العتبة العلوية المقدسة - خديجة بنت خويلد -
» » سيرة الإمام » المناسبات » خديجة بنت خويلد

خديجة بنت خويلد

فضائل خديجة:

1 ـ عن الصادق عليه السلام  قال : لما توفيت خديجة رضي الله عنها جعلت فاطمة عليها السلام تلوذ برسول الله صلى الله عليه واله  وتدور حوله ، وتقول : أبه أين أمي ؟ قال : فنزل جبرائيل عليه السلام  فقال له : ربك يأمرك أن تقرأ فاطمة السلام وتقول لها : إن أمك في بيت من قصب من ذهب وعمده ياقوت أحمر ، بين آسية بنت مزاحم ومريم بنت عمران ، فقالت فاطمة عليه السلام  : إن الله هو السلام ومنه السلام وإليه السلام ([1]) .

2 ـ عن أبن عباس قال : خط رسول الله صلى الله عليه واله  أربع خطط في الأرض وقال أتدرون ما هذا ؟ قلنا : الله ورسوله أعلم فقال رسول الله صلى الله عليه واله  : أفضل نساء الجنة أربعة : خديجة بنت خويلد ، وفاطمة بنت محمد ومريم بنت عمران ، وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون ([2]) .

3 ـ عن أبي الحسن الأول عليه السلام  قال: قال رسول الله صلى الله عليه واله  : إن الله اختار من النساء أربعا : مريم وآسية وخديجة وفاطمة ([3]) .

4 ـ عن زرارة وحمران ومحمد بن مسلم ،عن أبي جعفر عليه السلام  قال : حدث أبو سعيد الخدري أن رسول الله صلى الله عليه واله  قال : إن جبرائيل عليه السلام  قال لي ليلة أسري بي حين رجعت وقلت : يا جبرائيل هل لك من حاجة ؟ فقال حاجتي أن تقرأ خديجة من الله ومني السلام وحدثنا عند ذلك أنها حين لقاها نبي الله صلى الله عليه واله  فقال لها : الذي قال جبرائيل فقالت : إن الله هو السلام وإليه السلام وعلى جبرائيل السلام ([4]) .

5 ـ عن عبد الله بن جعفر عن علي بن أبي طالب قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله  خير نسائها خديجة وخير نسائها مريم .

6 ـ وعن عبد الله بن جعفر قال : قال رسول الله صلى الله عليه واله  أمرت أن أبشر خديجة ببيت لا صخب فيه ولا نصب ([5]) .

7 ـ وعن عروة بن الزبير قال : توفيت خديجة قبل أن تفرض الصلاة وقال رسول الله صلى الله عليه واله  : أريت بخديجة بيتا من قصب لاصخب فيه ولا نصب

8 ـ وقال ابن هشام : حدثني من أثق به أن جبرائيل أتى الرسول صلى الله عليه واله  فقال : أقرأ خديجة من ربها السلام فقال رسول الله صلى الله عليه واله  : يا خديجة هذا جبرائيل يقرئك من ربك السلام ، فقالت خديجة : الله السلام ، ومنه السلام وعلى جبرائيل السلام ([6]) .

9 ـ وروي أن آدم عليه السلام  قال : إني لسيد البشر يوم القيامة إلا رجل من ذريتي نبي من أنبياء الله يقال له محمد صلى الله عليه واله  ،فضل علي باثنتين : زوجته عاونته وكانت له عونا ، وكانت زوجتي علي عونا ، وان الله أعانه على شيطانه فأسلم ، وكفر شيطاني .

10 ـ وعن عائشة قالت : كان رسول الله إذا ذكر خديجة لم يسأم من الثناء عليها والاستغفار لها : فذكرها  ذات يوم فحملتني الغيرة فقلت : عوضك الله من كبيرة السن ، قالت : فرأيت رسول الله صلى الله عليه واله  غضب غضبا شديدا فسقطت في يدي فقلت ، اللهم إنك إن أذهبت بغضب رسول الله صلى الله عليه واله  لم أعد بذكرها بسوء ما بقيت قالت : فلما رأى رسول الله صلى الله عليه واله  ما لقيت قال : كيف قلت ؟ والله لقد آمنت بي إذ كفر الناس وآوتني إذ رفضني الناس ، وصدقتني إذ كذبني الناس ، ورزقت مني حيث حرمتموه ، قالت : فغدا وراح علي بها شهرا ([7]) .

11 ـ عن عمرو بن شمر ، عن جابر ، عن أبي جعفر عليه السلام  قال : دخل رسول الله صلى الله عليه واله  على خديجة حيث مات القاسم أبنها وهي تبكي فقال لها : ما يبكيك ، فقالت : درت دريرة فبكيت ، فقال :يا خديجة أما ترضين إذا كان يوم القيامة أن تجئ الى باب الجنة وهو قائم فيأخذ بيدك فيدخلك الجنة وينزلك أفضلها ؟ وذلك لكل مؤمن أن الله عز وجل أحكم واكرم أن يسلب المؤمن ثمرة فؤاده ثم يعذبه بعدها أبدا ([8]) .

12 ـ عن عمرو بن شمر عن جابر عن أبي جعفر عليه السلام  قال : توفي طاهر أبن رسول الله صلى الله عليه واله  فنهى رسول الله صلى الله عليه واله  خديجة عن البكاء ، فقالت : بلى يا رسول الله ولكن درت عليه الدريرة فبكيت فقال لها : أما ترضين أن تجديه قائما على باب الجنة ، فإذا رآك أخذ بيدك فأدخلك الجنة أطهرها مكانا وأطيبها ؟ قال : وإن ذلك لك ؟ قال : فإن الله اعز  وأكرم من أن يسلب عبدا ثمرة فؤاده فيصبر ويحتسب ويحمد الله ثم يعذبه ([9]) .

إسلامها :

1 ــ.عن عبد الرحمن بن ميمون ، عن أبيه قال : سمعت ابن عباس يقول : أول من آمن برسول الله صلى الله عليه واله  من الرجال علي عليه السلام  ومن النساء خديجة بنت خويلد عليها السلام ([10]) .

2 ــ.ومنه عن ابن عباس :أن أول من صلى مع رسول الله صلى الله عليه واله بعد خديجة علي عليه السلام  ،وقال مرة أسلم .

3.عن النبي صلى الله عليه واله  قال : حسبك من نساء العالمين مريم بنت عمران وخديجة بنت خويلد وفاطمة بنت محمد وآسية بنت مزاحم امرأة فرعون .

4 ـ عن عبد الله بن أبي أوفى قال : بشر رسول الله صلى الله عليه واله  خديجة ببيت في الجنة لا صخب فيه ولا نصب .

5 ـ وروي أن جبرائيل أتى النبي صلى الله عليه واله  فسأل عن خديجة فلم يجدها ، فقال : إذا جاءت فأخبرها أن ربها يقرؤها السلام .

6 ـ وروى أبو هريرة قال : أتى جبرائيل النبي صلى الله عليه واله  فقال : هذه خديجة قد أتتك معها إناء مغطى فيه أدام أو طعام أو شراب ، فإذا هي أتت فأقرأ عليها السلام من ربها ، ومني السلام وبشرها ببيت في الجنة من قصب لاصخب فيه ولا نصب ([11]) .

7 ـ قال الدولابي : إنه كان من بدء أمر رسول الله   صلى الله عليه واله    أنه رأى في المنام رؤيا فشق عليه ،فذكر ذلك لصاحبته خديجة ، فقالت له : ابشر فأن الله لا يفعل بك إلا خيرا فذكر لها أنه رأى أن بطنه أخرج فطهر وغسل ثم أعيد كما كان ، فقالت : هذا خير فأبشر ، ثم استعلن جبريل فأجلسه على ما شاء الله أن يجلسه عليه وبشره برسالة الله حتى أطمئن ، ثم قال : أقرأ ؟ قال كيف أقرأ ؟ قال : ( اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ  خَلَقَ الْأِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ  اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ ) فقبل رسول الله صلى الله عليه واله  رسالة ربه واتبع الذي جاء به جبرائيل من عند الله ، وانصرف إلى أهله ، فلما دخل على خديجة قال : أرأيت الذي كنت أحدثك ورأيته في المنام فأنه جبرائيل استعلن وأخبرها بالذي جاءه من عند الله وسمع ، فقالت : أبشر يا رسول الله ، فو الله لا يفعل الله بك إلا خيرا ، فاقبل الذي أتاك الله ، وأبشر فإنك رسول الله حقا.

8 ـ وروي مرفوعا إلى الزهري قال : كانت خديجة أول من آمن برسول الله صلى الله عليه واله  .

9 ـ وعن أبن شهاب : أنزل الله على رسوله القرآن والهدى وعنده خديجة بنت خويلد ([12]) .

10 ـ وعن محمد بن اسحاق قال : كانت خديجة أول من آمن بالله ورسوله وصدقت بما جاء من الله ووازرته على أمره ، فخفف الله بذلك عن رسول الله صلى الله عليه واله  وكان لا يسمع شيئا يكرهه من رد عليه وتكذيب له فيحزنه ذلك إلا فرج الله ذلك عن رسول الله صلى الله عليه واله  بها إذا رجع إليها تثبته وتخفف عنه وتهون أمر الناس حتى ماتت رحمها الله ([13]) .

11 ـ وعن إسماعيل بن أبي حكيم مولى آل الزبير أنه حدث عن خديجة أنها قالت لرسول الله صلى الله عليه واله    : أي أبن عم أتستطيع أن تخبرني بصاحبك هذا الذي يأتيك إذا جاءك ؟ قال : نعم قالت : فإذا جاءك فأخبرني ، فجاءه جبرائيل عليه السلام  فقال رسول الله صلى الله عليه واله  خديجة هذا جبرائيل قد جاءني ، قالت قم يا أبن عم فاجلس على فخذي اليسرى ، فقام رسول الله صلى الله عليه واله  فجلس عليها ، قالت : هل تراه ؟ قال : نعم ، قالت : فتحول فاقعد على فخذي اليمنى ، فتحول فقالت : هل تراه؟ قال : نعم ، قالت : فاجلس في حجري ، ففعل ، قالت ك هل تراه؟ قال : لا ، قالت : يا أبن عم أبشر واثبت ، فو الله أنه لملك وما هو بشيطان ، قال : ابن اسحاق : قد حدثت بهذا الحديث عبد الله بن حسن قال : سمعت فاطمة بنت الحسين تحدث بهذا الحديث عن خديجة إلا أني سمعتها تقول : أدخلت رسول الله صلى الله عليه واله  بينها وبين درعها ، فذهب عند ذلك جبرائيل ، فقالت خديجة لرسول الله صلى الله عليه واله  : عن هذا ملك وما هو شيطان  ([14]) .

12 ـ وعن أبن اسحاق أن خديجة بنت خويلد وأبا طالب ماتا في عام واحد ، فتتابع على رسول الله صلى الله عليه واله  هلاك خديجة وأبي طالب ، وكانت وزيرة صدق على الإسلام وكان رسول الله صلى الله عليه واله  يسكن إليها  ([15]) .

13 ـ قال أمير المؤمنين عليه السلام  : ولم يجمع بيت واحد يومئذ الإسلام غير رسول الله صلى الله عليه واله  وخديجة وأنا ثالثهما ([16]) .

        منزلتها عند النبي صلى الله عليه واله  :

1 ـ وروي أن عجوزا دخلت على النبي صلى الله عليه واله  فألطفها فلما خرجت سألته عائشة فقال : إنها كانت تأتينا في زمن خديجة ، ومن حسن العهد من الأيمان ([17]) .

2 ـ وعن علي عليه السلام  قال : ذكر النبي صلى الله عليه واله  خديجة يوما وهو عند نسائه فبكى ، فقالت عائشة : ما يبكيك على عجوز حمراء من عجائز بني أسد ؟ فقال : صدقتني إذ كذبتم ، وآمنت بي إذ كفرتم ، وولدت لي إذ عقمتم ، قالت عائشة : فما زلت أتقرب إلى رسول الله صلى الله عليه واله  بذكرها ([18]) .

3 ـ عن أبي عبد الله عليه السلام  قال : دخل رسول الله صلى الله عليه واله  منزله فإذا عائشة مقبلة على فاطمة تصايحها وهي تقول : والله يا بنت خديجة  ما ترين إلا أن لأمك فضلا علينا ، وأي فضل كان لها علينا ؟! ما هي إلا كبعضنا ، فسمع مقالتها لفاطمة عليها السلام  فلما رأت فاطمة عليها السلام  رسول الله صلى الله عليه واله  بكت فاطمة عليها السلام  ، فقال : ما يبكيك يا بنت محمد ؟! قلت : ذكرت أمي فتنقصتها فبكيت فغضب رسول الله صلى الله عليه واله  ثم قال : يا حميراء ، فإن الله تبارك وتعالى بارك في الولود الودود ، وإن خديجة ولدت مني طاهرا وهو عبد الله وهو  المطهر ، وولدت مني القاسم وفاطمة ورقية وأم كلثوم وزينب ، وأنت أعقم الله رحمه فلم تلدي شيئا  ([19]) .

زواجها

1 ـ تزوج النبي صلى الله عليه واله  بخديجة وهو أبن خمسة وعشرين سنة وتوفيت بعد أبو طالب بثلاثة أيام ([20]) .

2 ـ روي عن سبب تزويج خديجه من محمد صلى الله عليه واله  أن أبو طالب قال : يا محمد أريد أن أزوجك ولا مال لي أساعدك به وأن خديجة قرابتنا وتخرج كل سنة قريشا في مالها مع غلمانها يتجر بها ويأخذ وقر بعير مما أتى به ، فهل لك أن تخرج ؟ فقال : نعم ، فخرج أبو طالب إليها وقال لها ذلك ففرحت وقالت لغلامها ميسرة : أنت وهذا المال كله بحكم محمد صلى الله عليه واله  فلما رجع ميسرة حدث أنه ما مر بشجر أو مر بشجرة ولا مدرة إلا وقالت : السلام عليك يا رسول الله ، وقال : جاء بحيرا الراهب ، وخدمنا لما رأى الغمامة على رأسه تسير حيثما سار تظله بالنهار ، وربحا في ذلك السفر ربحا كثيرا ، فلما أنصرفا قال ميسرة : لو تقدمت يا محمد إلى مكة وبشرت خديجة بما قد ربحنا لكان أنفع لك ، فتقد محمد على راحلته ، فكانت خديجة في ذلك اليوم جالسة على غرفة مع نسوة فظهر محمد راكبا ، فنظرت خديجة إلى غمامة عالية على رأسه تسير مسيره ، ورأت ملكين عن يمينه وعن شماله في يد كل واحد سيف مسلول ، يجيئان في الهواء معه فقالت : إن لهذا الراكب لشأن عظيما ليته جاء إلى داري ، فإذا هو محمد صلى الله عليه واله  قاصدا إلى دارها فنزلت حافية إلى باب الدار وكانت إذا أرادت التحول من مكان إلى مكان حولت الجواري السرير الذي كانت عليه ، فلما دنت منه قالت : يا محمد أخرج واحضرني عمك أبو طالب الساعة ، وقد بعثت إلى عمها أن زوجني محمدا إذا دخل عليك ، فلما حضر أبو طالب قالت : أخرجا إلى عمي ليزوجني من محمد فقد قلت له في ذلك فدخلا على عمها وخطب أبو طالب الخطبة المعروفة ، وعقد النكاح فلما قام محمد صلى الله عليه واله  ليذهب مع أبي طالب قالت خديجة : إلى بيتك فبيتي بيتك وأنا جاريتك ([21]) .

3 ـ زوج أبو طالب خديجة من محمد صلى الله عليه واله  وذلك أن نساء قريش قد اجتمعن في المسجد في عيد ، وإذا بيهودي يقول : ليوشك أن يبعث فيكن نبي ، فأيكن استطاعت أن تكون له أرضا يطأها فلتفعل ، فحصبنه وقر ذلك القول في قلب خديجة وكان النبي  صلى الله عليه واله   قد استأجرته خديجة على أن تعطيه بكرين ويسير مع غلامها ميسرة إلى الشام ، فلما أقبلا في سفرهما نزل النبي صلى الله عليه واله  تحت شجرة فرآه راهب يقال له نسطور ، فاستقبله وقبل يديه ورجليه وقال :  أشهد أن لا إله إلا الله وأشهد أن محمدا رسول الله ، لما رأى  منه علامات ، وأنه نزل تحت الشجرة ، ثم قال لميسرة : طاوعه في أوامره ونواهيه فأنه نبي ، والله ما جلس هذا المجلس بعد عيسى عليه السلام   أحد غيره ، ولقد بشر به عيسى عليه السلام  ، [وَإِذْ قَالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يَا بَنِي إِسْرائيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِمَا بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْرَاةِ وَمُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جَاءَهُمْ بِالْبَيِّنَاتِ قَالُوا هَذَا سِحْرٌ مُبِينٌ ] وهو يملك الأرض بأسرها ، وقال ميسرة : يا محمد لقد جزنا عقبات كثيرة بليلة كنا نجوزها بأيام كثيرة وربحنا في هذه السفرة ما لم نربح من أربعين سنة ببركتك يا محمد ، فاستقبل خديجة ، وأبشرها بربحنا وكانت وقتئذ جالسة في منظر لها ، فرأت راكبا عن يمينه ملك مسلط سيفه وفوقه سحابة معلق عليها قنديل من زبرجدة وحوله قبه من ياقوته حمراء فظنت أنه ملك ياتي لخطبتها فقالت اللهم إلي وإلى داري فلما أتى كان محمد وبشرها بالأرباح فقالت واين ميسرة ؟ قال : يقفو أثري قالت فارجع إليه وكن معه ومقصودها لتستيقن حالة السحابة ، فكانت السحابة تمر معه فأقبل ميسرة  إلى خديجة وأخبرها بحاله وقال لها : إني كنت أكل معه حتى يشبع ويبقى الطعام كما هو وكنت أرى وقت الهاجرة ملكين يظللانه فدعت خديجة بطبق عليه رطب ، ودعت رجالا ورسول الله صلى الله عليه واله  فأكلوا حتى شبعوا ولم ينقص شيئا فأعتقت ميسرة وأولاده وأعطته عشرة آلاف درهم لتلك البشارة ، ورتبت الخطبة من عمرو بن أسد عمها  ([22]) .  

         فقال : الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم الخليل ومن ذرية الصفي إسماعيل وصئصئ معد ، وعنصر مضر ، وجعلنا حضنة بيته وسواس حرمه وجعل مسكننا بيتا محجوجا وحرما آمنا وجعلنا الحكام على الناس ثم إن ابن أخي هذا محمد بن عبد الله لا يوازن برجل من قريش إلا رجح به ، ولا يقاس بأحد منهم إلا عظم عنه ، وإن كان بالمال فإن المال ورق حائل وظل زائل ، وله والله خطب عظيم  ، ونبأ شائع وله رغبة في خديجة ولها فيه رغبة فزوجوه والصداق ما سألتموه عاجلة وآجله فقال خويلد : زوجناه ورضينا به .

وروي أنه قال بعض قريش :يا عجبا أيمهر النساء الرجال ، فغضب أبو طالب وقال : إذا كانوا مثل أبن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان  إذا كانوا أمثالكم لم تزوجوا إلا بالمهر الغالي فقال رجل من قريش يقال له بن غنم :

هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت

 

لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوجته خير البرية كلها

 

ومن ذا الذي في الناس مثل محمد ؟

وبشر به المرء آن عيسى بن مريم

 

وموسى بن عمران فيا قرب موعد

أقرت به الكتاب قدما بأنه

 

رسول من البطحاء هاد ومهتد ([23])

4 ـ خرج النبي صلى الله عليه واله  إلى الشام في تجارة لخديجة وله خمسة وعشرين سنة وتزوج بها بعد أشهر ن قال الكليني : تزوج خديجة وهو ابن بضع وعشرين سنة ولبث بها أربعا وعشرين سنة وأشهرا ، وبنيت الكعبة ورضيت قريش بحكمه وهو ابن خمس وثلاثين سنة ([24]) .  

5 ـ  وروي أن خديجة رضوان الله عليها كانت تكنى بأم هند .

6 ـ وعن ابن عباس أن عم خديجة عمرو بن أسد زوجها رسول الله صلى الله عليه واله  وأن اباها مات قبل الفجار .

7 ـ وعن ابن عباس أنه تزوجها صلى الله عليه واله  وهي أبنة ثماني وعشرين سنة ومهرها أثني عشرة أوقية ، وكذلك كانت مهور نساؤه وقيل : إنها ولد قبل الفيل بخمسة عشر سنة وتزوجها رسول الله صلى الله عليه واله  وهي بنت أربعين سنة ورسول الله صلى الله عليه واله  ابن خمس وعشرين سنة ([25]) .

8 ـ ومن حديث عفيف ورؤيته النبي صلى الله عليه واله  وخديجة وعليا يصلون حين قدم تاجرا إلى العباس وقوله : لا والله ما علمت على ظهر الأرض كلها على هذا الدين غير هؤلاء الثلاثة .

9 ـ وقال ابن سعد يرفعه إلى حكم بن حزام : قال : توفيت خديجة في شهر رمضان سنة عشرة من النبوة وهي أبنة خمس وستون سنة فخرجنا بها من منزلها حتى دفناها في الحجون ، فنزل رسول الله صلى الله عليه واله  في حفرتها ولم يكن يومئذ صلاة على الجنازة  ، قيل : ومتى ذلك ؟ يا أبا خالد ؟ قال : قبل الهجرة بسنوات ثلاث أو نحوها ، وبعد خروج بني هاشم من الشعب بيسير ، قال : فكانت أول إمرأة تزوجها رسول الله صلى الله عليه واله  وأولاده كلهم منها إلا إبراهيم فأنه من مارية القبطية  ([26]) .

10 ـ عن ابي عبد الله عليه السلام  قال : لما أراد رسول الله صلى الله عليه واله  أن يتزوج من خديجة بنت خويلد أقبل أبو طالب في نفر من قريش حتى دخل على ورقة بن نوفل  بن عم خديجة فأبتدأ أبو طالب بالكلام فقال : الحمد لرب هذا البيت الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وأنزلنا حرما آمنا ، وجعلنا الحكام على الناس ، وبارك لنا في بلدنا الذي نحن فيه ثم إن أبن أخي هذا (يعني محمدا صلى الله عليه واله  )ممن لا يوزن برجل من قريش إلا رجح به ، ولا يقاس به رجل إلا عظم عنه ولا عدل له في الخلق ، وان كان مقلا في المال فإن المال رفد جار وظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة ، وقد جئناك لنخطبها  اليك برضاها  وأمرها ، والمهر علي في مالي الذي سألتموه عاجله وآجله ، وله ورب هذا البيت حظ عظيم ، ودين شائع ، ورأي كامل ، ثم سكت أبو طالب فتكلم عمها فتلجلج ، وقصر عن جواب أبي طالب وأدركه القطع والبهر ، وكان رجلا من القسيسين فقالت خديجة مبتدئه يا عماه إنك وإن كنت أولى بنفسي مني في الشهود فلست أولى مني بي من نفسي ، قد زوجتك يا محمد نفسي والمهر علي في مالي ، فأمر عمك فلينحر ناقة فليولم بها ، وادخل على أهلك قال أبو طالب : أشهدوا عليها بقبولها محمدا وضمانها المهر في مالها فقال بعض قريش : يا عجباه المهر على النساء للرجال ؟ فغضب أبو طالب غضبا شديدا وقام على قدميه وكان ممن يهابه الرجال ويكره غضبه فقال : إذا كانوا مثل أبن أخي هذا طلبت الرجال بأغلى الأثمان وأعظم المهر ، وإذا كانوا أمثالكم لم يزوجوا إلا بالمهر الغالي ، ونحر أبو طالب ناقة ودخل رسول الله صلى الله عليه واله  بأهله فقال رجل من قريش يقال له عبد الله بن غنم :

هنيئا مريئا يا خديجة قد جرت

 

لك الطير فيما كان منك بأسعد

تزوجته خير البرية كلها

 

ومن ذا الذي في الناس مثل محمد ؟

وبشر به المرء آن عيسى بن مريم

 

وموسى بن عمران فيا قرب موعد

أقرت به الكتاب قدما بأنه

 

رسول من البطحاء هاد ومهتد ([27])

11 ـ خطب أبو طالب رضي الله عنه لما تزوج النبي صلى الله عليه واله  خديجة بنت خويلد رحمها الله بعد أن خطبها إلى أبيها ومن الناس من يقول إلى عمها ، فاخذ بعضادتي الباب ومن شاهده من قريش من الحضور فقال : الحمد لله الذي جعلنا من زرع إبراهيم وذرية إسماعيل وجعل لنا بيتا محجوجا وحرما آمنا يجبى إليه ثمرات كل شيء وجعلنا الحكام على الناس في بلدنا الذي نحن فيه ثم إن أبن آخي محمد بن عبد الله بن عبد المطلب لا يوزن برجل من قريش إلا رجح ، ولا يقاس بأحد منهم إلا عظم عنه ، وإن كان في قل المال رزق حائل وظل زائل وله في خديجة رغبة ولها فيه رغبة والصداق ما سألتم عاجله وآجله من مالي وله خطر عظيم وشأن رفيع ، ولسان شافع جسيم فلما أتم أبو طالب خطبته تكلم ورقة بن نوفل فقال : الحمد لله الذي جعلنا كما ذكرت ، وفضلنا كما علمت فنحن سادة العرب وقادتها ، وأنتم أهل ذلك كله ، لا تنكر العشيرة فضلكم ولا يرد أحد من الناس فخركم وشرفكم وقد رغبنا بالاتصال بحبلكم وشرفكم ، فاشهدوا علي معاشر قريش بأني زوجت خديجة بنت خويلد بنت أخي من محمد بن عبد الله على أربعمائة دينار ، ثم سكت ورقة ، وتكلم أبو طالب وقال أحببت أن يشركك عمها فقال عمها اشهدوا معشر قريش إني أنكحت محمد بن عبد الله خديجة بنت خويلد وشهد بذلك صناديد قريش ، فأمرت خديجة جواريها أن يرقصن ويضربن بالدفوف وقالت : يا محمد عمك أبو طالب ينحر بكرة من بكراتك أطعم الناس على الباب وهلم فقل مع أهلك فأطعم الناس ودخل رسول الله صلى الله عليه واله  فقال مع أهله خديجة ([28]).

متاجرة رسول الله صلى الله عليه واله  بمالها

1.ـ عن محمد بن اسحاق قال :كانت خديجة بنت خويلد امرأة  تاجرة ذات شرف ومال تستأجر الرجال في مالها وتضاربهم إياه بشيء تجعله لهم منه وكانت قريش قوما تجارا فلما بلغها عن رسول الله صلى الله عليه واله  صدق حديثه وعظيم أمانته وكرم أخلاقه بعثت إليه وعرضت عليه أن يخرج في مالها تاجرا إلى الشام وتعطيه افضل ما كانت تعطي غيره من التجار مع غلام لها يقال له ميسرة فقبله رسول الله صلى الله عليه واله  وخرج في مالها ذلك ومعه غلامها ميسرة حتى قدم الشام فنزل رسول الله صلى الله عليه واله  في ظل شجرة قريبا من صومعة راهب ، فاطلع الراهب إلى ميسرة فقال : من هذا الرجل الذي نزل تحت هذه الشجرة؟ فقال ميسرة :هذا رجل من قريش من أهل الحرم ، فقال له الراهب : ما نزل تحت هذه الشجرة إلا نبي ، ثم باع رسول الله صلى الله عليه واله  سلعته التي خرج بها واشترى ما أراد أن يشتري ثم اقبل قافلا إلى مكة ومعه ميسرة فيما يزعمون قال : إذا كانت الهاجرة واشتد الحر نزل ملكان يظلانه من الشمس وهو يسير على بعيره فلما قدم مكة على خديجة بمالها باعت ما جاء به فأضعف أو قريبا وحدثها ميسرة عن قول الراهب وعما كان يرى من إظلال الملكين فبعثت إلى رسول الله صلى الله عليه واله  فقالت له يزعمون : يا أبن عم قد رغبت فيك لقرابتك مني وشرفك في قومك وأمانتك عندهم وسلطتك فيهم وحسن خلقك وصدق حديثك ، ثم عرضت عليه نفسها ، وكانت خديجة امرأة حازمة لبيبة وهي يومئذ اوسط قريش نسبا وأعظمهم شرفا وأكثرهم مالا وكل قومها قد كان حريصا على ذلك لو يقدر عليه فلما قالت لرسول الله صلى الله عليه واله  ما قالت ذكر ذلك لأعمامه فخرج معه منهم حمزة بن عبد المطلب حتى دخل على خويلد بن أسد فخطبها فتزوجها رسول الله صلى الله عليه واله  ([29]).

2.ـ وروى بإسناد عن ابن شهاب الزهري قال : لما استوى رسول الله صلى الله عليه واله  وبلغ أشده وليس له كثير مال استأجرته خديجة بنت خويلد إلى سوق حباشة ، وهو سوق بتهامة ، واستأجرت معه رجلا آخر من قريش فقال رسول الله صلى الله عليه واله  : ما رأيت من صاحبة لأجير خيرا من خديجة  ، ما كنا نرجع أنا وصاحبي إلا وجدنا عندها تحفة من طعام تخبأه لنا  ([30]).

3.ـ قال الكازروني في المنتقى : روي أن خزيمة بن حكيم السلمي كانت بينه وبين خديجة بنت خويلد رضي الله عنها قرابة ، وانه قدم عليها وكان إذا قدم عليها أصابته بخير ، فوجهته مع رسول الله صلى الله عليه واله  وغلام لها يقال له : ميسرة في تجارة إلى بصرى من أرض الشام ، فأحب خزيمة رسول الله صلى الله عليه واله  حبا شديدا ، فكان لا يفارقه في نومه ولا في يقظته فساروا حتى صاروا بين الشام والحجاز قام على ميسرة بعيران لخديجة وكان رسول الله صلى الله عليه واله   في أول  الركب فخاف ميسرة على نفسه وعلى البعيرين فانطلق يسعى إلى رسول الله  صلى الله عليه واله  فأخبره بذلك فاقبل النبي صلى الله عليه واله  إلى البعيرين فوضع يده على أخفافهما وعوذهما فانطلق البعيران يسعيان في أول الركب لهما رغاء فلما رأى خزيمة ذلك علم أن له شانا عظيما فحرص على لزومه ومحافظته وساروا حتى إذا دخلوا الشام ،نزلوا براهب من رهبان الشام ، فنزل رسول الله صلى الله عليه واله  تحت شجرة ونزل الناس متفرقين   ، وكانت الشجرة التي نزل تحتها يابسة قحلة ، قد تساقط ورقها ، ونخر عودها فلما نزل رسول الله صلى الله عليه واله  وأطمأن تحتها أنورت وأشرقت واعشوشب ما حولها ، وأينع ثمرها ، وتدلت أغصانها ، فرفرفت على رسول الله صلى الله عليه واله  وكان ذلك بعين الراهب فلم يتمالك أن انحدر من صومعته فقال : سألتك بالات والعزى ، فقال :إليك عني ثكلتك أمك فما تكلمت العرب بكلمة أثقل علي من هذه الكلمة ، وكان ذلك مكرا من الراهب ، وكان معه حين نزل من صومعته رق أبيض ، فجعل ينظر فيه مرة وعلى النبي اخرى ، ثم أكب ينظر فيه مليا ، فقال : هو هو ومنزل الأنجيل ، فلما سمع بذلك خزيمة ظن أن الراهب يريد بالنبي صلى الله عليه واله  مكرا فضرب بيده إلى قائمة سيفه فانتزعه وجعل يصيح بأعلى صوته : يا آل غالب فأقبل الناس يهرعون إليه من كل ناحية يقولون : ما الذي راعك ؟ فلما نظر الراهب إلى ذلك أقبل يسعى إلى صومعته فدخلها وأغلق عليه بابها ، ثم أشرف عليهم فقال : يا قوم ما الذي راعكم مني ؟ فو الذي رفع السماوات بغير عمد ما نزل بي ركب هو أحب إلي منكم واني لأجد في هذه الصحيفة أن النازل تحت هذه الشجرة وأوما بيده إلى الشجرة التي تحتها رسول الله صلى الله عليه واله  هو رسول رب العالمين ، يبعث بالسيف المسلول ، وبالذبح الأكبر وهو خاتم النبيين فمن أطاعه نجا ، ومن عصاه غوى ، ثم اقبل على خزيمة فقال : ما تكون من هذا الرجل ؟ أرجلا من قومه ؟ قال لا ، ولكن خادم له وحدثه بحديث البعيرين فقال الراهب : أيها الرجل إنه النبي الذي يبعث في آخر الزمان ، واني مفوض إليك أمرا ، مستكتمك خبرا ، وعاهد إليك عهدا ، فقال : وما هو ؟ فاني سامع لقولك وكاتم لسرك ومطيع لأمرك ، فقال : إني أجد في هذه الصحيفة أنه يظهر على البلاد وينصر على العباد ولا ترد له راية ولا تدرك له غاية وإن له أعداء أكثرهم اليهود أعداء الله فأحذرهم عليه ، فأسر خزيمة ذلك في نفسه ، ثم أقبل على رسول الله صلى الله عليه واله  فقال : يا محمد إني لأرى فيك شيئا ما رأيته في أحد من الناس إني لأحسبك النبي الذي يذكر أنه يخرج من تهامة ، وأنك صريح في ميلادك والأمين في أنفس قومك ، وأني لأرى عليك من الناس محبة وإني مصدقك في قولك ، وناصرك على عدوك ، فانطلقوا يؤمون الشام ، فقضوا  بها حوائجهم ، ثم رجعوا ، ثم قال : فأرسلت خديجة إلى عمها عمرو بن أسد ليزوجها فحضر ، ودخل رسول الله صلى الله عليه واله  في عمومته فتزوجها وهو أبن خمس وعشرين سنة وخديجة يومئذ بنت أربعين سنة ([31]) .

وقد روى قوم أنه زوجها أبوها في حال سكره قال الواقدي : هذا غلط والصحيح أن عمها زوجها وأن أباها مات قبل الفجار .

حديث البكري

1 ـ قال أبوالحسن البكري في كتاب الانوار : مر النبي صلى الله عليه واله يوما بمنزل خديجة بنت خويلد ، وهي جالسة في ملا من نسائها وجواريها وخدمها ، وكان عندها حبر من أحبار اليهود ، فلما مر النبي صلى الله عليه واله نظر إليه ذلك الحبر وقال : يا خديجة اعلمي أنه قد مر الآن ببابك شاب حدث السن ، فأمري من يأتي به ، فأرسلت إليه جارية من جواريها ، وقالت : يا سيدي مولاتي تطلبك ، فأقبل ودخل منزل خديجة ، فقالت :أيها الحبر هذا الذي أشرت إليه ، قال : نعم هذا محمد بن عبدالله ، قال له الحبر : اكشف لي عن بطنك ، فكشف له ، فلما رآه قال : هذا والله خاتم النبوة ، فقالت له خديجة : لو رآك عمه وأنت تفتشه لحلت عليك منه نازلة البلاء ، وإن أعمامه ليحذرون عليه من أحبار اليهود ، فقال الحبر : ومن يقدر على محمد هذا بسوء ، هذا وحق الكليم رسول الملك العظيم في آخر الزمان ، فطوبى لمن يكون له بعلا ، وتكون له زوجة وأهلا ، فقد حازت شرف الدنيا والآخرة ، فتعجبت خديجة ، وانصرف محمد وقد اشتغل قلب خديجة بنت خويلد بحبه ، وكانت خديجة ملكة عظيمة ، وكان لها من الاموال والمواشي شئ لا يحصى ، فقالت : أيها الحبر بم عرفت محمدا أنه نبي ؟ قال : وجدت صفاته في التوارة ، إنه المبعوث آخر الزمان ، يموت أبوه وامه ، ويكفله جده وعمه ، وسوف يتزوج بامرأة من قريش سيدة قومها ، وأميرة عشيرتها ، وأشار بيده إلى خديجة ، ثم بعد ذلك قال لها : احفظي ما أقول لك يا خديجة وأنشأ يقول :

يا خديجة لا تنسي الآن قولي

 

وخذي منه غاية المحصول

يا خديجة هذا النبي بلا شك

 

هكذا قد قرأت في الانجيل

سوف يأتي من الاله بوحي

 

ثم يجيئ من الاله بالتنزيل

ويزوجه بالفخار ويحظى

 

في الورى شامخا على كل جيل

 

فلما سمعت خديجة ما نطق به الحبر تعلق قلبها بالنبي صلى الله عليه واله ، وكتمت أمرها ، فلما خرج من عندها قال : اجتهدي أن لا يفوتك محمد ، فهو الشرف في الدنيا والآخرة ، وكان لخديجة عم يقال له : ورقة ، وكان قد قرأ الكتب كلها ، وكان عالما حبرا ، وكان يعرف صفات النبي الخارج في آخر الزمان ، وكان عند ورقة أنه يتزوج بامرأة سيدة من قريش ، تسود قومها ، وتنفق عليه مالها ، وتمكنه من نفسها ، وتساعده على كل الامور ، فعلم ورقة أنه ليس بمكة أكثر مالا من خديجة ، فرجا ورقة أن تكون ابنة أخيه خديجة ، وكان يقول لها : يا خديجة سوف تتصلين برجل يكون أشرف أهل الارض والسماء ، وكان لخديجة في كل ناحية عبيد ومواشي حتى قيل : إن لها أزيد من ثمانين ألف جمل متفرقة في كل مكان ، وكان لها في كل ناحية تجارة ، وفي كل بلد مال ، مثل مصر والحبشة وغيرها ، وكان أبوطالب رضي الله عنه قد كبر وضعف عن كثرة السفر ، وترك ذلك من حيث كفل النبي صلى الله عليه واله ، فدخل عليه النبي صلى الله عليه واله ذات يوم فوجده مهموما ، فقال : ما لي أراك يا عم مهموما ؟ فقال : يا ابن أخي اعلم أنه لا مال لنا ، وقد اشتد الزمان علينا ، وليس لنا مادة ، وأنا قد كبرت ، وضعف جسمي ، وقل ما بيدي ، واريد أن أنزل إلى ضريحي ، واريد أن أرى لك زوجة تسر قلبي يا ولدي لتسكن إليها ، ومعيشة يرجع نفعها إليك ، فقال له النبي صلى الله عليه واله : ما عندك يا عم من الرأي ؟ قال : اعلم يابن أخي أن هذه خديجة بنت خويلد قد انتفع بمالها أكثر الناس ، وهي تعطي مالها سائر من يسألها التجارة ، ويسافرون به ، فهل لك يا ابن أخي أن تمضي معي إليها ونسألها أن تعطيك مالا تتجر فيه ، فقال : نعم ، قم إليها وافعل ما بدا لك .

قال أبوالحسن البكري : لما اجتمع بنو عبدالمطلب قال أبوطالب لاخوته : امضوا بنا إلى دار خديجة بنت خويلد حتى نسألها أن تعطي محمدا مالا يتجر به ، فقاموا من وقتهم وساعتهم وساروا إلى دار خديجة ، وكان لخديجة دار واسعة تسع أهل مكة جميعا ، وقد جعلت أعلاها قبة من الحرير الازرق ، وقد رقمت في جوانبها صفة الشمس والقمر والنجوم ، وقد ربطته من حبال الابريسم  وأوتاد من الفولاذ ، وكانت قد تزوجت برجلين أحدهما اسمه أبوشهاب وهو عمرو الكندي ، والثاني اسمه عتيق بن عائذ ، فلما ماتا خطبها عقبة بن أبي معيط ، والصلت بن أبي يهاب ، وكان لكل واحد منهما أربعمأة عبد وأمة ، وخطبها أبوجهل بن هشام وأبوسفيان ، وخديجة لا ترغب في واحد منهم ، وكان قد تولع قلبها بالنبي صلى الله عليه واله لما سمعت من الاحبار والرهبان والكهان ، وما يذكرونه من الدلالات ، وما رأت قريش من الآيات ، فكانت تقول : سعدت من تكون لمحمد قرينة ،

فإنه يزين صاحبه ، وازداد بها الوجد ، ولج بها الشوق ، فبعثت إلى عمها ورقة ابن نوفل فقالت له : يا عم اريد أن أتزوج وما أدري بمن يكون ، وقد أكثر علي الناس وقلبي لا يقبل منهم أحدا ، فقال لها ورقة : يا خديجة ألا اعلمك بحديث غريب وأمر عجيب ؟ قالت : وما هو يا عم ؟ قال : عندي كتاب من عهد عيسى عليه السلام فيه طلاسم وعزائم ، أعزم بها على ماء وتأخذينه وتغسلين به ، ثم أكتب كتابا فيه كلمات من الزبور ، وكلمات من الانجيل ، فتضعيه تحت رأسك عند النوم وأنت على فراشك ملتفة بثيابك ، فإن الذي يكون زوجك يأتيك في منامك حتى تعرفيه باسمه وكنيته ، فقالت : افعل يا عم ، قال : حبا وكرامة ، وكتب الكتاب ، وأعطاها إياه ، وفعلت ما أمرها به ونامت فرأت كأن قد جاء إليها رجل لا بالطويل الشاهق ، ولا بالقصير اللاذق ، أدعج العينين ، أزج الحاجبين ، أحور المقلتين ، عقيقي الشفتين ، مورد الخدين ، أزهر اللون ، مليح الكون ، معتدل القامة ، تظله الغمامة ، بين كتفيه علامة ، راكب على فرس من نور ، مزمم بسلسلة من ذهب ، على ظهره سرج من العقيان ، مرصع بالدر والجوهر ، له وجه كوجه الآدميين منشق الذنب ، له أرجل كالبقر ، خطوته مد البصر ، وهو يرقل بالراكب ، وكان خروجه من دار أبي طالب ، فلما رأته خديجة ضمته إلى صدرها ، وأجلسته في حجرها ، ولم تنم باقي ليلتها إلى أن أقبلت إلى عمها ورقة ، وقالت : أنعمت صباحا يا عم ، قال : وأنت لقيت نجاحا ، فلعلك رأيت شيئا في منامك ، قالت : رأيت رجلا صفته كذا وكذا ، فعندها قال ورقة : يا خديجة إن صدقت رؤياك تسعدين وترشدين ، فإن الذي رأيته متوج بتاج الكرامة ، الشفيع في العصاة يوم القيامة ، سيد العرب والعجم ، محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب ابن هاشم ، قالت : وكيف لي بما تقول يا عم وأنا كما يقول الشاعر :

أسير إليكم قاصدا لازوركم

 

وقد قصرت بي عند ذاك رواحلي



وملك الاماني خدعة غير أنني

 

اعلل حد الحادثات بباطل

احمل برق الشرق شوقا إليكم

 

وأسأل ريح الغرب رد رسائلي

قال : فزاد بها الوجد ، وكانت إذا خلت بنفسها فاضت عبرتها أسفا ، وجرت دمعتها لهفا ، وهي تقول :

كم أستر الوجد والاجفان تهتكه

 

واطلق الشوق والاغضاء تمسكه

جفاني القلب لما أن تملكه

 

غيري فوا أسفا لو كنت أملكه

ما ضر من لم يدع مني سوى رمقي

 

لو كان يمسح بالباقي فيتركه

قال الراوي : وأعجب ما رأيت في هذا الامر العجيب والحديث الغريب أن خديجةلم تفرغ من شعرها إلا وقد طرق الباب ، فقالت لجاريتها : انزلي وانظري من بالباب ،لعل هذا خبر من الاحباب ، ثم أنشأ يقول :

أيا ريح الجنوب لعل علم

 

من الاحباب يطفى بعض حري

ولم لا حملوك إلي منهم

 

سلاما أشتريه ولو بعمري

وحق ودادهم إني كتوم

 

وإني لا أبوح لهم بسري

أراني الله وصلهم قريبا

 

وكم يسر أتى من بعد عسر

فيوم من فراقكم كشهر

 

وشهر من وصالكم كدهر

قال : ثم نزلت الجارية وإذا أولاد عبدالمطلب بالباب ، فرجعت إلى خديجة و قالت : يا سيدتي إن بالباب سادات العرب ، ذوي ( 2 ) المعالي والرتب ، أولاد عبدالمطلب ،فرمقت خديجة رمق الهوى ، ونزل بها دهش الجوى ، وقالت : افتحي لهم الباب ،وأخبري ميسرة يعتد لهم المساند والوسائد ، فإني أرجو أن يكونوا قد أتوني بحبيبي محمد ، ثم قالت شعرا :

ألذ حياتي وصلكم ولقاكم

 

ولست ألذ العيش حتى أراكم

وما استحسنت عيني من الناس غيركم

 

ولا لذ في قلبي حبيب سواكم

على الرأس والعينين جملة سعيكم

 

ومن ذا الذي في فعلكم قد عصاكم

فها أنا محسوب عليكم بأجمعي

 

وروحي ومالي يا حبيبي فداكم

وما غيركم في الحب يسكن مهجتي

 

وإن شئتم تفتيش قلبي فهاكم

قال صاحب الحديث : وبسط لهم ميسرة المجلس بأنواع الفرش فما استقر بالقوم الجلوس إلا وقد قدم لهم أصناف الطعام والفواكه من الطائف والشام ، فأكلوا وأخذوا في الحديث ، فقالت لهم خديجة من وراء الحجاب بصوت عذب ، وكلام رطب : يا سادات مكة أضاءت بكم الديار ، وأشرقت بكم الانوار ، فلعل لكم حاجة فتقضى ، أو ملمة فتمضى ، فإن حوائجكم مقضية ، وقناديلكم مضيئة ، فقال أبوطالب رضي الله عنه : جئناك في حاجة يعود نفعها إليك ، وبركتها عليك ، قالت : يا سيدي وما ذلك ؟ قال : جئناك في أمر ابن أخي محمد ، فلما سمعت ذلك غاب رشدها عن الوجود ، وأيقنت بحصول المقصود ،وقالت شعرا :

بذكر كم يطفئ الفؤاد من الوقد

 

ورؤيتكم فيها شفا أعين الرمد

ومن قال : إني أشتفي من هواكم

 

فقد كذبوا لو مت فيه من الوجد

وما لي لا أملا سرورا بقربكم

 

وقد كنت مشتاقا إليكم على البعد

تشابه سري في هواكم وخاطري

 

فابدي الذي أخفى وأخفى البدي ابدي

ثم قالت بعد ذلك : يا سيدي أين محمد حتى نسمع ما يقول ؟ قال العباس رضي الله عنه : أنا آتيكم به ، فنهض وسار يطلبه من الابطح ( 3 ) فلم يجده ، فالتفت يمينا وشمالا فقالوا : ما تريد ؟ فقال : اريد محمدا ، فقالوا له : في جبل حرى ، فسار إليه فإذا هو فيه نائما في مرقد إبراهيم الخليل عليه السلام ملتفا ببرده وعند رأسه ثعبان عظيم في فمه طاقة ريحان يروحه بها ، فلما نظر إليه العباس قال : خفت عليه من الثعبان ، فجذبت سيفي وهممت بالثعبان ، فحمل الثعبان على العباس ، فلما رأى العباس ذلك صاح من وقته ادركني يا ابن أخي ، ففتح النبي صلى الله عليه واله عينيه فذهب الثعبان كأنه لم يكن ، فقال النبي صلى الله عليه واله : ما لي أرى سيفك مسلولا ؟ قال : رأيت هذا الثعبان عندك ، فسللت سيفي وقصدته خوفا عليك منه ، فعرفت في نفسي الغلبة فصحت بك ، فلما فتحت عينك ذهب كأنه لم يكن ، فتبسم النبي صلى الله عليه واله ، وقال : يا عم ليس هذا بثعبان ، ولكنه ملك من الملائكة ، ولقد رأيته مرارا ، وخاطبته جهارا ، وقال لي : يا محمد إني ملك من عند ربي موكل بحراستك في الليل والنهار من كيد الاعداء والاشرار ، قال : ما ينكر فضلك يا محمد ، فقال له : سر معي إلى دار خديجة بنت خويلد تكون أمينا على أموالها ، تسير بها حيث شئت ، قال : اريد الشام ، قال : ذلك إليك ، فسار النبي صلى الله عليه واله والعباس إلى بيت خديجة ، وكان من عادته صلى الله عليه واله إذا أراد زيارة قوم سبقه النور إلى بيتهم ، فسبقه النور إلى بيت خديجة ، فقالت لعبدها ميسرة : كيف غفلت عن الخيمة حتى عبرت الشمس إلى المجلس ؟ قال : لست بغافل عنها ، وخرج فلم يجد تغير وتد ولا طنب ، ونظر إلى العباس فوجده قد أقبل هو والنبي صلى الله عليه واله معه ، فرجع وقال لها : يا مولاتي هذا الذي رأيته من أنوار محمد صلى الله عليه واله ، فجاءت خديجة لتنظر إلى محمد ، فلما دخل المجلس نهض أعمامه إجلالا له ، وأجلسوه في أوساطهم ، فلما استقر بهم الجلوس قدمت لهم خديجة الطعام فأكلوا ، ثم قالت خديجة : يا سيدي أنست بك الديار ، وأضاءت بك الاقدار، وأشرقت من طلعتك الانوار ، أترضى أن تكون أمينا على أموالي تسير بها حيث شئت ؟ قال : نعم رضيت ، ثم قال : اريد الشام ، قالت : ذلك إليك ، وإني قد جعلت لمن يسير على أموالي مائة أوقية من الذهب الاحمر ، ومائة وقية من الفضة البيضاء ، وجملين وراحلتين ، فهل أنت راض ؟ فقال أبوطالب رضي الله عنه ، رضي ورضينا ، وأنت يا خديجة محتاجة إليه ، لانه من حين خلق ما وقف له العرب على صبوة ، وأنه مكين أمين ، قالت خديجة : تحسن يا سيدي تشد على الجمل وترفع عليه الاحمال ؟ قال : نعم ، قالت : يا ميسرة : ايتني ببعير حتى أنظر كيف يشد عليه محمد ، فخرج ميسرة وأتى ببعير شديد المراس ، قوى الباس ، لم يجسر أحد من الرعاة أن يخرجه من بين الابل لشدة بأسه ، فأدناه ليركبه فهدر وشقشق واحمرت عيناه ، فقال له العباس : ما كان عندك أهون من هذا البعير ؟ تريد أن تمتحن به ابن أخينا ؟ فعند ذلك قال النبي صلى الله عليه وآله : دعه يا عم ، فلما سمع البعير كلام البشير النذير برك على قدمي النبي صلى الله عليه وآله ، وجعل يمرغ وجهه علي قدمي النبي صلى الله عليه وآله ونطق بكلام فصيح وقال : من مثلى وقد لمس ظهري سيد المرسلين ؟ فقلن النسوة اللاتى كن عند خديجة : ماهذا إلا سحر عظيم قد أحكمه هذا اليتيم ، قالت لهم خديجة : ليس هذا سحرا ، وإنما هو آيات بينات ، وكرامات ظاهرات ، ثم قالت :

نطق البعير بفضل أحمد مخبرا

 

هذا الذي شرفت به ام القرى

هذا محمد خير مبعوث أتى

 

فهو الشفيع وخير من وطأ الثرى

يا حاسديه تمزقوا من غيظكم

 

فهو الحبيب ولا سواه في الورى

قال : وخرج أولاد عبدالمطلب وأخذوا في اهبة السفر ، فالتفتت خديجة إلى النبي صلي الله عليه وآله وقالت : يا سيدي ما معك غير هذه الثياب ، فليست هذه تصلح للسفر ، فقال : لست أملك غيرها ، فبكت خديجة وقالت : عندي يا سيدي ما يصلح للسفر ، غير أنهن طوال فامهل حتى اقصرها لك ، فقال : هلمي بها ، وكان صلى الله عليه وآله إذا لبس القصير يطول وإذا لبس الطويل يقصر ، كأنه مفصل عليه ، فأخرجت له ثوبين من قباطي مصر ، وجبة عدنية ، وبردة يمنية ، وعمامة عراقية ، وخفين من الاديم ، وقضيب خيزران ،فلبس النبي صلى الله عليه وآله الثياب وخرج كأنه البدر في تمامه ، فلما نظرت إليه جعلت تقول :

اوتيت من شرف الجمال فنونا

 

ولقد فتنت بها القلوب فتونا

قد كونت للحسن فيك جواهر

 

فيها دعيت الجوهر المكنونا

يا من أعار الظبي في لفتاته

 

للحسن جيدا ساميا وجفونا

انظر إلى جسمي النحيل وكيف قد

 

أجريت من دمع العيون عيونا

أسهرت عيني في هواك صبابة

 

وملئت قلبي لوعة وجنونا

ثم قالت : يا سيدي عندك ما تركب عليه ؟ قال : إذا تعبت ركبت أي بعير أردت ،قالت : وما يحملني على ذلك ؟ لا كانت الاموال دونك يا محمد ، ثم قالت لعبدها ميسرة : ايتني بناقتي الصهباء حتى يركبها سيدي محمد ، فأتى بها ميسرة وهي تزيد على الاوصاف ، لا يلحقها في سيرها تعب ، ولا يصيبها نصب ، كأنها خمية مضروبة ، أو قبة منصوبة ، ثم التفتت إلى ميسرة وناصح وقالت لهما : اعلما أنني قد أرسلت إليكما أمينا على أموالي ، وأنه أمير قريش وسيدها ، فلا يد على يده ، فإن باع لا يمنع ، وأن ترك لا يؤمر ، وليكن كلامكما له بلطف وأدب ، ولا يعلو كلامكما على كلامه ، قال عبدها ميسرة : والله يا سيدتي إن لمحمد عندي محبة عظيمة قديمة ، والآن قد تضاعفت لمحبتك له ، ثم إن النبي صلى الله عليه واله ودع خديجة وركب راحلته وخرج وميسرة وناصح بين يديه ، وعين الله ناظرة إليه ، فعندها قالت خديجة شعرا :

قلب المحب إلى الاحباب مجذوب

 

وجسمه بيد الاسقام منهوب

وقائل كيف طعم الحب قلت له

 

الحب عذب ولكن فيه تعذيب

أقذى الذين علي خدي لبعدهم

 

دمي ودمعي مسفوح ومسكوب

ما في الخيام وقد سارت ركابهم

 

إلا محب له في القلب محبوب

كأنما يوسف في كل ناحية

 

والحز في كل بيت فيه يعقوب

ثم إن النبي صلى الله عليه واله سار مجدا للسير إلى الابطح ، فوجد القوم مجتمعين ، وهم لقدومه منتظرون ، فلما نظروا إلى جمال سيد المرسلين وقد فاق الخلق أجمعين فرح المحب ،واغتم الحاسد ، وظهر الحسد والكمد فيمن سبقت له الشقاوة من المكذبين ،وزادت عقيدة من سبقت له السعادة من المؤمنين ، فلما نظر العباس إليهم أنشأ يقول :

يا مخجل الشمس والبدر المنير إذا

 

تبسم الثغر لمع البرق منه أضا

كم معجزات رأينا منك قد ظهرت

 

يا سيدا ذكره يشفي به المرضى

فلما نظر النبي صلى الله عليه واله إلى أموال خديجة على الارض ولم يحمل منها شئ زعق على العبيد ، وقال : ما الذي منعكم عن شد رحالكم ؟ قالوا يا سيدنا لقلة عددنا ، وكثرة أموالنا ، فأبرك راحلته ، ونزل ولوى ذيله في دور منطقته وصار يزعق بالبعير فيقول : بإذن الله تعالى ، فتعجب الناس من فعله ، فنظر العباس إلى النبي صلى الله عليه واله وقد احمرت وجناته من العرق ، فقال : كيف اخلي الشمس تقرح هذا الوجه الكريم ؟ فعمد إلى خشبة وقال : لاتخذن منها حجفة تظل  محمدا من حر الشمس ، فارتجت الاقطار وتجلى الملك الجبار ، وأمر الامين جبرئيل عليه السلام أن يهبط إلى رضوان خازن الجنان وقل له : يخرج لك الغمامة التي خلقتها لحبيبي محمد صلى الله عليه واله قبل أن أخلق آدم بألفي عام ،وانشرها على رأس حبيبي محمد ، فلما رأوها شخصت نحوها الابصار ، وقال العباس : إن محمدا لكريم على ربه ، ولقد استغنى عن حجفتي ، ثم أنشأ يقول :

وقف الهوى بي حيث كنت

 

فليس لي متقدم عنكم ولا متأخر

ثم سار القوم حتى نزلوا بجحفة الوداع وحطوا رحالهم حتى يلحق بهم المتأخرون فقال مطعم بن عدي : يا قوم إنكم سائرون إلى أرض كثيرة المهامه والاوعار ، وليس لكم مقدم تستشيرون به وترجعون إلى أمره ، والرأي عندي أنكم تقدمون عليكم رجلا لتستندوا إلى رأيه ، وترجعوا إلى أمره عن المنازع والمخالف ، قالوا : نعم ما أشرت به ، فقال بنو مخزوم : نحن نقدم علينا أخانا عمرو بن هشام المخزومي ، وقال بنو عدي : نحن نقدم علينا أميرنا مطعم بن عدي ، وقال بنو النضر : نحن نقدم علينا أميرنا النضر بن الحارث ، وقال بنو زهرة : نحن نقدم علينا أميرنا احيحة بن الجلاح ، وقال بنو لوي : نحن نقدم علينا أبا سفيان صخر بن حرب ، وقال ميسرة : والله ما نقدم علينا إلا سيدنا محمد بن عبدالله ، و قال بنو هاشم : ونحن أيضا نقدم علينا محمدا ، فقال أبوجهل : لان قدمتم علينا محمدا لاضعن هذا السيف في بطني ، واخرجه من ظهري ، فقبض حمزة على سيفه وقال : يا وغد الرجال ، ويا نذل الافعال ، والله ما اريد إلا أن يقطع الله يديك ورجليك ويعمى

عينيك ، فقال له النبي صلى الله عليه واله : اغمد سيفك يا عماه ، ولا تستفتحوا سفركم بالشر ، دعوهم يسيرون أول النهار ، ونحن نسير آخره ، فإن التقدم لقريش ، وكان صلى الله عليه واله أول من تكلم بهذه الكلمة ، وسار أبوجهل ومن يلوذ به ، وقد استغنم من بني هاشم الفرصة ، وهوينشد ويقول :

لقد ضلت حلوم بني قصي

 

وقد زعموا بتسييد اليتيم

وراموا للخلافة غير كفو

 

فكيف يكون ذا الامر العظيم ؟

وإني فيهم ليث حمي

 

بمصقول ولي جد كريم

فلو قصدوا عبيدة أو ظليما

 

وصخر الحرب ذا الشرف القديم

لكنا راضيين لهم وكنا

 

لهم تبعا على خلف ذميم

فأجابه العباس يقول :

ألا أيها الوغد الذي رام ثلبنا

 

أتثلب قرنا في الرجال كريم

أتثلب ياويك الكريم أخا التقى

 

حبيب لرب العالمين عظيم

ولو لا رجال قد عرفنا محلهم

 

وهم عندنا في مجدب ومقيم

لدارت سيوف يفلق الهام حدها

 

بأيدي رجال كالليوث تقيم

حماة كماة كالاسود ضراغم

 

إذا برزوا ردوا لكل زعيم

ثم إن القوم ساروا إلى أن بعدوا عن مكة ، فنزلوا بواد يقال له : واد الامواه ،لانه مجتمع السيول وأنهار الشام ، ومنه تنبع عيون الحجاز ، فنزل به القوم وحطوارحالهم ، وإذا بالسحاب قد اجتمع ، فقال النبي صلى الله عليه واله : ما أخوفني على أهل هذاالوادي أن يدهمهم  السيل فيذهب بجميع أموالهم ، والرأي عندي أن نستند إلى هذا الجبل ، قال له العباس : نعم ما رأيت يا ابن أخي ، فأمر النبي صلى الله عليه واله أن ينادي في القافلة أن ينقلوا رحالهم إلى نحو الجبل مخافة السيل ، ففعلوا إلا رجلا من بني جمح يقال له : مصعب ، وكان له مال كثير : فأبى أن يتغير ( 3 ) من مكانه ، وقال : يا قوم ما أضعف قلوبكم ؟ تنهزمون عن شئ لم تروه ولم تعاينوه ؟ فما استتم كلامه إلا وقد ترادفت السحاب والبرق ونزل السيل وامتلا الوادي من الحافة إلى الحافة ، و أصبح الجمحي وأمواله كأنه لم يكن ، وأقام القوم في ذلك المكان أربعة أيام والسيل يزداد ، فقال ميسرة : يا سيدي هذه السيول لا تنقطع إلى شهر ، ولا تقطعه السفار ، و إن أقمنا هاهنا أضر بنا المقام ، ويفرغ الزاد ، والرأي عندي أن نرجع إلى مكة ، فلم يجبه النبي صلى الله عليه واله إلى ذلك ، ثم نام فرأى في منامه ملكا يقول له : يا محمد لا تحزن ، إذا كان غداة غد مر قومك بالرحيل ، وقف على شفير الوادي ، فإذا رأيت الطير الابيض قد خط بجناحه فاتبع الخط ، وأنت تقول : بسم الله وبالله ، وأمر قومك أن يقولوا : هذه الكلمة ،فمن قالها سلم ، ومن حاد عنها غرق ، فاستيقظ النبي صلى الله عليه واله وهو فرح مسرور ، ثم أمر ميسرة أن ينادي في الناس بالرحيل ، فرحلوا وشد ميسرة رحاله ، فقال الناس : يا ميسرة وكيف نسير وهذا المآء لا تقطعه إلا السفن ؟ فقال : أما أنا فإن محمدا أمرني ، وأنا لا اخالفه فقال القوم : ونحن أيضا لا نخالفه ، فبادر القوم ، وتقدم النبي صلى الله عليه واله ووقف على شفير الوادي ، وإذا بالطير الابيض قد أقبل من ذروة الجبل . وخط بجناحه خطا أبيض يلمع ، فشمر النبي صلى الله عليه واله أذياله واقتحم المآء وهو يقول : بسم الله وبالله ، فلم يصل المآء إلى نصف ساقه ، ونادى أيها الناس لا يدخل أحد منكم المآء حتى يقول هذه الكلمة ، فمن قالها سلم ، ومن حاد عنها هلك ، فاقتحم القوم المآء وهم يقولون : الكلمة ، ولم يتأخر من القوم سوى رجلين : أحدهما من بني جمح ، والآخر من بني عدي ، فقال العدوي : بسم الله و بالله ، وقال الجمحي : بسم اللات والعزى ، فغرق الجمحي وأمواله ، وسلم العدوي وأمواله ، فقال القوم للعدوي : ما بال صاحبك غرق ؟ قال : إنه قد عوج لسانه وخالف قول النبي صلى الله عليه واله فغرق ، فاغتم أبوجهل لعنه الله وقومه ، وقالوا : ما هذا إلا سحر عظيم ، فقال له بعض أصحابه : يا ابن هشام ما هذا بسحر ، ولكن والله ما أظلت الخضرآء ولا أقلت الغبرآء أفضل من محمد ، فلم يرد جوابا ، وساروا حتى نزلوا على بئر وكان تنزل عليه العرب في طريق الشام ، فقال أبوجهل : والله لاجد في نفسي غبنة عظيمة إن رد محمد من سفره هذا سالما ، ولقد عزمت على قتله ، وكيف لي بالحيلة في قتله وهو ينظر من ورائه كما ينظر من أمامه ، ولكن أفعل فسوف تنظرون ، ثم عمد إلى الرمل والحصى وملا حجره وكبس به البئر ، فقال أصحابه : ولم تفعل ذلك ؟ فقال : اريد دفن البئر حتى إذا جاء ركب بني هاشم وقد أجهدهم العطش فيموتوا عن آخرهم ، فتبادر القوم بالرمل و الحصى ولم يتركوا للبئر أثرا ، فقال أبوجهل لعنه الله : الآن قد بلغت مرادي ، ثم التفت إلى عبد له اسمه فلاح وقال له : خذ هذه الراحلة ، وهذه القربة والزاد واختف تحت الجبل ، فإذا جاء ركب بني هاشم يقدمهم محمد ، وقد أجهدهم العطش والتعب ولم يجدوا للبئر أثرا فيموتوا فأتني بخبرهم ، فإذا أتيتني وبشرتني بموتهم أعتقتك وزوجتك بمن تريد من أهل مكة ،فقال : حبا وكرامة ، ثم سار أبوجهل وتأخر العبد كما أمره مولاه ، وإذا بركب بني هاشم قد أقبل يتقدمهم محمد ، فتبادر القوم إلى البئر فلم يجدوا له أثرا ، فضاقت صدورهم وأيقنوا بالهلاك ، فلاذوا بمحمد صلى الله عليه واله ، فقال لهم : هل هنا موضع يعرف بالماء ؟ قالوا نعم بئر قد ردمت بالرمل والحجارة ، فمشى النبي صلى الله عليه واله حتى وقف على شفير البئر فرفع طرفه إلى السماء ونادى : يا عظيم الاسمآء ، يا باسط الارض ، ويا رافع السمآء ، قد أضر بنا الظمآء ، فاسقنا المآء ، فإذا بالحجارة والرمل قد تصلصلت ، وعين المآء قد نبعت وتفجرت ، وجرى المآء من تحت أقدامه ، فسقى القوم دوابهم ، وملؤوا قربهم ، وساروا و سار العبد إلى مولاه ، وقال : ما وراءك يا فلاح ؟ وقال : والله ما أفلح من عادى محمدا ، وحدثهم بما عاين منه ، فامتلى أبوجهل غيظا ، وقال للعبد : غيب وجهك عني ، فلا أفلحت أبدا ، ثم سار حتى وصل واديا من أودية الشام يقال له : ذبيان ، وكان كثير الاشجار ، إذ خرج من ذلك الوادي ثعبان عظيم كأنه النخلة السحوق ، ففتح فاه وزفر ، وخرج من عينيه الشرار ، فجفلت منه ناقة أبي جهل لعنه الله ، ولعبت بيديها ورجليها ورمته فكسرت أضلاعه ، فغشي عليه ، فلما أفاق قال لعبيده : تأخروا إلى جانب الطريق ، فإذا جاء ركب بني هاشم يتقدمهم محمد قدموه علينا حتى إذا رأت ناقته الثعبان فعسى أن ترميه إلى الارض فيموت ، ففعل العبيد ما أمرهم به ، وإذا بركب بني هاشم قد أقبل يتقدمهم محمد ، فقال النبي صلى الله عليه واله : يا ابن هشام أراكم قد نزلتم وليس هو وقت نزولكم ؟ فقال له : يا محمد ، والله قد استحييت أن أتقدم عليك ، وأنت سيد أهل الصفا ، وأعلا حسبا ونسبا ، فتقدم ، فلعن الله من يبغضك ، ففرح العباس بذلك ، وأراد العباس أن يتقدم فنهاه النبي صلى الله عليه واله وقال : ارفق يا عم ، فما تقديمهم لنا إلا لمكيدة لنا ، ثم إنه صلى الله عليه واله تقدم أمامهم ودخل إلى ذلك الشعب ، و إذا بالثعبان قد ظهر فجفلت منه ناقة النبي صلى الله عليه وآله ، فزعق بها النبي صلى الله عليه واله وقال : ويحك كيف تخافين وعليك خاتم الرسل وإمام البشر ؟ثم التفت إلى الثعبان وقال له : ارجع من حيث أتيت ، وإياك أن تتعرض لاحد

من الركب ، فنطق الثعبان بقدرة الله تعالى ، وقال : السلام عليك يا محمد ، السلام عليك يا أحمد ، فقال النبي صلى الله عليه واله : السلام على من اتبع الهدى ، وخشي عواقب الردى ، وأطاع الملك الاعلى ، فعندها قال : يا محمد ما أنا من هوام الارض ، وإنما أنا ملك من ملوك الجن واسمي الهام بن الهيم ، وقد آمنت على يد أبيك إبراهيم الخليل ، وسألته الشفاعة ، فقال : هي لولد يظهر من نسلي يقال له : محمد ، ووعدني أن أجتمع بك في هذا المكان ، وقد طال بي الانتظار ، وقد شاهدت المسيح عيسى بن مريم عليه السلام ليلة عرج به إلى السمآء وهو يوصي الحواريين باتباعك ، والدخول في ملتك ، والآن قد جمع الله شملي بك ، فلا تنسني  من الشفاعة يا سيد المرسلين ، فقال له النبي صلى الله عليه واله : لك ذلك علي ، فعد من حيث جئت ، ولا تتعرض لاحد من الركب ، فغاب الثعبان ، فلما نظر القوم إلى كلامه عجبوا من ذلك وازداد أعمام النبي صلى الله عليه وآله يقينا وفرحا . وازداد أبو جهل غيظا وحسدا ، فأنشأ العباس يقول :

يا قاصدا نحو الحطيم وزمزم

 

بلغ فضائل أحمد المتكرم

واشرح لهم ما عاينت عيناك من

 

فضل لاحمد والسحاب الاركم

قل وأت بالآيات في السيل الذي

 

ملاء الفجاج بسيله المتراكم

ونجى الذي لم يخط قول محمد

 

وهو الذي أخطا بوسط جهنم

والبئر لما أن أضربنا الظمآء

 

فدعا الحبيب إلى الاله المنعم

فاضت عيونا ثم سالت أنهرا

 

وغدا السحود بحسرة وتغمغم

والهام بن الهيم لما أن رأى

 

خير البرية جاء كالمستسلم

ناداه أحمد فاستجاب ملبيا

 

وشكى المحبة كالحبيب المغرم

من عهد إبراهيم ظل مكانه

 

يرجو الشفاعة خوف جسر جهنم

من ذا يقاس أحمد في الفضل من

 

كل البرية من فصيح وأعجم

وبه توسل في الخطيئة آدم

 

فليعلم الاخبار من لم يعلم

ولما فرغ العباس من شعره أجابه الزبير وأنشأ يقول شعرا :

يا للرجال ذوي البصائر والنظر

 

قوموا انظروا أمرا مهولا قد خطر

هذا بيان صادق في عصرنا

 

من سيد عالي المراتب مفتخر

آياته قد أعجزت كل الورى

 

من ذا يقائس عدها أو يختصر

منها الغمام تظله مهما مشى

 

أنى يسير تظله وإذا خطر

وكذلك الوادي أتى مترادفا

 

بالسيل يسحب للحجارة والشجر

ونجى الذي قد طاع قول محمد

 

وهوى المخالف مستقرا في سقر

وأزال عنا الضيم من حر الظماء

 

من بعد ما بان التقلقل والضجر

والبئر فاضت بالمياء وأقبلت

 

تجري على الارض أشباه النهر

والهام فيه عبارة ودلالة

 

لذوي العقول ذوي البصائر والفكر

كاد الحسود يذوب مما عاينت

 

عيناه من فضل لاحمد قد ظهر

يا للرجال ألا انظروا أنواره

 

تعلوا على نور الغزالة والقمر

الله فضل أحمدا واختاره

 

ولقد أذل عدوه ثم احتقر

فأجابه حمزة رضي الله عنه يقول :

ما نالت الحساد فيك مرادهم

 

طلبوا نقوص الحال منك فزادا

كادوا وما خافوا عواقب كيدهم

 

والكيد مرجعه على من كادا

ما كل من طلب السعادة نالها

 

بميكدة أو أن يروم عنادا هذه تمد

يا حاسدين محمدا يا ويلكم

 

حسدا تمزق منكم الاكبادا

الله فضل أحمدا واختاره

 

ولسوف يملكه الورى وبلادا

وليملان الارض من إيمانه

 

وليهدين عن الغوى من حادا

قال : فشكرهم النبي صلى الله عليه واله على ذلك وساروا جميعا ونزلوا واديا كانوا يتعاهدون فيه الماء قديما فلم يجدوا فيه شيئا من الماء ، فشمر النبي صلى الله عليه واله عن ذراعيه ، وغمس كفيه في الرمل ،  ورمق السمآء ، وهو يحرك شفتيه فنبع الماء من بين أصابعه تيارا ،وجرى على وجه الارض أنهارا ، فقال العباس : امسك يا ابن أخي حذرا من الماء أن يغرق أموالنا ثم شربوا ، وملؤا قربهم ، وسقوا دوابهم ، فقال النبي صلى الله عليه واله لميسرة : لعل عندك شيئا من التمر فأحضره ، وكان يأكل التمر ، ويغرس النوى في الارض ، فقال له العباس : لم تفعل ذلك يابن أخي ؟ قال : يا عم اريد أن أغرسها نخلا ، قال : ومتى تطعم ؟ قال : الساعة نأكل منها ونتزود إن شاء الله تعالى ، فقال له العباس : يابن أخي النخلة إذا غرست تثمر في خمس سنين ، قال : يا عم سوف ترى من آيات ربي الكبرى ،ثم ساروا حتى تواروا عن الوادي ، فقال : يا عم ارجع إلى الموضع الذي فيه النخلات واجمع لنا ما نأكله ، فمضى العباس فرأى النخلات قد كبرت ، وتمايلت أثمارها ،وأزهرت فأوقر منها راحلته ، والتحق بالنبي صلى الله عليه واله ، فكان يأكل من التمر ويطعم القوم فصاروا متعجبين من ذلك ، فقال أبوجهل لعنه الله : لا تأكلوا يا قوم مما يصنعه محمد الساحر ، فأجابه قومه وقالوا : يابن هشام اقصر عن الكلام ، فما هذا بسحر ، ثم سار القوم حتى وصلوا عقبة أيله ، وكان بها دير ، وكان مملوا رهبانا ، وكان فيهم راهب يرجعون إلى رأيه وعقله يقال له : الفيلق بن اليونان بن عبدالصليب ، وكان يكنى أبا خبير ، وقد قرء الكتب ، وعنده سفر فيه صفة النبي صلى الله عليه واله من عهد عيسى بن مريم عليه السلام ، وكان إذا قرأ الانجيل على الرهبان ووصل إلى صفات النبي صلى الله عليه وآله بكى ، وقال : يا أولادي متى تبشروني بقدوم البشير النذير ، الذي يبعثه الله من تهامة ، متوجا بتاج الكرامة ، تظله الغمامة ، يشفع في العصاة يوم القيامة ، فقال له الرهبان : لقد قتلت نفسك بالبكاء والاسف على هذا الذي تذكره ، وعسى أن يكون قد قرب أوانه ، فقال : إي والله إنه قد ظهر بالبيت الحرام ، ودينه عند الله الاسلام ، فمتى تبشروني بقدومه من أرض الحجاز ، وهو تظله الغمامة ، وأنشأ يقول شعرا :

لان نظرت عيني جمال أحبتى

 

وهبت لبشرى الوصل ما ملكت يدي

وملكته روحي ومالي غيرها

 

وهذا قليل في محبة أحمد

سألت إلهي أن يمن بقربه

 

ويجمع شملي بالنبي محمد

قال : وما زال الراهب كلما ذكر الحبيب أكثر النحيب إلى أن حال منه النظر وزاد به الفكر ، فعند ذلك أشرف بعض الرهبان ، وقد أشرقت الانوار من جبين النبي المختار ، فنظر الرهبان إلى الانوار وقد تلالات من الركب ، وقد أقبل من الفلا وأشرق وعلا ، تقدمهم سيد الامم ، وقد نشرت على رأسه الغمامة ، فقالوا : يا أبا الرهبان هذا ركب قد أقبل من الحجاز ، فقال : يا أولادي وكم ركب قد أقبل وأتى وأنا اعلل نفسي بلعل وعسى ؟ قالوا : يا أبانا قد رأينا نورا قد علا ، فقال: الآن قد زال الشقآء ، وذهب العنآء ، ثم رفع طرفه نحو السمآء وقال : إلهي وسيدي ومولاي بجاه هذا المحبوب الذي زاد فيه تفكري إلا ما رددت علي بصري ، فما استتم كلامه حتى رد الله عليه بصره ، فقال الراهب للرهبان : كيف رأيتم جاه هذا المحبوب عند علام الغيوب ، ثم أنشأ يقول :

سأبلبدا النور من وجه النبي فاشرقا

 

واحيا محبا بالصبابة محرقا

وأبرأ عيونا قد عمين من البكاء

 

واصبح من سوء المكاره مطلقا

ترى هل ترى عيناي طلعة وجهه

 

واصبح من رق الضلالة معتقا

ثم قال : يا أولادي إن كان هذا النبي المبعوث في هذا الركب ينزل تحت هذه الشجرة فإنها تخضر وتثمر ، فقد جلس تحتها عدة من الانبياء ، وهي من عهد عيسى ابن مريم عليه السلام يابسة ، وهذه البئر لم نر فيها ماء فإنه يأتي إليها ويشرب منها ، فما كان إلا قليلا وإذا الركب قد أقبل وحول البئر قد نزلوا ، وحطوا الاحمال عن الجمال ، وكان النبي صلى الله عليه واله يحب الخلوة بنفسه ، فأقبل تحت الشجرة فاخضرت وأثمرت من وقتها وساعتها ، فما استقر بهم الجلوس حتى قام النبي صلى الله عليه واله فمشى إلى البئر فنظر إليها واستحسن عمارتها ، وتفل فيها فتفجرت منها عيون كثيرة ، ونبع منها ماء معين ، فلما رأى الراهب ذلك قال : يا أولادي هذا هو المطلوب فبادروا بصنع الولائم من أحسن الطعام لنتشرف بسيد بني هاشم ، فإنه سيد الانام ، لنأخذ منه الذمة لسائر الرهبان ، فبادر القوم لامره طائعين ، وصنعوا الولائم ، وقال لهم : انزلوا إلى أمير هذا القوم وقولوا له : إن أبانا يسلم عليك ، ويقول لك : إنه قد عمل وليمة وهو يسألك أن تجيبه وتأكل من زاده ، فنزل بعض الرهبان فما رأى أحسن من أبي جهل لعنه الله ، ولم ير رسول الله صلى الله عليه وآله ، فأخبر أبا جهل بمقالة الراهب ، فنادى في العرب : إن هذا الراهب قد صنع لاجلي وليمة ، واريد أن تجيبوا لدعوته ، فقال القوم : من نترك عند أموالنا ؟ فقال أبوجهل : اجعلوا محمدا عند أموالنا فهو الصادق الامين ، وفي هذا المعنى قيل:

ومناقب شهد العدو بفضلها

 

والفضل ما تشهد به الاعداء

 

فسار القوم إلى النبي صلى الله عليه واله وسألوه أن يجلس عند متاعهم . وسار القوم إلى الراهب يتقدمهم أبوجهل لعنه الله ، وقد أعجب بنفسه ، فلما دخلوا الدير أحضر لهم الطعام وناداهم بالرحب والاكرام ، فأخذ القوم في الاكل ، وأخذ الراهب القلنسوة جعل ينظر فيه ويدور على القوم رجلا رجلا ، وجعل ينظر فيهم رجلا رجلا ، فلم ير صفة النبي صلى الله عليه وآله ، فرمى القلنسوة عن رأسه ونادى : واخيبتاه ، واطول شقوتاه ،ثم جعل يقول  شعرا :

يا أهل نجد تقضى العمر في أسف

 

منكم وقلبي لم يبلغ أمانيه

يا ضيعة العمر لا وصل ألوذ به

 

من قربكم لا ولا وعد ارجيه

قال : ثم بعد ذلك قال : يا سادات قريش هل بقي منكم أحد؟ فقال أبو جهل :نعم بقي منا صبي صغير أجير على أموال بعض نسائنا ، فما استتم كلامه حتى قام له حمزة وضربه ضربا وجيعا ، وألقاه على قفاه ، وقال : يا وغد الانام لم لا قلت : تأخر منا البشير النذير ، السراج المنير ، وما تركناه عند بضائعنا وأموالنا إلا لامانته وما فينا أصلح منه ، ثم التفت حمزة إلى الراهب وقال : أرني السفر ، وأخبرني بما فيه ، فقال : سيدي هذا سفر فيه صفة النبي صلى الله عليه واله ، لا بالطويل الشاهق ، ولا بالقصير اللاصق ، معتدل القامة ، بين كتفيه علامة ، تظله الغمامة ، يبعث من تهامة ، شفيع العصاة يوم القيامة ، قال العباس : يا راهب إذا رأيته تعرفه ؟ قال : نعم ، قال : سر معي إلى الشجرة ، فإن صاحب هذه الصفة تحتها ، فخرج الراهب من الدير يهرول في خطواته حتى لحق بالنبي صلى الله عليه واله ، فلما رآه نهض قائما لا متكبرا ولا متجبرا ، فقال : مرحبا بالفيلق ، بعد ما قال له الراهب : السلام عليك يا أبا الفتيان ، فقال له النبي صلى الله عليه وآله وعليك السلام يا عالم الرهبان ، ويا ابن اليونان يا ابن عبد الصليب ، فقال الراهب : وما أدراك أني الفيلق بن اليونان بن عبدالصليب ؟ قال : الذي أخبرك أني ابعث في آخر الزمان بالامر العجيب ، فانكب الراهب على قدميه يقبلهما وهو يقول : يا سيد البشر ، لعلك أن تجيب لوليمتنا لتحصل لنا بها الكرامة . ونفوز بمحبتك يوم القيامة ، فقال له النبي صلى الله عليه واله : اعلم أن القومأودعوني في أموالهم ، فقال : يا مولاي تصدق علينا بالمسير ، إن عدم لهم عقال علي ببعير ، فقال له النبي صلى الله عليه واله : سر ، وسار معهم إلى ديرهم ، وكان له بابان : واحد كبير ، والآخر صغير ، وقد وضعوا بحيال الباب الصغير كنيسة فيها تصاوير وتماثيل ، فاذا دخل الرجل

من الباب الصغير ينحني برأسه ، وذلك برسم السجود للتصاوير في الكنيسة ، فخطر في نفسه أنه يدخل النبي صلى الله عليه واله من الباب الصغير ليتلذذ بمعاجزه وغرائب كراماته ،فلما دخل الراهب أمامه داخله الفزع من النبي صلى الله عليه واله فلما دخل النبي صلى الله عليه واله من الباب القصير أمر الله تعالى عضادتي الباب أن ترتفع ، فارتفع الباب حتى دخل النبي صلى الله عليه واله منتصب القامة ، فلما أشرف على القوم قاموا له إجلالا ، وأجلسوه في أوساطهم على أعلى مكان ، ووقف الراهب بين يديه ، والرهبان حوله ، فقدموا بين يديه طرائف الشام ، ثم رمق الراهب بطرفه إلى السمآء فقال : إلهي وسيدي ومولاي أرني خاتم النبوة ، فأرسل الله عزوجل جبرئيل ورفع ثيابه عن ظهره ، فبان خاتم النبوة بين كتفيه ، فسطع منه نور ساطع ، فلما رآه الراهب خر ساجدا هيبة من ذلك النور ، ثم رفع رأسه وقال : هو أنت حقا ، ثم إن حمزة أنشأ يقول :

أنت المظلل بالغمام وقد رأى

 

الرهبان أنك ذاك وانكشف الخبر

ربيت في بحبوح مكة بعد ما

 

وضع الخليل وفاق فخرك من فخر

ورضعت في سعد لثدي حليمة

 

كرما ففاض الثدي نحوك وانحدر

قال : فشكره النبي صلى الله عليه واله وتفرق القوم إلى رحالهم ، وقد كمد أبوجهل غيظا ، وبقي ميسرة والراهب مع النبي صلى الله عليه واله فقال الراهب : يا سيدي أبشر ، فإن الله يوطئ لك رقاب العرب ، وتملك سائر البلاد ، وينزل عليك القرآن ، وتدين لك الانام ، ودينك عند الله هو الاسلام وتنكس الاصنام ، وتمحق الاديان ، وتخمد النيران ، وتكسر الصلبان ،ويبقى ذكرك إلى آخر الزمان ، فأسألك يا سيدي أن تتصدق علينا بالذمام لسائر الرهبان لتأخذ منهم امتك الجزية في ذلك الزمان ، فياليتني كنت معك حتى تبعث يا سيدي ،فأعطاهم النبي صلى الله عليه واله الذمام ، وأكرمهم غاية الاكرام .

وقال الراهب لميسرة : يا ميسرة اقرأ مولاتك مني السلام ، واعلم أنها قد ظفرت بسيد الانام ، وأنه سيكون لك شأن من الشأن ، وتفضل على سائر الخاص والعام ،واحذرها أن تفوتها القرب من هذا السيد ، فإن الله تعالى سيجعل نسلها من نسله ، وتبقىذكرها إلى آخر الزمان ، ويحسدها عليه كل أحد ، وأعلمها أنه لا يدخل الجنة إلامن يؤمن به ، ويصدق برسالته ، وأنه أشرف الانبياء وأفضلهم ، وأصفاهم سريرة ، واحذر عليه من أعدائه اليهود في الشام حتى يعود إلى بيت الحرام ، ثم ودع الراهب وخرج النبي صلى الله عليه واله ولحق بالقوم ، وساروا من وقتهم وساعتهم إلى أن نزلوا بأرض الشام ،وحطوا رحالهم ، فبادر أهل المدينة ، واشتروا بضاعتهم ، وباعت قريش بضائعها بأغلى أثمان ، في أحسن بيع ، وأما ما كان من النبي صلى الله عليه واله فإنه لم يبع شيئا من بضاعته ، فقال أبوجهل لعنه الله : والله ما رأت خديجة سفرة أشأم من هذه ، لم يبع من بضاعتها شيئا ، فلما أصبح الصباح نادى العرب ، فلما أقبلت من كل جانب ومكان يريدون البضائع ، فلم يجدوا إلا بضائع خديجة ، فباعها النبي صلى الله عليه واله بأضعاف ما باعت قريش ، فاغتم أبوجهل لذلك غما شديدا ، ولم يبق من بضائع خديجة إلا حمل أديم ، فجاء رجل من اليهود يقال له سعيد بن قطمور ، وكان من أحبار اليهود وكهانهم ، وكان قد اطلع على صفة النبي صلى الله عليه واله فلما نظر إليه عرفه بالنور ، وقال : هذا الذي يسفه أحلامنا ، ويعطل أدياننا ، ويرمل نسواننا ، وأنا أحتال على قتله ، ثم دنا من النبي صلى الله عليه واله وقال : يا سيدي بكم هذا الحمل ؟

فقال : بخمس مأة درهم ، لا ينقص منها شئ ، قال : اشتريت بشرط أن تسير معي إلى منزلي ، وتأكل من طعامي حتى تحصل لنا البركة ، فقال النبي صلى الله عليه واله : نعم ، فأخذ اليهودي حمل الاديم وسار إلى منزله ، وسار النبي صلى الله عليه واله ، فلما قرب اليهودي من منزله سبق إلى زوجته ، وقال لها : اريد منك أن تساعديني على قتل هذا الذي يعطل أدياننا ، قالت : وكيف أصنع به ؟ قال : خذي فردة  الرحى واقعدي على باب الدار ، فإذا رأيتيه قبض منا ثمن حمل الاديم وخرج امي عليه فردة الرحى حتى تقتليه ،ونستريح منه ، قال : فأخذت زوجة اليهودي الرحى ، وطلعت على سطح الدار ، فلما خرج النبي صلى الله عليه واله همت أن تلقى عليه الرحى فأمسك الله يديها ، ورجف قلبها ، وقد غشي عليها من نور وجه رسول الله صلى الله عليه واله ، وكان لها ولدان قائمان بفناء الدار فسقطت الرحى عليهما فماتا ، فلما نظر اليهودي إلى ما جرى على أولاده نادى بأعلى صوته : يا بني قريظة فأجابوه من كل جانب ومكان ، وقالوا له : ما ورائك ؟ قال اعلموا أنه قد حل ببلدكم هذا الرجل الذي يعطل أديانكم ، ويسفه أحلاكم ، وقد دخل منزلي ، وأكل من طعامي ، وقتل أولادي ، فلما سمعت اليهود ذلك منه ركبوا خيولهم ، وجردواسيوفهم ، وحملوا على قريش بأجمعهم ، فلما نظر أعمام النبي صلى الله عليه واله إلى اليهود لبسوادروعهم وبيظهم وركبوا خيولهم العربية ، وارتفع الصياح ، وشهروا الصفاح ،وقالوا : ما أبركه من صائح صاح ، وركب حمزة على جواده وهو أشقر مضمر ، حسن المنظر ، مليح المخبر ، صافي الجوهر ، من خيل قيصر ، وتقلد سيفه ، واعتقل رمحه ، ولبس درعه ، وحمل على اليهود فهناك جاشت عليهم الخيل من كل مكان ، وحل بهم الوبال ، فأجمع رأيهم على أن ينفذوا منهم سبعة رجال من رؤسائهم بلا سلاح ، فلما رأتهم قريش من غير سلاح قالوا : ما شأنكم ! قالوا : يا معشر العرب إن هذا الرجل الذي معكم يعنون بذلك النبي صلى الله عليه واله أول من يبدئ بخراب دياركم ، وقتل رجالكم ، وتكسير أصنامكم ، والرأي عندنا أن تسلموه لنا حتى نقتله ونستريح منه نحن وأنتم ، فلما سمع حمزة الكلام قال : يا ويلكم هيهات هيهات أن نسلمه إليكم ، فهو نورنا وسراجنا ، ولو تلفت فيه ارواحنا فهي فداه دون اموالنا ، فلما سمع اليهود ذلك آيسوا من بلوغ مرادهم ، ورجعوا على أعقابهم ، فلما عاين قريش اليهود وقد إنقلب بعضهم على بعض رأوها فرصة فرحل القوم يجدون السير إلى ديارهم ، وقد غنموا أسلابا من اليهود ، وخيلهم وسلاحهم ، وقد فرحوا بالنصر والظفر ، فلما استقاموا على الطريق قال لهم ميسرة : ما منكم أحد يا قوم إلا وقد سافر مرة أو مرتين أو أكثر ، فهل رأيتم أبرك من هذه السفرة ، وأكثر من ربحها ؟ وما ذلك إلا ببركة محمد صلى الله عليه واله ، وهو قد نشأ فيكم وهو قليل المال ، فهل لكم أن تجمعوا له شيئا من بينكم على جهة الهدية حتى يستعين به على حاله ، فقالوا له : والله لقد أصبت الرأي يا ميسرة ، ثم إن القوم نزلوا منزلا كثير الماء والاشجار والانهار ، فاستخرج كل واحد منهم شيئا لطيفا ، وجاؤا به على سبيل الهدية ، وكان يحب الهدية ، ويكره الصدقة ، فلما جمعوه بين يديه قالوا له : خذها مباركة عليك ، فدفعها إلى ميسرة ولم يرد جوابا ، ثم إن القوم رحلوا يجدون السير ، ويقطعون الفيافي والاودية إلى أن نزلوا دير الراهب ، وهو الوادي الذي تزودوا منه التمر ، ثم إنهم رحلوا حتي قربوا من مكة ونزلوا بجحفة الوداع ، فأخذ الناس ينفذون إلى أهاليهم يبشرونهم بقدومهم وغنمهم ،قال أبوجهل لعنه الله : يا قوم ما رأيت ربحا أكثر من سفرتنا هذه ، فقالو: نعم ، قال :وأكثرنا أرباحا محمد صلى الله عليه واله ، قال : ما كنت أحسب أنه يجلبهم من أماكنهم ، ويبيع عليهم بأغلى الثمن ، ثم أخذ القوم في إنفاذ رسلهم ، ونفذ أبوجهل وغيره رسلا ، فأقبل ميسرة إلى النبي صلى الله عليه واله وقال : يا قرة العين هل ارشدك إلى خير يصل إليك ؟ قال : ما هو ؟قال : تسير من وقتك وساعتك إلى مولاتي خديجة ، وتبشرها بسلامة أموالنا ، فإنها تعطي من يبشرها خيرا كثيرا ، وأنا احب أن يكون ذلك لك ، فقم الآن وسر إلى مكة ، وادخل على مولاتي خديجة وبشرها بسلامة أموالها ، فقام النبي صلى الله عليه واله وقال : يا ميسرة اوصيك بمالك ونفسك خيرا ، وركب مستقبل الطريق وحده يريد مكة ، وغاب عن الابصار ، فبعث الله ملكا يطوي له البعيد ، ويهون عليه الصعب الشديد ، فلما أشرف على الجبال أرسل الله عليه النوم ، فنام ، فأوحى الله تعالى إلى جبرئيل : أن اهبط إلى جنات عدن ، واخرج منه القبة التي خلقتها لصفوتي محمد صلى الله عليه واله قبل أن أخلق آدم عليه السلام بألفي عام ،وانشرها على رأسه ، وكانت من الياقوت الاحمر ، معلقة بعلائق من اللؤلؤ الابيض يرى باطنها من ظاهرها ، وظاهرها من باطنها ، لها أربعة أركان ، وأربعة أبواب ، ركن من

الريرجد ، وركن من الياقوت ، وركن من العقيان وركن من اللؤلؤ ، وكذا الابواب ،فنزل جبرئيل واستخرجها فتباشرت الحور العين ، وأشرفت من قصورها ، وقلن : لك الحمد يا رحمان ، هذا الآن يبعث صاحب القبة وهبت ريح الرحمة ، وصفقت الاشجار ، ونشر جبرئيل عليه السلام القبة على رأس النبي صلى الله عليه واله ، وأحدقت الملائكة بأركانها ، ثم أعلنوا بالتقديس والتسبيح ، ونشر جبرئيل بين يديه ثلاثة أعلام ، وتطاولت الجبال ، ونادت الاشجار والاطيار والاملاك ، يقولون : لا إله إلا الله ، محمد رسول الله صلى الله عليه واله ، هنيئا لك من عبد ، ما أكرمك على الله تعالى ؟ قال : وكانت خديجة متكئة على موضع عال وجواريها حولها ، وعندها جماعة من نساء قريش ، وهي تطيل النظر إلى شعاب مكة ، إذ كشف الله تعالى عن بصرها دون غيرها ، وقد نظرت نورا ساطعا وضياء لامعا من جهة باب المعلى ، ثم إنها حققت النظر فرأت القبة والمحدقين بها ، ناشرين أعلامها ، والنبي صلى الله عليه واله نائم بها ، فحارت في أمرها ، فجعلت تنظر إليه ، فقلن لها النسوة : ما لنا نراك باهتة يا بنت العم ؟ فقالت : يا بنات العرب أنا نائمة أم يقظانة ؟ فقلن : نعيذك بالله ، بل أنت يقظانة ، قالت لهن : انظروا إلى باب المعلى وانظروا إلى القبة ، قلن : نعم رأينا ، قالت لهن : وما الذي ترون غير ذلك ؟ قلن : نرى نورا ساطعا ، وضيآء لامعا ، قد بلغ عنان السمآء ،قالت : وما الذي ترون غير ذلك ؟ قلن : لم نر شيئا ، قالت : أما ترون القبة والراكب والاطيار الخضر المحدقين بالقبة ، فقلن لها : لم نر شيئا ، قالت : أرى راكبا أبهى من نور الشمس في قبة خضرآء لم أر أحسن منها على ناقة واسعة الخطا ، ولا شك أن الناقة هي ناقتي الصهبآء ، والراكب محمد صلى الله عليه واله ، فقلن : يا سيدتنا ومن أين لمحمد صلى الله عليه واله ما تقولين ، وليس يقدر على هذا كسرى ولا قيصر ؟ فقالت لهن : فضل محمد أعظم من ذلك ،ثم إن الناقة دخلت بين الشعاب ، ثم قصدت باب المعلى ، ثم إن الملائكة عرجت إلى السمآء ، وعرج جبرئيل عليه السلام بالقبة والاعلام ، وانتبه النبي صلى الله عليه واله من نومه ، ودخل مكة ، وقصد منزل خديجة فوجدها وهي تقول : متى يصل محمد حتى امتع بالنظر إليه ؟ وهي تقوم وتقعد ، وإذا بالنبي صلى الله عليه واله قد قرع الباب ، قالت الجارية : من بالباب ؟ قال : أنا محمد ، قد جئت ابشر خديجة بقدوم أموالها وسلامتها ، فلما سمعت خديجة كلام رسول الله صلى الله عليه واله انحدرت إلى وسط الدار ، ووقفت بالحجاب ، وفتحت الجارية الباب ، فقال : السلام عليكم يا أهل البيت ، فقالت خديجة : هنيئا لك السلامة يا قرة عيني ، قال : وأنت يهنئك سلامة أموالك ، قالت خديجة : تهنئني سلامتك أنت يا قرة العين ، فوالله أنت عندي خير من جميع الاموال والاهل ، ثم قالت : شعرا : وقال : هو أنت حقا ، ثم إن حمزة أنشأ يقول :

جآء الحبيب الذي أهواه من سفر

 

والشمس قد أثرت في وجهه أثرا

عجبت للشمس من تقبيل وجنته

 

والشمس لا ينبغي أن تدرك القمرا

ثم قالت : يا حبيبي أين خلفت الركب ؟ قال : بالجحفة ، قالت : ومتى عهدك بهم ؟قال : ساعتي هذه ، فلما سمعت خديجة كلامه اقشعر جلدها ، وقالت : سألتك بالله إنك فارقتهم بالجحفة ؟ قال : نعم ، ولكن طوى الله لي البعيد ، قالت : والله ما كنت احب أن تجئ هكذا وحيدا ، إنما كنت احب أن تكون أول القوم ، وأنظر إليك ، وأنت مقدم الرجال ، وارسل إليك جواري على رؤوس الجبال بأيديهم المباخر والمعازف ، وآمر عبيدي بالذبايح والعقائر ، ويكون لك يوم مشهور ، قال : يا خديجة إني أتيت ولم يعلم بي أحد من أهل مكة ، فإن أمرتيني بالرجوع رجعت من هذه الساعة وتفعلين مرادك ؟ فقالت له : يا سيدي امهل قليلا ، ثم عملت له زادا ساخنا فوضعته في مزادة ، و كانت العرب تعرفه بنقائه وطيب ريحه وملات له قربة من ماء زمزم ، وقالت له : ارجع أودعتك من طوى لك البعيد من الارض ، فرجع النبي صلى الله عليه واله ، ثم إن خديجة رجعت إلى موضعها لتنظر هل تعود القبة أم لا ، وإذا بالقبة قد عادت وجبرئيل قد نزل ، والملائكة قد أحدقوا بها كالاول ، ففرحت خديجة بذلك ، وأنشأت تقول :

نعم لي منكم ملزم أي ملزم

 

ووصل مدى الايام لم يتصرم

ولو لم يكن قلب المتيم   فيكم

 

جريحا لما سالت دموعي بالدم

ولم يخل طرفي ساعة من خيالكم

 

ومن حبكم قلبي ومن ذكركم فمي

ولو جبلا حملتموه بعادكم

 

لمال وما زال جسمي وأعظمي

أشد على كبدي يدي فيردها

 

بما فيه من وجد من الشوق مضرم

طويت الهوى والشوق ينشر طيه

 

وكتمت أشجاني فلم تتكتم

فيارب قد طالت بنا شقة النوى

 

وأنت قدير تنظم الشمل فانظم

          قال :ثم أن النبي صلى الله عليه واله سار قليلا والتحق بالقوم وبعضهم يقظان ، وبعضهم رقود ، فلما أحس به ميسره قال : من الطارق في هذا الليل العاكر ؟ قال : أنا محمد بن عبد الله . قال : يا سيدي ما عهدتك أن تهزء وعهدي بك أنك سائر ، فما الذي أرجعك يا سيدي ؟ فقال له : يا ميسرة أني سافرت ثم  عدت ، فضحك ميسرة وقال : سافرت إلى ذيل هذا الجبل ، ثم عدت ؟قال : النبي صلى الله عليه واله :بل قصدت البيت الحرام ، فقال له ميسرة : ما عهدت منك يا سيدي إلا الصدق ، فقال : يا ميسرة ما قلت لك إلا الصدق فإن كان عندك شك فهذا خبر مولاتك خديجة ، وهذا ماء زمزم ، ، فلما نظر ميسرة إلى ذلك نهض قائما على قدميه ، ونادى : يا معاشر قريش ، ويا بني النضر ، ويا بني زهرة ، ويا بني هاشم هل غاب محمد عنكم غير ساعتين أو أقل من ذلك ؟ فقالوا : نعم ، قال : قد سار إلى مكة ورجع ، وهذا خبز مولاتي خديجة ، وهذا ماء زمزم ، فتعجب القوم ودهشت عقولهم ، وصاح أبوجهل لعنه الله وقال : لا يبعد هذا على الساحر ، فلما أصبح الصباح بلغ العرب ، سبق الخبر بقدوم القافلة ، وخرج أهل مكة مبادرين ، وسبق عبيد خديجة وجواريها وتفرقوا في شعاب مكة وأوديتها ، بأيديهم المعازف والمباخر ، فكان النبي صلى الله عليه واله ما يمر على عبد من عبيد خديجة إلا يعقر ناقة فرحا بقدومه ، ثم تفرق الناس إلى منازلهم ، ونظرت خديجة إلى جمالها وقد أقبلت كالعرائس ، وكانت معتادة أن يموت بعض جمالها ويجرب بعضها إلا تلك السفرة فإنها لم تنقص منها شعرة ، فوقف قريش متعجبين من تلك الجمال ، كلما مر بهم جمل بإزائه ناقة هيفاء  فيقولون :لمن هذا ؟فيقال هذا ما  أفاده محمد صلى الله عليه واله لخديجة من الشام ، فذهلت عقول قريش لذلك ، فلما اجتمعت أموال خديجة فكوا رحالها ، وعرضوا الجميع على خديجة وكانت جالسة خلف الحجاب ، والنبي صلى الله عليه واله جالس وسط الدار ، وميسرة يعرض عليها الامتعة شيئا فشيئا ، فنظرت خديجة إلى شئ قد أدهشها ، فبعثت إلى أبيها تعرفه بذلك ، وترغبه في محمد صلى الله عليه واله ، فلم تك إلا ساعة واحدة وإذا بخويلد قد أقبل ودخل منزل ابنته خديجة ، وهو متزين بالثياب ، متقلد سيفا ، فلما نظرت إليه قامت وأجلسته إلى جنبها ، وابتدأته بالترحيب ، وجعلت تعرض عليه البضائع ، وهي تقول : يا أبت هذا كله ببركة محمد صلى الله عليه واله ، والله يا أبتاه إنه مبارك الطلعة ، ميمون الغرة فما ربحت ربحا أغنم من هذه السفرة ، ثم التفت إلى ميسرة وقالت : حدثني كيف كان سفركم ؟ وما الذي عاينتم من محمد صلى الله عليه واله ؟ قال : يا سيدتي وهل اطيق أن أصف لك بعضا من صفاته وما عاينت منه صلى الله عليه واله ؟ ثم أخبرها بحديث السيل ، والبئر ، والثعبان ، والنخل ، وما أخبره الراهب ، وما أوصاه إلى خديجة ، فقالت : حسبك يا ميسرة : لقد زدتني شوقا إلى محمد صلى الله عليه واله ، إذهب فأنت حر لوجه الله ، وزوجتك وأولادك ، ولك عندي ما ئتادرهم ، وراحلتان ، وخلعت عليه خلعة سنية ، وقد امتلا سرورا وفرحا ، ثم إن خديجة التفتت إلى النبي صلى الله عليه واله وقالت : ادن مني فلا حجاب اليوم بيني وبينك ، ثم رفعت عنها الحجاب ، وأمرت أن ينصب له كرسي من العاج والآبنوس ، وأجلسته عليه ، وقالت : يا سيدي كيف كان سفركم ؟ فأخذ يحدثها بما باعه وما شراه ، فرأت خديجة ربحا عظيما ، وقالت : يا سيدي لقد فرحتني بطلعتك ، وأسعدتني برؤيتك ، فلا لقيت بؤسا ، ولا رأيت نحوسا ، ثم جعلت تقول : شعرا :

فلو أنني أمسيت في كل نعمة

 

ودامت لي الدنيا وملك الاكاسرة

فما سويت عندي جناح بعوضة

 

إذا لم يكن عيني لعينك ناظرة

قال : ثم إن خديجة قالت : يا سيدي لك عندي حق البشارة زيادة على ما كان بيننا فهل لك الساعة من حاجة فتقضى ؟ قال صلى الله عليه واله : حتى أستريح وأعود إليك ، ثم خرج ودخل منزله عمه أبي طالب ، وكان أبوطالب فرحا بما عاين من ابن أخيه ، فقبل ما بين عينيه وجاءت أعمامه حوله ، وقال أبوطالب : يا ولدي ما الذي أعطتك خديجة ؟ قال : وعدتني الزيادة على ما بيننا ، قال : هذه نعمة جليلة ، وقد عزمت أن أترك لك بعيرين تسافر عليهما ، وراحلتين تصلح بهما شأنك ، وأما الذهب والفضة أخطب لك بهما فتاة من نسوان قريش من قومك ثم لا ابالي بالموت حيث أتى ، وكيف نزل ، فقال : يا عماه افعل ما بدا لك ، فلما كان وقت الغداة اغتسل النبي صلى الله عليه واله من وعك السفر وتطيب وسرح رأسه ، ولبس أفخر أثوابه وسار إلى منزل خديجة ، فلم يجد عندها سوى ميسرة ، فلما رأته فرحت بقدومه ، وجعلت تقول :

دنا فرمى من قوس حاجبه سهما

 

فصادفني حتى قتلت به ظلما

وأسفر عن وجه وأسبل شعره
ذذذ

 

فبات يباهي البدر في ليلة ظلماء

ولم أدر حتى زار من غير موعد

 

على رغم واش ما أحاط به علما

وعلمني من طيب حسن حديثه

 

منادمة يستنطق الصخرة الصماء

قال : ثم التفت إليه وقالت : يا سيدي نعمت الصباح ، ودامت لك الافراح ، هل من حاجة فتقضى ؟ فاستحيا وطأطأ رأسه وعرق جبينه ، فأقبلت عليه تلاطفه في الكلام ، ثم قالت : يا سيدي إذا سألتك عن شئ تخبرني ؟ قال : نعم ، قالت خديجة : إذا أخذت الجمال والمال من عندي ما تريد أن تصنع به ؟ قال لها : وما تريدين بذلك يا خديجة ؟ قالت : أزيدك وما أقدر عليه ، قال اعلمى أن عمي أبا طالب قد أشار على أن يترك لي بعيرين اسافر بهما ، وبعيرين أصلح بهما شأني ، والذهب والفضة يخطب لي بهما امرأة من قومي تقنع مني بالقليل ، ولا تكلفني ما لا اطيق ، فتبسمت خديجة ، وقالت : يا سيدي أما ترضى  أني أخطب لك امرأة تحسن بقلبي ؟ قال : نعم ، قالت : قد وجدت لك زوجة ، وهي من أهل مكة من قومك ، وهي أكثرهن مالا واحسنهن جمالا وأعظمهن كمالا ، وأعفهن فرجا ، وأبسطهن يدا ، طاهرة مصونة ، تساعدك على الامور ، وتقنع منك بالميسور ولا ترضى من غيرك بالكثير ، وهي قريبة منك في النسب ، يحسدك عليها جميع الملوك والعرب ، غير أني أصف لك عيبها ، كما وصفت لك خيرها ، قال : وما ذلك ؟ قال : عرفت قبلك رجلين ، وهي أكبر منك سنا ، قال صلى الله عليه واله : سميها لي ، قالت : هي مملوكتك خديجة ، فأطرق منها خجلا حتى عرق جبينه : وأمسك عن الكلام ، فأعادت عليه القول مرة اخرى ، وقالت : يا سيدي مالك لا تجيب ؟ وأنت والله لي حبيب ، وإني لا اخالف لك أمرا ، وأنشأت تقول :

يا سعد إن جزت بوادي الاراك

 

بلغ قليبا ضاع مني هناك

واستفت غزلان الفلا سائلا

 

هل لاسير الحب منهم فكاك ؟

نعم سروا واستصحبوا ناظري

 

والآن عيني تشتهي أن تراك

ما في من عضو ولا مفصل

 

إلا وقد ركب منه هواك

عذبتني بالهجر بعد الجفاء

 

يا سيدي ماذا جزاء بذاك ؟

فاحكم بما شئت وما ترتضي

 

فالقلب ما يرضيه إلا رضاك

قال : ثم ألحت عليه بالكلام ، فقال لها : يا ابنة العم أنت امرأة ذات مال ، وأنا فقير لا أملك إلا ما تجودين به علي ، وليس مثلك من يرغب في مثلي ، وأنا أطلب امرأة يكون حالها كحالى ، ومالها كمالي ، وأنت ملكة لا يصلح لك إلا الملوك ، فلما سمعت كلامه قالت : والله يا محمد إن كان مالك قليلا فمالي كثير ، ومن يسمح لك بنفسه كيف لا يسمح لك بماله ؟ وأنا ومالي وجواري وجميع ما أملك بين يديك وفي حكمك ، لا أمنعك منه شيئا ، وحق الكعبة والصفا ما كان ظني أن تبعدني عنك ، ثم ذرفت عبرتها وقالت : شعرا :

والله ما هب نسيم الشمال
ذذ

 

إلا تذكرت ليالي الوصال

ولا أضا من نحوكم بارق

 

إلا توهمت لطيف الخيال

جور الليالي خصني بالجفا

 

منكم ومن يأمن جور الليل ؟

رقوا وجودا واعطفوا وارحموا

 

لا بد لي منكم على كل حال

قال : ثم إن خديجة قالت : ورب من احتجب عن الابصار ، وعلم حقيقة  الاسرار أني محقة لك في هذا الأمر ، قم إلى عمومتك وقل لهم : يخطبوني لك من أبي ، ولا تخف من كثرة المهر ، فهو عندي وأنا أقوم لك بالهدايا والمصانعات ، فسر وأحسن الظن فيمن أحسن بك الظن ، فخرج النبي صلى الله عليه واله من عندها ، ودخل على عمه أبي طالب والسرور في وجهه ، فوجد أعمامه مجتمعين ، فنظر إليه أبوطالب وقال : يابن أخي يهنئك ما أعطتك خديجة وأظنها قد غمرتك من عطاياها ، قال محمد صلى الله عليه واله : يا عم لي إليك حاجة ، قال : وما هي ؟ قال ، تنهض أنت وأعمامي هذه الساعة إلى خويلد ، وتخطبون لي منه خديجة ، فلم يرد أحد منهم عليه جوابا غير أبي طالب ، فقال : يا حبيبي إليك نصير ، وبأمرك نستشير في امورنا ، وأنت تعلم أن خديجة امرأة كاملة ميمونة فاضلة تخشي العار ، وتحذر الشنار ، وقد عرفت قبلك رجلين : أحدهما عتيق بن عائذ ، والآخر عمرو الكندي ، وقد رزقت منه ولدا ، وخطبها ملوك العرب ورؤساؤهم وصناديد قريش وسادات بني هاشم وملوك اليمن وأكابر الطائف ، وبذلوا لها الاموال ، فلم ترغب في أحد منهم ، ورأت أنها أكبر منهم ، وأنت يابن أخي فقير لا مال لك ولا تجارة ، وخديجة امرأة مزاحة عليك ، فلا تعلل نفسك بمزاحها ، ولا تسمع قريشا هذا الامر ، فقال أبولهب : يا ابن أخي لا تجعلنا في أفواه العرب ، وأنت لا تصلح لخديجة ، فقام إليه العباس وانتهره ، وقال : والله إنك لرذل الرجال ، ردي الافعال ، وما عسى أن يقولوا في ابن أخي ، والله إنه أكثر منهم جمالا ، وأزيد كمالا ، وبماذا تتكبر عليه خديجة ؟ لمالها أم لزيادة كمالها وجمالها ؟ فاقسم برب الكعبة لان طلبت عليه مالا لاركبن جوادي وأطوف في الفلوات ، ولادخلن على الملوك حتى أجمع له ما تطلب عليه خديجة . قال النبي صلى الله عليه واله : يا معاشر الاعمام قد أطلتم الكلام فيما لا فائدة فيه ، قوموا واخطبوا لي خديجة من أبيها ، فما عندكم من العلم مثل ما عندي منها ، فنهضت صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها ، وقالت : والله أنا أعلم أن ابن أخي صادق فيما قاله ، ويمكن أن تكون خديجة مازحة عليه ، ولكن أنا أروح وابين لكم الامر ، ثم لبست أفخر ثيابها وسارت نحو منزل خديجة ، فلقيتها بعض جواريها في الطريق فسبقتها إلى الدار ، وأعلمت خديجة بقدوم صفية بنت عبدالمطلب ، وكانت قد عزمت على النوم فأخلت لها المكان ، وقد عثرت خديجة بذيلها ، فقالت : لا أفلح من عاداك يا محمد ، فسمعت صفية كلام خديجة فقالت في نفسها : أجاد الدليل ، ثم طرقت الباب ، ففتح وجاءت إلى خديجة فلقيتها بالرحب والتحية ، وأرادت أن تأتي لها بطعام ، فقالت : يا خديجة ما جئت لآكل طعام ، بل يا ابنة العم جئت أسألك عن كلام أهو صحيح أم لا ؟ فقالت خديجة : بل هو صحيح إن شئت تخفيه أو شئت تبديه ، وأنا قد خطبت محمدا لنفسي ، وتحملت عنه مهري ، فلا تكذبوه إن كان قد ذكر لكم بشئ ، وإني قد علمت أنه مؤيد من رب السماء  فتبسمت صفية وقالت : والله إنك لمعذورة فيمن أحببت ، والله ما شاهدت عيني مثل نور جبينه ، ولا أعذب من كلام ابن أخي ، ولا أحلى من لفظه ثم أنشأت تقول : شعرا :

الله أكبر كل الحسن في العرب

 

كم تحت غرة هذا البدر من عجب

قوامه ثم إن مالت ذوائبه

 

من خلفه فهي تغنيه عن الادب

تبت يد اللآئمي فيه وحاسده

 

وليس لي في سواه قط من أرب

قال : ثم إن صفية رضي الله عنها عزمت على الخروج من بيتها ، فقالت لها خديجة : امهلي قليلا ، ثم أخرجت خلعة سنية وخلعتها على صفية ، وضمتها إلى صدرها ، وقالت يا صفية : بالله عليك إلا ما أعنتيني على وصال محمد صلى الله عليه واله ، قالت : نعم ، ثم خرجت طالبة لاخوتها ، فقالوا لها : ما وراءك يا صفية ، يا ابنة الطيبين ؟ قالت : يا إخواتي قوموا إن كنتم قائمين ، فوالله إن لها في ابن أخيكم محمد صلى الله عليه واله رغبة ليس تدرك ، ففرحوا بذلك كلهم غير أبي لهب ، فإن كلامها زاده غيظا وحسدا لمحمد صلى الله عليه واله ، وذلك بسبب الشقاوة السابقة فزعق بهم العباس وقال : فما قعودكم إذ كان قد حصل الامر ؟ فنهضوا جميعا إلى دار خويلد ، وقد عمد أبوطالب إلى النبي صلى الله عليه واله وألبسه أحسن الثياب ، وقلده سيفا ، وأركبه على جواده ، ودار حوله عمومته وكلهم محدقون به ، فلقاهم أبوبكر بن أبي قحافة وقال : إلى أين تريدون يا أولاد عبدالمطلب ؟ لقد كنت قاصدا إليكم في حاجة خطرت ببالي ، فقال له العباس : وما هي ؟ اذكرها ، قال : رأيت في منامي كأن نجما قد ظهر في منزل أبي طالب وارتفع إلى افق السماء ، وأنار واستنار إلى أن صار كالقمر الزاهر ، ثم نزل بين الجدران فتبعته ، فإذا هو قد دخل في بيت خديجة بنت خويلد ، ودخل معها تحت الثياب ، فما تأويله ؟ قال له أبوطالب : ها نحن لها قاصدون ، وعلى خطبتها معولون ، ثم ساروا حتى وصلوا منزل خويلد فسبقتهم الجواري إليه ، وكان يشرب الخمر ، وقد لعب الخمر في رأسه ، فلما نظر إلى بني هاشم قام لهم وقال : مرحبا وأهلا بأبناء آبائنا وأعز الخلق علينا ، فقال أبوطالب : يا خويلد ما جئنا إلا لحاجة ، وأنت تعلم قربنا منكم ، ونحن في هذا الحرم أبناء أب واحد ، وقد جئنا خاطبين ابنتك خديجة لسيدنا ، ونحن لها راغبون ، فقال خويلد : ومن الخاطب منكم ؟ ومن المخطوبة مني ؟ فقال أبوطالب : الخاطب منا محمد ابن أخي ، والمخطوبة خديجة ، فلما سمع ذلك خويلد تغير لونه وكبر عليه وقال : والله إن فيكم

الكفاية ، وأنتم أعز الخلق علينا ، ولكن خديجة قد ملكت نفسها وعقلها أوفر من عقلي وأنا لم تطب قلبي إن خطبها الملوك ، فكيف وهذا محمد فقير صعلوك ؟ فقام إليه حمزة رضي الله عنه فقال له : لا يقد اليوم بأمس ، ولا تشاكل القمر بالشمس يا بادي الجهل ويا خسيف العقل ، أما علمت أنك قد ضل رشدك . وغاب عقلك ، أتثلب ابن أخينا ؟ أما علمت أنه إذا أراد أموالنا وأرواحنا قدمنا الكل بين يديه ، ولكن سوف يبين لك غب فعلك ، ثم نفض أثوابه ونهض ، ونهض إخواته وساروا إلى منازلهم ، وبلغ الخبر خديجة من جارية لها ، فقالت : ما وراءك ؟ قالت : أمر يغم القلوب فقالت لها : ماذا يا ويحك ؟ قالت : إن أباك قد رد أولاد عبدالمطلب خائبين ، فلما سمعت خديجة كلامها قالت : اطلبي لي عمي ورقة ، فخرجت الجارية وعادت ومعها ورقة ، فلما جاءها استقبلته بأحسن قبول ، وقالت : مرحبا بك يا عم ، فلا غابت طلعتك عني ، ثم طرقت إلى الارض وقد قطب حاجباها ، فقال ورقة : حاشاك يا خديجة من السوء ، ما الذي حل بك ؟ قالت : يا عم ما حال السائل ؟ وما نال المسؤل ؟ قال : في أنحس حال ، قال  : ولكن أراك  يا خديجة تخاطبيني بهذا الكلام ، كأنك تريدين الزواج ؟ قالت : أجل ، قال : يا خديجة لقد خطبك الملوك والصناديد ، ولم ترضى بأحد منهم ، قالت : ما اريد من يخرجني من مكة ، فقال : والله ما منها أحد إلا وقد خطبك ، مثل شيبة بن ربيعة ، وعقبة بن أبي معيط ، وأبي جهل بن هشام ، والصلت بن أبي يهاب فأبيتي عنهم جميعا ، قالت : ما اريد من فيه عيب ، ثم قالت : يا عم صف لي عيبهم ، قال : يا خديجة أما شيبة ففيه سوء الظن ، وأما عقبة فهو كثير السن ، وأما أبوجهل فهو بخيل متكبر ، كريه النفس ، وأما الصلت فهو رجل مطلاق ، فقالت : لعن الله من ذكرت ، وهل تعلم أنه خطبني  غير هؤلاء ؟ قال : سمعت أنه قد خطبك محمد بن عبدالله بن عبدالمطلب بن هاشم ، قالت يا عم صف لي عيبه ، وكان ورقة عنده علم من الكتب السالفة بما يكون من أمر محمد صلى الله عليه واله ، فلما سمع كلامها طأطأ رأسه وقال : أصف لك عيبه ؟ قالت : نعم ، قال : أصله أصيل ، وفرعه طويل وطرفه كحيل ، وخلقه جميل ، وفضله عميم ، وجوده عظيم ، والله يا خديجة ما كذبت فيما قلت ، قالت : يا عم صف لي عيبه كما وصفت لي خيره ، قال : يا خديجة : وجهه أقمر ، وجبينه أزهر ، وطرفه أحور ، ولفظه أعذب من المسك الاذفر ، وأحلى من السكر ، وإذا مشى كأنه البدر إذا بدر ، والوبل إذا أمطر ، قالت : يا عم صف لي عيبه ، قال : يا خديجة مخلوق من الحسن الشامخ ، والنسب الباذخ ، وهو أحسن العالم سيرة ، وأصفاهم سريرة ، إذا مشى تخاله ينحدر من صبب ، شعره كالغيهب ، وخده أزهر من الورد الاحمر ، وريحه أزكى من المسك الاذفر ، ولفظه أعذب من الشهد وأخير ، اشهدك يا خديجة أني احبه  قالت : يا عم أراك كلما قلت لك : صف لي عيبه وصفت لي حسنه ؟ قال : يا ابنتي وهل أنا أقدر على وصف خيره ، ثم أنشأ يقول :

لقد علمت كل القبائل والملا

 

بأن حبيب الله أظهرهم قلبا

وأصدق من في الارض قولا وموعدا

 

وأفضل خلق الله كلهم قربا

فقالت : يا ورقة إن أكثر الناس يثلبونه ، قال : ثلبهم له إنه فقير ، قالت : يا عم أما سمعت قول الشاعر :

إذا سلمت رؤوس الرجال من الاذى

 

فما المال إلا مثل قلم الاظافر

ولكن يا عم إذا كان ماله قليلا فما لي كثير ، وإني يا عم محبة له على كل حال ، فقال لها : إذن والله تسعدين وترشدين وتحضين بنبي كريم ، فقالت : يا عم أنا الذي خطبته لنفسي ، فقال لها ورقة : وما الذي تعطيني وأنا ازوجك في هذه الليلة بمحمد ؟ فقالت : يا عم وهل لي شئ دونك ، أم يخفى عليك ؟ وهذه ذخائري بين يديك ، ومنزلي لك ، وأنا كما قال القائل شعرا :

إذا تحققتم ما عند صاحبكم

 

من الغرام فذاك العذر يكفيه أنتم

سكنتم بقلبي فهو منزلكم

 

وصاحب البيت أدرى بالذي فيه

ثم قال ورقة : يا خديجة ست اريد شيئا من حطام الدنيا ، وإنما اريد أن تشفعي لي عند محمد صلى الله عليه واله يوم القيامة واعلمي يا خديجة أن بين أيدينا حساب وكتاب وعقاب وعذاب ، ولا ينجو إلا من تبع محمدا ، وصدق برسالته ، فياويل من زحزح عن الجنة وادخل النار ، فلما سمعت خديجة كلامه قالت : يا عم لك عندي ما طلبت ، فخرج ورقة ودخل على أخيه خويلد وقد غلب عليه السكر ، فجلس ورقة وقد ظهر الغيظ في وجهه ، وقال : يا أخي ما أغفلك عن نفسك ؟ تريد أن تقتلها أنت بنفسك ؟ فقال : ومن أين علمت يا أخي ؟ فقال : لقد خلفت بني عبدالمطلب وقلوبهم تغلي عليك كغلي القدر ، وقد أراد حمزة أن يهجم عليك في دارك ، فقال خويلد : يا أخي وأي ذنب أذنبته عليهم حتى يفعلوا بي ذلك ؟ قال : سمعتهم يقولون إنك تثلب ابن أخيهم وهو عليك قبيح ، إن كان قد وقع منك ذلك والله ما وطئ الحصى مثل محمد ، أنسيت ما جرى له في صغره ، وما بان له في كبره ؟ والله ما يثلبه إلا لئيم ، قال خويلد : والله يا أخي ما ثلبت الرجل ، وإنه خير مني وإنما أراد أن يتزوج بخديجة ، فقال له أخوه : ماذا تنكر منه ؟ قال خويلد : والله يا أخي ما أقول فيه : شيئا ، ولكن خشيت من وجهين : الاول تسبني العرب حيث أنى رددت أكابرهم وساداتهم ، وازوجها الآن بفقير لا مال له ، والثاني أنها لا ترضاه فقال ورقة : إن العرب ما منهم إحد إلا ويحب أن يزوجه بابنته ، ويشتهي أن يكون محمد نسيبه وقريبه ، وأما خديجة فمذ عاينت فضله رضيت به ، وأما أنت فقد جلبت لنفسك عداوة بني هاشم على غير شئ ، وإنهم ما يتركونك غير ساعة لا سيما الاسد الهجوم ، حمزة القضاء المحتوم ، لا يصده عنك صاد ، ولا يرده عنك راد ، والله إن قبلت نصحي ، وسرت معي إلي بني هاشم سألتهم أن يرفعوا عنك يد العداوة ، وتزوج محمدا صلى الله عليه واله بخديجة، والله ما تصلح إلا له ، ولا يصلح إلا لها ، فقال : يا أخي أخاف أن يهجموا بي ويقتلوني ، فقال ورقة : ضمان هذا الامر علي ، فلا تخف ، فنهضا جميعا وسارا حتى دخلا على أولاد عبدالمطلب ، فوقفا على الباب وكان من الامر المقدر أن في ذلك الوقت كان أولاد عبدالمطلب جالسين ، وبينهم النبي صلى الله عليه واله ، فنظر إليه حمزة وقال : يا قرة العين ما تقول ؟ والله لئن أمرتني لآتينك في هذه الساعة برأس خويلد ، فقال خويلد لورقة : اسمع يا أخي ، فقال ورقة اسمع أنت ، فقال ، خويلد : دعني أرجع ، قال ورقة : لا ، وانظر الآن ما أصنع ، دعنا نأتي إليهم فإنهم لا يبعدون ، من يأتي إليهم ، ثم إن ورقة قرع الباب فقال النبي صلى الله عليه واله : لقد جاءكم خويلد وأخوه ورقة ، فقام حمزة فأدخلهم ، ويد خويلد في يد ورقة ، ونادى : نعمتم صباحا ومساء وكفيتم شر الاعداء ، يا أولاد زمزم والصفا ، فناداه أبوطالب : وأنت يا خويلد كفيت ما تحذر وتخشى ، فانتهره حمزة وقال : لا أهلا ولا سهلا لمن طلب منا بعدا ، وأرانا هجرا وصدا ، قال خويلد : ما كان ذلك مني يا سيدي ، وأنتم تعلمون أن خديجة وافرة العقل ، مالكة نفسها ، وإنما تكلمت بهذا الكلام حتى أسمع ما تقول ، والآن عرفت أن المرأة فيكم راغبة ، فلا تؤاخذوني بما جرى ، ونحن كما قال الشاعر : 

ومن عجب الايام إنك هاجري

 

وما زالت الايام تبدئ العجائبا

وما لي ذنب أستحق به الجفا

 

وإن كان لي ذنب أتيتك تائبا

والآن قد رضيت لرضاها ، ولاجل القرابة والنسب ، وقال : شعرا :

عودوني الوصال فالوصل عذب

 

وارحموا فالفراق والهجر صعب

زعموا حين عاينوا أن جرمى

 

فرط حبي لهم وما ذاك ذنب

لا وحق الخضوع عند التلاقي

 

ما جزى من يحب أن لا يحب

فقال عند ذلك حمزة : يا خويلد أنت عندنا عزيز كريم ، ولكن ما كان يجوز منك إذا جئناك أن تبعدنا ، فقال ورقة : إنا لنحب محمدا أشد محبة ، ونحن على ما تقولون ، ولكن اريد يا بني هاشم أن تكون هذه الخطبة في غداة غد على رؤوس الانام ، حتى يسمع الغائب والحاضر ، فقال حمزة : لا نخالفكم فيما تقولون ، فقال ورقة : اعلمكم أن أخي له لسان لا يخلص به عند العرب ، واريد أن يوكلني في أمر ابنته خديجة ، حتى أصير أنا المجاوب ، وأنتم تعلمون أنى قد قرأت سائر الكتب وعرفت  سائر الاديان ، فقال حمزة : وكله يا خويلد على ذلك ، فقال خويلد : اشهدكم يا أولاد هاشم أني قد وكلت أخي ورقة في أمر ابنتي خديجة ، فقال ورقة : اريد أن يكون هذا الامر عند الكعبة ، فساروا جميعا إلى الكعبة ، فوجدوا العرب مجتمعين بين زمزم والمقام ، وهم جماعات كثيرة ، منهم الصلت بن أبي يهاب ، ولئيمة بن الحجاج ، وهاشم بن المغيرة ، وأبوجهل بن هشام ، وعثمان بن مبارك العميري ، وأسد بن غويلب الدارمي ، وعقبة بن أبي معيط ، وامية بن خلف ، وأبوسفيان بن حرب ، فناداهم ورقة : نعمتم صباحا يا سكان حرم

الله ، فقالوا كلهم : أهلا وسهلا يا أبا البيان ، فقال ورقة : يا معشر قريش ، يا جميع من حضر أني أسألكم ، ما تقولون في خديجة بنت خويلد ؟ فنطق العرب بأجمعهم فقالوا : بخ بخ ، لقد ذكرت والله الشرف الاوفى ، والنسب الاعلى ، والرأي الازكى ، ومن لا يوجد لها نظير في نساء العرب والعجم ، فقال : أتحمدون أن تكون بلا بعل ؟ فقالوا : ليس بواجب ، وقد وجدنا الخطاب لها كثيرا ، وهي تأبى ، قال ورقة : يا سادات العرب ألا وإن

هذا أخي قد وكلني في أمرها ، وهي قد أمرتي ن أن ازوجها ، وأعلمتني أن لها رغبة في  سيد من سادات قريش ، وسألتها أن تسميه لي ، فأبت ، واحب أن تسمعوا الوكالة منه ، وأن تحضروا كلكم جميعا غداة غد في منزلها ، فما تسعكم غير دارها ، وكان لها دار واسعة تسع أهل مكة ، فلما سمعوا كلامه لم يبق أحد منهم إلا يقول : أنا هو المطلوب ، فقالوا : نعم الوكيل والكفيل أنت ، فقال ورقة لاخيه خويلد : تكلم ما دامت السادات حاضرين ، قال خويلد : اشهدكم يا سادات العرب على أني قد نزعت نفسي من أمر ابنتي خديجة ، وجعلت وكيلي وكفيلي في هذا الامر أخي ، فلا رأي فوق رأيه ، ولا أمر فوق أمره ، فقال ورقة : اسمعوا أيها السادات ، وإنه غير مجنون ولا مجبور ولا مخمور ، وإني ازوجها بمن شئت ، فقال العرب : سمعنا وأطعنا وشهدنا ، وخرج خويلد وقد ذهب حكمها من يده ، وسار ورقة إلى منزل خديجة وهو فرح مسرور ، فلما نظرت إليه قالت : مرحبا وأهلا بك يا عم ، لعلك قضيت الحاجة ، قال : نعم يا خديجة يهنئك ، وقد رجعت أحكامك إلي ، فأنا وكيلك ، وفي غداة غد ازوجك إن شاء الله تعالى بمحمد صلى الله عليه واله ، فلما سمعت.خديجة كلامه فرحت وخلعت عليه خلعة قد اشتراها عبدها ميسرة من الشام بخمس مأة دينار ، فقال ورقة : لا ترغبيني في مثل هذا ، فلست براغب فيه ، وإنما الرغبة في شفاعة محمد صلى الله عليه واله ، فقالت : لك ذلك ، ثم قال لها : يا خديجة قومي هذه الساعة ، وجهزى أمرك ، وجملي منزلك ، واخرجي ذخائرك ، وعلقي ستورك ، وانشري حللك ، واكمدي عدوك ، فما يدخر المال إلا لمثل هذا اليوم ، واصنعي وليمة لا يعوزك  فيها شئ ، فإن العرب في غداة غد يأتون كلهم إلى دارك ، فلما سمعت منه ذلك نادت في عبيدها وجواريها ، وأخرجوا الستور والمساند والوسائد والبسط المختلفة الالوان والحلل ذات الاثمان والعقود والقلائد ونشرت الرايات

وقد روت الرواة الذين شاهدوا تلك الليلة أن تلك العبيد والاماء الذين كانوا برسم الخدمة لحمل الآنية ثمانون عبدا ، وذبحت الذبائح ، وعقرت العقائر ، وعقدت الحلاوات من كل لون ، وجمعت الفواكه من كل فاكهة ، وقصد ورقة منزل أبي طالب فوجده وإخوته مجتمعين ، فقال لهم : نعمتم صباحا ومساء ، ما يحبسكم عن إصلاح أمركم ، انهضوا في أمر خديجة ، فقد صار أمرها بيدي ، فاذأ كان غداة غد إن شاء الله تعالى ازوجها بمحمد صلى الله عليه وآله ، فعندها قال محمد صلى الله عليه واله : لا أنسى الله لك ذلك يا ورقة ، وجزاك فوق صنيعك معنا ، ثم قال أبوطالب : الآن والله طاب قلبي ، وعلمت أن أخي قد بلغ المنى ، وقام لعمل الوليمة وإخوته عنده ، فعند ذلك اهتز العرش والكرسي ، وسجد الملائكة وأوحى الله تعالى إلى رضوان خازن الجنان أن يزينها ، ويصف الحور والولدان ، ويهيأ أقداح الشراب ، ويزين الكواعب والاتراب وأوحى إلى الامين جبرئيل عليه السلام ، أن ينشر لواء الحمد على الكعبة ، وتطاولت الجبال ، وسبحت بحمد الملك المتعال ، على ما خص به محمدا صلى الله عليه واله ، وفرحت الارض ، وباتت مكة تغلي بأهلها كما يغلي المرجل على النار ، فلما أصبحوا أقبلت الطوائف والاكابر والقبائل والعشائر ، فلما دخلوا منزل خديجة وجدوها وقد أعدت لهم المساند والوسائد والكراسي والمراتب ، وجعلت مجلس كل واحد منهم في مرتبته ومحله ، فدخل أبوجهل لعنه الله وهو يختال في مشيته وزينته ، وقد أرخى ذوائبه من ورائه ، وحمائل سيفه على منكبه ، وقد أحدقت به بنو مخزوم ، فنظر إلى صدر المجلس وقد نصب فيه كرسي عظيم ، وتحته أحد عشر كرسيا ، في أعلى مكان مصفوفا لم ير أحسن منها ، فتقدم وأراد الجلوس على ذلك السرير العالي ، فصاح به ميسرة وقال له : يا سيدي تمهل قليلا ولا تعجل ، فقد وضعت منزلك عند بني مخزوم ، فرجع هو خجلان ، وجلس فما كان إلا قليلا وإذا بأصوات قد علت ، والعرب قد تواثبت ، وقد أقبل العباس وحمزة إلى جانبه ، وسيفه مجرد من غمده ، وأبوطالب يقدمهم ، وحمزة يقول : يا أهل مكة الزموا الادب ، وقللوا الكلام ، وانهضوا على الاقدام ، ودعوا الكبر ، فإنه قد جاءكم صاحب الزمان محمد المختار ، من الملك الجبار ، المتوج بالانوار ، صاحب الهيبة والوقار ، قد ورد عليكم ، فنظرت العرب وإذا بالنبي صلى الله عليه واله قد جاء ، وهو معتم بعمامة سودآء ، تلوح ضيآء جبينه من تحتها ، وعليه قميص عبدالمطلب ، وبردة الياس ، وفي رجليه نعلان لجده عبدالمطلب ، وفي يده قضيب إبراهيم الخليل ، متختم بخاتم من العقيق الاحمر ، والناس محدقون به ، ينظرون إليه ، وقد أحاطت به عشيرته ، وحمزة يحجبه عن أعين الناظرين ، وقد شخصت إليه جميع المخلوقات والموجودات بالاشارة يسلمون عليه ، وقد ذهلت العرب مما رأوا منه ، وقام كل قاعد منهم على قدميه ، وجلس النبي صلى الله عليه واله وأعمامه في أعلى موضع ومكان ، وهو المكان الذي نحي عنه أبوجهل وأصحابه ، ولم يبق منهم جالس غير أبوجهل لعنه الله وأخزاه ، وقال : إن كان الامر لخديجة لتأخذن محمدا ، فتقدم إليه حمزة كالاسد ، وقبض على أطرافه ، وقال له : قم لاسلمت من النوائب ، ولا نجوت من المصائب ، فأخذ أبوجهل يده وضربها في قائم سيفه ، فسبقه حمزة ، وقبض على يده حتى نبع الدم من تحت أطفاره ، ووكزه الحارث وقال له : ويلك يا ابن هاشم ما أنت عديل من نهض إليك من جملة الناس ، ورأيت أنك أشرف منهم ، لئن لم تقعد لآخذ رأسك ، فخاف الفتنة وسكت وظن أنه زوج خديجة ، فلما استقر بالناس الجلوس إذا ، بخويلد قد أقبل ، ودخل على خديجة وهي تحت حجابها ، وقال : يا خديجة أين عقلك ؟ وأين سوددك ؟ أنا لم أرض لك بالملوك ، ورددتهم كبرا عليهم ، وترضين الآن لنفسك بصبي صغير فقير يتيم ليس له مال أبدا ، قد كان لك أجيرا ، وهذا اليوم يكون لك بعلا ؟ لا كان ذلك أبدا ، والآن إن قبلتيه لاعلينك بهذا السيف ، واليوم لا شك فيه تسفك الدماء ، ونهض على قدميه وخرج كأنه مجنون حتى وقف على صدر المجلس وقال : يا معاشر العرب ، ويا ذوي المعالي والرتب ، اشهدكم على أني لم أرض محمدا لابنتي بعلا ، ولو دفع لي وزن جبل أبي قبيس ذهبا ، فما بيني وبينه إلا السيوف ، فما مثلي من يخدع بشرب المدام ، ثم قال :

ولو أنها قالت : نعم لعلوتها

 

بشفرة حد للجماجم فاصل

فمن رام تزويج ابنتي بمحمد

 

وإن رضيت يا قوم لست بقابل

قال : فلما سمع أعمام النبي صلى الله عليه واله كلامه والحاضرون قال حمزة لاخيه أبي طالب مع إخوته : ما بقي للجلوس موضع ، قوموا بنا ، فبينا هم في ذلك إذ أقبلت جارية لخديجة ، وأشارت إلى أبي طالب فقام معها ، ووقف أبو طالب خلف الحجاب ، فسلمت عليه خديجة ، وقالت : نعمت صباحا ومساء ، يا سيد الحرم ، لا تغتر بشقشقة أبي ، فإنه ينصلح بشئ قليل ، ثم أعطته كيسا فيه ألفا دينار ، وقالت : يا سيدي خذ هذا وسر به إليه ، كأنك تعاتبه وصبه في حجره ، فإنه يرضى ، فسار أبوطالب والناس حاضرون ، وقال له : يا خويلد ادن مني ، قال : لا أدنو منك أبدا ، قال : يا خويلد إنه كلام تسمعه ، فإن لم يرضك فما أحد يقهرك ، وفتح أبوطالب الكيس وصبه في حجر خويلد ، وقال له : هذه عطية من ابن أخي لك ، غير مهر ابنتك ، فلما رأى خويلد المال انطفت ناره ، وأقبل ووقف في الموقف الاول على رؤوس الجمع ونادى بأعلى صوته : يا معاشر العرب ، وذوي المعالي والرتب ، فوالله ما أظلت الخضرآء ولا أقلت الغبراء بأفضل من محمد ، ولقد رضيته لابنتي بعلا وكفوا ، فكونوا على ذلك من الشاهدين ، ثم قال العباس وقال : يا معاشر العرب لم تنكرون الفضل لاهله ، هل سقيتم الغيث إلا بابن أخي ؟ وهل اخضر زرعكم إلا به ؟ وكم له عليكم من أياد كتمتموها ، ولزمتم له الحسد والعناد ؟ وبالله اقسم ما فيكم من يعادل صيانته ولا أمانته ، واعلموا أن محمدا صلى الله عليه واله لم يخطب خديجة لمالها ولا جمالها ، إن المال زائل وإلى نفاد ، ثم إن خويلدا أقبل وجلس إلى جانب رسول الله صلى الله عليه واله ، وأمسك الناس عن الكلام حتى يسمعوا ما يقول خويلد ، فقال خويلد : يا أبا طالب ما الانتظار عما طلبتم ؟ اقضوا الامر ، فإن الحكم لكم ، وأنتم الرؤسآء والخطبآء ، والبلغآء والفصحآء ، فليخطب خطيبكم ، ويكون العقد لنا ولكم ، فنهض أبوطالب وأشار إلى الناس أن انصتوا ، فأنصتوا فقال : الحمد لله الذي جعلنا من نسل إبراهيم الخليل ، وأخرجنا من سلالة إسماعيل ، وفضلنا وشرفنا على جميع العرب ، وجعلنا في حرمه ، وأسبغ علينا من نعمه ، وصرف عنا شرنقمه وساق إلينا الرزق من كل فج عميق ، ومكان سحيق ، والحمد لله على ما أولانا ، وله الشكر على ما أعطانا ، وما به حبانا وفضلنا على الانام وعصمنا عن الحرام ، وأمرنا بالمقاربة والوصل ، وذلك ليكثر منا النسل وبعد فاعلموا يا معاشر من حضر ، أن ابن أخينا محمد بن عبدالله خاطب كريمتكم الموصوفة بالسخآء والعفة ، وهي فتاتكم المعروفة ، المذكور فضلها ، الشامخ خطبها ، وهو قد خطبها من أبيها خويلد على ما يحب من المال ثم نهض ورقة وكان إلى جانب أخيه خويلد وقال : نريد مهرها المعجل دون المؤجل أربعمائة ألف دينار ذهبا ، ومأة ناقة سود الحدق ، حمر الوبر ، وعشر حلل ، وثمانية وعشرين عبدا وأمة ، وليس ذلك بكثير علينا قال له أبوطالب : رضينا بذلك ، فقال خويلد : قد رضيت وزوجت خديجة بمحمد على ذلك ، فقبل النبي صلى الله عليه واله عقد النكاح ، فنهض عند ذلك حمزة وكان معه دراهم فنثرها على الحاضرين ، وكذلك أصحابه ، فقام أبوجهل لعنه الله وقال : يا قوم رأينا الرجال يمهورن النسآء أم النسآء يمهرون الرجال ؟ فنهض أبوطالب رضي الله عنه ، وقال : ما لك يا لكع الرجال ، ويا رئيس الارذال ؟ مثل محمد صلى الله عليه واله يحمل إليه ويعطى ، ومثلك من يهدي ولا يقبل منه ، ثم سمع الناس مناديا ينادي من السمآء : إن الله تعالى قد زوج بالطاهر الطاهرة ، وبالصادق الصادقة ، ثم رفع الحجاب ، وخرجت منه جوار بأيديهن نثار ينثرن على الناس ، وأمر الله عزوجل جبرئيل أن يرسل على الناس الطيب على البر والفاجر ، فكان الرجل يقول لصاحبه : من أين لك هذا الطيب ؟ فيقول : هذا من طيب محمد ، ثم نهض الناس إلى منازلهم ، ومضى رسول الله صلى الله عليه واله إلى منزل عمه أبي طالب رضي الله عنه ، وأعمامه حوله ، وهو كالقمر ، فاجتمعت نسوان قريش ونسوان بني عبدالمطلب وبني هاشم في دار خديجة ، والفتيان يضربن الدفوف ، وبعثت خديجة من يومها أربعة آلاف دينار إلى رسول الله صلى الله عليه واله ، وقالت : يا سيدي انفذها إلى عمك العباس ينفذها إلى أبي ، وأرسلت مع المال خلعة سنية ، فسار بها العباس وأبوطالب إلى منزل خويلد وألبساه الخلعة ، فقام خويلد من وقته وساعته إلى دار خديجة ، وقال : يا بنتي ما الانتظار بالدخول ؟ جهزي نفسك ، فهذا مهرك قد أتوا به إلي ، وأعطوني هذه الخلعة ، والله ما تزوج أحد بزوج مثلك ، لا في الحسن ولا في الجمال ، فسمع أبوجهل ذلك فقام في الناس يقول : هذا المال من عند خديجة ، فبلغ الخبر أبا طالب فخرج من وقته وساعته متقلدا سيفه ، ووقف في الابطح والعرب مجتمعون ، وقال : يا معاشر العرب سمعنا قول قائل وعيب عائب ، فإن كانت النسآء قد أقمن بواجب حقنا فليس ذلك بعيب ، وحق لمحمد أن يعطى ويهدى إليه ، فهذا جرى منها على رغم أنف من تكلم ، وتكلم بعض قريش من المبغضين بالازرآء على خديجة حيث تزوجها محمد صلى الله عليه واله ، وبلغ الخبر إلى خديجة فصنعت طعاما ودعت نسآء المبغضين ، فلما اجتمعن وأكلن قالت لهن : معاشر النسآء بلغني

أن بعولتكن عابوا علي فيما فعلته من أني تزوجت محمدا ، وأنا أسألكم هل  فيكم مثله ، أو في بطن مكة شكله  من جماله  وكماله وفضله وأخلاقه الرضية ؟ وأنا قد أخذته لاجل ما قد رأيت منه ، وسمعت منه أشيآء ما أحد رآها ، فلا يتكلم أحد فيما لا يعنيه ، فكف كل منهن عن الكلام

ثم إن خديجة قالت لعمها ورقة : خذ هذه الاموال وسر بها إلى محمد صلى الله عليه واله وقل له إن هذه جميعها هدية له ، وهي ملكه يتصرف فيها كيف شاء ، وقل له : إن مالي وعبيدي وجميع ما أملك وما هو تحت يدي فقد وهبته لمحمد صلى الله عليه واله إجلالا وإعظاما له ، فوقف ورقة بين زمزم والمقام ونادى بأعلى صوته : يا معاشر العرب إن خديجة تشهدكم على أنها قد وهبت نفسها ومالها وعبيدها وخدمها وجميع ما ملكت يمينها والمواشي والصداق والهدايا لمحمد صلى الله عليه واله ، وجميع ما بذل لها مقبول منه ، وهو هدية منها إليه إجلالا له وإعظاما ورغبة فيه ، فكونوا عليها من الشاهدين ، ثم سار ورقة إلى منزل أبي طالب رضي الله عنه ، وكانت خديجة قد بعثت جارية ومعها خلعة سنية ، وقالت : ادخليها إلى محمد صلى الله عليه واله ، فإذا دخل عليه عمي ورقة يخلعها عليه ليزداد فيه حبا ، فلما دخل ورقة عليهم قدم المال إليهم ، وقال : الذي قالته خديجة ، فقام النبي صلى الله عليه واله وأفرغ عليه الخلعة ، وزاده خلعة اخرى ، فلما خرج ورقة تعجب الناس من حسنه وجماله ، ثم أخذت خديجة في جهازها ، واعتدت صوافي الذهب والفضة ، وفيها الطيب والمسك والعنبر ، فلما كانت الليلة الثالثة دخل عليها عمات النبي صلى الله عليه واله واجتمع السادات والاكابر في اليوم الثالث كعادتهم ، ونهض العباس وهو يقول :

أبشروا بالمواهب آل فهر وغالب !

 

افخروا يا آل قومنا بالثنآء والرغائب

شاع في الناس فضلكم وعلى في المراتب 

 

قد فخرتم بأحمد زين كل الاطايب

فهو كالبدر نوره مشرق غير غائب

 

قد ظفرتي خديجة بجليل المواهب

بفتى هاشم الذي ماله من مناسب

 

جمع الله شملكم فهو رب المطالب

أحمد سيد الورى خير ماش وراكب

 

فعليه الصلاة ما سار عيس براكب

ثم إن خديجة قالت : اعلموا أن شأن محمد صلى الله عليه واله عظيم ، وفضله عميم ، وجوده جسيم ، ثم نثرت عليهن من المال والطيب ما دهش الحاضرين ، وشجر طوبى تنثر في الجنة على الحور العين ، فجعلن يلتقطن النثار ، ثم يتهادينه ، ثم إن خديجة أنفذت إلى أبي طالب غنما كثيرا ودنانير ودراهم وثيابا وطيبا ، وعمل أبوطالب وليمة عظيمة ، ووقف النبي صلى الله عليه واله وشد وسطه ، وألزم نفسه خدمة جميع الناس ، وأقام لاهل مكة الوليمة ثلاثة أيام ، وأعمام النبي صلى الله عليه واله تحته في الخدمة ، وأنفذت خديجة إلى الطائف وغيره ، ودعت أهل الصنايع إلى منزلها ، وصاغت المصاغ والحلي ، وفصلت الثياب ، وعملت الشمع بالعنبر على هيئة الاشجار ، وأجرت عليه الذهب ، وعملت فيه التماثيل من المسك والعنبر ، ولم تزل تعمل في شغل العرس ستة أشهر حتى فرغت من جميع ما تحتاج إليه ، وعلقت ستور الديباج المطرز ، ونقشت فيها صورة الشمس والقمر ، وفرشت المجالس ، ووضعت المساند والوسائد من الديباج والخز ، وفرشت لرسول الله صلى الله عليه واله مجلسا على سرير تحت الابريسم والوشي ، والسرير من العاج والآبنوس ، مصفح بصفائح الذهب الوهاج ،

وألبست جواريها وخدمها ثياب الحرير والديباج المختلفات الالوان ، ونظمت شعورهن باللؤلؤ والمرجان ، وسورتهن ، ووضعت في أعناقهن قلائد الذهب ، وأوقفت الخدم بأيديهن المجامر من الذهب ، وفيها الطيب والعنبر والبخور من العود والند، وجعلت في يد كل واحدة من الخدم مراوح منقوشة بالذهب ، مقصبة  بالفضة ، وأوقفتهن عند مجلس رسول الله صلى الله عليه واله ، ودفعت إلى بعضهن الدفوف والشموع ، ونصبت في وسط الدار معا كثيرا على أمثال النخيل ، فلما فرغت من ذلك دعت نسوان أهل مكة جميعهن فأقبلن إليها ، ورفعت مجلس عمات النبي صلى الله عليه واله ، ثم أرسلت إلى أبي طالب ليحضر وقت الزفاف ، فلما كان تلك الليلة أقبل النبي صلى الله عليه واله بين أعمامه ، وعليه ثياب من قباطي  مصر ، وعمامة حمرآء ، وعبيد بني هاشم بأيديهم الشموع والمصابيح ، وقد كثر الناس في شعاب مكة ينظرون إلى محمد صلى الله عليه وآله ، ومنهم من وقف على السرادقات والنور يخرج من بين ثناياه ومن جبينه ومن تحت ثيابه ، فلما وصلوا إلى دار خديجة دخل هو صلوات الله عليه وآله وهو كأنه القمر في تمامه ، قد خرج من الافق ، وأعمامه محدقون به كأنهم اسود الشرى

في أحسن زينة وفرحة ، يكبرون الله ويحمدونه على ما وصلوا إليه من الكرامة ، فدخلوا جميعا إلى دارها ، وجلس النبي صلى الله عليه واله في المجلس الذي هيئ له في دار خديجة رضي الله عنها ، ونوره قد علا نور المصابيح ، فذهلت النساء مما رأين من حسنه وجماله ، ثم هيئوا خديجة للجلاء ، فخرجت أول مرة وعليها ثياب معمدة ، وعلى رأسها تاج من الذهب الاحمر ، مرصع بالدر والجوهر ، وفي رجليها خلخالان من الذهب ، منقوش بالفيروزج ، لم تر الاعين له نظيرا ، وعليه قلائد لا تحصى من الزمرد والياقوت ، فلما برزت ضربن النساء الدفوف وجعلت بعض النساء تقول :  شعرا :

أضحى الفخار لنا وعز الشأن

 

ولقد فخرنا يا بني العدنان

أخديجة نلت العلا بين الورى

 

وفخرت فيه جملة الثقلان

أعني محمدا الذي لا مثله

 

ولد النساء في سائر الازمان

فيه المكارم والمعالي والحيا

 

ما ناحت الاطيار في الاغصان

صلوا عليه وسلموا وترحموا

 

فهو المفضل من بني عدنان

فتطاولي فيه خديجة ! واعلمي

 

أن قد خصصت بصفوة الرحمان

ثم أقبلن بها نساء بني هاشم للجلوة الثانية على رسول الله صلى الله عليه واله ، وقد أشرق من نور وجهها نور علا على جميع المصابيح والشموع ، فتعجبت منها بنات عبدالمطلب حتى زاد فيها نور لم يرى الراؤون مثله ، وذلك فضل لرسول الله صلى الله عليه واله وعطية من الله تعالى لها ، وأقبلوا بها ، وقد فاقت على جميع من حضر ، وعليها سقلاط أبيض مذهب ، مرصع بالجوهر الاحمر والاخضر والاصفر ، ومن كل الالوان ، وكانت خديجة امرأة طويلة شامخة عريضة من النساء بيضاء لم ير في عصرها ألطف منها ، ولا أحسن ، وخرجت بين يديها صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها ، وقالت شعرا :

جاء السرور مع الفرح

 

ومضى النحوس مع الترح

أنوارنا قد أقبلت

 

والحال فيها قد نجح

بمحمد المذكور في

 

كل المفاوز والبطح

لو أن يوازن أحمد

 

بالخلق كلهم رجح

ولقد بدا من فضله

 

لقريش أمر قد وضح

ثم السعود لاحمد

 

والسعد عنه ما برح

بخديجة نبت الكمال

 

وبحر نايلها طفح

يا حسنها في حليها

 

والحلم منها ما برح

هذ النبي محمد

 

ما في مدائحه كلح

صلوا عليه تسعدوا

 

والله عنكم قد صفح

ثم أقبلن بها رضي الله عنها حتى أوقفوها بين يدي النبي صلى الله عليه واله ، ثم بعد ذلك أخذوا التاج ورفعوه من رأسها ، ووضعوه على رأس النبي صلى الله عليه واله ، ثم أتوا بالدفوف وهن يضربن لها ، وقلن لها : يا خديجة لقد خصصت هذه الليلة بشئ ما خص به غيرك ، ولا ناله سواك من قبائل العرب والعجم ، فهنيئا لك بما اوتيته ، ووصل إليك من العز والشرف ، وخرجت في الجلوة الثالثة ، وعليها ثوب أصفر ، وعليها حلي وجوهر ، وقد أضاء الموضع من لمعان ذلك الجوهر الذي في وسط الاكليل ، وفي آخر الاكليل ياقوتة حمرآء تضئ ، وقد أشرقت الدار من ذلك الجوهر ومن نورها وحسنها ، وأقبلت بين يديها صفية بنت عبدالمطلب رضي الله عنها ، وهي تقول : شعرا :

أخذ الشوق موثقات الفؤاد
 

 

وألقت السهاد بعد الرقاد

فليالي اللقا بنور التداني

 

مشرقات خلاف طول البعاد

فزت بالفخر يا خديجة إذ نلت

 

من المصطفى عظيم الوداد

فغدا شكره على الناس فرضا

 

شاملا كل حاضر ثم بادي

كبر الناس والملائك جمعا

 

جبرئيل لدى السمآء ينادي

فزت يا أحمد بكل الاماني

 

فنحى الله عنك أهل العناد

فعليك الصلاة ما سرت العيس

 

وحطت لثقلها في البلاد

وخلا رسول الله صلى الله  عليه واله مع عروسه

 



([1])  آمالي المفيد /110

([2])  الخصال 1/96.

([3]) الخصال 1/107.

([4]) بحار الأنوار 16/8 .

([5])بحار الأنوار 16/8 .

([6])بحار الأنوار 16/8 .

([7]) كشف الغمة ص151

([8]) الكافي 3/59

([9]) الكافي 3/60

([10])  الامالي ص110

([11])بحار الأنوار 16/8   

([12])  كشف الغمة ص151-153   

([13])  بحار الأنوار 16/9   

([14])  بحار الأنوار 16/9   

([15])كشف الغمة ص151   

([16]) نهج البلاغة 1/417   

([17])بحار الأنوار 16/8   

([18]) بحار الأنوار 16/8   

([19]) الخصال 2 / 37   

([20]) بحار الأنوار 16 /3   

([21]) الخرايج ص186   

([22])  مناقب آل أبي طالب 1/ 29   

([23])  مناقب آل أبي طالب 1/ 29   

([24]) مناقب آل أبي طالب 1/ 29   

([25]) مناقب آل أبي طالب  1/119   

([26])  كشف الغمة ص151

([27])  الكافي 2/19

([28])  الفقيه 413

([29])  بحار الأنوار 16/8 نقلا عن معالم العترة النبوية

([30])  بحار الأنوار 16/8

([31])  بحار الأنوار 16/18