الإمام علي عليه السلام وأرض النجف
كان أمير المؤمنين عليه السلام يهتم بالقبور وينبه أصحابه للإعتبار بأهل القبور ومما ورد عنه في ذلك سلامه على أهل القبور عند منصرفه من صفين ومشاهدته المقابر .
روي إنه عليه السلام لما رجع من صفين ودخل أوائل الكوفة رأى قبرا فقال :
ـ قبر من هذا ؟
قالوا : قبر خباب بن الأرث ، فوقف عليه وقال عليه السلام :
رحم الله خبابا أسلم راغبا وهاجر طائعا وعاش مجاهدا وأبتلي في جسده آخرا إلا وإن الله لا يضيع أجر من أحسن عملا ثم مشى عليه السلام فإذا هو بقبور فجاء حتى وقف عليها وقال عليه السلام :السلام عليكم أهل الديار الموحشة والمحال المقفرة أنتم لنا سلف ونحن لكم تبع وبكم عما قريب لاحقون اللهم اغفر لنا ولهم وتجاوز عنا وعنهم طوبى لمن ذكر المعاد وعمل ليوم الحساب وقنع بالكفاف ورضى عن الله تعالى .
ثم قال عليه السلام :يا أهل القبور أما الأزواج فقد نكحت وأما الديار فقد سكنت وأما الأموال فقد قسمت وهذا خير ما عندنا فما عندكم ؟
ثم إلتفت إلى أصحابه وقال : أما إنهم لو تكلموا لقالوا : وجدنا خير الزاد التقوى(1) وكان عليه السلام يقول في وصيته لأبي ذر :
ـ زر القبور تذكر بها الآخرة ولا تزرها بليل واغسل الموتى يتحرك قلبك وصلي على الجنائز لعل ذلك يحزنك فإن الحزين في ظل الله(2) وعمل بهذا المبدأ وتطابقا بين سيرته القولية وسيرته الفعلية كان دائم الخروج إلى الظهر (النجف) حين يضجر من تقاعس أصحابه عن الجهاد وكان يخاطب الظهر :
ـ ما أحسن منظرك وأطيب قعرك اللهم اجعل قبري بها(3).
كلام مع أهل القبور
عن حبه العرني قال : خرجت مع أمير المؤمنين عليه السلام إلى الظهر فوقف في وادي السلام كأنه يخاطب أقواما فقمت بقيامه حتى أعييت ثم جلست حتى مللت ثم قمت وجمعت ردائي وقلت :
ـ يا أمير المؤمنين إني أشفقت عليك من طول القيام فراحة ساعة .
ثم طرحت الرداء وجلس عليه فقال لي : يا حبه إن هو إلا محادثة مؤمن ومؤانسته ، قال فقلت : يا أمير المؤمنين وإنهم لكذلك ؟
فقال : نعم لو كشف لك لرأيتهم حلقا حلقا مجتمعين يتحادثون .
فقلت : أجسام وأرواح ؟
فقال عليه السلام : أرواح وما من مؤمن يموت في بقعة من بقاع الأرض إلا قيل لروحه : إلحقي بوادي السلام وإنها لبقعة من بقاع الجنة([1])
يأمر أصحابه بالدفن في النجف
وقد علم أصحابه إنه سوف يدفن في هذا المكان وسوف يكون شافعا مشفعا في ضغطة القبر لمن يدفن بقربه فأحبوا جواره حيا وميتا ، فكان عليه السلام من باب الهداية والرحمة الإلهية يأمر اصحابه بأن يدفنوا موتاهم بأرض النجف [ وادي السلام ] .
روي أنه عليه السلام كان ذات يوم في إحدى خلواته في الظهر وهو مشرف على النجف وإذا برجل قد أقبل من البرية راكبا وقدامه جنازة فحين رآى عليا حتى وصل إليه وسلم عليه فرد الإمام عليه السلام وقال له :من أين ؟
قال : من اليمن .
قال : وما هذه الجنازة التي معك ؟
قال : جنازة أبي أتيت لأدفنها في هذه الأرض .
فقال له عليه السلام : لم لم تدفنه في أرضكم ؟
قال : أوصى إلي بذلك وقال إنه يدفن هناك رجل يدخل في شفاعته مثل ربيعة ومضر .
فقال له : أتعرف ذلك الرجل ؟
فقال : لا .
فقال عليه السلام : أنا والله ذلك الرجل قم وادفن أباك(1).
وهذا الرجل كما استظهره أغلب المؤرخين هو صافي صفا المعروف بالرجل اليماني صاحب القبر المشرف على البحر المقابل لضريح أمير المؤمنين
النبي يعين مكان دفن أمير المؤمنين
عن بن عباس أن رسول الله صلى الله عليه واله قال لعلي عليه السلام : يا علي إن الله عز وجل عرض مودتنا أهل البيت على السماوات فأول من أجاب منها السماء السابعة فزينها بالعرش والكرسي ثم السماء الرابعة فزينها بالبيت المعمور ثم السماء الدنيا فزينها بالنجوم ثم أرض الحجاز فشرفها بالبيت الحرام ثم أرض الشام فشرفها بالبيت المقدس ثم أرض طيبة فشرفها بقبري ثم أرض كوفان فشرفها بقبرك يا علي .
فقال عليه السلام : يا رسول الله أقبر بكوفان العراق ؟
فقال صلى الله عليه واله : نعم ياعلي تقبر بظاهرها قتلا بين الغريين والذكوات البيض يقتلك شقي هذه الأمة عبد الرحمن بن ملجم فوالذي بعثني بالحق نبيا ما عاقر ناقة صالح عند الله أعظم عقابا منه يا علي ينصرك من العراق مائة ألف سيف(1).
فضل تربة النجف
لو تركنا جميع ما روي في فضل تربة النجف ووقفنا على إختيار الإمام علي عليه السلام بنفسه أن يدفن بظهر الكوفة لكان بحد ذاته ـ ومجرد عن جميع الخصوصيات الأخرى ـ أعظم الشرف وأعظم المنزلة لهذه التربة الزكية الطاهرة وهاهي علامات هذا الشرف ظاهرة للعيان فدفن أمير المؤمنين عليه السلام في النجف جعلها حوزة العلوم الدينية في العالم جميعا ومحط أنظار طلاب العلوم الدينية والعلماء الربانيين حتى مرت سنون على الطلاب إن لم يدرسوا في حوزة النجف لن يحصلوا على الإجتهاد ولو شق الشعرة شعرتين في المتشابهات .
ويخطر في ذهني محاورة جرت في إحدى السنين بين أحد طلاب الحوزة العلمية الشريفة في النجف الأشرف ورجل من إحدى بلدان العراق النائية داخل مقبرة وادي السلام وانتهت بقول الطالب الحوزوي منتصرا لبلدته قائلا : يكفينا فخرا بأننا نصدر الأحياء ونستقبل الموتى .
فانصرف ذلك الرجل ولم يفهم شيئا فالتفت إلي شاب كان بجانبي وقال :
ـ ماذا يعني هذا [ المعمم ] بهذا القول : قلت له : يريد أن يقول بأن النجف تستقبل الجهال موتى الجهل حتى تعلمهم معالم الدين فيصبحوا أحياء بنور العلم ثم تبعث بهم إلى أطراف البلدان ليحيوا جهال الناس بالعلم فإن العلم حياة والجهل موت وإن شئت قلت إنها تحيي الجهال بالعلماء الأحياء ترسلهم إلى أطراف القرى وتستقبل الموتى في واديها وادي السلام والجمع بين الرأيين أتم وأشمل .
حشر أرواح المؤمنين إليها
وقد وردت روايات عديدة عن أهل البيت في فضل النجف وتربتها :
قال الإمام الصادق عليه السلام : ما من مؤمن يموت في شرق الأرض وغربها إلا حشر الله عز وجل روحه إلى وادي السلام .
قيل : وأين وادي السلام ؟
قال عليه السلام : بين وادي النجف والكوفة كأني بهم حلق كبير قعود يتحدثون على منابر من نور([2]).
مقر قبور الأنبياء
وعن أبي أسامة عن أبي عبد الله عليه السلام قال : سمعته يقول الكوفة روضة من رياض الجنة فيها قبر نوح وإبراهيم عليه السلام وقبور ثلاثمائة نبي وسبعين نبيا وستمائة وصي وفيها سيد الأوصياء أمير المؤمنين عليه السلام ([3]).
وقال الإمام الصادق عليه السلام : أربع بقاع ضجت إلى الله أيام الطوفان البيت المعمور فرفعه الله والغري وكربلاء وطوس([4]).
بقعة من الجنة
ولا شك أن هذه المنازل والفضائل العظيمة لهذه التربة إنما جاءت لسبق التكوين بدفن جثمان أمير المؤمنين عليه السلام فيها فكم من أولياء وأنبياء وأوصياء دفنوا في أراض متفرقة ولم تنل تربتهم ذلك الشرف العظيم ذلك أن الكوفة سبقت إلى الإقرار بولاية أمير المؤمنين عليه السلام كما مر بك فكان جزاءها عند الله أن شرفها باحتضان جثمانه وأن جعلها بقعة من الجنة .
قال رسول الله صلى الله عليه واله لأمير المؤمنين عليه السلام
ـ إن الله جعل قبرك وقبور ولدك بقاعا من بقاع الجنة([5]).
وكانت مقدسة قبل ذلك ومهيأه لتكون مهد خاتم الأوصياء .
عن بن عباس قال : الغري قطعة من الجبل الذي كلم الله جل شأنه موسى تكليماوقدس عليه تقديسا واتخذ إبراهيم خليلا حبيبا وجعله للنبيين مسكنا
عن علي (ع) إن إبراهيم (ع) مر ببانيقا وكان ينزل بها فبات بها فاصبح القوم ولم يزلزل بهم فقالوا : ما هذا وليس حدث ؟ قالوا : ها هنا شيخ ومعه غلام له قال : فأتوه فقالوا له : ما هذا إنه كان يزلزل بنا كل يوم ولم تزلزل بنا هذه الليلة فبت عندنا فبات فلم يزلزل بهم فقالوا : أقم عندنا ونحن نجري عليك ما أحببت ؟قال لا ولكن تبيعوني هذا الظهر ولن يزلزل بكم،قالوا : فهو لك،قال:لا آخذه إلا بالشراء ، قالوا : فخذه بما شئت فاشتراه بسبع نعاج وأربع أحمرة فلذلك سمي بانيقا لأن النعاج بالنبطة نيقا ، فقال له غلامة : يا خليل الرحمن ما تصنع بهذا الظهر وليس فيه زرع ولا ضرع ، فقال له : اسكت فإن الله عز وجل يحشر من هذا الظهر سبعين ألف يدخلون الجنة بغير حساب نتشفع منهم لكذا وكذا .
روي أنه لما أنزل الله سبحانه التوراة على موسى ، قال ربي أرني أنظر إليك فأوحى الله إليه : لا تقدر على ذلك ولكن أنظر إلى الجبل فساخ الجبل في البحر فهو يهوي حتى الساعة ونزلت الملائكة وفتحت أبواب السماء فأوحى الله إلى الملائكة أدركوا موسى لا يهرب فنزلت الملائكة وأحاطت بموسى وقالوا إثبت يا بن عمران فقد سألت الله عظيما .. الخبر
وعن أبي عبد الله (ع) قال إن النجف كان جبلا وهو الذي قال إبن نوح (سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ) ولم يكن على وجه الأرض جبل أعظم منه فأوحى الله عز وجل إليه : يا جبل أ يعتصم بك مني ! فتقطع قطعا قطعا إلى بلاد الشام وصار رمادا دقيقا وصار بعد ذلك بحرا عظيما وكان يسمى ذلك البحر ببحر (( ني )) ثم جف بعد ذلك وقيل : ني جف فسمي نجف ثم صار بعد ذلك يسمونه نجف لأنه كان أخف على ألسنتهم ([6])
وهو محشر أرواح المؤمنين كما إن برهوت وهو وادي في اليمن محشر أرواح الكافرين .
وهي الربوة المذكورة في القرآن
قال الإمام الصادق عليه السلام في قوله تعالى [ وآويناهما إلى ربوة ذات قرار ومعين ]([7]) قالعليه السلام :الربوة نجف الكوفة والمعين الفرات والقرار المسجد([8])
وعن يحيى بن عبد الله قال : كنا بالحيرة فركبت مع أبي عبد الله فلما صرنا حيال تربة فوق المآصر قال عليه السلام : هي هي حين قرب من الشط وصار على شفير الفرات ثم نزل فصلى ركعتين ثم قال عليه السلام :
ـ أتدري أين ولد عيسى عليه السلام .
قلت : لا
فقال عليه السلام : في هذا الموضع الذي أنا جالس فيه ، ثم قال عليه السلام :
ـ أتدري أين كانت النخلة ؟
قلت :لا
قال : فمد يده خلفه وقال : في هذا المكان ، ثم قال عليه السلام :
ـ أتدري ما القرار ؟ وما الماء المعين ؟
قلت : لا
قال عليه السلام : هذا هو الفرات .
ثم قال : أتدري ما الربوة ؟
قلت : لا
فأشار بيده عن يمينه فقال : هذا هو الجبل إلى النجف([9]).
وقد كان النجف جبلا
وأصل النجف جبل فتحول إلى بحر كما ورد في أخبار أهل البيت
عن صفوان الجمال قال : سار أبو عبد الله عليه السلام وأنا معه في القادسية حتى أشرف على النجف فقال :
ـ هو الجبل الذي إعتصم به إبن جدي نوح وقال:
[ سآوي إلى جبل يعصمني من الماء ]([10]) فأوحى الله عزوجل إليه : أيعتصم بك مني أحد ، فسار في الأرض وتقطع إلى الشام([11]).
حصاها در و ياقوت
وتراب النجف يقذف إلى السطح در و ياقوت يترتب للمتخم به مثوبات لا تحصى وذلك رحمة من الله لفقراء الشيعة الذين لا يستطيعون شراء العقيق الذي أصبح تجارة رابحة .
عن المفضل بن عمر قال : دخلت على أبي عبد الله وأنا متخم بالفيروزج ، فقال أبو عبد الله عليه السلام : يا مفضل الفيروزج نزهة أبصار المؤمنين والمؤمنات وأنا أحب لكل مؤمن أن يتختم بخمسة خواتم بالياقوت وهو أفخرها وبالعقيق وهو أخلصها لله عزوجل ولنا وبالفيروزج وهو يقوي البصر ويوسع الصدر ويزيد قوة القلب ومن يتختم به عاد بنجح حاجته وبالحديد الصيني ولا أحب التختم به ولا أكره لبسه عند لقاء من يتقيه من أهل الشر ليطفىء شره وهو يرد مرده الشيطين فأحب لذلك إتخاذه وما يظهر الله عزوجل بالذكوات البيض بالغريين فإنه من تختم به فنظر إليه كتب الله له بكل نظرة ثواب زوره ولو لا رحمة الله لشيعتنا لبلغ الفص منه مالا عظيما ولكن أرخصه به ليتختم به غنيهم وفقيرهم([12]).هذه هي النجف وفضائلها ومنازلها ونصوص الأحاديث واضحة لا نحتاج إلى أي تعليق فهي غنية بذاتها عن كل رأي إلا إننا نحب أن نذكر هذه الأبيات رجاءا للثواب وتقول :
يا صاحب القبة البيضاء في النجف من زار قبرك واستشفى لديك شفى
ولنعم ما قاله الشاعر :
إذا مت فادفني مجـــاور حـيــــــــــــدر أبي شبر أعني به وشبيـــــــــــر
فلست أخاف النـــار عنـد جـــــــواره ولا أتقي من منكر ونكيـــــــــر
فعارعلى حامي الحمى وهو في الحمى إذا ضاع في المرعى عقال بعير