خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام بروايتين
الحمد للهِ الواحد الأحَدِ ، الفرِد الصَّمَد . الذي لا من شيءٍ كان ولا من شيءٍ خَلَقَ إلا وهو خاضعٌ له : قدرةٌ بانَ بها من الأشياء ، و بانت الأشياء بها منه ، فليسَت له صفة تُنالُ ، ولا حدُّ تُضرَبُ فيهِ الأمثالُ .حارَت دوَن ملكوته مذاهب التفكير ، و انقطعت دون علمه جوامع التفسير ، وحالت دون غيبِه المكنونِ حجبٌ من الغُيوب ، تاهتْ في أدانيها طامحاتُ العُقول . فتبارك اللهُ الذي لا يبلُغُهُ بُعدُ الهِمم ، ولا يَنالُهُ غوصُ الفِطن . وتعالى الذي ليس لهُ نعتٌ محدودٌ ولا وقتٌ ممدودٌ ولا اجلٌ معدودٌ . وسبحانَ الذي ليس لهُ أولٌ يُبْتَدئ ولا غاية إليها يُنتهى ، هو كما وصفَ نَفسَه ولا يبلُغُ الواصفونَ نَعتَه . حدَّ الأشياء كلَّها بعلمِهِ ولم يحلُل فيها فيقال :هو فيها كائن ، ولم يَنْأَ عنها فيقال : هو منها بائِن . أحاط بها علمُهُ و أتقَنها صُنعُهُ وذللَّها أمرهُ و أحصاها حِفظُه. لم تعزُب عنه غُيوب الهوا ، ولا مكنونُ ظُلَمِ الدُّجى . فهو بكل شيءٍ منها محيطٌ ، ولكل شيءٍ منها حافظٌ ورقيبٌ ، هو الذي لم تغيّرهُ صروفُ الزمان . ولا يَتَكَأَدُهُ صُنعُ شيءٍ كان ، ابتدَعَ ما خَلَق بلا مثالٍ سبق ولا تهبٍ ولا نصبٍ ولا عناءٍ ولا لَغَب. أحاطَ بالأشياءِ قبلَ كونها عِلماً ، ولم يزدد بتجربتها خُبراً . لم يكوّنها لشدةِ سُلطانٍ ، ولا خوفٍ من زوالٍ ولا نقصان ولا استعانة على ضدٍّ مناوٍ ولا ندٍّ مُكاثرٍ ، لكنْ خَلائقُ مربوبون وعبادٌ داخرون ، فسبحانَ الذي لم يُؤدهُ خلق ما ابتدأ . ولا تدبيرُ ما برأ . ولا من عجز بما خَلق اكتفى . علم ما خلق ، وخلق ما أراد ، لا بالتفكير في حادث أصاب ما خلق ، ولا دخلت عليه شبهة فيما أراد ، لكن علمٌ محكم و أمرٌ مبرمٌ . توحَّد فيه بالربوبية وخَصَّ نفسَهُ بالوحدانية . فلبسَ العزَّ و الكبرياء واستخلص المجدَ و الثناء وتعالى عن اتخاذ الأبناء وتقدَّسَ عن مُلامَسة النساء . وعزَّ عن محاورة الشُركاء . ليس له فيما خلق ندٌّ ولا له فيما مَلَك ضدٌّ لم يزل ولا يزال قبلَ بدءِ الدهورِ وبعدَ تصرف الأمور .
ومنها على رواية أخرى
ثم إن الله تبارك وتعالى خَلَقَ الخلقَ بعلمه و اختار من خيار صفوِتِه أُمناءَ وحيه وخَزَنةً على أمره إليهم تَنتهي رُسُلُهُ وعليهم يَتَنَزّلُ وَحيُه استودعهم في خير مستودع و أقرّهم في خير مُستقر ، تناسَخُهُم أكارِمُ الأصلابِ إلى مطّهرات الأرحام ، كلما مضى منهم سَلفٌ انبعث منهم لأمره خلف . حتى انتهت نبُوّةُ اللهِ و أفضتْ كرامتهُ إلى محمدفأخرَجه من افضل المعادن مْحِتدا ، و اكرم المغارسِ منَبتاً ، و امنعها ذرْوة واعزّها أُرُومَة ، من الشجرة التي خلق منها أنبياءه و انتخب أُمناءَ ه الطيبة ([1]) العود ، الباسِقة الفروع ، الناضرةِ الغصون ، اليانعة الثمار ، الكريمة المجتنى ، في كرمٍ غُرست ، وفي حَرَم أنبتتْ وفيه بَسَقَتْ و أثمرتْ وعزّت به و امتنعت ، أكرمه اللهُ بالروح الأمين و النور المبين وسخرّ له البُراق وصافحته الملائكة و أرعب به الأبالسة وهدَمَ به الأصنام و الآلهة ، شهابٌ سطعَ نورُهُ ، فاستضاءَت به العباد و استنارت به البلاد سنتُه الرُشد وسيرتُه العدل وحكمه الحق ، صدع بما أُمِر وبلَّغَ ما حُمِّل حتى افصح بالتوحيد دعوتَه و اظهر في الخلق كلمته وخلصت له الوحدانية وصفت له الربوبية . اللهم فخصَّه بالذكر المحمود و الحوض المورود و آته الوسيلةَ و الفضيلةَ و احشرنا في زمرته غيرَ خَزايا ولا ناكثين و اجمعْ بيننا وبينه في ظل العيشِ وبرد الرَوح وقُرة الأعين ، ونَضْرَة السرور وبهجة النعيم ، فإنا نشهد أنه بلَّغ الرسالة و أدى الأمانة و اجتهد للأمة وجاهد في سبيلك ولم يَخَفْ لومة لائم في دينك وعَبَدَك حتى آتاه اليقين .
([1]) الطيبة صفة للشجرة .