آمنة بنت الشريد
كانت فصيحة اللسان، حاضرة الجواب، من شيعة عليِّ بن أبي طالب،ومناصريه، أسمعت معاوية بن أبي سفيان في محاورتها معه كلاماً قارصاً، وجواباًلاذعاً. وذلك أنّه لما قتل عليّ بن أبي طالب (عليه السلام) بعث معاوية في طلب شيعتهفكان في من طلب عمرو بن الحمق الخزاعي، فراغ منه. فأرسل إلى امرأته آمنة فحبسها فيسجن دمشق سنتين. ثم إنّ عبدالرحمن بن الحكم، ظفر بعمرو في بعض الجزيرة فقتله وبعثبرأسه إلى معاوية. وهو أوّل رأس حمل في الإسلام. فلما أتى معاوية الرسول بالرأس بعثبه إلى آمنة في السجن، وقال للحرسي: أحفظ ما تتكلم به حتى تؤديه إليّ واطرح الرأسفي حجرها.ففعل هذا، فارتاعت له ساعة ثم وضعت يدها على رأسها، وقالت: وأحزناه لصغرهفي دار هوان، وضيق من ضيمه سلطان، نفيتموه عنِّي طويلاً، وأهديتموه إليّ قتيلاً،فأهلاً وسهلاً بمن كنت له غير قالية، وأنا له اليوم غير ناسية، ارجع به أيّهاالرسول إلى معاوية فقل له: ولا تطوه دونه.أيتم الله ولدك، وأوحش منك أهلك، ولا غفر لك ذنبك.فرجع الرسول إلى معاوية فأخبره بما قالت. فأرسل إليها فأتته وعندهنفر فيهم، إياس بن حسل، أخو مالك بن حسل، وكان في شدقيه نتوء عن فيه لعظم كان فيلسانه، وثقل إذا تلكم. فقال لها معاوية: أأنت يا عدوة الله صاحبة الكلام الذي بلغنيبه؟ قالت: نعم غير نازعة عنه، ولا معتذرة منه ولا منكرة له، فلعمري لقد اجتهدت فيالدعاء، إن نفع الاجتهاد، وإنّ الحق لمن وراء العباد، وما بلغت شيئاً من جزائك،وإنّ الله بالنقمة من ورائك.فأعرض عنها معاوية فقال إياس: اقتل هذه يا أميرالمؤمنين؟ فوالله ماكان زوجها أحق بالقتل منها. فالتفتت إليه فلما رأته ناتئ الشدقين، ثقيل اللسان،قالت: تباً لك ويلك بين لحييك كجثمان الضفدع، ثم أنت تدعوه إلى قتلي كما قتل زوجيبالأمس، إن تريد إلا أن تكون جباراً في الأرض وما تريدأن تكون من المصلحين؟فضحك معاوية ثم قال: لله درك اخرجي ثم لا أسمع بك في شيءٍ من الشام. قالت: وأبي لأخرجن ثم لا تسمع لي في شيءٍ من الشام، فما الشام لي بحبيب ولا اعرجفيها على حميم، وما هي لي بوطن، ولا أحن فيها إلى سكن، ولقد هظم فيها ديني، وما قرتفيها عيني، وما أنا فيها إليك بعائدة، ولا حيث كنت بحامدة.فأشار إليها ببنانه اخرجي. فخرجت وهي تقول: واعجبى لمعاوية يكف عنيلسانه، ويشير إلى الخروج ببنانه، أما والله ليعارضنه عمرو بكلام مؤيد شديد، أوجع مننوافذ الحديد، أو ما أنا بابنة الشريد. فخرجت وتلقاها الأسود الهلالي، وكان رجلاًأسود أصلع أسلع أصعل، فسمعها وهي تقول، فقال: لمن تعني هذه؟ الأمير المؤمنين تعني،عليها لعنة الله؟ فالتفتت إليه فلما رأته قالت خزياً لك وجدعاً، أتلعنني واللعنةبين جنبيك، وما بين قرنيك إلى قدميك. اخسأ يا هامة الصعل، ووجه الجعل، فأذلل بكنصيراً، وأقلل بك ظهيراً.فبهت الأسلع ينظر إليها ثم سأل عنها، فأخبر فأقبل إليها معتذراًخوفاً من لسانها. فقالت: قد قبلت عذرك وإن تعد أعد، ثم لا استقيل ولا أراقب فيك. فبلغ ذلك معاوية، فقال زعمت يا أسلع أنّك لا تواقف من يغلبك أما علمت إن حرارةالمتبول ليست بمخالسة نوافذ الكلام عند مواقف الخصام، أفلا تركت كلامها قبل البصبصةمنها والاعتذار إليها. قال: إي والله يا أميرالمؤمنين، لم أكن أرى شيئاً من النساءيبلغ من معاضيل الكلام ما بلغت هذه المرأة حالستها فإذا هي تحمل قلباً شديداً،ولساناً حديداً، وجواباً عتيداً، وهالتني رعباً وأوسعتني سباً. ثم التفت معاوية إلىعبيد بن أوس، فقال: ابعث لها ما تقطع به عنا لسانها، وتقضي به ما ذكرت من دينهاوتخف به إلى بلادها، وقال: اللهم اكفني شر لسانها.فلما أتاها الرسول بما أمر به معاوية، قالت: يا عجبي لمعاوية يقتلزوجي، ويبعث إليّ بالجوائز فليت أبي كرب سد عني حرة صله خذ من الرضعة ما عليها. فأخذت ذلك وخرجت تريد الجزيرة، فمرت بحمص فقتلها الطاعون. فبلغ ذلك الأسلع فأقبلإلي معاوية كالمبشر له فقال له: أفرخ روعك يا أميرالمؤمنين، قد استجيبت دعوتك فيابنة الشريد، وقد كفيت شرّ لسانها. قال: وكيف ذلك؟ قال: مرت بحمص فقتلها الطاعون. فقال له معاوية: فنفسك فبشِّر بما أحببت فإنّ موتها لم يكن على أحد أروح منه عليك،ولعمري ما انتصفت منها حين أفرغت عليك شؤبوباً وبيلاً. فقال الأسلع: ما أصابني منحرارة لسانها شيء إلّا وقد أصابك مثله أو أشد منه.
(أعلام النساء 1/ 11. الأعلام 1/ 18. أعيان الشيعة 5/ 29ط 2. البدايةوالنهاية 8/ 48. بلاغات النساء / 59.)