العتبة العلوية المقدسة - إن الله أدار للقائم منا ثلاثة من الرسل -
» سيرة الإمام » » المناسبات » من سيرة الامام الصادق عليه السلام » العقائد » إن الله أدار للقائم منا ثلاثة من الرسل

إن الله تبارك وتعالى أدار للقائم منا ثلاثة من الرسل

*- عن سدير الصيرفي ، قال: دخلت أنا والمفضل بن عمر ، وأبوبصير ، وأبان بن تغلب ، على مولانا أبي عبدالله جعفر ابن محمد (عليه السلام) ، فرأيناه جالسا على التراب ، وعليه مسح خيبري مطوق ، بلا جيب ، مقصر الكمين ، وهو يبكي بكاء الواله الثكلى ، ذات الكبد الحرى ، قد نال الحزن من وجنتيه ، وشاع التغير في عارضيه ، وأبلت الدموع محجريه ، وهو يقول: (سيدي ، غيبتك نفت رقادي ، وضيقت علي مهادي ، وابتزت مني راحة فؤادي ، سيدي ، غيبتك وصلت مصابي بفجائع الأبد ، وفقد الواحد بعد الواحد يفني الجمع والعدد ، فما أحس بدمعة ترقأ من عيني ، وأنين يفتر من صدري ، من دوارج الرزايا ، وسوالف البلايا ، إلا مثل بعيني عن غوابر أعظمها وأفظعها ، وبواقي أشدها وأنكرها ، ونوائب مخلوطة بغضبك ، ونوازل معجونة بسخطك).

قال سدير: فاستطارت عقولنا ولها ، وتصدعت قلوبنا جزعا ، من ذلك الخطب الهائل ، والحادث الغائل ، وظننا أنه سمت لمكروهة قارعة ، أو حلت به من الدهر بائقة ، فقلنا: لا أبكى الله - يا بن خير الورى - عينيك ، من أية حادثة تستنزف دمعتك ، وتستمطر عبرتك ، أية حالة حتمت عليك هذا المأتم ! قال: فزفر الصادق (عليه السلام) زفرة انتفخ منها جوفه ، واشتد منها خوفه ، وقال: (ويلكم ، نظرت في كتاب الجفر صبيحة هذا اليوم ، وهو الكتاب المشتمل على علم المنايا والبلايا ، وعلم ما كان وما يكون إلى يوم القيامة ، الذي خص الله به محمدا والأئمة من بعده (عليهم السلام) ، وتأملت فيه مولد غائبنا وغيبته ، وإبطاءه ، وطول عمره ، وبلوى المؤمنين في ذلك الزمان ، وتولد الشكوك في قلوبهم من طول غيبته ، وارتداد أكثرهم عن دينهم ، وخلعهم ربقة الإسلام من أعناقهم ، التي قال الله جل ذكره: (وَكُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ) يعني الولاية ، فأخذتني الرقة ، واستولت علي الأحزان).

فقلنا: يا بن رسول الله ، كرمنا ، وفضلنا بإشراكك إيانا في بعض ما أنت تعلمه من علم ذلك. قال: (إن الله تبارك وتعالى أدار للقائم منا ثلاثة ، من الرسل: قدر مولده تقدير مولد موسى (عليه السلام) ، وقدر غيبته تقدير غيبة عيسى (عليه السلام) ، وقدر إبطاء نوح (عليه السلام) ، وجعل من بعد ذلك عمر العبد الصالح - أعني الخضر (عليه السلام) - دليلا على عمره). فقلنا: اكشف لنا - يا بن رسول الله - عن وجوه هذه المعاني.

قال (عليه السلام): (أما مولد موسى (عليه السلام) ، فإن فرعون لما وقف على أن زوال ملكه على يده ، أمر بإحضار الكهنة ، فدلوه على نسبه ، وأنه يكون من بني إسرائيل ، ولم يزل يأمر أصحابه بشق بطون الحوامل من نساء بني إسرائيل ، حتى قتل في طلبه نيفا وعشرين ألف مولود ، وتعذر عليه الوصول إلى قتل موسى (عليه السلام) بحفظ الله تبارك وتعالى إياه ، وكذلك بنو امية ، وبنو العباس ، لما وقفوا على أن زوال ملكهم ملك الأمراء والجبابرة منهم على يد القائم منا ، ناصبونا العداوة ، ووضعوا سيوفهم في قتل آل الرسول (صلى الله عليه وآله) ، وإبادة نسله ، طمعا منهم في الوصول إلى قتل القائم ، ويأبى الله عز وجل أن يكشف أمره لواحد من الظلمة ، إلا أن يتم نوره ولو كره المشركون.

وأما غيبة عيسى (عليه السلام) ، فإن اليهود والنصارى اتفقت على أنه قتل ، فكذبهم الله عز ذكره بقوله: (وَما قَتَلُوهُ وَما صَلَبُوهُ وَلكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ) ، كذلك غيبة القائم (عليه السلام) ، فإن الامة ستنكرها لطولها ، فمن قائل بغير هدى: إنه لم يولد وقائل يقول: إنه ولد ومات وقائل يكفر ، بقوله: إن حادي عشرنا كان عقيما ، وقائل يمرق ، بقوله: إنه يتعدى إلى ثلاثة عشر ، وصاعدا ، وقائل يعصي الله عز وجل ، بقوله: إن روح القائم تنطق في هيكل غيره.

وأما إبطاء نوح (عليه السلام) ، فإنه لما استنزل العقوبة على قومه من السماء ، بعث الله تبارك وتعالى الروح الأمين (عليه السلام) بسبع نويات ، فقال: يا نبي الله ، إن الله تبارك وتعالى يقول لك: إن هؤلاء خلائقي ، وعبادي ، ولست أبيدهم بصاعقة من صواعقي إلا بعد تأكيد الدعوة ، وإلزام الحجة ، فعاود اجتهادك في الدعوة لقومك ، فإني مثيبك عليه ، واغرس هذه النوى ، فإن لك في نباتها ، وبلوغها ، وإدراكها إذا أثمرت ، الفرج والخلاص ، فبشر بذلك من اتبعك من المؤمنين ، فلما نبتت الأشجار ، وتأزرت ، وتسوقت ، وتغصنت ، وأثمرت ، وزها التمر عليها بعد زمان طويل ، استنجز من الله سبحانه وتعالى العدة ، فأمره الله تبارك وتعالى أن يغرس من نوى تلك الأشجار ، ويعاود الصبر والاجتهاد ، ويؤكد الحجة على قومه ، فأخبر بذلك الطوائف التي آمنت به ، فارتد منهم ثلاث مائة رجل ، وقالوا: لو كان ما يدعيه نوح حقا ، لما وقع في وعد ربه خلف.

ثم إن الله تبارك وتعالى لم يزل يأمره عند كل مرة بأن يغرسها مرة بعد اخرى ، إلى أن غرسها سبع مرات ، فما زالت تلك الطوائف من المؤمنين ترتد منهم طائفة بعد طائفة ، إلى أن عاد إلى نيف وسبعين رجلا ، فأوحى الله‏ تبارك وتعالى عند ذلك إليه ، وقال: يا نوح ، الآن أسفر الصبح عن الليل بعينك ، حين صرح الحق عن محضه ، وصفا الأمر والإيمان من الكدر بارتداد كل من كانت طينته خبيثة ، فلو أني أهلكت الكفار ، وأبقيت من قد ارتد من الطوائف التي كانت آمنت بك ، لما كنت صدقت وعدي السابق للمؤمنين الذين أخلصوا التوحيد من قومك ، واعتصموا بحبل نبوتك ، بأن استخلفهم في الأرض ، وأمكن لهم دينهم ، وابدل خوفهم بالأمن ، لكي تخلص العبادة لي بذهاب الشك من قلوبهم ، وكيف يكون الاستخلاف ، والتمكين ، وبذل الأمن ، مني لهم ، مع ما كنت أعلم من ضعف يقين الذين ارتدوا ، وخبث طينتهم ، وسوء سرائرهم التي كانت نتائج النفاق ، وسنوح الضلالة ؟ فلو أنهم تنسموا من الملك الذي أوتي المؤمنين وقت الاستخلاف ، إذا أهلكت أعداءهم ، لنشقوا روائح صفاته ، ولاستحكمت سرائر نفاقهم ، وتأبدت حبال ضلالة قلوبهم ، ولكاشفوا إخوانهم بالعداوة ، وحاربوهم على طلب الرئاسة ، والتفرد بالأمر والنهي ، وكيف يكون التمكين في الدين ، وانتشار الأمر في المؤمنين ، مع إثارة الفتن ، وإيقاع الحروب ؟ كلا (وَاصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَوَحْيِنا)).

قال: الصادق (عليه السلام): (وكذلك القائم (عليه السلام) ، فإنه تمتد أيام غيبته ، ليصرح الحق عن محضه ، ويصفوا الإيمان من الكدر ، بارتداد كل من كانت طينته خبيثة من الشيعة الذين يخشى عليهم النفاق إذا أحسوا بالاستخلاف والتمكين والأمن المنتشر في عهد القائم (عليه السلام)).

قال المفضل: فقلت: يا ابن رسول الله ، فإن هذه النواصب تزعم أن هذه الآية نزلت في أبي بكر ، وعمر وعثمان ، وعلي (عليه السلام) ؟ فقال: (لا يهدي الله قلوب الناصبة ، متى كان الدين الذين ارتضاه الله ورسوله متمكنا بانتشار الأمن في الأمة ، وذهاب الخوف من قلوبها ، وارتفاع الشك من صدورها ، في عهد واحد من هؤلاء ، وفي عهد علي (عليه السلام) ، مع ارتداد المسلمين ، والفتن التي تثور في أيامهم ، والحروب التي كانت تنشب بين الكفار وبينهم - ثم تلا الصادق (عليه السلام) - (حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا).

وأما العبد الصالح - أعني الخضر (عليه السلام) - فإن الله تبارك وتعالى ما طول عمره لنبوة قدرها له ، ولا لكتاب ينزل عليه ، ولا لشريعة ينسخ بها شريعة من كان قبله من الأنبياء ولا لإمامة يلزم عباده الاقتداء بها ، ولا لطاعة يفرضها له ، بلى ، إن الله تبارك وتعالى لما كان في سابق علمه أن يقدر من عمر القائم (عليه السلام) في أيام غيبته ما يقدر ، علم ما يكون من إنكار عباده مقدار ذلك العمر في الطول ، طول عمر العبد الصالح ، من غير سبب يوجب ذلك ، إلا لعلة الاستدلال به على عمر القائم (عليه السلام) ، وليقطع بذلك حجة المعاندين ، لئلا يكون للناس على الله حجة). ([1])


 



([1])  كمال الدين جذ ص 330