الإمام عليه السلام يتهيأ للمواجهة مع الناكثين
* ـ عن محمّد وطلحة : كتب علىّ إلي قيس بن سعد أن يندب الناس إلي الشام ، وإلي عثمان بن حُنيف ، وإلي أبى موسي مثل ذلك ، وأقبَل علي التهيّؤ والتجهّز ، وخطبَ أهلَ المدينة ، فدعاهم إلي النهوض فى قتال أهل الفرقة وقال :
. . . انهضوا إلي هؤلاء القوم الذين يريدون يفرّقون جماعتكم ، لعلّ الله يُصلح بكم ما أفسد أهل الآفاق ، وتقضون الذى عليكم .فبينا هم كذلك إذ جاء الخبر عن أهل مكّة بنحو آخر وتمام علي خلاف فقام فيهم بذلك فقال : . . . ألا وإنّ طلحة والزبير واُمّ المؤمنين قد تمالؤوا علي سخط إمارتى ، ودَعَوا الناس إلي الإصلاح ، وسأصبر ما لم أخف علي جماعتكم ، وأكفّ إن كفّوا ، وأقتصر علي ما بلغنى عنهم .
* ـ لمّا اجتمع القوم علي ما ذكرناه من شقاق أمير المؤمنين والتأهّب للمسير إلي البصرة ، واتّصل الخبر إليه ، وجاءه كتاب بخبر القوم ، دعا ابن عبّاس ، ومحمّد بن أبى بكر ، وعمّار بن ياسر ، وسهل بن حنيف ، وأخبرهم بالكتاب وبما عليه القوم من المسير .
فقال محمّد بن أبى بكر : ما يريدون يا أمير المؤمنين ؟ فتبسّم وقال : يطلبون بدم عثمان ! فقال محمّد : والله ، ما قتل عثمانَ غيرُهم ، ثمّ قال أمير المؤمني : أشيروا علىَّ بما أسمع منكم القول فيه .
فقال عمّار بن ياسر : الرأى المسير إلي الكوفة ، فإنّ أهلها لنا شيعة ، وقد انطلق هؤلاء القوم إلي البصرة .
وقال ابن عبّاس : الرأى عندى يا أمير المؤمنين أن تُقدِّم رجلاً إلي الكوفة فيبايعون لك ، وتكتب إلي الأشعرى أن يبايع لك ، ثمّ بعده المسير حتي نلحق بالكوفة ، وتعاجل القوم قبل أن يدخلوا البصرة ، وتكتب إلي اُمّ سلمة فتخرج معك ، فإنّها لك قوّة .
فقال أمير المؤمنين : بل أسير بنفسى ومن معى فى اتّباع الطريق وراء القوم ، فإن أدركتهم فى الطريق أخذتهم ، وإن فاتونى كتبت إلي الكوفة واستمددت الجنود من الأمصار وسرت إليهم . وأمّا اُمّ سلمة فإنّى لا أري إخراجها من بيتها كما رأي الرجلان إخراج عائشة .
فبينما هم فى ذلك إذ دخل عليهم اُسامة بن زيد بن حارثة وقال لأمير المؤمنين : فداك أبى واُمّى ! لا تسِر سيراً واحداً ، وانطلق إلي يَنْبُع ، وخلِّف علي المدينة رجلاً ، وأقِم بما لَكَ ، فإنّ العرب لهم جولة ثمّ يصيرون إليك .
فقال له ابن عبّاس : إنّ هذا القول منك يا اُسامة إن كان علي غير غِلٍّ فى صدرك فقد أخطأت وجه الرأى فيه ، ليس هذا برأى بصير ، يكون والله كهيئة الضبع فى مغارتها . فقال اُسامة : فما الرأى ؟ قال : ما أشرتُ به ، أو ما رآه أمير المؤمنين لنفسه .
ثمّ نادي أمير المؤمنين فى الناس : تجهّزوا للمسير ، فإنّ طلحة والزبير قد نكثا البيعة ، ونقضا العهد ، وأخرجا عائشة من بيتها يريدان البصرة لإثارة الفتنة ، وسفك دماء أهل القبلة .
ثمّ رفع يديه إلي السماء فقال : اللهمّ إنّ هذين الرجلين قد بغيا علىَّ ، ونكثا عهدى ، ونقضا عقدى ، وشقّانى بغير حقّ منهما كان فى ذلك ، اللهمّ خذهما بظلمهما لى ، واظفِرنى بهما ، وانصرنى عليهما .
* ـ قال امير المؤمنين عليه السلام لمّا اُشير عليه بألاّ يتبع طلحة والزبير ولا يرصد لهما القتال ـ : والله لا أكون كالضَّبُع ، تنام علي طول اللَّدْم حتي يصل إليها طالبها ، ويختلها راصدها ، ولكنّى أضرب بالمقبل إلي الحقّ المدبر عنه ، وبالسامع المطيع العاصىَ المريب أبداً حتي يأتى علىَّ يومى . فوَ الله ما زلت مدفوعاً عن حقّى مستأثَراً علىَّ منذ قبض الله نبيّه حتى يوم الناس هذا .
اقتل في العراق
* ـ المستدرك علي الصحيحين عن أبى الأسود الدؤلى عن الإمام علىّ : أتانى عبد الله بن سلام وقد وضعت رجلى فى الغَرْز وأنا اُريد العراق فقال : لا تأتِ العراق ، فإنّك إن أتيته أصابك به ذباب السيف . قال علىّ : وايم الله ، لقد قالها لى رسول الله قبلك . قال أبو الأسود : فقلت في نفسى ، يا الله ما رأيت كاليوم رجل محارب يُحدّث الناس بمثل هذا .
* ـ تاريخ الطبرى : بلغ عليّاً الخبر ـ وهو بالمدينة ـ باجتماعهم علي الخروج إلي البصرة ، وبالذى اجتمع عليه ملؤهم ، طلحة والزبير وعائشة ومن تبعهم ، وبلغه قول عائشة ، وخرج علىّ يبادرهم فى تعبيته التى كان تعبّي بها إلي الشام ، وخرج معه من نشط من الكوفيّين والبصريّين متخفّفين فى سبعمائة رجل ، وهو يرجو أن يدركهم ، فيحول بينهم وبين الخروج ، فلقيه عبد الله بن سلام فأخذ بعنانه وقال : يا أمير المؤمنين لا تخرج منها ، فوَ الله لئن خرجت منها لا ترجع إليها ، ولا يعود إليها سلطان المسلمين أبداً ، فسبّوه فقال : دعوا الرجل ، فنعم الرجل من أصحاب محمّد . وسار حتي انتهي إلي الرَّبَذة فبلغه ممرّهم ، فأقام حين فاتوه يأتمر بالربَذة .
* ـ ثمّ خرج فى سبعمائة رجل من المهاجرين والأنصار ، واستخلف علي المدينة تمّام بن العبّاس ، وبعث قُثَم بن العبّاس إلي مكّة ، ولمّا رأي أمير المؤمنين التوجّهَ إلي المسير طالباً للقوم رَكب جملا أحمر وقاد كُميتاً وسار وهو يقول :
سيروا أبابيل وحثّوا السيرا |
كى نلحق التَّيمىَّ والزبيرا |
إذ جلبا الشرّ وعافا الخيرا |
يا ربّ أدخلهم غداً سعيرا |
وسار مُجدّاً فى السير حتي بلغ الربذة ، فوجد القوم قد فاتوا ، فنزل بها قليلا ثمّ توجّه نحو البصرة ، والمهاجرون والأنصار عن يمينه وشماله ، محدقون به مع من سمع بمسيرهم ، فاتّبعهم حتي نزل بذى قار فأقام بها .
تحشيد الكوفة
* ـ من كتاب لامير المؤمنين عليه السلام إلي أهل الكوفة عند مسيره من المدينة إلي البصرة ـ : من عبد الله علىّ أمير المؤمنين إلي أهل الكوفة ، جبهة الأنصار ، وسنام العرب .
أمّا بعد ، إنّى اُخبركم عن أمر عثمان حتي يكون سمعه كعيانه : إنّ الناس طعنوا عليه ، فكنت رجلاً من المهاجرين اُكثر استعتابه ، واُقلّ عتابه ، وكان طلحة والزبير أهون سيرهما فيه الوجيف ، وأرفق حِدائهما العنيف ، وكان من عائشة فيه فلتة غضب . فاُتيح له قوم فقتلوه ، وبايعنى الناس غير مُستكرَهين ولا مجبَرين ، بل طائعين مخيَّرين .
واعلموا أنّ دار الهجرة قد قَلَعت بأهلها وقَلعوا بها ، وجاشت جيش المِرجَل ، وقامت الفتنة علي القُطْب ، فأسرِعوا إلي أميركم ، وبادروا جهاد عدوّكم ، إن شاء الله عزّ وجلّ .
* ـ الإرشاد : لمّا توجّه أمير المؤمنين إلي البصرة نزل الرَّبَذة ، فلقيه بها آخر الحاج فاجتمعوا ليسمعوا من كلامه وهو فى خبائه ، قال ابن عبّاس : فأتيته فوجدته يخصف نعلا ، فقلت له : نحن إلي أن تُصلح أمرنا أحوج منّا إلي ما تصنع ، فلم يكلّمنى حتي فرغ من نعله ، ثمّ ضمّها إلي صاحبتها ثمّ قال لى : قومّها ؟ فقلت : ليس لها قيمة . قال : علي ذاك ! قلت : كسر درهم ، قال : والله لهما أحبّ إلىّ من أمركم هذا إلاّ أن اُقيم حقّاً أو أدفع باطلا .
قلت : إنّ الحاجّ قد اجتمعوا ليسمعوا من كلامك ، فتأذن لى أن أتكلّم ، فإن كان حسناً كان منك ، وإن كان غير ذلك كان منّى ؟ قال : لا ، أنا أتكلّم . ثمّ وضع يده علي صدرى ـ وكان شَثْن الكفّين ـ فآلمنى ، ثمّ قام فأخذت بثوبه فقلت : نشدتك الله والرحم ؟ قال : لا تنشدنى . ثمّ خرج فاجتمعوا عليه ، فحمد الله وأثني عليه ثمّ قال :
أمّا بعد ، فإنّ الله تعالي بعث محمّداً وليس فى العرب أحد يقرأ كتاباً ولا يدّعى نبوّة ، فساق الناس إلي منجاتهم ، أمَ والله ما زلت فى ساقتها ، ما غيّرت ولا خُنتُ حتي تولّت بحذافيرها .
مالى ولقريش ؟ أمَ والله لقد قاتلتهم كافرين ، ولاُقاتلنّهم مفتونين ، وإنّ مسيرى
هذا عن عهد إلىّ فيه ، أمَ والله : لأبقرنّ الباطل حتي يخرج الحقّ من خاصرته . ما تنقم منّا قريش إلاّ أنّ الله اختارنا عليهم فأدخلناهم فى حيِّزنا وأنشد :
أدمتَ لعمرى شربَك المحض خالصاً |
وأكلك بالزبد المقشّرة البُجرا |
ونحن وهبناك العلاء ولم تكن |
عليّاً وحطنا حولك الجُرْدَ والسُّمْرا |
قدوم الإمام البصرة
* ـ عن المنذر بن الجارود : لمّا قدم علىّ البصرة دخل ممّا يلى الطفّ ـ إلي أن قال ـ : فساروا حتي نزلوا الموضع المعروف بالزاوية ، فصلّي أربع ركعات ، وعفّر خدّيه علي التراب ، وقد خالط ذلك دموعه ، ثمّ رفع يديه يدعو :اللهمّ ربّ السموات وما أظلّت والأرضين وما أقلّت ، وربّ العرش العظيم ، هذه البصرة أسألك من خيرها ، وأعوذ بك من شرّها ، اللهمّ أنزلنا فيها خير منزل وأنت خير المنزلين ، اللهمّ إنّ هؤلاء القوم قد خلعوا طاعتى وبغوا علىّ ونكثوا بيعتى ، اللهمّ أحقن دماء المسلمين .
* ـ , من كلامه حين دخل البصرة وجمع أصحابه فحرّضهم علي الجهاد ـ :عباد الله ! انهدوا إلي هؤلاء القوم منشرحةً صدوركم بقتالهم ، فإنّهم نكثوا بيعتى وأخرجوا ابن حنيف عاملى بعد الضرب المبرّح والعقوبة الشديدة ، وقتلوا السيابجة وقتلوا حكيم بن جبلة العبدى وقتلوا رجالا صالحين ، ثمّ تتبّعوا منهم من نجا يأخذونهم فى كلّ حائط وتحت كلّ رابية ، ثمّ يأتون بهم فيضربون رقابهم صبراً ، ما لهم قاتلهم الله أنّي يؤفكون ؟ !انهدوا إليهم وكونوا أشدّاء عليهم ، والقوهم صابرين محتسبين ، تعلمون أنّكم منازلوهم ومقاتلوهم ، وقد وطّنتم أنفسكم علي الطعن الدعسى والضرب الطلخفى ومبارزة الأقران ، وأىّ امرئ منكم أحسّ من نفسه رَباطة جأش عند اللقاء ، ورأي من أحد من إخوانه فشلاً ، فليذُبّ عن أخيه الذى فضّل عليه كما يذبّ عن نفسه ، فلو شاء الله لجعله مثله .