العتبة العلوية المقدسة - جعفر الخليلي -
» » سيرة الإمام » قالوا في امير المؤمنين » المفكرين المعاصرين » جعفر الخليلي

 جعفر الخليلي

منذ أربعة عشر قرناً واسم الامام علي (عليه السلام) يحتل الصدارة في بحوث المؤرِّخين، والمتتبعين، والباحثين، حين يجيء ذكر الايمان، والاستقامة، والعدل، والشجاعة، والجهاد في سبيل الله، والصبر على المكاره، أو حين يجيء ذكر المعرفة والحكمة، والادب والشعر والخطابة، فتمر سيرته في صور مزدانة بألوان من الصفات التي لم تجتمع في شخصيَّة إنسان عبقري موهوب كما اجتمعت في هذه الشخصيَّة الفذة العجيبة التي خلبت العقول، وحيَّرت الالباب، وكانت من القوَّة والرسوخ من حيث هذه المزايا - مزايا العلم والحكمة والمعرفة وسمو الخلق والانسانية الحقَّة - بحيث تمرَّدت على العوامل الفعّالة التي من شأنها إبادة أي شيء - مهما عظم - إذا ما وقف أمامها.

كان علي أمَّةً مستقلةً بذاتها، تحكي عقليَّة الدَّهر، وتعبِّر عن نضج الزمان، وتصوِّر نهاية المراحل من سموِّ البشريَّة، وقمَّة المجد، فليس من الصحيح أن يقاس علي بالافراد فهو نسيج وحده، ومن الخطأ أن يقال عن علي: إنَّه كان أورعهم، وأتقاهم، وأنبلهم، وأسخاهم وأنت تعرض لسيرة العظماء والمزايا الانسانية فكما أنَّك لا تستطيع أن تقرن الارض بالقمر بهاءً، وتقرن معدن الراديوم بالمعادن الاخرى جوهراً، وتقيس عليه، فإنَّك لا تستطيع أن تقرن اسم علي بأسماء العظماء - باستثناء من خصُّوا برتبة النبوة - وهو غير نبي طبعا - لانَّ مزايا علي قد تجاوزت الحدود المألوفة، ولانَّ شخصيته بلغت القمَّة من الامجاد والمثل العليا في دنيا البشريَّة.

وحين يستعرض المرء المبادئ والملكات والمزايا فلا يصح أن يأتي بعلي مثلاً ، ذلك لانَّ علياً - كما قلت - أمَّة مستقلة ليس لها بين الافراد من شبيه، وإنَّه قد سما بما جاء به من موازين، وما أعرب به من مزايا، وما عبَّر به عن صفات الانسان الكامل العديم النظير، حتّى صارت كلمة علي وحدها تكفي لترسم أمام العين كلَّ الصور الجذّابة من معاني الانسانية.

ولعلَّ كلمة (علي) التي يكتبها البعض فوق مخازنهم، وحوانيتهم، أو يعلِّقونها في إطار الالواح الفنية المزخرفة في بيوتهم، أو التي ينقشونها على أبواب العمارات، والمساجد، والمعاهد والمؤسسات، أقول: لعل هذه الكلمة ضرب من ضروب البديع ورمز من رموز الفن المعروف في علم البديع (بالاكتفاء) وهي صريحة المنطوق، واضحة المفهوم، فلا حاجة لان يضاف إليها شيء ليفهم الناس: أنَّ علياً يحكي المجموعه الكاملة من فضائل الدُّنيا ومزاياها.

يقول محمد مهدي الجواهري:

تعداد مجد المرء منقصة إذا * * * فاقت مزاياه عن التعداد

ولقد فاقت مزايا عليٍّ حدود التعداد، وتحدَّت عوامل الزمن التي تجرف أمامها الماضي والحاضر فتجعله أثراً بعد عين.

لقد تحدَّت مزايا علي عوامل الزَّمن بقوَّة لم يُعرف لها نظير في تاريخ العظماء حتى أصبحت شخصيَّته كالشمس التي إذا ما حجبها الضّباب أو السَّحاب أو الغبار ، أو حال القمر بينها وبين الارض مرَّة فلن يستطيع أن يحجبها مرّات، ولن يقوى على تغيير جوهرها، ونفوذ عملها وأثرها في الارض وفي الطبيعة.

هذه الشخصيّة - شخصيَّة الامام عليٍّ - التي تحدَّت الزَّمن، وتحدَّت كلَّ الوسائل الفعالة التي يكفي أن يغير بعض مفعولها حقيقة الاُمم وواقعها، ويبدِّل مجرى التاريخ وحقيقته، هذه الشخصيَّة كانت ولم تزل ملء العين، وملء القلب، والقدوة المثاليَّة عند ذوي الادراك والعقول النيِّرة، والباحثين عن الانسانيَّة الكاملة في دنيا البشريَّة، هذه الشخصيَّة التي لم تكتف بأن تصمد وتثبت كالجبل أمام تلك الزَّعازع والعواصف والرعود والبروق التي نسجتها الدِّعاية بكل ألوانها وأصنافها من وعد ووعيد وحسن جزاء، وصبِّ نقمة، بل أصبحت مبعثَ الحياة ومأمل الامل على رغم كل تلك الحروب التي شُنَّت عليها - حتى ألِّفت فيها الكتب ، ووضعت عنها الدِّراسات، ونقلت عنها الشواهد والامثلة، فكانت نبراساً يهتدي به التائه في ظلمات الدنيا، واستوى الباحثون في حقيقتها، والمتتبعون لاثارها، والذائبون فيها: الشرقيون منهم والغربيون، العرب وغير العرب، المسلمون وغير المسلمون.