكة سبعة أيام بلياليهن ما من يوم إلا وأنا أدخل على آمنة ، فلما عزمنا على الخروج دعتني آمنة فقالت : لا تخرجي من بطحآء مكة حتى تعلميني ، فإن لي فيك وصايا اوصيك بها ، قالت : فبتنا فلما كان في بعض الليل انتبهت لاقضي حاجة ، فإذا برجل عليه ثياب خضر قاعدعند رأسه يقبل بين عينيه ، فانبهت صاحبي رويدا فقلت : انظر إلى العجب العجيب قال : اسكتي واكتمي شأنك ، فمنذ ولد هذا الغلام قد أصحبت أحبار الديا على أقدامها قياما ، لا يهنؤها عيش النهار ، ولا نوم الليل ، وما رجع أحد من البلاد أغنى منا ، فلما أصبحنا من الغد وعزمنا على الخروج ركبت أتاني وحملت بين يدي محمدا صلى الله عليه وآله ، وخرجت معي آمنة تشيعني ، فجعلت الاتان تضرب بيدها ورجلها الارض وترفع رأسها إلى السمآء فرحة مستبشرة ، ثم تحولت بي نحو الكعبة ، فسجدت ثلاث سجدات ، حتى استوينا مع الركب سبقت الاتان كل دوابهم ، فقالت نساء بني سعد : يا بنت أبي ذؤيب أليس هذا أتانك التي كانت تخفضك طورا وترفعك آخر ؟ فقلت : نعم ، فقلن : بالله إن لها لشأنا عظيما ، فكنت أسمع الاتان تقول : إي والله وإن لي لشأنا ، ثم شأنا ، أحياني الله عزوجل بعد موتي ، ورد علي سمني بعد هزالي ، ويحكن يا نساء بني سعد إنكن لفي غفلة ، أتدرين من حملت ؟ حملت سيد العرب محمدا رسول الله رب العالمين ، هذا ربيع الدنيا وزهرة الآخرة ، وأنا أنادي من كل جانب : استغنيت يا حليمة آخر دهرك ، فأنت سيدة نساء بني سعد ، قالت : فمررت براع يرعى غنما له ، فلما نظرت الغنم إلي جعلن يستقبلن وتعدو إلي كما تعدو سخالها ، فسمعت من بينها قائلا يقول : أقر الله عينك يا حليمة ، أتدرين ما حملت ؟ هذا محمد رسول رب العالمين ، إلى كل ولد آدم من الاولين والآخرين ، قالت : فشيعتني امه ساعة وأوصتني فيه بوصايا ، ورجعت كالباكية ، قالت : وليس كل الذي رأيت في طريقي احسن وصفه ، إلا أني لم أنزل منزلا إلا أنبت الله عزوجل فيه عشبا ، وخيرا كثيرا ، وأجشارا قد حملت من أنواع الثمر ، حتى أتيت به منزل بني سعد ، وما نعلم والله أن أرضا كانت أجدب منها ، ولا أقل خيرا ، وكانت لنا غنيمات دبرات مهزولات ، فلما صار رسول الله صلى الله عليه وآله في منزلي صارت غنمي تروح شباعا حافلة ، تحمل وتضع وتدر وتحلب ، ولا تدر في بني سعد لاحد من الناس غيري ، فجمعت بنو سعد رعاتها وقالوالهم : ما بال أغنام حليمة بنت أبي ذؤيب تحمل وتضع وتدر وتحلب ، وأغنامنا لا تحمل ولا تضع ولا تأتي بخير ؟ اسرحوا حيث تسرح رعاة بنت أبي ذؤيب حتى تروح غنمكم شباعا حافلة ، قالت : فلم نزل نتعرف من الله الزيادة والبركة والفضل والخير ببركة النبي صلى الله عليه وآله حتى كنا نتفضل على قومنا ، وصاروا يعيشون في أنافنا ، فكنت أرى من يومه عجبا ، ما رأيت له بولاقط ، ولا غسلت له وضوءا قط ، طهارة ونظافة ، وذلك أني كنت اسبق إلى ذلك ، وكان له في كل يوم وقت واحد يتوضأ فيه ولا يعود إلى وقته من الغد ، ولم يكن شئ أبغض إليه من أن يرى جسده مكشوفا ، فكنت إذا كشفت عن جسده يصيح حتى أسترعليه ، فانتبهت ليلة من الليالي فسمعته يتكلم بكلام لم أسمع كلاما قط أحسن منه ، يقول : ( لا إله إلا الله قدوسا قدوسا ، وقد نامت العيون والرحمن لا تأخذه سنة ولا نوم ) وهو عند أول ما تكلم ، فكنت أتعجب من ذلك ، وكان يشب شبابا لا يشبه الغلمان ، ولم يبك قط ، ولم يسئ خلقه ، ولم يتناول بيساره ، وكان يتناول بيمينه ، فلما بلغ النطق لم يمس شيئا إلا قال : ( بسم الله ) فكنت معه في كل دعة وعيش وسرور ، وكنت قد اجتنبت الزوج لا أغتسل منه هيبة لرسول الله صلى الله عليه وآله ، حتى تمت له سنتان كاملتان ، وقد ثمر الله لنا الاموال ، وأكثر لنا من الخير ، فكانت تحمل لنا الاغنام ، وتنبت لنا الارض ، وقد ألقى الله محبته على كل من رآه ، فبينا هو قاعد في حجري إذا مرت به غنيماتي فأقبلت شاة من الغنم حتى سجدت له ، وقبلت رأسه ، فرجعت إلى صويحباتها ، وكان ينزل عليه في كل يوم نور كنور الشمس فيغشاه ثم ينجلي عنه ، وكان أخواه من الرضاعة يخرجان فيمران بالغلمان فيلعبان معهم ، وإذا رآهم محمد صلى الله عليه وآله احتنبهم وأخذ بيد أخويه ثم قال لهما : إنا لم نخلق لهذا ، فلما ثم له ثلاث سنين قال لي يوما ، يااماه مالي لا أرى أخوي بالنهار ؟ قلت له : يا بنى إنهما يرعيان غنيمات ، قال : فما لي لا أخرج معهما ؟ قلت له : تحب ذلك ؟ قال : نعم ، فلما أصبح دهنته وكحلته وعلقت في عنقه خيطا فيه جزع يمانية ، فنزعها ثم قال لي : مهلا يا اماه فإن معي من يحفظني ، قالت : ثم دعوت با بني فقلت لهما : اوصيكما بمحمد خيرا ، لا تفارقاه ، وليكن نصب أعينكما ، قالت : فخرج مع أخويه في الغنم ، فبيناهم يترامون بالجلة يعني البعر إط هبط جبرائيل وميكائيل ومعهما طست من ذهب فيه ماء وثلج فاستخرجاه من الغنم والصبية فأصجعاه وشقا بطنه ، وشرحاه صدره ، فاستخرجا منه نكتة سودآء وغسلاه بذلك الماء والثلج ، وحشيا بطنه نورا ، ومسحا عليه فعاد كما كان ، قالت : فلما رأى أخواه ذلك أقبل أحدهما اسمه ضمرة يعدو وقد علاه النفس وهو يقول : يا امه أدركي أخي محمدا وما أراك تدركينه ، قالت : فقلت : وما ذاك ؟ قال : أتاه رجلان عليهما ثياب خضر فاستخرجاه من بيننا وبين الغنم فأضجعاه وشقا بطنه ، وهما يتوطئانه ، قالت : فخرجت أنا وأبوه ونسوة من الحى فإذا أنابه قائما ينظر إلى السمآء ، كأن الشمس تطلع من وجهه ، فالتزمته والتزمه أبوه ، ووالله لكأنما غمس في المسك غمسة ، وقال له أبوه : يا بنى مالك ؟ قال : خير يا أبه ، أتاني رجلان انقضا على من السمآء كما ينقض الطير فأضجعاني وشقا بطني ، وحشياه بشئ كان معهما ، ما رأيت ألين منه ، ولا أطيب ريحا ومسحا على بطني ، فعدت كما كنت ، ثم وزناني بعشرة من امتي فرجحتهم ، فقال أحدهما : فلو وزنته بامته كلها لرجح ، وطارا كذلك حتى دخلا السمآء ، قالت : فحملناه إلى خيم لنا ، فقال الناس : اذهبوا به إلى كاهن حتى ينظر إليه ويداويه ، فقال محمد : ما بي شئ مما تذكرون ، وإني أرى نفسي سليمة ، فؤادي صحيحا بحمد الله ، فقال الناس : أصابه لمم أو طائف من الجن . قالت : فغلبوني على رأيي حتى انطلقت به إلى كاهن ، فقصصت قصته ، قال : دعيني أن أسمع من الغلام ؟ فإن الغلام أبصر بأمره منكم ، تكلم يا غلام ، قالت حليمة : فقص ابني محمد صلى الله عليه وآله قصته من أولها إلى آخرها ، فوثب الكاهن قائما على قدميه وضمه إلى صدره ونادى بأعلى صوته : يا آل العرب يا آل العرب ، من شر قد اقترب ، اقتلوا هذا الغلام و اقتلوني معه ، فإنكم إن تركتموه وأدرك مدرك الرجال ليسفهن أحلامكم ، وليبدلن أديانكم ، وليدعونكم إلى رب لا تعرفونه ، ودين تنكرونه ، قالت : فلما سمعت مقالته انتزعته من يده وقلت : أنت أعته وأجن من ابني ، ولو علمت أن هذا يكون منك ما أتيتك به ، اطلب لنفسك من يتقلك فإنا لا نتل محمدا ، فاحتملته واتيت به منزلي ، فما بقي يومئذ في بني سعد بيت إلا ووجد منه ريح المسك . وكان ينقض عليه كل يوم طيران أبيضان يغيبان في ثيابه ولا يظهران ، فلما رأى أبوه ذلك قال لي : يا حليمة إنا لا نأمن على هذا الغلام ، وقد خشيت عليه من تباع الكهنة فألحقيه بأهله قبل أن يصيبه عندنا شئ ، قالت : فلما عزمت على ذلك سمعت صوتا في جوف الليل ينادي : ذهب ربيع الخير ، وأمان بني سعد ، هنيئا لبطحاء مكة إذا كان مثلك فيها يا محمد ، فالآن قد أمنت أن تخرب ، أو يصيبها بؤس بدخولك إليها يا خير البشر ، قالت : فلما أصبحت ركبت أتاني ووضعت النبي صلى الله عليه وآله بين يدي ، فلم أكن أقدر افارقه مما كنت انادي يمنة ويسرة حتى انتهيت به إلى الباب الاعظم من أبواب مكة وعليه جماعة مجتمعون ، فنزلت لاقضي حاجة وأنزلت النبي صلى الله عليه وآله فغشيتني كالسحابة البيضآء و سمعت وجبة شديدة ، ففزعت ، وجعلت ألتفت يمنة ويسرة ونظرت فلم أر النبي صلى الله عليه وآله ، فصحت : يا معشر قريش الغلام الغلام ، قالوا : ومن الغلام ؟ قلت : محمد بن آمنة ، قالو : ومن أين كان معك محمد لعلك تحلمين أو منك هذيان ؟ قلت : لا والله ما حلمت وإني لفي يقين من أمري ، فجعلت أبكي وانادي : وا محمداه ، فبينا أنا كذلك إذا أنا بشيخ كبير فقال لي : أيتها السعدية إن لك لقصة عجيبة ، قالت : قلت : إي والله لقصتي عجيبة ، محمد بن آمنة أرضعته ثلاثة أحوال لا افارقه ليله ونهاره ، فنعشني الله به ، وأنضر وجهي ، ومن علي ، و أفضل ببركته حتى إذا ظننت أني قد بلغت به الغاية أديت إلى امه الامانة لاخرج من عهدي وأمانتي ، فاختلس مني اختلاسا قبل أن يمس قدمه الارض ، وإني أحلف بإله إبراهيم لئن لم أجده لارمين بنفسي من حالق الجبل ، قالت : وقال لي الشيخ : لا تبكي أيتها السعدية ادخلي على هبل ، فتضرعي إليه فلعله يرده عليك فإنه القوي على ذلك العالم بأمره ، قالت : فقلت له : أيها الشيخ كأنك لم تشهد ولادة محمد ليلة ولد ما نزل بالات والعزى ؟ فقال لي : أيتها السعدية إني أراك جزعة ، فأنا أدخل على هبل وأذكر أمرك له ، فقد قطعت أكبادنا ببكائك ، وما لاحد من الناس على هذا صبر ، قالت : فقعدت مكاني متحيرة ، ودخل الشيخ على هبل وعيناه تذرفان بالدموع فسجد له طويلا ، وطاف به اسبوعا ، ثم نادى : يا عظيم المن ، يا قويا في الامور ، إن منتك على قريش لكثيرة ، وهذه السعدية رضيعة محمد تبكي ، قد قطع بكائها الانياط ، وأبرز العذارى ، فإن رأيت أن ترده عليها إن شئت ، قالت : فارتج والله الصنم ، وتنكس ومشى على رأسه وسمعت منه صوتا يقول : أيها الشيخ أنت في غرور ، مالي ولمحمد ، وإنما يكون هلاكنا على يديه ، وإن رب محمد لم يكن ليضيعه ويحفظه ، أبلغ عبدة الاوثان أن معه الذبح الاكبر ، ألا أن يدخلوا في دينه ، قالت : فخرج الشيخ فزعا مرعوبا ، نسمع لسنه قعقعة ، ولركبتيه اصطكاكا يقول لي : يا حليمة ما رأيت من هبل مثل هذا ، فاطلبي ابنك ، إني أرى لهذا الغلام شأنا عظيما ، قالت : فقلت لنفسي : كم تكتم أمره عبدالمطلب ، أبلغه الخبر قبل أن يأتيه من غيري ، قالت : فدخلت على عبدالمطلب ، فلما نظر إلي قال لي : يا حليمة مالي أراك جزعة باكية ، ولا أرى معك محمدا ؟ قالت : قلت : يا أبا الحارث جئت بمحمد أسر ما كان ، فلما صرت على الباب الاعظم من أبواب مكة نزلت لاقضي حاجة فاختلس منى اختلاسا قبل أن يمس قدمه الارض ، فقال لي : اقعدي يا حليمة ، قالت : ثم علا الصفا فنادى : يا آل غالب ، يعني يا آل قريش ، فاجتمع إليه الرجال فقالوا له : قل يا أبا الحارث فقد أجبناك ، فقال لهم : إن ابني محمدا قد فقد ، قالوا له : فاركب يا أبا الحارث حتى نركب معك ، قالت : فدعا عبدالمطلب براحلته فركبها ، و ركب الناس معه ، فأخذ أعلى مكة وانحدر على أسفلها . فلما أن لم ير شيئا ترك الناس واتزر بثوب ، وارتدى بآخر ، وأقبل إلى البيت الحرام فطاف به اسبوعا وأنشأ يقول :
يا رب رد راكبي محمدا * رد إلي واتخذ عندي يدا
أنت ألذي جعلته لي عضدا * يا رب إن محمدا لم يوجدا
فجمع قومي كلهم تبددا
قال : فسمعنا مناديا ينادي من جو الهوآء : معاشر الناس ، لا نضجوا ، فإن لمحمد ربا لا يضيعه ولا يخذله ، قال عبدالمطلب : يا ايها الهاتف من لنابه ؟ وأين هو ؟ قال : بوادي تهامة ، فأقبل عبدالمطلب راكبا متسلحا ، فلما صار في بعض الطريق تلقاه ورقة بن نوفل فصارا جميعا يسيران ، فبينما هم كذلك إذا النبي صلى الله عليه وآله تحت شجرة ، وقال بعضهم : بينا أبومسعود الثقفي وعمرو بن نوفل يدوران على رواحلهما إذا هما برسول الله قائما عند شجرة الطلحة وهي الموز يتناول من ورقها ، فقال أبومسعود لعمرو : شأنك بالغلام ، فأقبل إليه عمرو وهو لا يعرفه ، فقال له : من أنت يا غلام ؟ فقال : أنا محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ابن هاشم ، فاحتمله بين يديه على الراحلة حتى أتى به عبدالمطلب .
قال إسحاق : فحدثني سلمة ، عن محمد ، عن يزيد ، عن ابن عباس أنه قال : لما أن رد الله محمدا على عبدالمطلب تصدق ذلك اليوم على فقرآء قريش بألف ناقة كومآء ، و مسين رطلا من ذهب ، ثم جهز حليمة بأفضل الجهاز .