النبي صلى الله عليه واله عند حليمة السعدية
*- قال أبوالحسن البكري في كتاب الانوار : حدثنا أشياخنا وأسلافنا الرواة لهذه الاحاديث أنه كان من عادة أهل مكة إذاتم للمولود سبعة أيام التمسوا له مرضعة ترضعه ، فذكر الناس لعبدالمطلب انظر لابنك مرضعة ترضعه ، فتطاولت النسآء لرضاعته وتربيته ، وكانت آمنة يوما نائمة إلى جانب ولدها فهتف بها هاتف : يا آمنة إن أردت مرضعة لابنك ففي نسآء بني سعد امرأة تسمى حليمة بنت أبي ذؤيب ، فتطاولت آمنة إلى ذلك ، وكان كلما أتتها من النسآء تسألهن عن أسمائهن فلم تسمع بذكر حليمة بنت أبي ذؤيب ، وكان سبب تحريك حليمة لرضاعة رسول الله صلى الله عليه وآله أن البلاد التي تلي مكة أصابها قحط وجدب إلا مكة ، فإنها كانت مخصبة زاهرة ببركة رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكانت العرب تدخل وتنزل بنواحيها من كل مكان ، فخرجت حليمة مع نسآء من بني سعد ، قالت حليمة : كنا نبقي اليوم واليومين لانقتات فيه بشئ ، وكنا قد شار كنا المواشي في مراعيها ، فكنت ذات ليلة بين النوم واليقظة وإذا قد أتاني آت وروماني في نهر ماء أبيض من اللبن ، وأحلى من العس ، وقال لي : اشربي فشربت ، ثم ردني إلى مكاني ، وقال لي يا حليمة : عليك ببطحاء مكة ، فإن لك بها رزقا واسعا ، وسوف تسعدين ببركة مولود ولد بها ، وضرب بيده على صدري ، وقال : أدرالله لك اللبن ، وجنبك المحق والمحن ، قال حليمة : فانتبهت وأنا لا اطيق حمل ثديي من كثرة اللبن ، واكتسيت حسنا وجمالا ، وأصبحت بحالة غير الحالة الاولى ، ففزعت إلي نسآء قومي وقلن : يا حليمة قد عجبنا من حالك ، فما الذي حل بك ؟ ومن أين لك هذا الحسن والجمال الذي ظهر فيك ؟ قالت : فكتمت أمري عليهن فتركنني وهن أحسد الناس لي ، ثم بعد يومين هتف بي هاتف فسمعه بنو سعد عن آخرهم وهو يقول : يا نسآء بني سعد نزلت عليكم البركات ، وزالت عنكم الترحات برضاعة مولود ولد بمكة ، فضله الواحد الاحد ، فهنيئا لمن له قصد ، فلما سمعوا ما قاله الهاتف قالوا : إن لهذا المولود شأنا عظيما ، فرحل بنو سعد عن آخرهم إلى مكة ، قالت حليمة : ولم يبق أحد إلا وقد خرج إلى مكة ، قالت : وكنا أهل بيت فقر ولم يكن عندنا شئ نحمل عليه ، وقد ماتت مواشينا من القحط ، وكانت حليمة من أطهر نسآء قومها و أعفهن ، ولذلك ارتضاها الله تعالى لترضع رسول الله صلى الله عليه وآله ، وكانت النسآء إذا دخلن على آمنة تسألهن عن أسمائهن ، فإذا لم تسمع بذكر حليمة تقول : ولدي يتيم لا أب له ولا مال ، فيذهبن عنها ، فأقبلت حليمة مع بعلها ودخلت مكة وخلفت بعلها خارج البلد وقالت له : مكانك حتى أدخل مكة ، وأسأل عن هذا المولود الذي بشر نابه ، فلما دخلت حليمة مكة أرشدها الله تعالى لالى أن دخلت على عبدالمطلب وهو جالس بالصفا ، وكان له سرير منصوب عند الكعبة يجلس عليه للقضاء بين الناس ، فلما أتته قالت له : نعمت صباحا أيها السيد ، فقال لها : من أين أنت أيتها المرأة ؟ قالت : من بني سعد أتينا نطلب رضيعا نتعيش من اجرته ، وقد ارشدت إليك ، فقال : نعم عندى ولد لم تلد النسآء مثله أبدا ، غير أنه يتيم من أبيه وأنا جده أقوم مقام أبيه ، فإن أردت أن ترضعيه دفعته إليك وأعطيتك كفايتك ، فلما سمعت ذلك أمسكت عن الكلام ، ثم قالت : يا سيد بني عبدمناف لي بعل بظهر مكة وهو مالك أمري وأنا أرجع إليه اشاوره في ذلك ، فإن أمرني بأخذه رجعت إليه و أخذته ، فقال لها عبدالمطلب : شأنك ، فوصلت إلى بعلها وقالت له : إني وردت على عبدالمطلب فقال : عندي مولود أبوه ميت ، وأنا أقوم مقامه ، فماتقول ؟ قال : يرجعن نسآء بني سعد بالاحسان والاكرام وترجعين أنت بصبي يتيم ؟ وكانت جملة نسآء بني سعد قد دخلن مكة ، فمنهن من حصل لها رضيع ، ومنهن من لم يحصل لها شئ ، فقالت حليمة : ترجع نسآء بني سعد بالغنائم ، وأرجع أنا خائبة ؟ وأسلبت عبرتها ، فقال بعلها : ارجعي إلى هذا الطفل اليتيم وخذيه فعسى أن يجعل الله فيه خيرا كثيرا ، فإن جده مشكور بالاحسان ، فرجعت حليمة فوجدته في مكانه الاول فذكرت له قول زوجها ، فقام عبدالمطلب ومضى بها إلى منزل آمنة وأخبرها بذلك وأعلمها باسمها وقومها ، فقالت : هذه التي امرت أن أدفع إليها ولدي ، فقالت لها آمنة : أبشري يا حليمة بولدي هذا ، فو الله ما أخصبت بلادنا إلا ببركة ولدي هذا ، ثم أدخلتها آمنة البيت الذى فيه المصطفى صلى الله عليه وآله ، فقالت حليمة : أتوقدين يا آمنة مع ولدك المصباح في النهار ؟ قالت : لا ، فو الله من حيث ولد ما أوقدت عنده النار ، بل هو يغيني عن المصباح ، فنظرت حليمة إلى رسول الله صلى الله عليه وآله وهو ملفوف في ثوب من صوف أبيض ، يفوح منه رائحة المسك والعنبر ، فوقعت في قلبها محبة محمد صلى الله عليه وآله ، وفرحت وسرت به سرورا عظيما ، وكان نائما فأشفقت عليه أن توقظه من نومه فأمسكت عنه ساعة ، فخشيت أن تبطئ على بعلها فمدت يدها إليه لتوقظه ففتح عينيه وجعل يهش لها ويضحك في وجهها ، فخرج من فمه نور فتعجبت حليمة من ذلك ، ثم ناولته ثديها اليمنى فرضع ، فناولته الاخرى فلم يرضع ، وكان ذلك إلهاما من الله عزوجل ، ألهمه العدل والانصاف من صغره ، إذ كان لها ابن ترضعه ، وكان لا يرضع حتى يرضع أخوه ضمرة ، فرجعت حليمة بمحمد صلى الله عليه وآله ، فقال لها عبدالمطلب : مهلا يا حليمة حتى نزودك ، قالت : حسبي من الزاد هذا المولود ، وهو أحب إلي من الذهب والفضة ومن جميع الاطعمة ، وأعطاها من المال والزاد والكسوة فق الطاقة والكفاية ، و أعطتها آمنة كذلك ، فأخذت عند ذلك آمنة ولدها وقبلته وبكت لفراقه ، فربط الله على قلبها ، فدفعته إلى حليمة ، وقالت : يا حليمة احفظي نور عيني وثمرة فؤادي ، ثم خرجت حليمة من بيت آمنة وشيعها عبدالمطلب ، قالت حليمة : والله ما مررت بحجر ولا مدر إلا ويهنئني بما وصل إلي ، فلما أقبلت على بعلها نظر إلى النور يشرق في غرته فتعجب من ذلك ، وألقى الله في قلبه الرحمة له ، فقال لها : يا حليمة قد فضلنا الله بهذا المولود على سائر العالم ، فلا شك أنه من أبناء الملوك ، فلما ارتحلت القافلة ركبت حليمة على أتان وجعلت تقول لزوجها : لقد سعدنا بهذا المولود سعادة الدنيا والآخرة .
وسمعت آمنة هاتفا يقول :
قفي ساعة حتى نشاهد حسنه * قليلا ونمسي في وصال وفي قرب
فأين ذهاب الركب عن ساكن الحمى * وأين رواح الصب عن ساكن الشعب
إذا جئت واديه وجئت خيامه * وعاينت بدر الحسن في طيبه قف بي
وطف بالمطايا حول حجرة حسنة * وعند طواف العيس يا صاحبي طف بي
فعند مليح اللون مهجتي التي * براها الاسى وجدا كما عنده قلبي
قفي يا حليمة ساعة فلعلني * انا شده إذ كان ذاشخصه قربي
إذا طفت يا عيني اليمين تقربا * إلى الله يوم الحج يا مهجتي طف بي
طواف شجي القلب لا شئ مثله * فإن دموعي جاريات من السحب
ألا أيهنا الركب الميم قاصدا * إلى ساكن الاحباب هل عندكم حبي
قالت حليمة : فصارت الاتان تمركالريح العاصف ، فبينا نحن سائرون إذ مررنا على أربعين راهبا من نصارى نجران ، وإذا بواحد يصف لهم النبي صلى الله عليه وآله ويقول : إنه يظهر في هذا الزمان أوقد ظهر بمكة مولود من صفاته كذا وكذا ، يكون على يده خراب دياركم ، وقطع آثاركم ، وإذا إبليس قد تصور لهم في صوره إنسان وقال لهم : الذي تذكرونه مع هذه المرئة التي مرت بكم ، قالت حليمة : فقاموا إليه ونظروا وإذا النور يخرج من وجهه ، ثم زعق بهم الشيطان وقال لهم : اقتلوه ، فشهروا سيوفهم وقصدوني ، فرفع ولدي محمد رأسه إلى السمآء شاخصا فإذاهم بداهية عظيمة كالرعد العاصف نزلت إلى الارض ، وفتحت أبواب السمآء ، ونزلت منها نيران ، وإذا بهاتف يقول : خاب سعي الكهان ، قالت حليمة : فعاينت نارا قد نزلت فخفت على ولدي منها ، فنزلت على واديهم فأحرقته ومن فيه عن آخرهم ، فخفف وكدت أن أسقط عن الاتان ، وكان ذلك أول ما ظهر من فضائله صلى الله عليه وآله .
قال صاحب الحديث :
إن أول ليلة نزل رسول الله صلى الله عليه وآله بحي بني سعد أخضرت أرضهم ، و أثمرت أشجارهم ، وكانوا في قطح عظيم ، وكانوا يحبونه لذلك محبه عظيمة . وكان إذا مرض منهم مريض يأتون به إليه فيشفى ، وكثرت معجزاته ، فكان بنو سعد يقولون : يا حليمة لقد أسعدنا الله بولدك هذا ، قالت : والله ما غسلت له ثوبا قط من من نجاسة ، وكان له وقت يتوضأ فيه ولا يعود إلا إلى الغداة وكنت أسمع منه الحكمة ، فلما كبر وترعوع كان يقول : الحمد لله الذي أخرجني من أفضل نبات ، من الشجرة التي خلق منها الانبيآء ، وكنت أتعجب منه ومن كلامه ، وكان يصبح صغيرا ، ويمسي كبيرا ، ويزيد في اليوم مثل ما يزيد غيره في الشهر ، ويزيد في الشهر مثل ما يزيد غيره في السنة حتى كبر ونشأ ، ولم يكن في زمانه أحسن منه خلقا ، ولا أيسر منه مؤونة ، و لقد كنا نجعل القليل من الطعام قد امنا ونجتمع عليه ونأخذ يده ونضعها فيه فنأكل ، ويبقى أكثر الطعام ، فلما صار ابن سبع سنين قال لامه حليمة : يا امي أين إخوتي ، قالت : يا بني إنهم يرعون الغنم التي رزقنا الله إياها ببركتك ، قال : يا اماه ما أنصفتني ، قالت : كيف ذلك يا ولدي ؟ قال : أكون أنافي الظل وإخوتى في الشمس و الحر الشديد ، وأنا أشرب منها اللبن قالت : يا بني أخشى عليك من الحساد ، وأخاف أن يطرقك طارق ، فيطلبني بك جدك ، قال لها : لا تخشى علي يا أماه من شي ء ، ولكن إذا كان غداة غد أخرج مع إخوتي ، فلما رأته وقد عزم على الخروج وهي خائفة عليه عمدت إليه وشدته من وسطه ، وجعلت في رجليه نعلين ، وأخذ بيده عكازا ، وخرج مع إخوته ، فلما رأى أهل الحى أتوا مسرعين إلى حليمة ، فقالوا لها : كيف يطيب قلبك بخروج هذا البدر وما يصلح له الرعاية ؟ قالت : يا قوم ما الذي تأمرونني به ولقد نهيته فلم ينته ، فأسأل الله تعالى أن يصرف عنه السوء ، ثم قالت : شعرا .
يا رب بارك في الغلام الفاضل * محمد سليل ذي الافاضل
وابلغه في الاعوام غير آفل * حتى يكون سيد المحافل
فلما كان وقت العشآء أقبل مع إخوته كأنه البدر الطالع ، فقالت له : يا ولدي لقد اشتغلت قلبي بخروجك عني في هذه البرية ، قالت حليمة : وكان في الغنم شاة قد ضربها ولدي ضمرة فكسررجلها ، فأقبلت إلى ولدي محمد صلى الله عليه وآله تلوذ به كأنها تشكوا إليه ، فمسح عليها بيده ، وجعل يتكلم عليها حتى انطلقت مع الاغنام كأنها غزال ، وكان كل يوم يظهر منه آيات ومعجزات ، وكان إذا قال للغنم : سيري سارت ، وإذا أمرها بالوقوف وقفت ، وهي مطيعة له ، فخرج في بعض الايام مع إخوته وقد وصلوا إلى واد عشيب ، وكانت الرعاة تهابه لكثرة سباعه ، وإذا قد أقبل عليهم أسد وهو يزمجر ، هائل الخلقة ، فلما وصل إلى الاغنام فتح فاه وهم أن يهجم عليها ، فتقدم إليه محمد رسول الله صلى الله عليه وآله ، فلما نظر إليه الاسد نكس رأسه وولى هاربا ، فعند ذلك تقدم إخوته إليه فقال لهم : ما شأنكم ؟ قالوا : لقد خفنا عيك من هذا الاسد ، وأنت ما خفت منه وكنت تكلمه ، قال : نعم كنت أقول له : لا تعود بقرب هذا الوادي بعد هذا اليوم ، فلما كان بعد ذلك رأت حليمة رؤيا وانتبهت فزعة مرعوبة ، وقالت لبعلها : إن سمعت مني أحمل محمدا إلى جده ، فإني أخشى أن يطرقه طارق ، فيعظم مصيبتنا عند جده ، ولقد رأيت كأن ولدي محمدا مع إخوته كما كان يخرج كل يوم إذ أتاه رجلان عظيمان لم أر أعظم منهما ، عليهما ثياب من إستبرق ، وقصداه ، فجاءه واحد منهما يخنجر وشق به جوفه ، فانتبهت فزعته مرعوبة ، والرأي عندي أن تحمله إلى جده ، فقال لها : إن الذي تذكرينه في حق محمد ممتنع ، فإنه معصوم من الله تعالى ، ولقد رأيت الرهبان والاسد وغيره ، قالت : نعم ، ولكن لكن شئ آخر ونهاية ، فكم كبير مات ، وصغير عاش ، فقال لها : إن منامك الذي رأيتها أضغاث أحلام ، ثم لما أصبح الصباح وأراد محمد صلى الله عليه وآله أن يخرج مع إخوته على العادة قالت : لا تخرج اليوم يا قرة عيني ، فاني أحب أن تكون معي هذا اليوم حتى أشبع من النظر إليك ، فانك في كل يوم تخرج بكرة ولا تأتي إلا عشية ، فقال لها : وكيف ذلك يا اماه وأي شئ خفت علي منه ، لا تخافي علي من شئ ، فلم يقدر أحد أن يصل إلي بسوء ولا ضر ولا نفع إلا الله ربي ، فخرج مع إخوته وهي راعبة عليه ، فلما كان وقت القائلة أقبل أولاد حليمة يبكون ، فخرجت حليمة تعثر في أذيالها حيث سمعت أولادها يبكون ، وحثت التراب على وجهها وشعرها ، وشهرت بنفسها ، فقالت : ما الذي دهاكم ؟ أخبروني ، قالوا : خرجنا نحن وأخونا محمد صلى الله عليه وآله وجلسنا تحت شجرة ، وإذا قبل أقبل عليه رجلان عظيمان لم نر مثلهما ، فلما وصلا إلينا أخذا أخانا محمدا صلى الله عليه وآله من بيننا ، ومضيا به إلى أعلى الجبل فأضجعه واحد منهما ، وأخذ سكينا ، وشق بطنه ، وأخرج قلبه وأمعائه ، ولا شك أنك لا تلحقيه إلا هالكا ، فعند ذلك لطمت خدها ، وقالت : هذا تأويل رؤياي البارحة ، وا أسفي عليك يا محمداه ، واجزعي عليك يا ولداه يا قرة عيني ، ثم صرخت في الحي وخرجت وخرج بنو سعد كلهم في أثرها ، وخرج زوجها الحارث يجر قناته وبيده حربة ، فلما أشرفوا على رسول الله صلى الله عليه وآله وجدوه جالسا ، والاغنام حوله محيطة به ، فتبادر القوم إليه ورفعوه وأتوا به وهم يقولون : كل شئ تلقاه نحن وأولادنا وأموالنا فداك ، فجائت إليه حليمة وأخذته وقبلته وهي تبكي بكاء عظيما ، وكشفت عن بطنه فلم تر أثرا فيه ، ولم تر في أثوابه دما ، فرجعت إلى أولادها وقالت : كيف كذبتم على أخيكم ؟ فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : لا تلوميهم فإني كنت عندهم إذ أتاني رجلان ، وأخذاني وأضعجاني ، وأخذ واحد منهما سكينا فشق بها فؤادي ، وأخرج منه نكتة سودآء ورمى بها ، وقال لي : هذا حظ الشيطان منك يا محمد ، ثم غلسلا فؤادي بالماء وأعاداه كما كان ، ثم أخرج أحدهما خاتما يشرق منه النور فختم به فؤادي ، ثم مسح على ما شقه فعاد كما كان ، ثم قالا لي : يا محمد لو علمت ما لله عليك من السابقة لقرت عيناك ، ثم قال أحدهما للآخرك زنه ، فوزنني بعشره من امتي فرجحت بهم ، ثم زاد عشرة فرجحت بهم ، ثم قال : لو وزنته بجميع الامم لرجح بهم ، ثم عرجا نحو السمآء وأنا أنظر إليهما ، فقالت حليمة لبعلها : الرأي أنا نحمل محمدا إلى جده ، فقال : يمنعني من ذلك خبث نفسي من فراقنا له ، وإنه أعز عندنا من الاولاد ، فلما سمعت كلام بعلها قالت : ما يوصل هذا الصبي إلى جده إلا أنا بنفسي ، ثم أقبلت إليه وقالت : يا ولدي إن جدك إليك مشتاق وعمومتك ، فهل لك أن تسير إليهم ؟ قال : نعم ، فقامت حليمة وشدت على راحلتها وركبت ، وأخذت محمدا قدامها وسارت طالبة مكة ، وكان عبدالمطلب قد أنفذ إليها أن تحمل ولده إليه ، فكانت إذا نزلت في هبوط ضمته إليها ، وإذا رأت راكبا غمته خوفا عليه إلى أن وصلت حيا من أحياء العرب ، وكان عندهم كاهن وقد سقط حاجباه على عينيه من طول السنين ، والناس عاكفون عليه ، فلما جازت عليهم غشي عليه ، فلما أفاق قال : يا ويلكم بادروا إلى المرأة التي مرت راكبة ، وخذوا منها الصبي الذي عندها واقتلوه قبل أن يخرب بلادكم ، قالت حليمة : وإذا أنا بالرجال قد أقبلوا إلي ، فوقعت عليهم ريح صرعتهم في الحال ، فسرت عنهم ولم أحفل بهم ، وجعلت أسير حتى بلغت إلى مكة ، فوضعت ولدي محمدا صلى الله عليه وآله عند اناس جلوس ، ومضيت عنه ناحية لحاجة ، فسمعت وجبة وصوتا عاليا ، فالتفت إلى ولدي فلم أره ، فسألت عنه القوم الذين كانوا جلوسا قالوا : ما رأيناه ، فسألوني عن اسمه ، فقلت : محمد بن عبدالله ابن عبدالمطلب بن هاشم بن عبدمناف ، فقلت : وحق الكعبة والمقام لئن لم أجده رميت بنفسي من أعلى هذا الحائط حتى أموت ، وسألتهم وأخذت في جد السؤال فلم تعط خبرا ، فأخذت جيبها ، ومزقت أثوابها ، ولطمت وجهها ، وبكت وأكثرت البكاء ، وحثت التراب على رأسها ، وجعلت تقول : واولداه ، واقرة عيناه ، واثمرة فؤاداه ، وا محمداه : فبينا هي كذلك إذ خرج إلهيا شيخ كبير يتوكأ على عصا ، فقال لها : ما قصتك أيتها المرأة ؟ فقالت : فقدت ولدي ى محمدا ، ولم أدر أين مضى ، قال لها : لا تبكين ، أنا أدلك على من يعلم أين ذهب ، قالت : افعل يا سيدي ، فمضى قدامها إلى أن أتى الكعبة ، وطاف على صنم يقال له : هبل ، وقال : يا هبل أين محمد ؟ فسقط الصنم لما ذكر محمدا ، فخرج الرجل خائفا ، قالت حليمة : فحسست في نفسي أنه قد أخذه آخذ وذهب به إلى جده ، فقصدته مسرعة ، فلما رآني قال : ما قصتك ؟ قلت : ولدك محمد أتيت به ووضعته على باب مكة أقضي حاجة فرجعت فلم أره ، فقال : إنى أخشى أن يكون أخذه بعض الكهان ، فنادى عبدالمطلب : يا آل غالب ، وكانوا يتباركون بهذه الكلمة ، فلما سمع قريش صوت عبدالمطلب أجابوه من كل مكان ، فقال لهم : إن حليمة قد أقبلت بولدي محمد ، وطرحته على باب الكعبة ، ومضت لقضآء حاجة لها وعادت فلم تره ، وأنا أخاف عليه أن يغتاله ساحر أو كاهن ، فقالوا : نحن معك سربنا أين شئت ، إن خضت بحرا خضناه ، وإن ركبت برا ركبناه ، ثم ركبوا وساروا فلم يقفوا له على خبر ، فأتى عبدالمطلب إلى الكعبة وطاف بها سبعا ، وتعلق بأستارها ، ثم دعا وتضرع في دعائه ، فسمع هاتفا يقول : يا عبدالمطلب لا تخف على ولدك ، ولكن اطلبه بوادي دعاية عند شجرة الموز ، فمضى عبدالمطلب إلى المكان المذكور فوجده قاعدا تحت الشجرة ، وقد تدلت عليه أثمارها ، فبادر إليه جده ، فأخذه وقبله ، وقال له : يا ولدي من أتي بك إلى هذا الموضع ؟ قال : اختطفت بى طير أبيض ، وحملنى على جناحه ، وأتى بى إلى هاهنا ، وقد جعت وعطشت فأكلت من ثمرة هذه الشجرة ، وشربت من المآء ، وكان الطائر جبرئيل عليه السلام .
ثم إن حليمة قالت لعبدالمطلب : إن ولدك قد صار له عندنا كذا وكذا ، قال : يا حليمة لا بأس عليك ، إمضي إلى امه وأخبريها بذلك ، فإنها أخبرتني يوم ولد أنه سطع منه نور صعد إلى السمآء . وذلك قوله تعالى : ( ألم نشرح لك صدرك ) الآية . ثم إن عبدالمطلب كفل النبي صلى الله عليه وآله إلى أن رمد النبي صلى الله عليه وآله رمدة شديدة وكان بالجحفة طبيب فوطأله جده راحلة وسار به إلى الجحفة ، فلما دخل صالح عبدالمطلب أيها الطبيب عندي غلام اريد أن تطب عينه ، فرفع رأسه وقال له : اكشف لي عن وجهه ، فلما كشف عن وجهه سقطت الصومعة ، فرفع الراهين رأسه ونادى بالشهادتين والاقرار بنبوة محمد صلى الله عليه وآله ، ثم قال : وما عسى أن أقول فيه لا بأس عليه مما نزل به ، ولكن أيها الشيخ اسمع ما أقول لك ، إنه سيد العرب ، بل سيد الاولين والآخرين ، والمشفع فيهم يوم الدين ، تنصره المئلائكة المقربون ، ويأمره الله أن يقاتل من يخالفه ، وينصره الله نصرا عزيزا ، وأشد الناس عليه قومه ، فقال عبدالمطلب : يا راهب ما تقول ؟ فقال : والذي لا إله إلا هو ، لئن أدركت زمانه لانصرنه ، فاحفظ ولدك ، فرجع بولده إلى مكة فأقام بها حتى حضرته الوفاة ، فأوصى به إلى عمه أبي طالب فكفله أبوطالب ، وأقبل به إلى منزله ، ودع ابزوجته فاطمة بنت أسد ، وكانت شديدة المحبة لرسول الله صلى الله عليه وآله ، شفيقة عليه ، فقال لها أبوطالب : اعلمي أن هذا ابن أخي ، وهو اعز عندي من نفسي ومالي ، و إياك أن يتعرض عليك أحد فيما يريد ، فتبسمت فاطمة من قوله ، وكانت تؤثره على سائر أولادها ، وكان لها عقيل وجعفر ، فقالت له : توصيني في ولدي محمد وإنه أحب إلي من نفسي وأولادي ، ففرح أبوطالب بذلك ، فجعلت تكرمه على جملة أولادها ، ولا تجعله يخرج عنها طرفة عين أبدا ، وكان يطعم من يريد فلا يمنع ، وقد كان يشب في اليوم ما يشب غيره في السنة وينمو ، فتعجب أهل مكة من ذلك وحسنه وجماله ، فلما نظر أبوطالب إلى حسنه وجماله قال:
نور وجهك الذي فاق في الحسن * على نور شمسنا والهلال
أنت والله يا مناي وسؤلي * الذي فاق نوره المتعالي
أنت نور الانام من هاشم الغر * فقت كل العلا وكل الكمال
وعلو الفخار والمجد أيضا * ولقد فقت أهل كل المعالي
ثم بعد ذلك شاع ذكره في البلاد ، ثم إنه توجه يوما إلى نحو الكعبة وأهل مكة حولها ، وكان قد عمروا فيها عمارة ، وشالوا الحجر الاسود من مكانه ، فلما عموا أن يردوه إلى مكانه الاول اختلفوا فيمن يرده ، فكان كل منهم يقول : أنا أرده ، يريد الخر لنسفه ، فقال لهم ابن المغيرة : يا قوم حكموا في أمركم من يدخل من هذا الباب ، وأجمعوا على ذلك ، وإذا بالنبي صلى الله عليه وآله قد اقبل عليهم ، فقالوا : هذا محمد ، نعم الصادق الامين ، ذو الشرف الاصيل ، ثم نادوه فأقبل عليهم ، فقالوا : قد حكمناك في أمرنا ، من يحمل الحجر الاسود إلى محله ؟ فقال صلى الله عليه وآله : هذه فتنة ، ايتوني بثوب ، فأتوه به ، فقال : ضعوا الحجر فوقه ، وارفعوه من كل طرف قبيلة ، فرفعوه إلى مكانه ، والنبي صلى الله عليه وآله هو الذي وضعه في مكانه ، فتعجبت القبائل من فعله .