خطبة له عليه السّلام فى تزهيد النّاس عن الدّنيا
عن شريح القاضى قال قال امير المؤمنين عليه السّلم لأصحابه يوماً و هو يعظهم :
تَرَصَّدُوا مَواعيدَ الْأجالِ ، وَ باشِرُوها بِمَحاسِنِ الْأَعْمالِ ، وَ لا تَرْكَنوُآ اِلى ذَخآئِرِ الْأَمْوالِ فَتُحِلِّيَكُمْ خَدآئِعَ الْاَمالِ .
اِنَّ الدُّنْيا خَدَّاعَةٌ صَرَّاعَةٌ مَكَّارَةٌ غَرَّارَةٌ سَحَّارَةٌ ، اَنْهارُها لامِعَةٌ ، وَ ثَمَراتُها يانِعَةٌ ، ظاهِرُها سُرُورٌ ، وَ باطِنُها غُروُرٌ ، تَاْكُلُكُمْ بِاَضْراسِ الْمَنايا ، وَ تُبيرُكُمْ بِاِتْلافِ الرَّزايا ، لَهَمَّ بِها اَوْلادُ الْمَوْتِ ، وَ اثَروُا زينَتَها ، وَ طَلَبوُا رُتْبَتَها .
جَهِلَ الرَّجُلُ ، وَ مَنْ ذلِكَ الرَّجُلُ ؟ الْمُولِعُ بِلَذَّتِها ، وَ السَّاكِنُ اِلى فَرْحَتِها ، وَ الْأمِنُ لِغَدْرَتِها ، اَلا وَ اِنَّ الدُّنْيا دارَتْ عَلَيْكُمْ بِصُروُفِها ، وَ رَمَتْكُمْ بِسِهامِ حُتُوفِها ، فَهِىَ تَنْزِعُ اَرْواحَكُمْ نَزْعًا ، وَ اَنْتُمْ تَجْمَعوُنَ لَها جَمْعاً ، لِلْمَوْتِ توُلَدوُنَ ، وَ اِلىَ الْقُبوُرِ تُنْقَلُونَ وَ عَلىَ التُّرابِ تَتَوَسَّدُونَ ، وَ اِلىَ الدُّوُدِ تُسَلِّمُونَ ، وَ اِلىَ الْحِسابِ تُبْعَثُونَ .
يا ذَوِى الْحِيَلِ وَ الْأرآءِ ، وَ الْفِقْهِ وَ الْأَنْبآءِ ، اُذْكُرُوا مَصارِعَ الْاَباءِ ، فَكَاَنَّكُمْ بِالنُّفُوسِ قَدْ سُلِبَتْ ، وَ بِالْاَبْدانِ قَدْ عُرِيَتْ ، وَ بِالْمَواريثِ قَدْ قُسِمَتْ ، فَتَصيرُ يا ذَا الدِّلالِ ، وَ الْهَيْئَةِ وَ الْجَمالِ ، اِلى مَنْزِلَةٍ شَعْثآءَ ، وَ مَحَلَّةٍ غَبْرآءَ ، فَتُنَوَّمُ عَلى خَدِّكَ فى لَحْدِكَ ، فى مَنْزِلٍ قَلَّ زُوَّارُهُ ، وَ مَلَّ عُمَّالُهُ ، حَتّى يُشَقَّ عَنِ الْقُبُورِ ، وَ تُبْعَثَ اِلىَ النُّشُورِ ، فَاِنْ خُتِمَ لَكَ بِالسَّعادَةِ صِرْتَ اِلىَ الْحُبوُرِ ، وَ اَنْتَ مَلِكٌ مُطاعٌ ، وَ امِنٌ لا تُراعُ ، يَطوُفُ عَلَيْكُمْ وِلْدانٌ كَاَنَّهُمُ الْجُمانُ بِكَأْسٍ مِنْ مَعينٍ ، بَيْضآءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبينَ .
اَهْلُ الْجَنَّةِ فيها يَتَنَعَّموُنَ ، وَ اَهْلُ النَّارِ فيها يُعَذَّبوُنَ ، هؤُلآءِ فىِ السُّنْدُسِ وَ الْحَريرِ يَتَبَخْتَرُونَ ، وَ هؤُلآءِ فىِ الْجَحيمِ وَ السَّعيرِ يَتَقَلَّبوُنَ ، هؤُلآءِ تُحْشى جَماجِمُهُمْ بِمِسْكِ الْجِنانِ ، هؤُلآءِ يُضْرَبوُنَ بِمَقامِعِ النّيرانِ ، هؤُلآءِ يُعانِقوُنَ الْحوُرَ فىِ الْحِجالِ ، وَ هؤُلآءِ يُطَوَّقوُنَ اَطْواقاً فىِ النَّارِ بِالْاَغْلالِ ، فَلَهُ فَزَعٌ قَدْ اَعْيَى الْأَطْبآءَ وَ بِهِ دآءٌ لا يَقْبَلُ الدَّوآءَ .
يا مَنْ يُسَلَّمُ اِلَى الدُّودِ وَ يُهْدى اِلَيْهِ ، اِعْتَبِرْ بِما تَسْمَعُ وَ تَرى ، وَ قُلْ لِعَيْنِكَ تَجْفوُ لَذَّةَ الْكَرى ، وَ تُفيضُ الدُّموُعَ بَعْدَ الدّموُعِ تَتْرى ، بَيْتُكَ الْقَبْرُ ، بَيْتُ الْأَهْوالِ وَ الْبِلى ، وَ غايَتُكَ الْمَوْتُ يا قَليلَ الْحَيآءِ .
اِسْمَعْ يا ذَا الْغَفْلَةِ وَ التَّصْريفِ ، مِنْ ذَوىِ الْوَعْظِ وَ التَّعْريفِ ، جُعِلَ يَوْم الْحَشْرِ يَوْمَ الْعَرْضِ وَ السُّؤالِ ، وَ الْحِبآءِ وَ النَّكالِ ، وَ يَوْمَ تُقْلَبُ فيهِ اَعْمالُ الْأَنامِ ، وَ تُحْصى فيهِ جَميعُ الْأثامِ ، يَوْمَ تَذوُبُ مِنَ النُّفوُسِ اَحْداقُ عُيُونِها ، وَ تَضَعُ الْحَوامِلُ ما فى بُطوُنِها ، وَ يُفَرَّقُ بَيْنَ كُلِّ نَفْسٍ وَ حَبيبِها ، وَ يَحارُ فى تِلْكَ الْاَهْوالِ عَقْلُ لَبيبِها ، اِذْ تَنَكَّرَتِ الْاَرْضُ بَعْدَ حُسْنِ عِمارَتِها ، وَ تَبَدَّلَتْ بِالْخَلْقِ بَعْدَ اَنيقِ زَهْرَتِها ، وَ اَخْرَجَتْ مِنْ مَعادِنِ الْغَيْبِ اَثْقالَها ، وَ نَفَضَتْ اِلىَ اللَّهِ اَحْمالَها ، يَوْمَ لا يَنْفَعُ الْجِدُّ ، اِذا عايَنُوا الْهَوْلَ الشَّديدَ فَاسْتَكانُوا ، وَ عُرِفَ الْمُجْرِمُونَ بِسيماهُمْ فَاسْتَبانُوا ، فَانْشَقَّتِ الْقُبوُرُ بَعْدَ طوُلِ انْطِباقِها ، وَ اسْتَسْلَمَتِ النُّفوُسُ اِلَى اللَّهِ بِاَسْبابِها ، وَ كُشِفَ عَنِ الْأخِرَةِ غِطآؤُها وَ ظَهَرَ لِلْخَلْقِ اَنْبآؤُها ، فَدُكَّتِ الْأَرْضُ دَكّاً دَكّاً ، وَ مُدَّتْ لِاَمْرٍ يُرادُ بِها مَدّاً مَدّاً ، وَ اشْتَدَّ الْمُثارُونَ اِلَى اللَّهِ شَدّاً شَدّاً ، وَ تَزاحَفَتِ الْخَلآئِقُ اِلَى اللَّهِ زَحْفاً زَحْفاً ، وَ رُدَّ الْمُجْرِموُنَ عَلَى الْأَعْقابِ رَدّاً رَدّاً ، وَ جَدَّ الْاَمْرُ وَيْحَكَ يا اِنْسانُ جَدّاً جَدّاً ، وَ قُرِّبُوا لِلْحِسابِ فَرْداً فَرْداً ، وَ جآءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفّاً صَفّاً ، وَ يَسْأَلُهُمْ عَمَّا عَمِلوُا حَرْفاً حَرْفاً ، وَ جىءَ بِهِمْ عُراةَ الْأَبْدانِ ، خُشَّعاً اَبْصارُهُمْ ، اَمامَهُمُ الْحِسابُ ، وَ مِنْ وَرآئِهِمْ جَهَنَّمُ ، يَسْمَعوُنَ زَفيرَها ، وَ يَرَوْنَ سَعيرَها ، فَلَمْ يَجِدُوا ناصِراً وَ لا وَلِيّاً يُجيرُهُمْ مِنَ الذُّلِّ ، فَهُمْ يَعْدُون سِراعاً اِلى مَواقِفِ الْحَشْرِ يُساقُونَ سَوْقاً ، فَالسَّماواتُ مَطْوِّيَّاتٌ بِيمْنِهِ كَطَىِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ ، وَ الْعِبادُ عَلَى الصِّراطِ ، وَجِلَتْ قُلوُبُهُمْ يَظُنّوُنَ اَنَّهُمْ لا يُسْلَموُنَ ، وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَتَكَلَّمُونَ ، وَ لا يُقْبَلُ مِنْهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ ، قَدْ خُتِمَ عَلى اَفْواهِهِمْ ، وَ اسْتُنْطِقَتْ اَيْديهِمْ وَ اَرْجُلُهُمْ بِما كانوُا يَعْمَلوُنَ .
يا لَها مِنْ ساعَةٍ ما اَشْجا مَواقِعُها مِنَ الْقُلوُبِ حينَ مُيِّزَ بَيْنَ الْفَريقَيْنِ فَريقٌ فىِ الْجَنَّةِ ، وَ فَريقٌ فىِ السَّعيرِ ، مِنْ مِثْلِ هذا فَلْيَهْرَبِ الْهارِبوُنَ ، وَ اِذا كانَتِ الدَّارُ مِثْلَ الْاخِرَةِ فَلَها يَعْمَلِ الْعامِلوُنَ .