ملامح من ثورة الحسين (عليه السلام)
بقلم: الشيخ محمد مهدي شمس الدين
الثورة الصحيحة هي الإحتجاج النهائي الحاسم على الواقع المعاش، فبعد أن تخفف جميع الوسائل الأخرى في تطوير الواقع تصبح الثورة قدراً حتمياً لابد منه.
والقائمون بالثورة الصحيحة هم دائماً أصح أجزاء الأمة، هم الطليعة، هم النخبة التي لم يأسرها الواقع المعاش وإنما بقيت في مستوى أعلى منه وإن كانت تدركه، وتعيه وترصده، وتنفعل به، وتتعذب بسببه.
تصبح الثورة قدر هذه النخبة ومصيرها المحتوم حين تخفف جميع وسائل الإصلاح الأخرى، وإلاّ فإن هذه النخبة تفقد مبررات وجودها إذا لم تثر. ولا يمكن أن يقال عنها أنها نخبة، أنها تكون نخبة حين يكون لها دور تأريخي وحين تقوم بهذا الدور.
ولابد أن تبشر بأخلاق جديدة إذا حدثت في مجتمع ليس له تراث ديني وإنساني يضمن لأفراده – لو اتبع حياة إنسانية متكاملة، أو تحيي المبادئ والقيم التي هجرها المجتمع أو حرفها إذا كان للمجتمع مثل هذا التراث كما هو الحال في المجتمع الإسلامي الذي كانت سياسة الأمويين المجافية للإسلام تحمله على هجر القيم الإسلامية واستلهام الإخلاق الجاهلية في الحياة، وتوفر هذا الهدف في الثورة الصحيحة من جملة مقومات وجودها لأن العلاقات الإنسانية في الواقع علاقات منحطة وفاسدة، وموقف الإنسان من الحياة موقف متخاذل أو موسوم بالإنحطاط الوحيد. وإذن فالدعوة إلى نموذج من الأخلاق أسمى مما يمارسه المجتمع ضرورة لازمة لأنه لابد أن تتغير نظرة الإنسان إلى نفسه وإلى الآخرين وإلى الحياة ليمكن إصلاح المجتمع.
ولقد قدم الحسين (عليه السلام)، وأصحابهم الأخلاق الإسلامية العالية بكامل صفائها ونقائها، ولم يقدموا الى المجتمع الإسلامي هذا اللون من الأخلاق بألسنتهم وإنما كتبوه بدمائهم.
لقد اعتاد الرجل العادي إذ ذاك أن يرى الزعيم القبلي أو الزعيم الديني يبيع ضميره بالمال، ويعرض الحياة الدنيا..لقد اعتاد أن يرى الحياة تعنو خضوعاً وخشوعاً لطاغية حقير لمجرد أنه يملك أن يحرم من العطاء… لقد خضع الزعماء الدينيون والسياسيون ليزيد على علمهم بحقارته وإنحطاطه، وخضعوا لعبيد الله بن زياد على علمهم بأصله الحقير، ومنبته الوضيع وخضعوا لغير هذا وذاك من الطغاة لأن هؤلاء الطغاة يملكون الجاه والمال والنفوذ، ولأن التقرب منهم، والتودد اليهم كفيل بأن يجعلهم ذوي نفوذ في المجتمع، وأن يسبغ عليهم النعمة والرفاه وبلهنية العيش، وكان هؤلاء الزعماء يرتكبون كل شيء في سبيل نيل هذه الحضوة، كانوا يخونون ضمائرهم، فيبتدعون من ألوان الكذب ما يدعم هذه العروش، وكانوا يخونون دينهم الذي يأمرهم بتحطيم الطغاة بدل عبادتهم.
كان الرجل العادي في المجتمع الإسلامي آنذاك يعرف هذا اللون من الرجال ويعرف لوناً آخر منهم وهم أولئك الزهاد والدجالون الذين يتظاهرون بالزهد رياء ونفاقاً، حتى إذا تقربوا من الطغاة كانوا لهم أعواناً وأنصاراً، إنهم هذا الصنف الذي وصفه الإمام علي (عليه السلام) بقوله:
((ومنهم من يطلب الدنيا بعمل الآخرة ولا يطلب الآخرة بعمل الدنيا، قد طامن من شخصه وقارب من خطوه، وشمر من ثوبه، وزخرف من نفسه للأمانة، وأتخذ ستر الله ذريعة الى المعصية))
هؤلاء الزعماء الذين كان الرجل العادي يعرفه وقد اعتادهم، والفه بحيث غدا يرى عملهم هذا طبيعياً لا يثير التساؤل.
ولذلك فقد كان غريباً جداً على كثير من المسلمين آنذاك أن يروا إنساناً يخير بين حياة رافهة، فيها الغنى وفيها المتعة، وفيها النفوذ والطاعة، ولكن فيها الى جانب ذلك كله الخضوع لطاغية، والإسهام معه في طغيانه والمساومة على المبدأ والخيانة له، وبين الموت عطشاً، مع قتل الصفوة الخلص من أصحابه، وأولاده وأخوانه، وأهل بيته جميعاً أمامه، وحيث تنظر إليهم عينه في ساعاتهم الأخيرة وهم يلوبون ظمأ، وهم يكافحون بضراوة وإصرار عدواً هائلاً يريد لهم الموت أو هذا اللون من الحياة، ثم يرى مصارعهم واحداً بعد واحد، وأنه ليعلم أي مصير فاجع محزن ينتظر آله ونساءه من بعده، سبي، وتشريد، ونقل من بلد إلى بلد، وحرمان يعلم ذلك كله، ثم يختار هذا اللون الرهيب من الموت على هذا اللون الرغيد من الحياة.
لقد كان غريباً جداً على هؤلاء أن يروا إنساناً كهذا.. لقد اعتادوا على زعماء يمرغون جباههم في التراب خوفاً من مصير أهون من هذا بكثير أمثال عمر بن سعد والأشعث بن قيس ونظائرهما، تعودوا على هؤلاء فكان غريباً عليهم أن يشاهدوا هذا النموذج العملاق من الإنسان، هذا النموذج الذي يتعالى حتى ليكاد القائل أن يقول: ما هذا بشر..
ولقد هزَّ هذا اللون من الأخلاق.. هذا اللون من السلوك الضمير المسلم هزاً متداركاً، وأيقظه من سباته المرضي الطويل، ليشاهد صفحة جديدة مشرقة يكتبها الإنسان بدمه في سبيل الشرف، والمبدأ، والحياة العارية من الذل والعبودية ولقد كشف له عن زيف الحياة التي يحياها، وعن زيف الزعماء – أصنام اللحم- الذين يعبدهم، وشق له طريقاً جديداً في العمل، وقدم له أسلوباً جديداً في ممارسة الحياة، فيه قسوة، وفيه حرمان، ولكنه طريق مضئ لا طريق غيره جدير بالإنسان.
ولقد غدا هذا اللون المشرق من الأخلاق، وهذا النموذج الباهر من السلوك خطراً رهيباً على حاكم يجافي روح الإسلام في حكمه، إن ضمائر الزعماء قليلاً ما تتأثر بهذه المثل المضيئة، ولكن الذي يتأثر هي الأمة وهذا هو ما كان يريده الحسين (عليه السلام)، لقد كان يريد شق الطريق للأمة المستعبدة لتناضل عن إنسانيتها.
وفي جميع مراحل الثورة، منذ بدايتها في المدينة حتى ختامها الدامي في كربلاء تلمح التصميم على هذا النمط العالي من السلوك.
ها هو الحسين (عليه السلام) يقول لأخيه محمد بن الحنفية وهما بعد في المدينة،
(( يا أخي، والله لو لم يكن في الدنيا ملجأ ولا مأوى، لما بايعت يزيد بن معاوية)).
وها هو يتمثل بابيات يزيد بن مفرغ الحميري حين إنسل من المدينة في جنح الليل إلى مكة:
لا ذعرت السوام في فلق الصبح مغـيراً ولا دعـيت يـزيدا
يـوم اعـطى على المهانة ضيماً والمنايـا تـرصدنني أن أحيدا
وها هو يجيب الحر بن يزيد الرياحي حين قال له:
أذكرك الله في نفسك، فإني أشهد لئن قاتلت لتقتلن، ولئن قوتلت لتهلكن، فقال الإمام الحسين (عليه السلام): أبالموت تخوفني..؟ وهل يعدو بكم الخطب أن تقتلوني..؟ ما أدري ما أقول لك..؟ ولكن أقول كما قال أخو الأوس لإبن عمه – ولقيه وهو يريد نصرة رسول الله (صلى الله عليه واله)- فقال له:
أين تذهب فإنك مقتول، فقال:
سأمضي وما بالموت عار على الفتى إذا ما نوى خيراً وجاهـد مسلما
وواسى رجالاً صالحـين بنفـسه وخالف مثبوراً وفارق مجـرمـا
فإن عشت لم أندم وإن متُّ لم ألم كفى بك ذلاً أن تعيش وترغـما
وها هو- وقد أحيط به، وقيل له: إنزل على حكم بني عمك- يقول:
((لا والله، لا أعطيكم بيدي إعطاء الذليل ولا إقرُّ إقرار العبيد، ألا وأن الدعي أبن الدعي قد ركز بين إثنتين: بين السلة والذلة، وهيهات منا الذلة، يأبى الله لنا ذلك، ورسوله، والمؤمنون، وجدود طابت، وحجور طهرت، وأنوف حمية، ونفوس ابية لا تؤثر طاعة اللئام على مصارع الكرام)).
كل هذا يكشف عن طبيعة السلوك الذي إختطَّه الحسين (عليه السلام) لنفسه ولمن معه في كربلاء وألهب به الروح الإسلامية – بعد ذلك- وبثَّ فيها قوة جديدة.
لقد عرفت كيف كان الزعماء الدينيون والسياسيون يمارسون حياتهم. وهنا يرسم لك صورة عن نوع الحياة التي كان يمارسها الإنسان العادي إذ ذاك. لقد كان همُّ الرجل العادي هو حياته الخاصة، يعمل لها، ويكدح في سبيلها، ولا يفكر إلاّ فيها، فإذا إتسع أفقه كانت القبيلة محل إهتمامه، أما المجتمع والأمة، المجتمع الكبير فلم يكن يستأثر من الرجل العادي بأيِّ إهتمام، كانت القضايا العامة بعيدة عن إهتمامه، لقد كان العمل فيها وظيفة زعمائه الدينيين والسياسيين، يفكرون، ويرسمون خطة العمل، وعليه أن يسير فقط، فلم تكن للرجل العادي مشاركة جدية إيجابية في قضايا المجتمع العامة.
وكان يهتم غاية الإهتمام بعطائه، فيحافظ عليه، ويطيع توجيهات زعمائه خشية أن يمحى إسمه من العطاء، ويسكت عن نقد ما يراه جوراً بسبب ذلك وكان يهتم بمفاخر قبيلته ومثالب غيرها من القبائل، ويروي الأشعار في هذا وذاك . هذا مخطط لحياة الرجل العادي إذ ذاك.
أما أصحاب الحسين (عليه السلام) فقد كان لهم شأن آخر.
لقد كانت العصبة التي رافقت الحسين (عليه السلام) وشاركته في مصيره رجالاً عاديين. لكل منهم بيت وزوجة، وأطفال وصداقات، ولكل منهم عطاء من بيت المال، وكان كثير منهم لا يزال في ميعة الصبا، في حياته متسع للإستمتاع بالحب وطيبات الحياة ولكنهم جميعاً خرجوا عن ذلك كله، وواجهوا مجتمعهم بعزمـهم على المـوت مع الحسين (عليه السلام).. لقد ثـاروا على مجتمعهم القبلي وعـلى مجتمعهم الكبير في سبيل مبدأ آمنوا به، وصمموا على الموت في سبيله.
ولقد عملت هذه الأخلاق الجديدة عملها في إكساب الحياة الإسلامية سمة كانت قد فقدتها قبل ثورة الحسين (عليه السلام) بوقت طويل، تلك هي الدور الذي غدا الرجل العادي يقوم به في وقت الحياة العامة بعد أن تأثر وجدانه بسلوك الثائرين في كربلاء، قد بدأ الحكام المجافون للإسلام يحسبون حساباً لهؤلاء الرجال العاديين، وبدأ المجتمع الإسلامي يشهد من حين لآخر ثورات عارمة يقوم بها الرجال العاديون على الحاكمين الظالمين وأعوانهم لبعدهم عن الإسلام وعدم إستجابتهم لأوامر الله ونواهيه في سلوكهم.
ثورات كانت روح كربلاء تلهب أكثر القائمين بها وتدفعهم إلى الإستماتة في سبيل ما يرونه حقاً.
ولقد تحطمت دولة أمية بهذه الثورات، وقامت دولة العباسيين بوحي من الأفكار التي كانت تبشر بها هذه الثورات، ولما تبين للناس أن العباسيين كمن سبقهم لم يسكنوا بل ثاروا.. وأستمرت الثورات التي تقـودها روح كربلاء بدون إنقطاع ضد كل ظلم وطغيان وفساد، ولئن تغيرت أساليب الصراع اليوم فإن روح كربلاء هي التي يجب أن تقود خطى المسلمين في كفاحهم للمبادئ المعادية للإسلام، وهي الكفيلة بأن تقودهم – في النهاية- إلى النصرة إن تمسكوا بها، واستلهموها، وكانوا لباعثيها – أهل البيت (عليه السلام)- اتباعاً