السيدة نرجس والدة الإمام عليه السلام وزواجها المبارك
[1]) : جماعة عن أبي المفضل الشيباني، عن محمد ابن بحر بن سهل الشيباني، قال: قال بشر بن سليمان النخاس وهو من ولد أبي أيوب الأنصاري أحد موالي أبي الحسن الهادي وأبي محمد العسكري وجارهما بسر من رأى:
أتاني كافور الخادم وقال: مولانا أبو الحسن علي بن محمد العسكري عليه السلام يدعوك إليه، فأتيته، فلما جلست بين يديه قال لي: يا بشر إنّك من وُلد الأنصار، وهذه الموالاة لم تزل فيكم يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وإني مزكّيك ومشرفك بفضيلة تسبق بها الشيعة في الموالاة بسرّ أطلعك عليه، وأنفذك في ابتياع أمة.
فكتب كتاباً لطيفاً بخط رومي ولغة روميّة وطبع عليه خاتمه، وأخرج شقة صفراء فيها مائتان وعشرون ديناراً فقال: خذها وتوجّه بها إلى بغداد، وأحضر معبر الفرات ضحوة يوم كذا، فإذا وصلت إلى جانب زوارق السبايا، وترى الجواري فيها، ستجد طوائف مبتاعين من وكلاء قواد بني العباس، وشرذمة من فتيان العرب، فإذا رأيت ذلك فأشرف من البعد على المسمى عمر بن يزيد النخاس عامة نهارك، إلى أن تبرز للمبتاعين جارية صفتها كذا وكذا، لابسة حريرين صفيقين(
[2])، تمتنع من العرض، ولمس المعترض، والانقياد لمن يحاول لمسها، وتسمع صرخة روميّة من وراء ستر رقيق، فاعلم أنها تقول: واهتك ستراه، فيقول بعض المبتاعين: عليّ ثلاثمائة دينار، فقد زادني العفاف فيها رغبة، فتقول له بالعربيّة: لو برزت في زي سليمان بن داود، وعلى شبه ملكه ما بدت لي فيك رغبة، فأشفق على مالك، فيقول النخاس: فما الحيلة، ولابد من بيعك، فتقول الجارية: ما العجلة، ولابدّ من اختيار مبتاع يسكن قلبي إليه وإلى وفائه وأمانته.
فعند ذلك قم إلى عمر بن يزيد النخاس، وقل له: إنّ معك كتاباً ملطفة لبعض الأشراف كتبه بلغة روميّة وخط رومي، ووصف فيه كرمه ووفائه ونبله وسخاءه، تناولها لتتأمل منه أخلاق صاحبه، فإن مالت إليه ورضيته فأنا وكيله في ابتياعها منك.
قال بشر بن سليمان: فامتثلت جميع ما حدّه لي مولاي أبو الحسن عليه السلام في أمر الجارية، فلما نظرت في الكتاب بكت بكاءً شديداً وقالت لعمر بن يزيد: بعني من صاحب هذا الكتاب، وحلفت بالمحرجة المغلظة أنّه متى امتنع من بيعها منه قتلت نفسها.
فما زلت أشاحه في ثمنها حتى استقر الأمر فيه على مقدار ما كان صحبنيه مولاي عليه السلام من الدنانير، فاستوفاه، وتسلّمت الجارية ضاحكة مستبشرة.
وانصرفت به إلى الحجرة التي كنت آوي إليها ببغداد، فما أخذها القرار حتى أخرجت كتاب مولانا عليه السلام من جيبها وهي تلثمه، وتطبقه على جفنها، وتضعه على خدّها، وتمسحه على بدنها، فقلت تعجباً منها: تلثمين كتاباً لاتعرفين صاحبه؟!
فقالت: أيّها العاجز الضعيف المعرفة بمحلّ أولاد الأنبياء، أعرني سمعك، وفرّغ لي قلبك، أنا مليكة بنت يشوعا بن قيصر ملك الروم، وأُمي من ولد الحواريين تنسب إلى وصي المسيح شمعون.
أنبؤك بالعجب: إن جدّي قيصر أراد أن يزوجني من ابن أخيه، وأنا من بنات ثلاث عشرة سنة، فجمع في قصره من نسل الحواريين من القسيسين والرهبان ثلاثمائة رجل، ومن ذوي الأخطار منهم سبعمائة رجل، وجمع من أمراء الأجناد، وقواد العسكر، ونقباء الجيوش، وملوك العشائر أربعة آلاف، وأبرز من بهيّ ملكه عرشاً مساغاً من أصناف الجوهر، ورفعه فوق أربعين مرقاة، فلما صعد ابن أخيه، وأحدقت الصُلب، وقامت الأسقفة عكفاً، ونثرت أسفار الإنجيل، تسافلت الصلبة من الأعلى فلصقت الأرض، وتقوضت أعمدة العرش فانهارت إلى القرار، وخرّ الصاعد من العرش مغشياً عليه، فتغيرت ألوان الأساقفة وارتعدت فرائصهم، فقال كبيرهم لجدي: أيّها الملك اعفنا من ملاقاة هذه النحوس الدالة على زوال هذا الدين المسيحي والملكاني.
فتطير جدّي من ذلك تطيراً شديداً، وقال للأساقفة: أقيموا هذه الأعمدة وارفعوا الصلبان، واحضروا أخا هذا المدبر العاهر المنكوس جدّه لأزوجه هذه الصبية فيدفع نحوسه عنكم بسعوده.
ولما فعلوا ذلك حدث على الثاني مثل ما حدث على الأوّل، وتفرق الناس، وقام جدّي قيصر مغتماً فدخل منزل النساء وأرخيت الستور، ورأيتُ في تلك الليلة كأنّ المسيح وشمعون وعدّة من الحواريين قد اجتمعوا في قصر جدّي ونصبوا فيه منبراً من نور يبار السماء علواً وارتفاعاً في الموضع الذي كان نصب جدي وفيه عرشه، ودخل عليه محمد صلى الله عليه واله وختنه ووصيّه عليه السلام وعدّة من أبنائهعليهم السلام .
فتقدم المسيح إليه فاعتنقه، فيقول له محمد صلى الله عليه واله : يا روح الله إني جئتك خاطباً من وصيّك شمعون فتاته مليكة لأبني هذا، وأومأ بيده إلى أبي محمد عليه السلام ابن صاحب هذا الكتاب.
فنظر المسيح عليه السلام إلى شمعون، و قال له: قد أتاك الشرف، فصل رحمك برحم آل محمد صلى الله عليه واله : قال: قد فعلت، فصعد المنبر فخطب محمد صلى الله عليه واله وزوّجني من ابنه، وشهد المسيح عليه السلام وشهد أبناء محمد صلى الله عليه واله والحواريون.
(قالت): فلما استيقظت أشفقت أن أقصّ هذه الرؤيا على أبي وجدّي مخافة القتل، فكنت أسرها ولا أُبديها لهم، وضرب صدري بمحبّة أبي محمد عليه السلام حتى امتنعت من الطعام والشراب، فضعفت نفسي ودقّ شخصي ومرضت مرضاً شديداً، فما بقي في مدائن الروم طبيب إلا أحضره جدي وسأله عن دوائي..
فلما برح به اليأس قال: يا قرة عيني هل يخطر ببالك شهوة فأزودكها فيه هذه الدنيا؟
فقلت: يا جدي أرى أبواب الفرج عليّ مغلقة فلو كشفت العذاب عمّن في سجنك من أسارى المسلمين، وفككت عنهم الأغلال وتصدقت عليهم ومنيتهم الخلاص رجوت أن يهب المسيح وأمه عافية.
فلما فعل ذلك تجلدت في إظهار الصحّة من بدني قليلاً، وتناولت يسيراً من الطعام، فسرّ بذلك وأقبل على إكرام الأسارى وإعزازهم..
فأريتُ أيضاً بعد أربع عشرة ليلة كأن سيدة نساء العالمين فاطمة عليها السلام قد زارتني ومعها مريم بنت عمران… فتقول لي مريم: هذه سيّدة النساء عليها السلام أم زوجك أبي محمد عليه السلام .
فأخذت أتعلق بها وأبكي وأشكو إليها امتناع أبي محمد من زيارتي..
فقالت سيّدة النساء عليها السلام : إن ابني أبا محمد لا يزورك وأنت مشركة بالله على مذهب النصارى وهذه أختي مريم بنت عمران تبرأ إلى الله من دينك..
فإن ملت إلى رضى الله تعالى ورضى المسيح عليه السلام ومريم عليها السلام وزيارة أبي محمد إياك فقولي: أشهد أن لا إله إلا الله وأن أبي محمداً رسول الله، فلما تكلمت بهذه الكلمة ضمتني إلى صدرها سيّدة نساء العالمين عليها السلام وطيّبت نفسي، وقالت: الآن توقّعي زيارة أبي محمد وإني منفذته إليك.
فانتبهت وأنا أتوقع لقاء أبي محمد عليه السلام .. فلما كان في الليلة القابلة رأيت أبا محمد عليه السلام وكأني أقول له: جفوتني يا حبيبي بعد أن أتلفت نفسي معالجة حبك.
فقال عليه السلام : ما كان تأخري عنك إلا لشركك، فقد أسلمت، وأنا زائرك في كل ليلة إلى أن يجمع الله شملنا في العيان، فلما قطع عني زيارته بعد ذلك إلى هذه الغاية…
قال بشر: فقلت لها: وكيف وقعت في الأسارى؟!.
فقالت: أخبرني أبو محمد عليه السلام ليلة من الليالي أن جدّك سيسير جيشاً إلى قتال المسلمين يوم كذا وكذا، ثم يتبعهم فعليك باللحاق به متنكرة في زي الخدم مع عدة من الوصايف من طريق كذا، ففعلت ذلك، فوقفت علينا طلائع المسلمين حتى كان من أمري ما رأيت وشاهدت، وما شعر بأني ابنة ملك الروم إلى هذه الغاية أحد سواك، ولقد سألني الشيخ الذي وقعت إليه في سهم الغنيمة عن اسمي فأنكرته، وقلت: نرجس، فقال: اسم الجواري.
(قال بشر): قلت: العجب أنك روميّة، ولسانك عربي؟!
قالت: نعم من ولوع جدي وحبه إياي على تعلم الآداب أن أوعز إلي امرأة ترجمانة لي في الاختلاف إليّ وكانت تقصدني صباحاً ومساءً وتفيدني العربي حتى استمر لساني عليها واستقام..
قال بشر: فلما انكفأت بها إلى سرّ من رأى دخلت على مولاي أبي الحسن ـ الهادي ـ عليه السلام فقال: كيف أراك الله عز الإسلام وذل النصرانيّة وشرف محمد وأهل بيتهعليهم السلام ؟
قالت: كيف أصف لك يا ابن رسول الله ما أنت أعلم به مني.
قال: فإني أحبّ أن أكرمك فأيّما أحبّ إليك: عشرة آلاف دينار، أم بشرى لك بشرف الأبد؟
قالت: بشرى بولد لي؟
قال لها: ابشري بولد يملك الدنيا شرقاً وغرباً ويملأ الأرض قسطاً وعدلاً كما مُلأت ظلماً وجوراً.
قالت: ممن؟
قال: ممّن خطبك رسول الله صلى الله عليه واله له ليلة كذا في شهر كذا من سنة كذا بالروميّة.
قال لها: ممن زوّجك المسيح عليه السلام ووصيه؟
قالت: من ابنك أبي محمد عليه السلام .
فقال: هل تعرفينه؟
قالت: وهل خلت ليلة لم يزرني فيها منذ الليلة التي أسلمت على يد سيّدة النساء عليها السلام .
قال: فقال مولانا: يا كافور أُدع أختي حكيمة..
فلما دخلت قال لها: ها هيه، فاعتنقتها طويلاً وسرّت بها كثيراً.
فقال لها أبو الحسن عليه السلام : يا بنت رسول الله خذيها إلى منزلك وعلّميها الفرائض والسنن فإنها زوجة أبي محمد، وأم القائم عليه السلام (
[3]).
وقال العلاّمة المجلسي رحمه الله : إكمال الدين(
[4]): محمد بن علي بن محمد بن حاتم، عن أحمد بن عيسى الوشاء، عن أحمد بن طاهر القمي، عن أبي الحسين محمد بن يحيى الشيباني، قال:
وردت كربلاء سنة ستة وثمانين ومائتين، وزرت قبر غريب رسول الله صلى الله عليه واله ثم انكفأت إلى مدينة السلام ـ بغداد ـ متوجهاً إلى مقابر قريش (الكاظمين) وقد تضرمت الهواجر، وتوقّدت السماء، ولما وصلت منها إلى مشهد الكاظم عليه السلام واستنشقت نسيم تربته المغمورة من الرحمة، والمحفوفة بحدائق الغفران، أكببت عليها بعبرات متقاطرة، وزفرات متتابعة، وقد حجب الدمع طرفي عن النظر، فلما راقت العبرة، وانقطع النحيب، وفتحت بصري، وإذا أنا بشيخ قد انحنى صلبه، وتقوس منكباه، وثفنت جبهته وراحتاه، وهو يقول لآخر معه عند القبر: يا ابن أخ فقد نال عمّك شرفاً بما حمله السيدان من غوامض الغيوب وشرايف العلوم التي لم يُحمل مثلها إلا سلمان، وقد أشرف عمك على استكمال المدّة وانقضاء العمر، وليس يجد في أهل الولاية رجلاً يقضي إليه.
(قلت: في نفسي): يا نفس لا يزال العناء والمشقة ينالان منك بأتعابي الخفّ والحافر في طلب العلم، وقد قرع سمعي من هذا الشيخ لفظ يدل على علم جسيم وأمر عظيم.
فقلت: أيها الشيخ ومن السيدان؟
قال: النجمان المغيبان في الثرى بسر من رأى.
فقلت: إنني أقسم بالمولاة، وشرف محل هذين السيدين من الإمامة والوراثة إني خاطب علمهما وطالب آثارهما، وباذل من نفسي الإيمان المؤكدة على حفظ أسرارهما.
قال: إن كنت صادقاً فيما تقول فاحضر ما صحبك من الآثار عن نقلة أخبارهم، فلما فتش الكتب وتصفّح الروايات منها قال: صدقت، أنا بشر بن سليمان النخاس من ولد أبي أيّوب الأنصاري، أحد موالي أبي الحسن وأبي محمد وجارهما بسر من رأى.
قلت: فأكرم أخاك ببعض ما شاهدت من آثارهما.
قال: كان مولاي أبي الحسن ـ الإمام الهادي ـ عليه السلام فقّهني في علم الرقيق، فكنت لا أبتاع ولا أبيع إلاّ بإذنه، فاجتنبت بذلك موارد الشبهات حتى كملت معرفتي فيه، فأحسنت الفرق فيما بين الحلال والحرام، فبينا أنا ذات ليلة في منزلي بسر من رأى وقد مضى هوى من الليل إذ قرع الباب قارع، فعدوت مسرعاً فإذا بكافور الخادم، رسول مولانا أبي الحسن علي بن محمد عليه السلام يدعوني إليه، فلبست ثيابي ودخلت عليه فرأيته يحدث ابنه أبا محمد عليه السلام وأخته حكيمة من وراء الستر، فلما جلست قال: يا بشر إنّك من ولد الأنصار، وهذه الولاية لم تزل فيكم، يرثها خلف عن سلف، وأنتم ثقاتنا أهل البيت، وساق الخبر، نحواً مما رواه الشيخ… الخ (
[5]).