موجز سيرة الإمام السجاد عليه السلام
هو الإمام: علي زين العابدين، بن الحسين، بن علي، بن أبي طالب، بن عبد المطلب، بن هاشم، بن عبد مناف، بن قصي، بن كلاب، بن مرة، بن كعب، بن لؤي، بن غالب، بن فهر، بن مالك، بن نضر، بن كنانة، بن خزيمة، ابن مدركة، بن إلياس، بن مضر، بن نزار، بن معد، بن عدنان.
أمه
المكرمة ( رضوان الله تعالى عليها ) هي: شاه زنان ( شهربانو ) بنت يزدجرد، آخر ملوك الساسانية.
وفي الأثر: إن الأصمعي كان يحدث أن ابنة يزدجرد جاءت إلى علي بن أبي طالب عليه السلام في مائة وصيفة، فقال علي عليه السلام: أكرموها فإنها حديثة بنعمة، فقال لها: تزوجي بالحسين ابني.
فقالت: بل أزوجك أنت.
فقال لها: الحسين شاب وهو أحق بالتزويج مني.
وزعم عمر بن الخطاب أنه ليس أحد أزكى من أولاد السراري، لأن لهم عز العرب وتدبير العجم ([1]).
ولادته
ولد الإمام علي بن الحسين عليه السلام في المدينة المنورة يوم الخميس لخمس ليال مضين من شعبان المعظم، سنة ثمان وثلاثين، كما في (اسعاف الراغيبن) لابن الصبان المالكي، المطبوع بهامش (نور الأبصار)([2]).
وأيضاً في (الفصول المهمة) ([3]) لابن الصباغ..
وفي (نور الأبصار) ([4]) للشبلنجي.
كلام ابن شهر آشوب
قال ابن شهر آشوب في المناقب ([5]): ولد علي بن الحسين عليه السلام زين العابدين في المدينة يوم الخميس في النصف من جمادى الآخرة، ويقال: يوم الخميس لتسع خلون من شعبان سنة 38 هـ ، وقيل سنة سبع، وقيل سنة ست.
كنيته
كنيته المباركة عليه السلام: أبو الحسن، وقيل: أبو الحسين، وقيل: أبو محمد، وقيل: أبو عبد الله، وقيل: أبو القاسم.
وكان يقال له أيضا: ابن الخيرتين.
ألقابه
وألقابه عليه السلام كثيرة، منها: السجاد، وزين العابدين([6])، وذو الثفنات، والزكي، والأمين، أبو الحسين وأبو محمد وزين العابدين وكان من أشهر ألقاب الإمام الرابع علي بن الحسين عليه السلام هو (زين العابدين)، ووجه تلقّبه بهذا كثرة عبادته لله عزوجل.في وسيلة النجاة([7]) لمحمّد مبين الحنفي نقلاً عن شواهد النبوّة: إنّ سبب تلقّبه بزين العابدين: أن الشيطان تمثّل بصورة أفعى، فلدغ إصبع رجله حين كان منشغلاً بالصلاة، فلم يلتفت إليه ولم يقطع صلاته، فسمع مناد ينادي: أنت زين العابدين حقّاً.
ومن ألقابه الشريفة : ذو الثفنات، وذلك لأنه صار على أعضاء سجوده ما يشبه ثفنات البعير، لكثرة سجداته لله عزوجل.ومن ألقابه عليه السلام أيضاً: سيد العابدين، كما سماه بذلك رسول الله صلى الله عليه واله .
عبادته
قال ابن حجر العسقلاني في تهذيب التهذيب([8]):
وقال مصعب الزبيري عن مالك ـ ابن أنس ـ: ولقد أحرم علي بن الحسين عليه السلام فلمّا أراد أن يقول (لبّيك) قالها فأغمي عليه حتى سقط من ناقته فهشم..
ولقد بلغني أنّه كان يصلّي في كلّ يوم وليلة ألف ركعة إلى أن مات، وكان يسمّى زين العابدين لعبادته.
وقال ابن الصبّاغ المالكي في الفصول المهمة ([9]):
روي عن أبي حمزة الثمالي قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة… وهذا ذكره الشبلنجي أيضاً في نور الأنصار([10]).
وابن عبد ربّه في العقد الفريد([11]) قال: وقيل لمحمّد بن علي أو علي بن الحسين عليهما السلام : ما أقلّ ولد أبيك؟ قال: العجب كيف ولدت له! وكان يصلّي في اليوم والليلة ألف ركعة، فمتى كان يتفرّغ للنساء؟ وحجّ خمسة وعشرين حجّة راجلاً..
خوفه عليه السلام من الله عز وجل
قال الشعراني في الطبقات الكبرى([12]): وكان ـ علي بن الحسين عليه السلام ـ إذا توضّأ اصفرّ وجهه، فيقول له أهله: ما هذا الذي يعتادك عند الوضوء؟ فيقول: أتدرون بين يدي من أريد أن أقوم؟.
وذكره محمد بن طلحة الشافعي أيضاً في مطالب السؤول([13]) بمثل ما في طبقات الشعراني، وزاد: (وإذا قام إلى الصلاة أخذته الرعدة).
وفي البداية والنهاية نقلاً عن طبقات ابن سعد قال: إذا توضأ علي بن الحسين أصفر([14]).
من أخلاقه عليه السلام الفاضلة
وفي تهذيب الكمال: قال أبو الحسن المدائني، عن إبراهيم بن سعد: سمع علي بن الحسين عليه السلام واعية (نائحة) في بيته وعنده جماعة فنهض إلى منزله، ثم رجع إلى مجلسه، فقيل له: أمر حدث؟ قال: نعم، فعزوه، وتعجبوا من صبره، فقال: إنا أهل بيت نطيعُ الله فيما نحب، ونحمده فيما نكره([15])..
وفي سير أعلام النبلاء: قيل: كان علي بن الحسين عليه السلام إذا سار في المدينة على بغلته لم يقل لأحد الطريق: ويقول هو مشترك ليس لي أن أنحي عنه أحد.
قال ابن سعد([16]): أخبرنا علي بن محمد... عن هشام بن عروة، قال: كان علي بن الحسين عليه السلام يخرج على راحلته إلى مكة ويرجع لا يقرعها.
قال محمد بن طلحة في مطالب السؤول([17]): كان عليّ بن الحسين عليه السلام إذا مشي لا تجاوزه يده فخذه، ولا يخطر بيده، وعليه السكينة والخشوع.
قال ابن سعد ([18]): أخبرنا محمد بن عمر قال: حدّثني ابن أبي سبرة، عن سالم مولى أبي جعفر قال: كان هشام بن إسماعيل يؤذي علي بن الحسين عليه السلام وأهل بيته، يخطب بذلك على المنبر وينال من علي عليه السلام.
فلمّا ولى الوليد بن عبد الملك عزله وأمر به أن يوقف للناس، قال: فكان يقول: لا والله ما كان أحد من الناس أهم إليّ من علي بن الحسين عليه السلام كنت أقول: رجل صالح يسمع قوله، فوقف للناس، قال: فجمع علي بن الحسين عليه السلام ولده وحامته ونهاهم عن التعرض، قال: وغدا علي بن الحسين عليه السلام ماراً لحاجة فما عرض له، قال: فناداه هشام بن إسماعيل: ]الله أعلم حيث يجعل رسالته[([19]).
وقال الشبلنجي في (نور الأبصار) ([20]): لقيه رجل فسبّه، فقال عليه السلام له: يا هذا بيني وبين جهنّم عقبة إن أنا جزتها فما أبالي بما قلت أنت، وإن لم أجزها فأنا أكثر ممّا تقول.
وقال العسقلاني ـ كما سبق ـ في تهذيب التهذيب([21]): روي عن موسى بن طريف قال: استطال رجل على عليّ بن الحسين عليه السلام فأغضى عنه.فقال له ـ الرجل ـ: إيّاك أعني.فقال عليه السلام: وعنك أغضي.
قصيدة الفرزدق
قال القيراوني في زهر الآداب بهامش عقد الفريد([22]):
حجّ هشام بن عبد الملك، فطاف بالبيت وأراد استلام الحجر فلم يقدر، فنصب له منبر فجلس عليه، فبينما هو كذلك، إذ أقبل عليّ بن الحسين عليه السلام في إزار ورداء، وكان أحسن الناس وجهاً، وأعطرهم رائحة، وأكثرهم خشوعاً، وبين عينيه سجادة كأنّها ركبة عنز، وطاف بالبيت وأتى يستلم الحجر فتنحّى له الناس هيبة وإجلالاً، فغاظ ذلك هشاماً.
فقال رجل من أهل الشام: من الذي أكرمه الناس هذا الإكرام وأعظموه هذا الإعظام؟
فقال هشام: لا أعرفه، لئلا يعظم في صدور أهل الشام.
فقال الفرزدق وكان حاضراً:
هذا الذي تعرف البطحاء وطئته وطأت ه |
|
والبيت يعرفه والحل والحرم |
هذا ابن خير عباد الله كلّهم |
|
هذا التقي النقي الطاهر العلم |
(وستاتينا كاملة في فصل قصائد في اهل البيت عليهم السلام )
قال: فغضب هشام وأمر بحبس الفرزدق، فجلس بعسفان، بين مكة والمدينة، فبلغ ذلك عليّ بن الحسين عليه السلام، فبعث إلى الفرزدق باثني عشر ألف درهم، وقال عليه السلام: اعذرنا أبا فراس لو كان عندي أكثر منها لوصلناك..
فردّها ـ الفرزدق ـ وقال: يا بن رسول الله، ما قلت الذي قلت إلاّ غضباً لله ولرسوله، وما كنت لأرزأ عليها شيئاً..
فردّها إليه، وقال عليه السلام: بحقّي عليك لمّا قبلتها فقد رأى الله مقامك وعلم نيّتك، فقبلها، وجعل يهجو هشاماً… الخ.
كثير علمه عليه السلام
قال الشبراوي في الإتحاف بحبّ الأشراف([23]): ومن كلام زين العابدين عليه السلام:
يا رب جوهر علم لو أبوح به |
|
لقيل لي: أنت ممن يعبد الوثنا |
ولاستحل رجال مسلمون دمي |
|
يرون أقبح ما يأتونه حسنا |
إنّي لأكتمب من علمي جواهره |
|
كي لا يرى الحق ذو جهل فيفتتنا |
وقد تقدم في هذا أبو حسن |
|
إلى الحسين ووصي قبله حسنا |
وأبو نعيم في حلية الأولياء([24]): بسنده عن سفيان بن عيينة، عن الزهري قال: دخلنا على عليّ بن الحسين عليه السلام فقال: يا زهري فيم كنتم؟
قلت: تذاكرنا الصوم، فأجمع رأيي ورأي أصحابي على أنّه ليس من الصوم شيء واجب إلا شهر رمضان.
فقال عليه السلام: يا زهري، ليس كما قلتم، الصوم على أربعين وجهاً، عشرة منها واجبة كوجوب شهر رمضان، وعشرة منها حرام، وأربعة عشرة خصلة صاحبها بالخيار إن شاء صام وإن شاء أفطر، وصوم النذر واجب وصوم الاعتكاف واجب.
قال ـ الزهري ـ: قلت: فسّرهنّ يا بن رسول الله.
قال عليه السلام: أمّا الواجب فصوم شهر رمضان، وصيام شهرين متتابعين ، يعني في قتل الخطأ لمن لم يجد العتق، قال تعالى: ( ومن قتل مؤمناً خطأ فتحرير رقبة مؤمنة ودية مسلّمة إلى أهله ) إلى قوله تعالى: ( فمن لم يجد فصيام شهرين متتابعين ) ([25])، وصيام ثلاثة أيّام في كفّارة اليمين لمن لم يجد الإطعام، قال الله عزّوجلّ: ( ذلك كفّارة أيمانكم إذا حلفتم) ([26])، وصيام حلق الرأس، قال الله تعالى: ( فمن كان منكم مريضاً أو به أذى من رأسه)([27]) صاحبه بالخيار إن شاء صام ثلاثاً، وصوم دم المتعة لمن لم يجد الهدي، قال الله تعالى: ( فمن تمتّع بالعمرة إلى الحج… )([28])، وصوم جزاء الصيد، قال الله تعالى: ( ومن قتله منكم متعمّداً فجزاءه مثل ما قتل من النعم ) ([29]) وإنّما يقوّم ذلك الصيد قيمة ثم يقص ذلك الثمن على الحنطة.
وأمّا الذي صاحبه بالخيار فصوم يوم الاثنين والخميس، وصوم ستّة أيّام من شوّال بعد رمضان ـ من بعد يوم العيد بلا فصل ـ وصوم يوم عرفة، ويوم عاشوراء، كلّ ذلك صاحبه بالخيار، إن شاء صام وإن شاء أفطر.
وأمّا صوم الإذن، فالمرأة لا تصوم تطوّعاً إلاّ بإذن زوجها، وكذلك العبد والأمة.
وأمّا صوم الحرام: فصوم يوم الفطر، ويوم الأضحى، وأيّام التشريق، ويوم الشك، نهينا أن نصومه كرمضان، وصوم الوصال حرام، وصوم الصمت حرام، وصوم نذر المعصية حرام، وصوم الدهر حرام، والضيف لا يصوم تطوّعاً إلاّ بإذن صاحبه، قال رسول الله صلى الله عليه واله : (من نزل على قوم فلا يصومنّ تطوّعاً إلاّ بإذنهم).
ويؤمر الصبيّ بالصوم إذا لم يراهق تأنيساً، وليس بفرض، وكذلك من أفطر لعلّة من أول النهار ثم وجد قوة في بدنه أمر بالإمساك، وذلك تأديب الله عزّوجلّ، وليس بفرض، وكذلك المسافر إذا أكل من أول النهار ثم قدم أمر بالإمساك.
وأمّا صوم الإباحة، فمن أكل أو شرب ناسياً من غير عمد فقد أبيح له ذلك وأجزأه عن صومه، وأمّا صوم المريض وصوم المسافر، فإنّ العامة اختلفت فيه، فقال بعضهم: يصوم، وقال قوم: لا يصوم، وقال قوم: إن شاء صام، وإن شاء أفطر، وأمّا نحن فنقول: يفطر في الحالين جميعاً، فإن صام في السفر والمرض فعليه القضاء، قال الله عزّوجلّ: ( فعدّة من أيّام أخر ) ([30]).
بعض كراماته عليه السلام ومعاجزه
وقال محمّد مبين الهندي في وسيلة النجاة([31]): ومن جملة كراماته على ما في شواهد النبوّة أنّه قدم محمّد بن الحنفية إليه عليه السلام وطلب منه سلاح رسول الله صلى الله عليه واله ..
فقال عليه السلام: اتق الله يا عم ولا تبغ ما ليس لك.
فلمّا بالغ في ذلك، دعاه عليه السلام إلى التحاكم إلى الحجر الأسود.
فلمّا بلغا عنده، رفع عليه السلام يديه إلى السماء، ودعا الله بأسمائه العظام وسأله أن ينطق الحجر ويجعله حكماً بينهما، ثم أقبل إلى الحجر فقال عليه السلام: بحقّ من أودع فيك مواثيق عباده أخبرنا بالإمام والوصيّ بعد الحسين عليه السلام فتحرك الحجر حتى أوشك أن يسقط من مكانه بصوت عربي فصيح: يا محمّد إن الإمام والوصي بعد الحسين عليه السلام هو عليّ بن الحسين عليه السلام..
نبذة من كلماته عليه السلام الدرية
عن الإمام زين العابدين عليه السلام انه كان يقول: اللّهم إنّي أعوذ بك أن تحسن في لوائع العيون علانيتي، وتقبح في خفيات العيون سريرتي، اللهم كما أسأت أنا وأحسنت أنت إليّ، فإذا عدت أنا فعد أنت عليّ.
وكان عليه السلام يقول: إن قوماً عبدوا الله رهبة فتلك عبادة العبيد، وآخرين عبدوه رغبة فتلك عبادة التجار، وقوماً عبدوا الله شكراً فتلك عبادة الأحرار
: كان عليه السلام يقول: (عبادة الأحرار لاتكون إلاّ شكراً لله، لا خوفاً ولا رغبة).
وقال عليه السلام: إنّ الله يحب المؤمن المذنب التائب([32]).
وقال عليه السلام: أقرب ما يكون العبد من غضب الله إذا غضب([33]).
وقال عليه السلام: ضلّ من ليس له حكيم يرشده، وذلّ من ليس له
وقال عليه السلام: الكريم يبتهج بفضله، واللئيم يفتخر بماله([34]).
وقال عليه السلام: مرآة تري المؤمن سيّئاته فيقلع عنها، وحسناته فيكثر منها، فلايقع مقرعة التقريع عليه، ولا تنظر عين العواقب شزيراً إليه([35]).
وقال عليه السلام لولده: يا بني لا تصحبنّ قاطع رحم، فإنّي وجدته ملعوناً في كتاب الله في ثلاثة مواضع([36]).
وقال عليه السلام: أربع لهنّ ذلّ: البنت ولو مريم ([37])، والدَيْن ولو درهم، والغربة ولو ليلة، والسؤال ولو كيف الطريق([38]).
وقال عليه السلام: عجبت للمتكبّر الفخور الذي بالأمس نطفة وهو غداً جيفة، وعجبت لمن شكّ وهو يرى عجائب مخلوقاته، وعجبت لمن يشك في النشأة الأخرى وهو يرى النشأة الأولى، وعجبت لمن عمل لدار الفناء وترك دار البقاء([39]).
وقال عليه السلام: إنّما الدنيا جيفة حولها كلاب، فمن أحبّها فليصبر على معاشرة الكلاب([40]).
وقال عليه السلام:من تمام المروّة خدمة الرجل ضيفه كما خدمهم أبونا إبراهيم عليه السلام بنفسه، أو ما تسمع قوله تعالى: ]وامرأته قائمة[([41]).
وقال عليه السلام: إذا نصح العبد لله تعالى في سرّه، أطلعه الله تعالى على مساوئ عمله، فتشاغل بذنوبه عن معايب الناس([42]).
خطبته عليه السلام في مسجد الشام
قال الخوارزمي في مقتله([43]):
روي أنّ يزيد أمر بمنبر وخطب ليذكر للناس مساوئ للحسين وأبيه عليهما السلام فصعد الخطيب المنبر، فحمد الله وأثنى عليه، وأكثر الوقيعة في عليّ والحسين عليهما السلام وأطنب في تقريظ معاوية ويزيد..
فصاح به عليّ بن الحسين عليه السلام: ويلك أيّها الخاطب اشتريت رضا المخلوق بسخط الخالق، فتبوّأ مقعدك من النار...
ثم قال عليه السلام: يا يزيد ائذن لي حتى أصعد هذه الأعواد، فأتكلّم بكلمات فيهنّ لله رضى ولهؤلاء الجالسين أجر وثواب، فأبى يزيد.
فقال الناس: يا أمير المؤمنين إئذن له ليصعد فلعلنا نسمع منه أشياء.
فقال لهم ـ يزيد ـ : إن صعد المنبر هذا لم ينزل إلاّ بفضيحتي وفضيحة آل أبي سفيان.
فقالوا: وما قدر ما يحسن هذا؟.
فقال: إنّه من أهل بيت قد زقّوا العلم زقّاً..
ولم يزالوا به حتى أذن له بالصعود.
فصعد عليه السلام المنبر، وحمد الله وأثنى عليه، ثم خطب خطبة أبكى منها العيون وأوجل منها القلوب، فقال فيها:
أيّها الناس، أعطينا ستّاً وفضّلنا بسبع، أعطينا: العلم، والحلم، والسماحة، والفصاحة، والشجاعة، والمحبّة في قلوب المؤمنين، وفضّلنا: بأنّ منّا النبيّ المختار محمداً صلى الله عليه واله ، ومنّا الصدّيق، ومنّا الطيّار، ومنّا أسد الله وأسد الرسول، ومنّا سيّدة نساء العالمين فاطمة البتول، ومنّا سبطا هذه الأمّة وسيّدا شباب أهل الجنّة، فمن عرفني فقد عرفني، ومن لم يعرفني أنبأته بحسبي ونسبي:
أنا ابن مكّة ومنى، أنا ابن زمزم والصفا، أنا ابن من حمل الزكاة
ـ الركن ـ ([44]) بأطراف الرداء، أنا ابن خير من ائتزر وارتدى، أنا ابن خير من انتعل واحتفى، أنا ابن خير من طاف وسعى، أنا ابن خير من حجّ ولبّى، أنا ابن من حمل على البراق في الهواء، أنا ابن من أسري به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، فسبحان من أسرى، أنا ابن من بلغ به جبرائيل إلى سدرة المنتهى، أنا ابن من دنى فتدلّى فكان من ربّه قاب قوسين أو أدنى، أنا ابن من صلّى بملائكة السماء، أنا ابن من أوحى إليه الجليل ما أوحى..
أنا ابن محمّد المصطفى، أنا ابن عليّ المرتضى، أنا ابن من ضرب خراطيم الخلق حتى قالوا: لا إله إلا الله، أنا ابن من ضرب بين يدي رسول الله بسيفين، وطعن برمحين، وهاجر الهجرتين، وبايع البيعتين، وصلّى القبلتين، وقاتل ببدر وحنين، ولم يكفر بالله طرفة عين، أن ابن صالح المؤمنين، ووارث النبيّين، وقامع الملحدين، ويعسوب المسلمين، ونور المجاهدين، وزين العابدين، وتاج البكّائين، وأصبر الصابرين، وأفضل القائمين من آل ياسين ورسول ربّ العالمين.
أنا ابن المؤيّد بجبرائيل، المنصور بميكائيل، أنا ابن المحامي عن حرم المسلمين، وقاتل الناكثين والقاسطين والمارقين، والمجاهد أعدائه الناصبين، وأفخر من مشى من قريش أجمعين، وأول من أجاب واستجاب لله من المؤمنين، وأقدم السابقين، وقاصم المعتدين، ومبير المشركين، وسهم من مرامي الله على المنافقين، ولسان حكمة العابدين، وناصر دين الله، ووليّ أمر الله، وبستان حكمة الله، وعيبة علم الله، سمح سخي، بهلول زكيّ، أبطحي رضي مرضي، مقدام همام، صابر صوّام، مهذّب قوّام، شجاع قمقام، قاطع الأصلاب، ومفرّق الأحزاب، أربطهم جأنتنأ ، وأجرأهم لساناً، وأمضاهم عزيمة، وأشدهم شكيمة، أسد باسل، وغيث هاطل، يطحنهم في الحروب إذا ازدلفت الأسنّة وقربت الأعنّة طحن الرحى، ويذروهم ذرو الريح الهشيم، ليث الحجاز، وصاحب الأعجاز، وكبش العراق، الإمام بالنص والاستحقاق، مكّي مدني، أبطحي تهامي، خيفيّ عقبي، بدريّ أحدي، شجري مهاجري، من العرب سيّدها، ومن الوغى ليثها، وارث المشعرين، وأبو السبطين الحسن والحسين، مظهر العجائب، ومفرّق الكتائب، والشهاب الثاقب، والنور العاقب، أسد الله الغالب، مطلوب كل طالب، غالب كل غالب، ذلك جدّي علي بن أبي طالب عليه السلام .
أنا ابن فاطمة الزهراء، أنا ابن سيّدة النساء، أنا ابن طهر البتول، أنا ابن بضعة الرسول …
ولم يزل يقول: أنا أنا، حتى ضج الناس بالبكاء والنحيب، وخشي يزيد أن تكون فتنة، فأمر المؤذن أن يؤذن، فقطع عليه الكلام وسكت..
فلمّا قال المؤذن: الله أكبر.
قال عليه السلام: كبّرت كبيراً لا يقاس، ولا يدرك بالحواس، لا شيء أكبر من الله..
فلما قال: أشهد أن لا إله إلا الله.
قال عليه السلام: شهد بها شعري وبشري ولحمي ودمي ومخي وعظمي.
فلمّا قال: أشهد أنّ محمداً رسول الله.
التفت عليه السلام من أعلى المنبر إلى يزيد وقال: يا يزيد! محمّد هذا جدّي أم جدّك؟
فإن زعمت أنّه جدّك فقد كذبت..
وإن قلت: أنّه جدّي فلم قتلت عترته؟… الخ.
قال الشيخ عبد الله البحراني: في الكافي([45]) عن أبي بصير عن أبي عبد الله الصادق عليه السلام قال: (قبض علي بن الحسين عليه السلام وهو ابن سبع وخمسين سنة في عام خمس وتسعين).
وقال الشيخ المفيد رحمه الله في الإرشاد([46]): (وتوفي عليه السلام بالمدينة سنة خمس وتسعين من الهجرة وله يومئذ سبع وخمسون سنة).
وقال الشيخ الطوس يرحمه الله في المصباح([47]):
(في اليوم الخامس والعشرين من المحرم سنة أربع وتسعين كانت وفاة زين العابدين عليه السلام بالمدينة).
روي ان الإمام زين العابدين عليه السلام بعد ما سمه هشام بن عبد الملك أو الوليد ابن عبد الملك، أخذ يقرأ القرآن والأدعية ويوصي بوصايا عظيمة، وعين ولده الباقر عليه السلام خليفة من بعده، ووصاه بوصايا الإمامة وودائعها، وقال له: يا محمد هذا الصندوق فاذهب به الى بيتك، ثم قال: أما إنه لم يكن فيه دينار ولا درهم ولكنه كان مملوءً علماً.
وفي رواية: انه حمل الصندوق بين أربعة رجال وكان فيه سلاح رسول الله صلى الله عليه واله وكتبه.
وقال عليه السلام: يا بني هذه الليلة التي وعدتها، فأوصى بما أوصى، حتى بناقته خيراً وأن يحضر لها عصام ـ أي القربة ـ ويقام لها علف، فجعلت فيه..
ثم إن الناقة لم تلبث بعد شهادة الإمام عليه السلام أن خرجت حتى أتت القبر فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأتاها محمد بن علي عليه السلام وقال: مه الآن قومي بارك الله فيك، فسارت ودخلت موضعها..
ثم خرجت حتى أتت القبر فضربت بجرانها ورغت وهملت عيناها، فأتي محمد بن علي عليه السلام فقيل له: إن الناقة قد خرجت.
فأتاها فقال: مه الآن قومي، فلم تفعل، قال: دعوها فإنها مودعة، فلم تلبث إلا ثلاثة حتى نفقت، وكان قد حج عليها اثنين وعشرين حجة فلم
يقرعها بسوط قط([48]).
وروي أنه لما حضر علي بن الحسين عليه السلام الوفاة أغمي عليه ثلاث مرات، وفي المرة الأخيرة قرأ سورة الواقعة وسورة الفتح، ثم تلى: ]الحمد لله الذي صدقنا وعده وأورثنا الأرض نتبوأ من الجنة حيث نشاء فنعم أجر العاملين[([49]).
ثم توفي مسموماً شهيداً.
فسلام الله عليه يوم ولد ويوم مات ويوم يبعث حيّاً.