المجلس الثاني الحكمة في خلق الحيوان
قال المفضل فلما كان اليوم الثاني بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأمرني بالجلوس فجلست فقال : الحمد لله مدبر الأدوار ومعيد الأكوار طبقا عن طبق وعالما بعد عالم ـ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَيَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى عدلا منه تقدست أسماؤه وجلت آلاؤه لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَلكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ يشهد بذلك قوله جل قدسه فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ. وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ في نظائر لها في كتابه الذي فيه تبيان كل شيء و لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَلا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ ولذلك قال سيدنا محمد صلوات الله عليه وعلى آله : ( إنما هي أعمالكم ترد إليكم )
ثم أطرق الإمام هنيئة وقال يا مفضل الخلق حيارى عمهون سكارى في طغيانهم يترددون وبشياطينهم وطواغيتهم يقتدون بصراء عمي لا يبصرون نطقاء بكم لا يعقلون سمعاء صم لا يسمعون رضوا بالدون وحسبوا أنهم مهتدون حادوا عن مدرجة الأكياس ورتعوا في مرعى الأرجاس الأنجاس كأنهم من مفاجأة الموت آمنون وعن المجازاة مزحزحون يا ويلهم ما أشقاهم وأطول عناءهم وأشد بلاءهم يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَلا هُمْ يُنْصَرُونَ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللهُ .
قال المفضل : فبكيت لما سمعت منه فقال لا تبك تخلصت إذ قبلت ونجوت إذ عرفت.
أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها وإيضاح ذلك
ثم قال : أبتدئ لك بذكر الحيوان ليتضح لك من أمره ما وضح لك من غيره فكر في أبنية أبدان الحيوان وتهيئتها على ما هي عليه فلا هي صلاب كالحجارة ولو كانت كذلك لا تنثني ولا تتصرف في الأعمال ولا هي على غاية اللين والرخاوة فكانت لا تتحامل ولا تستقل بأنفسها فجعلت من لحم رخو ينثني تتداخله عظام صلاب يمسكه عصب وعروق تشده وتضم بعضه إلى بعض وغلفت فوق ذلك بجلد يشتمل على البدن كله وأشباه ذلك هذه التماثيل التي تعمل من العيدان وتلف بالخرق وتشد بالخيوط وتطلى فوق ذلك بالصمغ فتكون العيدان بمنزلة العظام والخرق بمنزلة اللحم والخيوط بمنزلة العصب والعروق والطلاء بمنزلة الجلد فإن جاز أن يكون الحيوان المتحرك حدث بالإهمال من غير صانع جاز أن يكون ذلك في هذه التماثيل الميتة فإن كان هذا غير جائز في التماثيل فبالحري أن لا يجوز في الحيوان.
أجساد الأنعام وما أعطيت وما منعت وسبب ذلك
وفكر يا مفضل بعد هذا في أجساد الأنعام فإنها حين خلقت على أبدان الإنس من اللحم والعظم والعصب أعطيت أيضا السمع والبصر ليبلغ الإنسان حاجته فإنها لو كانت عميا صما لما انتفع بها الإنسان ولا تصرفت في شيء من مآربه ثم منعت الذهن والعقل لتذل للإنسان فلا تمتنع عليه إذا كدها الكد الشديد وحملها الحمل الثقيل فإن قال قائل إنه قد يكون للإنسان عبيد من الإنس يذلون ويذعنون بالكد الشديد وهم مع ذلك غير عديمي العقل والذهن فيقال في جواب ذلك إن هذا الصنف من الناس قليل فأما أكثر الناس فلا يذعنون بما تذعن به الدواب من الحمل والطحن وما أشبه ذلك ولا يغرون بما يحتاج إليه منه ثم لو كان الناس يزاولون مثل هذه الأعمال بأبدانهم لشغلوا بذلك عن سائر الأعمال لأنه كان يحتاج مكان الجمل الواحد والبغل الواحد إلى عدة أناسي فكان هذا العمل يستفرغ الناس حتى لا يكون فيهم عنه فضل لشيء من الصناعات مع ما يلحقه من التعب الفادح في أبدانهم والضيق والكد في معاشهم.
خلق الأصناف الثلاثة من الحيوان
فكر يا مفضل في هذه الأصناف الثلاثة من الحيوان وفي خلقها على ما هي عليه مما فيه صلاح كل واحد منها فالإنس لما قدروا أن يكونوا ذوي ذهن وفطنة وعلاج لمثل هذه الصناعات من البناء والتجارة والصياغة والخياطة وغير ذلك خلقت لهم أكف كبار ذوات أصابع غلاظ ليتمكنوا من القبض على الأشياء وأوكدها هذه الصناعات.
آكلات اللحم من الحيوان والتدبير في خلقها
وآكلات اللحم لما قدر أن تكون معايشها من الصيد خلقت لهم أكف لطاف مدمجة ذوات براثن ومخالب تصلح لأخذ الصيد ولا تصلح للصناعات وآكلات النبات لما قدر أن يكونوا لا ذوات صنعة ولا ذات صيد خلقت لبعضها أظلاف تقيها خشونة الأرض إذا حاولت طلب المرعى ولبعضها حوافر ململمة ذوات قعر كأخمص القدم تنطبق على الأرض عند تهيئها للركوب والحمولة.
تأمل التدبير في خلق آكلات اللحم من الحيوان حين خلقت ذوات أسنان حداد وبراثن شداد وأشداق وأفواه واسعة فإنه لما قدر أن يكون طعمها اللحم خلقت خلقة تشاكل ذلك وأعينت بسلاح وأدوات تصلح للصيد وكذلك تجد سباع الطير ذوات مناقير ومخالب مهيئة لفعلها ولو كانت الوحوش ذوات مخالب كانت قد أعطيت ما لا تحتاج إليه لأنها لا تصيد ولا تأكل اللحم ولو كانت السباع ذوات أظلاف كانت قد منعت ما تحتاج إليه أعني السلاح الذي تصيد به وتتعيش أفلا ترى كيف أعطي كل واحد من الصنفين ما يشاكل صنفه وطبقته بل ما فيه بقاؤه وصلاحه.
ذوات الأربع واستقلال أولادها
انظر الآن إلى ذوات الأربع كيف تراها تتبع أماتها مستقلة بأنفسها لا تحتاج إلى الحمل والتربية كما تحتاج أولاد الإنس فمن أجل أنه ليس عند أماتها ما عند أمهات البشر من الرفق والعلم بالتربية والقوة عليها بالأكف والأصابع المهيأة لذلك أعطيت النهوض والاستقلال بأنفسها وكذلك ترى كثيرا من الطير كمثل الدجاج والدراج والقبج تدرج وتلقط حين تنقاب عنها البيضة فأما ما كان منها ضعيفا لا نهوض فيه كمثل فراخ الحمام واليمام والحمر فقد جعل في الأمهات فضل عطف عليها فصارت تمج الطعام في أفواهها بعد ما توعيه حواصلها فلا تزال تغذوها حتى تستقل بأنفسها ولذلك لم ترزق الحمام فراخا كثيرة مثل ما ترزق الدجاج لتقوى الأم على تربية فراخها فلا تفسد ولا تموت فكلا أعطي بقسط من تدبير الحكيم اللطيف الخبير.
قوائم الحيوان وكيفية حركتها
انظر إلى قوائم الحيوان كيف تأتي أزواجا لتتهيأ للمشي ولو كانت أفرادا لم تصلح لذلك لأن الماشي ينقل قوائمه يعتمد على بعض فذو القائمتين ينقل واحدة ويعتمد على واحدة وذو الأربع ينقل اثنتين ويعتمد على اثنتين وذلك من خلاف لأن ذا الأربع لو كان ينقل قائمتين من أحد جانبيه ويعتمد على قائمتين من الجانب الآخر لم يثبت على الأرض كما يثبت السرير وما أشبهه فصار ينقل اليمنى من مقاديمه مع اليسرى من مآخيره وينقل الأخريين أيضا من خلاف فيثبت على الأرض ولا يسقط إذا مشى.
انقياد الحيوانات المسخرة للإنسان وسببه
أما ترى الحمار كيف يذل للطحن والحمولة وهو يرى الفرس مودعا منعما والبعير لا يطيقه عدة رجال لو استعصى كيف كان ينقاد للصبي والثور الشديد كيف كان يذعن لصاحبه حتى يضع النير على عنقه ويحرث به والفرس الكريم يركب السيوف والأسنة بالمواتاة لفارسه والقطيع من الغنم يرعاه واحد ولو تفرقت الغنم فأخذ كل واحد منها في ناحية لم يلحقها وكذلك جميع الأصناف المسخرة للإنسان كانت كذلك إلا بأنها عدمت العقل والروية فإنها لو كانت تعقل وتتروى في الأمور كانت خليقة أن تلتوي على الإنسان في كثير من مآربه حتى يمتنع الجمل على قائده والثور على صاحبه وتتفرق الغنم عن راعيها وأشباه هذا من الأمور.
افتقاد السباع للعقل والروية وفائدة ذلك
وكذلك هذه السباع لو كانت ذات عقل وروية فتوازرت على الناس كانت خليقة أن تجتاحهم فمن كان يقوم للأسد والذئاب والنمور والدببة لو تعاونت وتظاهرت على الناس أفلا ترى كيف حجر ذلك عليها وصارت مكان ما كان يخاف من إقدامها ونكايتها تهاب مساكن الناس وتحجم عنها ثم لا تظهر ولا تنتشر لطلب قوتها إلا بالليل فهي مع صولتها كالخائف من الإنس بل مقموعة ممنوعة منهم ولو كان ذلك لساورتهم في مساكنهم وضيقت عليهم.
عطف الكلب على الإنسان ومحاماته عنه
ثم جعل في الكلب من بين هذه السباع عطف على مالكه ومحاماة عنه وحافظ له ينتقل على الحيطان والسطوح في ظلمة الليل لحراسة منزل صاحبه وذب الذعار عنه ، ويبلغ من محبته لصاحبه أن يبذل نفسه للموت دونه ودون ماشيته وماله ويألفه غاية الإلف حتى يصبر معه على الجوع والجفوة فلم طبع الكلب على هذه الألفة والمحبة إلا ليكون حارسا للإنسان له عين بأنياب ومخالب ونباح هائل ليذعر منه السارق ويتجنب المواضع التي يحميها ويخفرها .
وجه الدابة وفمها وذنبها وشرح ذلك
يا مفضل تأمل وجه الدابة كيف هو فإنك ترى العينين شاخصتين أمامها لتبصر ما بين يديها لئلا تصدم حائطا أو تتردى في حفرة وترى الفم مشقوقا شقا في أسفل الخطم ولو شق كمكان الفم من الإنسان في مقدم الذقن لما استطاع أن يتناول به شيئا من الأرض ألا ترى أن الإنسان لا يتناول الطعام بفيه ولكن بيده تكرمة له على سائر الآكلات فلما لم يكن للدابة يد تتناول بها العلف جعل خرطومها مشقوقا من أسفله لتقبض على العلف ثم تقضمه وأعينت بالجحفلة لتتناول بها ما قرب وما بعد اعتبر بذنبها والمنفعة لها فيه فإنه بمنزلة الطبق على الدبر والحياء جميعا يواريهما ويسترهما ومن منافعها فيه أن ما بين الدبر ومراقي البطن منها وضر يجتمع عليها الذباب والبعوض فجعل لها الذنب كالمذبة تذب بها عن تلك المواضع ومنها أن الدابة تستريح إلى تحريكه وتصريفه يمنة ويسرة فإنه لما كان قيامها على الأربع بأسرها وشغلت المقدمتان بحمل البدن عن التصرف والتقلب كان لها في تحريك الذنب راحة وفيه منافع أخرى يقصر عنها الوهم فيعرف موقعها في وقت الحاجة إليها فمن ذلك أن الدابة ترتطم في الوحل فلا يكون شيء أعون على نهوضها من الأخذ بذنبها وفي شعر الذنب منافع للناس كثيرة يستعملونها في مآربهم ثم جعل ظهرها مسطحا مبطوحا على قوائم أربع ليتمكن من ركوبها وجعل حياها بارزا من ورائها ليتمكن الفحل من ضربها ولو كان أسفل البطن كما كان الفرج من المرأة
لم يتمكن الفحل منها ألا ترى أنه لا يستطيع أن يأتيها كفاحا كما يأتي الرجل المرأة.
الفيل ومشفره
تأمل مشفر الفيل وما فيه من لطيف التدبير فإنه يقوم مقام اليد في تناول العلف والماء وازدرادهما إلى جوفه ولو لا ذلك لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض لأنه ليست له رقبة يمدها كسائر الأنعام فلما عدم العنق أعين مكان ذلك بالخرطوم الطويل ليسدله فيتناول به حاجته .. فمن ذا الذي عوضه مكان العضو الذي عدم ما يقوم مقامه إلا الرءوف بخلقه؟ وكيف يكون هذا بالإهمال كما قالت الظلمة فإن قال قائل فما باله لم يخلق ذا عنق كسائر الأنعام قيل إن رأس الفيل وأذنيه أمر عظيم وثقل ثقيل فلو كان ذلك على عنق عظيم لهدها وأوهنها فجعل رأسه ملصقا بجسمه لكيلا يناله منه ما وصفناه وخلق له مكان العنق هذا المشفر ليتناول به غذاءه فصار مع عدم العنق مستوفيا ما فيه بلوغ حاجته
حياء الأنثى من الفيلة
انظر الآن كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة في أسفل بطنها فإذا هاجت للضراب ارتفع وبرز حتى يتمكن الفحل من ضربها فاعتبر كيف جعل حياء الأنثى من الفيلة على خلاف ما عليه في غيرها من الأنعام ثم جعلت فيه هذه الخلة ليتهيأ للأمر الذي فيه قوام النسل ودوامه.
الزرافة وخلقتها وكونها ليست من لقاح أصناف شتى
فكر في خلق الزرافة واختلاف أعضائها وشبهها بأعضاء أصناف من الحيوان فرأسها رأس فرس وعنقها عنق جمل وأظلافها أظلاف بقرة وجلدها جلد نمر.
وزعم ناس من الجهال بالله عز وجل أن نتاجها من فحول شتى قالوا وسبب ذلك أن أصنافا من حيوان البر إذا وردت الماء تنزو على بعض السائمة وينتج مثل هذا الشخص الذي هو كالملتقط من أصناف شتى وهذا جهل من قائله وقلة معرفة بالبارئ جل قدسه وليس كل صنف من الحيوان يلقح كل صنف فلا الفرس يلقح الجمل ولا الجمل يلقح البقر وإنما يكون التلقيح من بعض الحيوان فيما يشاكله ويقرب من خلقه كما يلقح الفرس الحمار فيخرج بينهما البغل ويلقح الذئب الضبع فيخرج من بينهما السمع على أنه ليس يكون في الذي يخرج من بينهما عضو كل واحد منهما كما في الزرافة عضو من الفرس وعضو من الجمل وأظلاف من البقرة بل يكون كالمتوسط بينهما الممتزج منهما كالذي تراه في البغل فإنك ترى رأسه وأذنيه وكفله وذنبه وحوافره وسطا بين هذه الأعضاء من الفرس والحمار وشحيجه كالممتزج من صهيل الفرس ونهيق الحمار فهذا دليل على أنه ليست الزرافة من لقاح أصناف شتى من الحيوان كما زعم الجاهلون بل هي خلق عجيب من خلق الله للدلالة على قدرته التي لا يعجزها شيء وليعلم أنه خالق أصناف الحيوان كلها يجمع بين ما يشاء من أعضائها في أيها شاء ويفرق ما شاء منها في أيها شاء ويزيد في الخلقة ما شاء وينقص منها ما شاء دلالة على قدرته على الأشياء وأنه لا يعجزه شيء أراده جل وتعالى فأما طول عنقها والمنفعة لها في ذلك فإن منشأها ومرعاها في غياطل ذوات أشجار شاهقة ذاهبة طولا في الهواء فهي تحتاج إلى طول العنق لتتناول بفيها أطراف تلك الأشجار فتقوت من ثمارها.
القرد وخلقته والفرق بينه وبين الإنسان
تأمل خلقة القرد وشبهه بالإنسان في كثير من أعضائه أعني الرأس والوجه والمنكبين والصدر وكذلك أحشاؤه شبيهة أيضا بأحشاء الإنسان وخص مع ذلك بالذهن والفطنة التي بها يفهم عن سائسه ما يومئ إليه ويحكي كثيرا مما يرى الإنسان يفعله حتى إنه يقرب من خلق الإنسان وشمائله في التدبير في خلقته على ما هي عليه أن يكون عبرة للإنسان في نفسه فيعلم أنه من طينة البهائم وسنخها إذ كان يقرب من خلقها هذا القرب وأنه لو لا فضيلة فضله بها في الذهن والعقل والنطق كان كبعض البهائم على أن في جسم القرد فضولا أخرى تفرق بينه وبين الإنسان كالخطم والذنب المسدل والشعر المجلل للجسم كله وهذا لم يكن مانعا للقرد أن يلحق بالإنسان لو أعطي مثل ذهن الإنسان وعقله ونطقه والفصل الفاصل بينه وبين الإنسان في الحقيقة هو النقص في العقل والذهن والنطق.
إكساء أجسام الحيوانات وخلقة أقدامها بعكس الإنسان وأسباب ذلك
انظر يا مفضل إلى لطف الله جل اسمه بالبهائم كيف كسيت أجسامها هذه الكسوة من الشعر والوبر والصوف لتقيها من البرد وكثرة الآفات ألبست الأظلاف والحافر والأخفاف لتقيها من الحفاء إذ كانت لا أيدي لها ولا أكف ولا أصابع مهيأة للغزل والنسج فكفوا بأن جعل كسوتهم في خلقهم باقية عليهم ما بقوا لا يحتاجون إلى تجديدها واستبدال بها فأما الإنسان فإنه ذو حيلة وكف مهيأة للعمل فهو ينسج ويغزل.ويتخذ لنفسه الكسوة ويستبدل بها حالا بعد حال وله في ذلك صلاح من جهات من ذلك أنه يشتغل بصنعة اللباس عن العبث وما تخرجه إليه الكفاية ومنها أنه يستريح إلى خلع كسوته إذا شاء ولبسها إذا شاء ومنها أن يتخذ لنفسه من الكسوة ضروبا لها جمال وروعة فيتلذذ بلبسها وتبديلها وكذلك يتخذ بالرفق من الصنعة ضروبا من الخفاف والنعال يقي بها قدميه وفي ذلك معايش لمن يعمله من الناس ومكاسب يكون فيها معايشهم ومنها أقواتهم وأقوات عيالهم فصار الشعر والوبر والصوف يقوم للبهائم مقام الكسوة والأظلاف والحوافر والأخفاف مقام الحذاء.
مواراة البهائم عند إحساسها بالموت
فكر يا مفضل في خلقة عجيبة جعلت في البهائم فإنهم يوارون أنفسهم إذا ماتوا كما يواري الناس موتاهم وإلا فأين جيف هذه الوحوش والسباع وغيرها لا يرى منها شيء وليست قليلة فتخفى لقلتها بل لو قال قائل أنها أكثر من الناس لصدق.
فاعتبر في ذلك بما تراه في الصحاري والجبال من أسراب الظباء والمها والحمير الوحش والوعول والأيائل وغير ذلك من الوحوش وأصناف السباع من الأسد والضباع والذئاب والنمور وغيرها وضروب الهوام والحشرات ودواب الأرض وكذلك أسراب الطير من الغربان والقطاة والإوز والكراكي والحمام وسباع الطير جميعا وكلها لا يرى منها إذا ماتت إلا الواحد بعد الواحد يصيده قانص أو يفترسه سبع فإذا أحسوا بالموت كمنوا في مواضع خفية فيموتون فيها ولو لا ذلك لامتلأت الصحاري منها حتى تفسد رائحة الهواء وتحدث الأمراض والوباء
فانظر إلى هذا بالذي يخلص إليه الناس وعملوه بالتمثيل الأول الذي مثل لهم كيف جعل طبعا وإذكارا في البهائم وغيرها ليسلم الناس من معرة ما يحدث عليهم من الأمراض والفساد.
الفطن التي جعلت في البهائم : الأيل والثعلب والدلفين
فكر يا مفضل في الفطن التي جعلت في البهائم لمصلحتها بالطبع والخلقة لطفا من الله عز وجل لهم لئلا يخلو من نعمه جل وعز أحد من خلقه لا بعقل وروية فإن الأيل يأكل الحيات فيعطش عطشا شديدا فيمتنع من شرب الماء خوفا من أن يدب السم في جسمه فيقتله ويقف على الغدير وهو مجهود عطشا فيعج عجيجا عاليا ولا يشرب منه ولو شرب لمات من ساعته.
فانظر إلى ما جعل من طباع هذه البهيمة من تحمل الظمإ الغالب الشديد خوفا من المضرة في الشرب وذلك مما لا يكاد الإنسان العاقل المميز يضبطه من نفسه.
و الثعلب إذا أعوزه الطعم تماوت ونفخ بطنه حتى يحسبه الطير ميتا فإذا وقعت عليه لتنهشه وثب عليها فأخذها فمن أعان الثعلب العديم النطق والروية بهذه الحيلة إلا من توكل بتوجيه الرزق له من هذا وشبهه فإنه لما كان الثعلب يضعف عن كثير مما تقوى عليه السباع من مساورة الصيد أعين بالدهاء والفطنة والاحتيال لمعاشه.و الدلفين يلتمس صيد الطير فيكون حيلته في ذلك أن يأخذ السمك فيقتله ويسرحه حتى يطفو على الماء ثم يكمن تحته ويثور الماء الذي عليه حتى لا يتبين شخصه فإذا وقع الطير على السمك الطافي وثب إليها فاصطادها. فانظر إلى هذه الحيلة كيف جعلت طبعا في هذه البهيمة لبعض المصلحة
التنين والسحاب
قال المفضل فقلت : أخبرني يا مولاي عن التنين والسحاب فقال عليهالسلام ، إن السحاب كالموكل به يختطفه حيثما ثقفه كما يختطف حجر المغناطيس الحديد فهو لا يطلع رأسه في الأرض خوفا من السحاب ولا يخرج إلا في القيظ مرة إذا صحت السماء فلم يكن فيها نكتة من غيمة قلت فلم وكل السحاب بالتنين يرصده ويختطفه إذا وجده قال ليدفع عن الناس مضرته .
في الذرة والنمل وأسد الذباب والعنكبوت وطبائع كل منهما
قال المفضل فقلت قد وصفت لي يا مولاي من أمر البهائم ما فيه معتبر لمن اعتبر فصف لي الذرة والنملة والطير فقال عليهالسلام يا مفضل تأمل وجه الذرة الحقيرة الصغيرة هل تجد فيها نقصا عما فيه صلاحها فمن أين هذا التقدير والصواب في خلق الذرة إلا من التدبير القائم في صغير الخلق وكبيره.
انظر إلى النمل واحتشاده في جمع القوت وإعداده فإنك ترى الجماعة منها إذا نقلت الحب إلى زبيتها بمنزلة جماعة من الناس ينقلون الطعام أو غيره بل للنمل في ذلك من الجد والتشمير ما ليس للناس مثله ..
أما تراهم يتعاونون على النقل كما يتعاون الناس على العمل ثم يعمدون إلى الحب فيقطعونه قطعا لكيلا ينبت فيفسد عليهم فإن أصابه ندى أخرجوه فنشروه حتى يجف ثم لا يتخذ النمل الزبية إلا في نشز من الأرض كيلا يفيض السيل فيغرقها وكل هذا منه بلا عقل ولا روية بل خلقة خلق عليها لمصلحة من الله جل وعز.
انظر إلى هذا الذي يقال له الليث وتسميه العامة أسد الذباب وما أعطي من الحيلة والرفق في معاشه فإنك تراه حين يحس بالذباب قد وقع قريبا منه تركه مليا حتى كأنه موات لا حراك به فإذا رأى الذباب قد اطمأن وغفل عنه دب دبيبا دقيقا حتى يكون منه بحيث تناله وثبته ثم يثب عليه فيأخذه فإذا أخذه اشتمل عليه بجسمه كله مخافة أن ينجو منه فلا يزال قابضا عليه حتى يحس بأنه قد ضعف واسترخى ثم يقبل عليه فيفترسه ويحيا بذلك منه.
فأما العنكبوت فإنه ينسج ذلك النسج فيتخذه شركا ومصيدة للذباب ثم يكمن في جوفه فإذا نشب فيه الذباب أحال عليه يلدغه ساعة بعد ساعة فيعيش بذلك منه.
فذلك يحكي صيد الكلاب والفهود وهذا يحكي صيد الأشراك والحبائل.
فانظر إلى هذه الدويبة الضعيفة كيف جعل في طبعها ما لا يبلغه الإنسان إلا بالحيلة واستعمال الآلات فيها فلا تزدري بالشيء إذا كانت العبرة فيه واضحة كالذرة والنملة وما أشبه ذلك فإن المعنى النفيس قد يمثل بالشيء الحقير فلا يضع منه ذلك كما لا يضع من الدينار وهو من ذهب أن يوزن بمثقال من حديد.
جسم الطائر وخلقته
تأمل يا مفضل جسم الطائر وخلقته فإنه حين قدر أن يكون طائرا في الجو خفف جسمه وأدمج خلقه واقتصر به من القوائم الأربع على اثنتين ومن الأصابع الخمس على أربع ومن منفذين للزبل والبول على واحد يجمعهما ثم خلق ذا جؤجؤ محدد ليسهل عليه أن يخرق الهواء كيف ما أخذ فيه كما جعلت السفينة بهذه الهيئة لتشق الماء وتنفذ فيه وجعل في جناحيه وذنبه ريشات طوال متان لينهض بها للطيران وكسا كسي كله الريش ليتداخله الهواء فيقله ولما قدر أن يكون طعمه الحب واللحم يبلعه بلعا بلا مضغ نقص من خلقة الإنسان وخلق له منقار صلب جاسي يتناول به طعمه فلا ينسحج من لقط الحب ولا يتقصف من نهش اللحم ولما عدم الأسنان وصار يزدرد الحب صحيحا واللحم غريضا أعين بفضل حرارة في الجوف تطحن له الطعم طحنا يستغني به عن المضغ واعتبر ذلك بأن عجم العنب وغيره يخرج من أجواف الإنس صحيحا ويطحن في أجواف الطير لا يرى له أثر ثم جعل مما يبيض بيضا ولا يلد ولادة لكيلا يثقل عن الطيران فإنه لو كانت الفراخ في جوفه تمكث حتى تستحكم لأثقلته وعاقته عن النهوض والطيران فجعل كل شيء من خلقه مشاكلا للأمر الذي قدر أن يكون عليه ثم صار الطائر السائح في هذا الجو يقعد على بيضه فيحضنه أسبوعا وبعضها أسبوعين وبعضها ثلاثة أسابيع حتى يخرج الفرخ من البيضة ثم يقبل عليه فيزقه الريح لتتسح حوصلته للغذاء ثم يربيه ويغذيه بما يعيش به فمن كلفه أن يلقط الطعم والحب يستخرجه بعد
أن يستقر في حوصلته ويغذو به فراخه ولأي معنى يحتمل هذه المشقة وليس بذي روية ولا تفكر ولا يأمل في فراخه ما يؤمل الإنسان في ولده من العز والرفد وبقاء الذكر فهذا من فعله يشهد أنه معطوف على فراخه لعله لا يعرفها ولا يفكر فيها وهي دوام النسل وبقاؤه لطفا من الله تعالى ذكره.
الدجاجة وتهيجها لحضن البيض والتفريخ
انظر إلى ( الدجاجة ) كيف تهيج لحضن البيض والتفريخ وليس لها بيض مجتمع ولا وكر موطأ بل تنبعث وتنتفخ وتقوى وتمتنع من الطعم حتى يجمع لها البيض فتحضنه وتفرخ فلم كان ذلك منها إلا لإقامة النسل ومن أخذها بإقامة النسل ولا روية لها ولا تفكير لو لا أنها مجبولة على ذلك؟ ..
خلق البيضة والتدبير في ذلك
اعتبر بخلق البيضة وما فيها من المح الأصفر الخاثر والماء
الأبيض الرقيق فبعضه ينشو منه الفرخ وبعضه ليغتذي به إلى أن تنقاب عنه البيضة وما في ذلك من التدبير فإنه لو كان نشوء الفرخ في تلك القشرة المستحفظة التي لا مساغ لشيء إليها جعل معه في جوفها من الغذاء ما يكتفي به إلى وقت خروجه منها كمن يحبس في حبس حصين لا يوصل إلى من فيه فيجعل معه من القوت ما يكتفي به إلى وقت خروجه منه.
حوصلة الطائر
فكر يا مفضل في حوصلة الطائر وما قدر له فإن مسلك الطعم إلى القانصة ضيق لا ينفذ فيه الطعام إلا قليلا قليلا فلو كان الطائر لا يلقط حبة ثانية حتى تصل الأولى إلى القانصة لطال عليه ومتى كان يستوفي طعمه فإنما يختلسه اختلاسا لشدة الحذر فجعلت له الحوصلة كالمخلاة المعلقة أمامه ليوعي فيها ما أدرك من الطعم بسرعة ثم تنفذه إلى القانصة على مهل وفي الحوصلة أيضا خلة أخرى فإن من الطائر ما يحتاج إلى أن يزق فراخه فيكون رده للطعم من قرب أسهل عليه
اختلاف ألوان الطير وعلة ذلك
قال المفضل فقلت إن قوما من المعطلة يزعمون أن اختلاف الألوان والأشكال في الطير إنما يكون من قبل امتزاج الأخلاط واختلاف مقاديرها المرج والإهمال.
قال يا مفضل هذا الوشي الذي تراه في الطواويس والدراج والتدارج على استواء ومقابلة كنحو ما يخط بالأقلام كيف يأتي به الامتزاج المهمل على شكل واحد لا يختلف ولو كان بالإهمال لعدم الاستواء ولكان مختلفاً.
ريش الطائر ووصفه
تأمل ريش الطير كيف هو فإنك تراه منسوجا كنسج الثوب من سلوك دقاق قد ألف بعضه إلى بعض كتأليف الخيط إلى الخيط والشعرة إلى الشعرة ثم ترى ذلك النسج إذا مددته ينفتح قليلا ولا ينشق لتداخله الريح فيقل الطائر إذا طار وترى في وسط الريشة عمودا غليظا متينا قد نسج عليه الذي هو مثل الشعر ليمسكه بصلابته وهو القصبة التي
في وسط الريشة وهو مع ذلك أجوف ليخف على الطائر ولا يعوقه عن الطيران.
الطائر الطويل الساقين والتدبير في ذلك
هل رأيت يا مفضل هذا الطائر الطويل الساقين وعرفت ما له من المنفعة في طول ساقيه فإنه أكثر ذلك في ضحضاح من الماء فتراه بساقين طويلين كأنه ربيئة فوق مرقب وهو يتأمل ما يدب في الماء فإذا رأى شيئا مما يتقوت به خطا خطوات رقيقا حتى يتناوله ولو كان قصير الساقين وكان يخطو نحو الصيد ليأخذه يصيب بطنه الماء فيثور ويذعر منه فيفرق عنه فخلق له ذلك العمودان ليدرك بهما حاجته ولا يفسد عليه مطلبه.
تأمل ضروب التدبير في خلق الطائر فإنك تجد كل طائر طويل الساقين طويل العنق وذلك ليتمكن من تناول طعمه من الأرض ولو كان طويل الساقين قصير العنق لما استطاع أن يتناول شيئا من الأرض ،وربما أعين مع العنق بطول المناقير ليزداد الأمر عليه سهولة وإمكانا أفلا ترى أنك لا تفتش شيئا من الخلقة إلا وجدته على غاية الصواب والحكمة
العصافير وطلبها للأكل
انظر إلى العصافير كيف تطلب أكلها بالنهار فهي لا تفقده ولا تجده مجموعا معدا بل تناله بالحركة والطلب وكذلك الخلق كله فسبحان من قدر الرزق كيف فرقه فلم يجعل مما لا يقدر عليه إذ جعل بالخلق حاجة إليه ولم يجعل مبذولا ينال بالهوينا إذ كان لا صلاح في ذلك فإنه لو كان يوجد مجموعا معدا كانت البهائم تنقلب عليه ولا تنقلع عنه حتى تبشم فتهلك وكان الناس أيضا يصيرون بالفراغ إلى غاية الأشر والبطر حتى يكثر الفساد وتظهر الفواحش.
معاش البوم والهام والخفاش
أعلمت ما طعم هذه الأصناف من الطير التي لا تخرج إلا بالليل كمثل البوم والهام والخفاش؟
قلت : لا يا مولاي.
قال إن معاشها من ضروب تنتشر في الجو من البعوض والفراش وأشباه الجراد واليعاسيب وذلك أن هذه الضروب مبثوثة في الجو لا يخلو منها موضع واعتبر ذلك بأنك إذا وضعت سراجا بالليل في سطح أو عرصة دار اجتمع عليه من هذه الضروب شيء كثير .. فمن أين يأتي ذلك كله إلا من القرب فإن قال قائل : إنه يأتي من الصحاري والبراري قيل له : كيف يوافي تلك الساعة من موضع بعيد وكيف يبصر من ذلك البعد سراجا في دار محفوفة بالدور فيقصد إليه مع أن هذه عيانا تتهافت على السراج من قرب فيدل ذلك على أنها منتشرة في كل موضع من الجو فهذه الأصناف من الطير تلتمسها إذا خرجت فتتقوت بها.
فانظر كيف وجه الرزق لهذه الطيور التي لا تخرج إلا بالليل من هذه الضروب المنتشرة في الجو واعرف ذلك المعنى في خلق هذه الضروب المنتشرة التي عسى أن يظن ظان أنها فضل لا معنى له ..
خلقة الخفاش
خلق الخفاش خلقة عجيبة بين خلقة الطير وذوات الأربع هو إلى ذوات الأربع أقرب وذلك أنه ذو أذنين ناشزتين وأسنان ووبروهو يلد ولادا ويرضع ويبول ويمشي إذا مشى على أربع وكل هذا خلاف صفة الطير ثم هو أيضا مما يخرج بالليل ويتقوت بما يسري في الجو من الفراش وما أشبهه وقد قال قائلون إنه لا طعم للخفاش وإن غذاءه من النسيم وحده وذلك يفسد ويبطل من جهتين أحدهما خروج الثفل والبول منه فإن هذا لا يكون من غير طعم والأخرى أنه ذو أسنان ولو كان لا يطعم شيئا لم يكن للأسنان فيه معنى وليس في الخلقة شيء لا معنى له وأما المآرب فيه فمعروفة حتى أن زبله يدخل في بعض الأعمال ومن أعظم الإرب فيه خلقته العجيبة الدالة على قدرة الخالق جل ثناؤه وتصرفها فيما شاء كيف شاء لضرب من المصلحة.
حيلة الطائر أبو نمرة بالحسكة ومنفعتها
فأما الطائر الصغير الذي يقال له ابن نمرة فقد عشش في بعض الأوقات في بعض الشجر فنظر إلى حية عظيمة قد أقبلت نحو عشه فاغرة فاها تبغيه لتبتلعه فبينما هو يتقلب ويضطرب في طلب حيلة منها إذ وجد حسكة فحملها فألقاها في فم الحية فلم تزل الحية تلتوي وتتقلب حتى ماتت أفرأيت لو لم أخبرك بذلك كان يخطر ببالك أو ببال غيرك أنه يكون من حسكة مثل هذه المنفعة أو يكون من طائر صغير أو كبير مثل هذه الحيلة اعتبر بهذا وكثير من الأشياء يكون فيها منافع لا تعرف إلا بحادث يحدث أو خبر يسمع به.
النحل عسله وبيوته
انظر إلى النحل واحتشاده في صنعة العسل وتهيئة البيوت المسدسة وما ترى في ذلك من دقائق الفطنة فإنك إذا تأملت العمل رأيته عجيبا لطيفا وإذا رأيت المعمول وجدته عظيما شريفا موقعه من الناس وإذا رجعت إلى الفاعل ألفيته غبيا جاهلا بنفسه فضلا عما سوى ذلك ففي هذا أوضح الدلالة على أن الصواب والحكمة في هذه الصنعة ليس للنحل بل هي للذي طبعه عليها وسخره فيها لمصلحة الناس.
الجراد وبلاؤه
انظر إلى هذا الجراد ما أضعفه وأقواه فإنك إذا تأملت خلقه رأيته كأضعف الأشياء وإن دلفت عساكره نحو بلد من بلدان لم يستطع أحد أن يحميه منه .. ألا ترى أن ملكا من ملوك الأرض لو جمع خيله ورجله ليحمي بلاده من الجراد لم يقدر على ذلك أفليس من الدلائل على قدرة الخالق أن يبعث أضعف خلقه إلى أقوى خلقه فلا يستطيع دفعه
كثرة الجراد
انظر إليه كيف ينساب على وجه الأرض مثل السيل فيغشى السهل والجبل والبدو والحضر حتى يستر نور الشمس بكثرته فلو كان هذا مما يصنع بالأيدي متى كان تجتمع منه هذه الكثرة وفي كم سنة كان يرتفع فاستدل بذلك على القدرة التي لا يؤدها شيء ولا يكثر عليها
وصف السمك
تأمل خلق السمك ومشاكلته للأمر الذي قدر أن يكون عليه فإنه خلق غير ذي قوائم لأنه لا يحتاج إلى المشي إذ كان مسكنه الماء وخلق غير ذي رية لأنه لا يستطيع أن يتنفس وهو منغمس في اللجة ،وجعلت له مكان القوائم أجنحة شداد يضرب بها في جانبيه كما يضرب الملاح بالمجاذيف من جانبي السفينة وكسا جسمه قشورا متانا متداخلة كتداخل الدروع والجواشن لتقيه من الآفات فأعين بفضل حس في الشم لأن بصره ضعيف والماء يحجبه فصار يشم الطعم من البعد البعيد فينتجعه فيتبعه وإلا فكيف يعلم به وبموضعه واعلم أن من فيه إلى صماخه منافذ فهو يعب الماء بفيه ويرسله من صماخيه فيتروح إلى ذلك كما يتروح غيره من الحيوان إلى تنسم هذا النسيم.
كثرة نسل السمك وعلة ذلك
فكر الآن في كثرة نسله وما خص به من ذلك فإنك ترى في جوف السمكة الواحدة من البيض ما لا يحصى كثرة والعلة في ذلك أن يتسع لما يغتذي به من أصناف الحيوان فإن أكثرها يأكل السمك حتى إن السباع أيضا في حافات الآجام عاكفة على الماء أيضا كي ترصد السمك فإذا مر بها خطفته فلما كانت السباع تأكل السمك ،
والطير يأكل السمك والناس يأكلون السمك والسمك يأكل السمك كان من التدبير فيه أن يكون على ما هو عليه من الكثرة.
سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين
فإذا أردت أن تعرف سعة حكمة الخالق وقصر علم المخلوقين فانظر إلى ما في البحار من ضروب السمك ودواب الماء والأصداف والأصناف التي لا تحصى ولا تعرف منافعها إلا الشيء بعد الشيء يدركه الناس بأسباب تحدث مثل القرمز فإنه لما عرف الناس صبغه بأن كلبة تجول على شاطئ البحر فوجدت شيئا من الصنف الذي يسمى الحلزون فأكلته فاختضب خطمها بدمه فنظر الناس إلى حسنه فاتخذوه صبغا وأشباه هذا مما يقف الناس عليه حالا بعد حال وزمانا بعد زمان .
قال المفضل وحان وقت الزوال ، فقام مولاي عليهالسلام إلى الصلاة وقال : بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى .. فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه ، مبتهجا بما منحنيه ، حامداً لله على ما آتانيه ، فبت ليلتي مسرورا مبتهجاً.