الحسين في الفكر المسيحي
انطوان بارا
بسم الله الرّحمن الرّحيم
الثورة التي فجّرها الحسين بن علي (عليه وعلى أبيه أفضل السّلام) في أعماق الصدور المؤمنة والضمائر الحرّة ، هي حكاية الحريّة الموءودة بسكين الظلم في كلّ زمان ومكان ، وجد بهما حاكم ظالم غشوم ، لا يقيم وزناً لحريّة إنسان ، ولا يصون عهداً لقضيّة بشريّة ، وهي قضيّة الأحرار تحت أيّ لواء انضووا ، وخلف أيّة عقيدة ساروا .
هذه الثورة التي استلهمتها عنواناً لمؤلَّفي هذا في طبعته الاُولى ، كان حريّاً بها أن تظلّ هكذا عنواناً للطبعات التالية ، ما دام الحديث عنها ( كثورة ) يعني الحديث عن شخصيّة مفجّرها (عليه السّلام) ؛ إذ إنّها تمثّل خلاصات ونتائج أفكار وأفعال وتحرّكات رافع لواءها .
وبمعنى أدق هي مرآة لشخصيّته وترجمة لمبادئه ومُثُله ، وأيّ تطرّقٍ لها كثورة هو تطرّقٌ لشخصيّة الحسين (عليه السّلام) ، وفي المقابل فأيّ تطرّقٍ لشخصيّة الحسين هو تطرّقٌ لثورته . فتكون بذلك هذه الثورة هي الوجه الآخر لشخصيّة
صاحبها ، وتكون شخصيّة صاحبها هي الوجه الآخر لها كثورة .
وقد رأى بعض المتنوّرين فكرياً بأنّ سطور الكتاب تحدّثت بإسهاب عن شخصيّة الحسين (عليه السّلام) ، وحلّلت أفكاره ومبادئه وخططه وأهدافه المرحليّة الآنية منها والمستقبليّة .. فكانت الشخصيّة هي المبرّزة بما تمثّله من محصّلة المبادئ ، إذ منها انطلقت الأفكار والمُثُل ، وفيها اختمرت المبادئ ، وفي أعماقها ربضت كلّ الموحيات التي أبرزت إلى النّور ما ظهر سواء ما كان منه قولاً أو فعلاً أو مبدأ أو ثورة ، كفكرة وكفعل وكمعاناة وكهدف آني ومستقبلي ، وبالتالي كخطوة لها طابع مادي بطولي يتّصل بجانبه الماديّ هذا بما تعارف عليه البشر من أفعال ماديّة بشريّة صرفة . وفي هذا علّة الثورة التي جمعت كلّ الممكنات في ثناياها ،الممكنات الروحيّة ، والزمنيّة ، والاجتماعيّة ، والماديّة البطوليّة .
لذا فمن منطلق هذه الرؤية الفكريّة لمجمل شخصيّة الحسين (عليه السّلام) تكون ثورته جزءاً من تكوّن هذه الشخصيّة ، ومن ثمّ فهي مرحلة من مراحل سير مكوّناتها وتأثيراتها ، بما تحمله من أفكار ومبادئ ، حيث بدأت وانتهت في إحدى مراحلها ، واستمرّت في سيرها خالدةً إلى أبد الدهور في مراحلها الاُخرى .
فكان حريّاً ، وقد تناولنا شخصيّة الحسين بما احتوته من أفكار ومبادئ وأعمال ـ والثورة جزء منها ـ أن تكون هذه الشخصيّة هي محور البحث ، وعنوان السيرة والثّوره معاً ، واعتبار الثّورة جزءاً من الشخصيّة الشاملة ككل ممّا يجدر معها أن تكون الشخصيّة هي الواجهة ، لا الثورة التي هي جزء من مقوّمات ومحصّلات الشخصيّة . وبالتالي يكون الحسين (عليه السّلام) كممثّل لهذه الشخصيّة ذات الخصائص والميزات القدسيّة والبشريّة الفريدة في بابها . عنوان ثورته ، لا ثورته الخالدة هي عنوان شخصيّته العظيمة ، ممّا يجعل من عبارة ( الحسين في الفكر
المسيحي ) التسمية الأكثر جدارة في هذا المعنى .
وإذا كنّيت التسمية بشخصيّة الحسين دون ثورته في الشقّ الأوّل من عنوان الكتاب ، فالأحرى ـ كما طالَب البعض ـ أن تحلّ في الشقّ الثاني منه كلمة ( إنساني ) بدل ( مسيحي ) فيصبح العنوان معها ( الحسين في الفكر الإنساني ) .
وهي فكرة صائبة ، وتسمية في محلّها ؛ على اعتبار أنّ ثورة سيّد الشهداء كانت ثورة إنسانيّة في مفرد ميزاتها وفي مجملها ، وأخذها من وجهة نظر مسيحيّة بما يخدم البحث المقارن ـ الذي هو موضوع الكتاب ـ يصلح تقديمه كمثال على إنسانيّة هذه الثّورة ، أكثر ممّا يصلح قصره على هذه الوجهة .
وبأخذنا لها من زاوية الفكر المسيحي نكون وكأنّنا ننظر إليها من زاوية الفكر الإنساني ككل ؛ لأنّ الفكر المسيحي ما هو إلاّ جزء من الفكر الإنساني ؛ ولأنّ المسيحية ما هي إلاّ مرحلة من مراحل المدرسة الإلهيّة التي تكوّن الدين الواحد . هذا الدين الذي جاء للبشريّة عبر مراحل متعدّدة ، فكان الدواء لعلَلِها الاجتماعيّة والزمنيّة ، اتّخذ عبر مراحل التاريخ منحىً متدرّجاً فكان الطابع الغالب على الرسالة ( الموسويّة ) طابع الإله القومي ، حيث نشأت فكرة شعب الله المختار . وعلى الرسالة ( العيسويّة ) طابع الإله العالمي غير المتحرّر من المادّة وهذا ما تشير إليه مسألة الاُبوّة والبنوّة والتّثليث . بينما وصل الخط البياني للتوحيد في الرسالة المحمديّة إلى الذروة ( قُلْ هُوَ اللهُ أَحَدٌ * اللهُ الصَّمَدُ * لَمْ يَلِدْ وَلَمْ يُولَدْ * وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ
وهكذا كان الإسلام خاتم الديانات ، والرسالة المحمّديّة خاتمة النبوّات : ( الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمْ الإِسْلاَمَ دِيناً . لذا
فمنطق الإيمان الكلّي بالدين الواحد يقضي بألاّ يصحّ إسلام المُسلم حتّى يتنصّرن ، ولا تصحّ نصرانيّة المسيحي حتّى يتأسلم ، فدين الله واحد وهدفه صناعة الإنسان .
من هذا المنطلق تكون رؤيا الفكر المسيحي لشخصيّة الحسين وثورته هي ذات رؤيا الفكر الإنساني لها ، وما تحديد التسمية في عنوان الكتاب إلاّ نوع من إغناء البحث ، وذلك بحصره ضمن حدود يمكن الاستشهاد بها ومقارنتها ، والانطلاق منها بشكل مستوف ؛ لذا فإنّ في بحث رؤيا الفكر المسيحي لثورة الحسين دلالة كافية على إنسانيّة هذه الثورة ، ممّا لا يجعل بقاء الشقّ الثاني من العنوان ( كما هو ) أمراً يدعو إلى الدهشة ؛ فالفكر المسيحي هو قاسم مشترك للفكر الإنساني ، وجزء لا يتجزأ منه ، يشترك معه في سداه ولحمته .
وفي تطلّعنا إلى ثورة سيّد الشهداء من كوّة هذا الفكر نكون كمَن يتطلّع إليها من كوى الفكر الإنساني كلّه ؛ لأنّ هذه الثورة إنسانيةٌ أوّلاً وآخِراً ؛ ولأنّ الإنسانيّة جمعاء تشترك في دين واحد يرتكز على ثوابت إلهيّة واحدة ، لا تتبدّل بتبدّل الديانات ، وبأساليب الإيمان بها ، هذه الأساليب التي تدخل في المجال الحيوي للعقل البشري : ( شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلاَ تَتَفَرَّقُوا فِيهِ
وإذا كان الشيء بالشيء يذكر ، فإنّ أوّل ما يتبادر إلى ذهن القارئ ـ سواء أكان مسيحياًّ أم غير مسيحي ـ لدى قراءته للكتاب ، هو كيف أمكن الربط بين ثورة الإمام الحسين ، وبين فكر أهل الكتاب ؟ إذ لم يسبق هذا الربط أي اهتمام
فكري مسيحي بعَلَم من أعلام الإسلام ، كي يأتي هذا الكتاب ليكمل اهتمامات سابقة بهذا الصدد .
وكان مكمن الغرابة في كون مؤلّف الكتاب الفقير لله ( مسيحياً عربياً ) فكانت هذه الصفة مكمناً إضافياً لجدّة البحث ، ودافعاً للاطلاع عليه حتّى آخر سطرٍ منه ؛ بهدف الوقوف التامّ على ما يمكن أن يضيفه هذا الفكر على ملحمة استشهاد الحسين من أبعاد جديدة .
و( الأبعاد الجديدة ) في رأي البعض ، هي في النظر لملحمة كربلاء من وجهة نظر مسيحيّة لكاتب ميسحي عربي ، لا هو بمسلم كي يقال: بأنّه متأثّر عاطفياً بالفاجعة التي وقعت فوق ثرى الطّف ، ولا هو بمستشرق صاحب فكر غربي ينظر إلى التاريخ الإسلامي نظرته إلى أيّة مرحلة تاريخيّة اُخرى ، لا تخشعه هذا إلاّ الجانب التاريخي السّردي ، مُهْمِلاً ـ عن عمدٍ أو جهلٍ ـ الكثير من المقوّمات الروحيّة والإلهيّة للحركة من جانبها العلوي القدسي ، مجرّداً إيّاها من أهمّ ما تملك ومن أكبر أهدافها التي هدفت .
فالفكر المسيحي العربي يقدّس آل البيت (عليهم السّلام) كما المسلم ، وفي أخذه لأيّة حادثة تاريخيّة تختصّ بالعالم الإسلامي الذي يعيش فيه ، يهدف إلى الحيدة ، مبتغياً الواقع ، باحثاً عن المنطق والرؤى العقلانيّة السليمة ، وهي صعوبة تتكاثف على قلم غير المسلم ، الذي تحكم حيدته اعتبارات كثيرة ، ولا يحتمل الزلل لأقلّ هفوة ، ولا يقبل منه الشطط أو التطرّف ، ولا تسمح له الأدبيات الفكريّة بإبداء ما يخالف الحقيقة ، وما ينفر منه العقل الآخر الذي يخاطبه .
وفي هذا حجّة ، وللحجّة سبب ، بل جملة أسباب ، منها أنّ الفكر المسيحي العربي يستمدّ تراثه الفكري من تراث عربي إسلامي ، ويتعرّض لنفس التيّارات
الفكريّة والروحيّة التي يتعرّض لها ، ويعي كلّ حادثة تاريخيّة ؛ نتيجة تشرّبه لها في المدرسة ، أو زيارته لأماكنها ، أو لاتصال ظواهرها به . سواء في الإنسان أو الجماد أو التراث ، بينما لا يملك الفكر المسيحي الغربي الخشية والإحساس الورع بقيمة الشخصيّة القدسيّة التي يتناولها ، فإذا ذكر النّبي محمد لا يهمّه كثيراً وضع كلمة (صلّى الله عليه و آله) وإذا ذكر أحداً من آل البيت ، لا يؤثمه عدم وضع كلمة (عليه السّلام) .
هذا الفارق بين التمثّل القدسي وعدمه ، فارق له أهميّته في أخذ الحادثة التاريخيّة للعالم الإسلامي ، وهو فارق كبير في صغره المتناهي في ميزان النتيجة ، وصغير في انعكاساته الفكريّة في ميزان الكيفيّة .
وشتّان بين كبر خطر النتيجة وبين تفاهة صغر الكيفية خلال مسار الاُمور .
هذه الغرابة ، وهذا التوقّع والترقّب لِما هو محتمل في جدّته عوامل نفسيّة وفكريّة من الممكن أن تعتمل في ذهن أي قارئ حيال أثر ما يربط بين الفكر الإسلامي وبين فكر أهل الكتاب .
وبالمقابل فإنّ ما يشبهها بشكل أو بآخر يعتمل أيضاً في ذهن المفكّر المسيحي الذي يتناول فكرياً عَلَماً من أعلام الإسلام ، ويدفعه للتساؤل عن مسبّبات هذه الغفلة التي يرتع فيها الفكر الإسلامي ، ممّا يدمغه بصفة التقصير عن دراسة شخصيّة مثل شخصيّة الحسين ، دراسة وافية منصفة ، وتقديمها للعالم المسيحي الغربي والعربي ، كواحدة من أنصع الصفحات بياضاً في تاريخ الإسلام .
فشخصيّة الحسين محيط واسع من المُثُل الأدبيّة والأخلاق النبويّة ، وثورته فضاء واسع من المعطيات الأخلاقيّة والعقائديّة . ولعلّنا نتمثّل أهمّ سمة من سمات العظمة في هذه الشّخصيّة ، من قول جدّه الرسول (صلّى الله عليه وآله) : (( حسين منّي وأنا من
حسين )) . فارتقت إنسانيّة السبط إلى حيث نبوّة الجَّد (( أنا من حسين ، وهبطت نبوّة الجَّد إلى حيث إنسانيّة السبط (( حسين منّي )) ، وفي هذا المعنى يقول السيّد الطباطبائي :
غرسٌ سقاه رسولُ الله من يدهِ وطاب من بعد طيبِ الأصل فارعُهُ
وإذا كان العالم المسيحيّ الغربيّ له مآخذ على الإسلام ، فإنّما ينظر إلى هذه المآخذ من كوى مثالب عهود بني اُميّة ، والتشويهات التي استهدفت اُمّة الإسلام فيما بعدها ، حيث نظر الحكّام إلى الدنيا والمُلك بالشكل الذي صوّره معاوية بعد احتلاله الكوفة ، إذ قال : إنّي لم اُقاتلكم لكي تصلّوا أو تصوموا ، بل قاتلتكم لكي أتأمّر عليكم .
هذه النظرة المغلوطة من زاوية المادّيات الصرفة إلى أمور الدنيا وقضايا الحكم كان أبو سفيان بن حرب قد نظر من خلالها يوم فتح مكّة ، إذ قال للعباس عمّ الرسول جملته الممثّلة خير تمثيل للمبدأ النفعي الذي كان مسيطراً على العقول آنذاك : لقد أصبح مُلك ابن أخيك عظيماً . فكان في قولته لا يرى من جهاد الرسول الكريم سوى ذلك المغزى الدنيوي الغلبة والعظمة ، أمّا تعبيد الخلق للخالق ، وتنفيذ إرادة الله في خلقه فلم تبن لناظره ، ومثلُه لا يفهمها ، فما يعقلها إلاّ العالمون .
هذا هو المظهر الخارجي لجوهر الصراع الذي استشرى بعد ذلك بين أهل بيت رسول الله (صلّى الله عليه وآله) وبين ذريّة أبي سفيان . أهل البيت (عليهم السّلام) يرون أنّ الخلافة مركب يقود
إلى الآخرة وفق أحكام الله ، وبنو اُميّة يتطلّعون إليها باعتبارها مركباً يقود للجاه والسّلطان ، وانقياد الدنيا وفق أهواء النّفس ومطالبها . وبين أحكام الله وبين أهواء النفس حدث الانقسام المريع في جسد أمّة الإسلام ، والتفّ الأبناء حول الرمز الأقرب لِما تهيّأت له أنفسهم : ( مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الآخِرَةَ
وهكذا ، فالفكر المسيحيّ الغربي لا يعي هذا التناقض الصارخ بين الحق المقهور وبين الباطل المنتصر ، ومتى فَقَد هذا الوعي تجرّدت الحوادث التاريخيّة من أهمّ عناصرها ؛ لذا فقد رأى المستشرقون في حادثة الطفّ ـ انطلاقاً من هذا التجريد ـ موقعة عسكريّة تغلّبت خلالها الكثرة على القلّة ، والتنظيم على الارتجال ، غير ملتفتين إلى اختيارات العناية الإلهيّة وسرّها وتدخّلها في هذا الحدث الجذري في المسيرة الروحيّة والتاريخيّة لاُمّة الإسلام ، ولدين الله الكلّي الوحدانيّة .
من هنا يبرز دور الفكر المسيحي العربي في تمثيل الحياديّة الصرفة ، محلاّ الرؤية الموضوعيّة ، محلّ تلك العاطفيّة منها ، والمتجنّية على السواء .
لكن هذا الدور تحكّمه حساسيّة فائقة حيال آلاف الشروحات والتفسيرات للحادثة ، وكثرة الأسانيد واختلاف الروايات ، وهنا مكمن الصعوبة حيث يتجلّى دور البصيرة النافذة للقيام بعمليّة غربلة حذرة لمئات من هذه الروايات , واختيار للأسانيد الموثوقة ، ثمّ القيام بعمليّة تكريسيّة نهائيّة لا تقلّ صعوبة عن عمليّتي الغربلة والانتقاء ، يلعب فيها الحدس والخلفيّة الثقافيّة والرؤية العقلانيّة المحايدة للكاتب أدوارها قبل أن يقرّب قلمه ويؤشّر على إحدى الروايات الأقرب إلى العقل ،
والمنسجمة مع الحدث العام ، والمتناغمة مع إيقاع الأحداث ؛ لذا فإنّ معادلة ( كل ما يقبله العقل مقبول ) تظلّ رافعة أشرعتها خلال البحث ترقب تحرّكات القلم ، وترصد حياديّته ، بل وترغمه في أحايين كثيرة على نزع حالات شطط وتطرّف لإبراز موضوعيّة الأحداث ، والحفاظ على حياديّة العمل .
وإذا كانت الحساسيّة التي تواكب قلم الكاتب غير المسلم لدى تناوله لسيرة عَلَم من أعلام الإسلام مضاعفة ، فإنّها سوف تتضاعف أيضاً لدى القيام بعمليّة الربط بين المواقف المتجانسة والأهداف المشتركة بين نبيٍّ ونبي ، وشهيدٍ وشهيد . سيّما إذا لم يسبق هذا الربط ربط مماثل يقرب منه أو يبعد ، يشبهه أو يكاد ، فتكون البداية في هذا الصدد محطّ اهتمام الكثيرين ، ويكون البادئ محل هذا الاهتمام أيضاً ، مضافاً إليه النقد والاستحسان أو الاستهجان .
ولعلّ هذا المؤلّف لم يسلم من هذا النقد ، كما لم يحرم من هذا الاستهجان والاستحسان ، شأن ، شأن أي عمل طابعه الجدّة . ولكن العامل المتّكل على الله في عمله ، لا يعدم الإحساس بالرضا عن عمله مهما قوبل بالنقد ، إيجابياً كان أم سلبياً : ( وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ وَسَتُرَدُّونَ إِلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ
أسوق هذه التهيئة البسيطة في متن هذه المقدّمة للكتاب ، والتي لا يصحّ سَوق مثلها في المتن بعد تجاوز بداية المقال ، لأصِلَ إلى مدخل الفصل الأهمّ من الكتاب ، والذي يمثّل ( الحسّاسيّة ) التي عنيتها تواكب قلم الكاتب ، فأشير إلى أنّ فصل ( المسيح هل تنبّأ بالحسين ؟ ) قد أثار اهتمام الكثيرين ، واستأثر دون الفصول الاُخرى بجلّ النقد والاستحسان وكذلك الاستهجان ، ودارت حوله
المناقشات والتساؤلات ، سيّما حول خطبة عيسى في تلاميذه قبل توجّهه للموت ، وما عنته في كلماتها القليلة من معانٍ عمدت إلى تفسيرها بالشكل الذي ألهمته ، وبالكيفيّة التي ترمي لها هذه المعاني في حقيقتها ، مستنداً في ذلك إلى حجج دامغة أوردتها في متن الفصل المذكور إيّاه ، وسأضيف لها بعض التفاسير والتحليلات الاُخرى ضمن هذه المقدّمة : قال عيسى في إنجيل يوحنا(1) : (( إنّي ذاهب الآن إلى الذي أرسلني وما من أحد منكم يسألني : إلى أين تذهب ؟ غير أنّي أقول لكم الحق : من الخير لكم أن أمضي ، فإن لم أمض لا يأتكم المؤيّد ؛ أمّا إذا مضيت فأرسله إليكم ، ومتى جاء أخزى العالم على الخطيئة والبر والحكم )) .
وقد تركّزت المناقشات والتساؤلات حول ثلاث نقاط :
اُولاها : مَن المقصود بالمؤيّد . أليس الرسول محمّد (صلّى الله عليه وآله) هو الجدير بهذا القصد ؟
وثانيها : الحسين شهيد وليس بنبي فكيف يتحدّث عيسى عنه ، بينما لم يلمح إلى قدوم الرسول (صلّى الله عليه وآله) من بعده ، مع أنّه نبي ؟
وثالثها : لقد فسّرت كلمة المؤيّد في الإنجيل تحت معنى ( الروح القدس ) فكيف
احتملت اللفظة هذا التأويل المغاير الذي لم يقرأ إلاّ في هذا الكتاب ؟
وهنا يجدر بنا الوقوف لتوضيح أمر لطالما تعامى عنه الغلاة المتطرّفون ، ولازال يشكّل عقبة كأداء أمام منوّري القلب والفكر من العقلاء ، أمام انطلاق أفكارهم وقناعاتهم المؤمنة ، بأنّه ما من نبيّ غلا وتنبّأ مبشّراً بقدوم نبي بعده ، وما من شهيد إلاّ وتنبّأ أيضاً بالشّهيد الذي سيليه ، ولم يكن عيسى (عليه السّلام) ليشذّ عن هذه الحكمة الإلهيّة ، لا تغافلاً عن تبشير الناس بقدوم النبي محمد (صلّى الله عليه وآله) ولا كرهاً لهذا التبشير أو هذا القدوم ، ( حاشا لله ) وعيسى رسول المحبّة والسّلام ، والمبشّر بالحبّ حتّى للأعداء والمبغضين ، فكيف إذا كان الأمر يتعلّق بنبيّ بعده ختم الله به الأنبياء وبرسالته الديانات ، وكان على هذا القدر العظيم من الشمائل النبويّة والخُلق الكريم ؟
وللإجابة على مجمل التساؤلات يستحسن إعطاء نبذة عن نشأة الأناجيل الأربعة ، والتي سار ويسير على تعاليمها العالم المسيحي ، ولنحدّد أكثر ( المسيحي الكاثوليكي ) التابع لسلطة البابا في روما .
فالإنجيل المقدّس عرّبت لفظته إلى العربيّة من كلمة EUAYYEAIOV اليونانيّة ، وهي تعني ( البشرى الحسنة ) ثمّ أطلقت على الكتاب الذي يحتوي هذه البشرى ، وهو مجموع الأسفار الإلهيّة التي كتبت بإلهام الروح القدس خلال الحقبة الزمنيّة الممتدّة من القرن السادس عشر قبل المسيح حتّى آخر القرن الأوّل بعده ، وإن كانت لفظه ( إنجيل ) هي كتاب القرن الأوّل قبل المسيح . فإنّ كتاب القرون التي سبقت
السنة الميلاديّة ، دعي بـ ( الكتاب المقدّس ) وهو ينقسم إلى عهدين : ( القديم . والجديد )(1) الأوّل يحتوي على الأسفار التي اُنزلت قبل السيّد المسيح وعددها 46 سفراً ، وتنطوي على تاريخ وشعر وحكمة ونبوّة ، والآخر يتضمّن الأسفار التي اُنزلت بعد ظهور المسيح ، وفيها خلاصة حياته المقدّسة ، وتعاليمه السّامية ، وعددها 27 سفراً . فكان الكتاب القديم تمهيداً ، والجديد تحقيقاً .
والإنجيل وضعه رسولان هما متّي ويوحنّا ، وكلاهما عاينا وسمعا وعاشا ولمسا حياة المسيح عن قرب ، وتلميذان هما مرقس ولوقا ، وكلاهما رفيق حميم الأوّل لبطرس والآخر لبولس ، وهما اللّذان تلقّيا الخبر عن رفيقيهما .
وعلّة الاختلاف الظاهر في أسلوب تدوين الروايات بين الأناجيل الأربعة ، ترجع إلى ظروف المكان والزمان الذي كتبت فيه من قِبَل التلاميذ . فمتّي كتب إنجيله لليهود باللغة الآراميّة ، وقد فقدت هذه النسخة بعد أن ترجمت إلى اليونانيّة ، وقد غلب على رواية متّي اللغة الثقافية ؛ لأنّه كتبها للمثقّفين ، والبرهان على ذلك أنّه كتب الكلمة الوضعيّة على الصليب بثلاث لغات وهي : العبريّة واليونانيّة والرومانيّة . والتي تقول : ( يسوع ملك اليهود ) . وقد أظهر الكاتب لليهود أنّ المعلّم الإلهي هو الماسيّا المنتظر ، إذ به تمّت نبوءات العهد القديم وتحقّقت رموزه ، فأكثر في إنجيله عبارة : ( كما ورد في أشعيا وأرميا والأنبياء ) أو ( وهكذا تمّت الكلمة التي قيلت بيسوع ) ، كذلك لم يكن متّي ليحرص على تسلسل الحوادث التاريخيّة ، فكان يجمعها
جميعاً بدون هذا التسلسل إذ كان المهم عنده إبراز الموقف بغضّ النظر عن توقيته الزمني ، ويقال : أنّه ترجم إنجيله إلى اليونانيّة بنفسه .
أمّا مرقس تلميذ بطرس فقد وجّه إنجيله إلى الرومانيين باللغة اليونانيّة ؛ ولأنّ هذا الشعب مغرم بالقدرة والعظمة ، فقد أوقف وصفه على ما يظهر وجه المسيح من هذا القبيل ، وهو ينقل عن بطرس وفي إنجيله تركيز على المعجزات التي اجترحها المسيح ، مع أنّه لا يأتي على ذكر بطرس شخصيّاً .
أمّا لوقا تلميذ بولس فكان مثقّفاً وطبيباً ومصوّراً وخبيراً ضليعاً باللغة اليونانيّة ، وقد وجّه إنجيله خصّيصاً لليونانيّين والرومانيّين المتنصّرين حديثاً ، فأبان لهم أنّ رحمة المخلص ـ المسيح ـ لم تنحصر في فئة من الناس دون اُخرى ، وكان لا يهتمّ بالتفاصيل التي أوردها غيره في أناجيله ، وهو الذي ألّف أعمال الرسل ، وكان يوجّه كلامه لـ ( تيوفيلوس ) بكلّ الاُمور التي جاء بها المسيح . مبتدئاً كلامه بعبارة : ( سأحكي الحقيقة وليس كما زادوا عليها ) ، وقد انفرد إنجيله بإيراد أمثال الرحمة كالحروف الضال ، والابن الشّاطر ، حتّى دعي بـ ( إنجيل الرحمة ) .
أمّا يوحنّا فقد كتب إنجيله بعد مئة سنة من المسيح ؛ لذلك اختلف عن الأناجيل السابقة ، وقد كتبه باليونانيّة ليحاجّ دعاة الضَلال المتنكّرين لناسوت المسيح أو لاهوته(1) ، وحرص على التسلسل التاريخي أكثر من غيره ، وهدف به كلّ المسيحيين حيث حلّق بالفلسفة كثيراً ، وهو المتأثّر بفلسفة اليونان وبالكلمة ؛ لذا فقد بدأ إنجيله بعبارة ( في البدء كان الكلمة ) ، وفي عهده انبثقت فئة أسمت نفسها ( النقلاويّون ) أنكرت اُلوهيّة المسيح ، كما نشأت على عهده قصص شعبيّة
وخيالية ، وألّف إنجيل دعي ( أبو كريف ) وبدأت الأناجيل تكثر منذ عهده .
والإنجيل الذي نتلوه اليوم منقول عن المخطوطات الكبرى على الجلد التي تعود إلى القرن الرابع ، منها المخطوطة الفاتيكانيّة ، وقد نسخت حوالي سنة 348 م ، والمخطوطة السّينائيّة وقد نسخت حوالى 331 ، والمخطوطة الإسكندريّة التي ترقى إلى القرن الخامس ، وهناك مخطوطة رابعة معروفة بالأفراميّة ؛ لأنّ نصّ الكتاب والإنجيل قد محي وكتب عليه مواعظ ( مارأفرام ) وقد تمكّن العلماء من إبراز النصّ الأصلي وقراءته ، ويوجد أيضاً مخطوطات اُخرى نسخت ما بين القرنين الرابع والعاشر وهي نحو أربعين ، وهناك أيضاً نحو ثمانية آلاف مخطوطة صغيرة .
ففي الفاتيكان والمتحف البريطاني وباريس يوجد ثلاثة مخطوطات أصليّة ، وقد اكتشف ( شتربيتي ) مجموعة تشتمل على جزء كبير من الأناجيل ، وهي ترجع إلى القرن الثالث . وفي سنة 1956 اكتشف مارتان بودمير أوراق بردي تتضمّن إنجيل يوحنّا كاملاً مع أجزاء من إنجيل لوقا ، وهي تعود إلى أواخر القرن الثاني ، كما اكتشف ( جون رايلايد ) أقدم مخطوطات البردي المحتوية على قسم من الفصل الثامن عشر من إنجيل يوحنّا ، وجده في صعيد مصر ، وهو يرقى إلى النصف الأوّل من القرن الثاني .
أمّا أقدم المخطوطات العربيّة لترجمة الكتاب المقدّس فموجودة الآن في ( دير سيناء ) ، منها مخطوطة أعمال الرّسل والرسائل الجامعة ، وهي من القرن الثامن ميلادي ، ومنها مخطوطة المزامير بالخطّ الكوفي مع النصّ اليوناني ، وهي من العام 800 م ، وهناك عدد من مخطوطات الأناجيل الأربعة ترجع كلّها إلى القرن التاسع ، ومخطوطةٌ للرسائل وسفر الأعمال وقد ذكر ناسخها تاريخ نسخها وهو عام 867 م ، كما أنّ هناك بعض أسفار الأنبياء وأيّوب ترجع إلى القرن التاسع ميلادي ،
وفي دير سيناء مخطوطة للتوراة من القرن العاشر ، كما وجدت ترجمات قديمة إلى العربيّة يرجع عهدها إلى ما قبل الإسلام حيث كان المسيحيّون العرب في اليمن وبصرى إسكي شام يتعبّدون بها .
أمّا الأناجيل الأربعة فقد ترجمت للعربيّة منذ عهد ( يوحنا الثالث ) بطريرك السريان الأنطاكي (631 ـ 648 م ) ، وطبعت لأوّل مرّة في روميّة سنة 1951 ، وقد ظهرت ترجمات عربيّة عصريّة كاملة منذ عام 1865 في ثلاثة مجلّدات كبيرة حقّقها الآباء اليسوعيّون اللبنانيون .
وأخلص بعد هذا العرض إلى فكرة أنّ الأناجيل الأربعة التي وضعها الرسل المذكورون ، كانت صريحة وصادقة وأمينة ، ترجمت حياة المسيح بأكملها ، لكن ما طرأ بعد وفاة يوحنّا ، زاد من عدد الأناجيل كثيراً إذ شوّه البروتستانت بعض المرادفات ، وألغوا بعضاً منها ، وحوّروا البعض الآخر بما يتّفق مع عقيدتهم ، وعلى سبيل المثال حذفهم كلّ ما يمسّ رئاسة بطرس للكنيسة الموحّدة .
وفي العالم المسيحي الآن ألف طائفة للبروتستانتيّة وحدها ، ولكلّ منها إنجيل يختلف بشكل أو بآخر عن الآخر .
فقد جاءت وقت كان ثمّة فيه راهب يدعى ( لوثيروس ) ، فتح عينَيه على رجال الدين الكاثوليك يتاجرون بـ ( الغفرانيّة ) ، ويملّكون أماكن في الجنة بموجب شهادات رسميّة ، سمّيت وقتذاك بـ ( صكوك الغفران ) ، فأراد هذا الراهب أن يقوم بحركة إصلاح ، فانشقّ عن السدّة البابويّة .
ولم يحاول البابا وقتذاك إصلاح الوضع الشاذ الذي أوجده رجال الدين من خلال بيعهم لصكوك الغفران ، وقد قيل في عصرنا هذا : إنّه لو انشقّ لوثيروس في عهد البابا يوحنّا الثالث والعشرين الذي توفّي منذ عشر سنوات تقريباً ، لكان أمر بإصلاح مثل هذا الخلل ، ولم يسمح بالانشقاق ، لكنّ المصالح الاقتصاديّة والأطماع المادّية ، كانت تعصف برؤوس رجال الدين ،