ميخائيل نعيمة
إن بطولات الامام علي ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب، فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق انسانيته وطررة إيمانه وسمو دعته ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم وتعبده للحق اينما تجلى له الحق.
وقوله:
ما أظن أن التاريخ عرف رجلين ترافقا في طريق النور والخير والصلاح مثل ترافق محمد بن عبد الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وعلي بن أبي طالب، فكأنهما منذ ولادتهما كانا على موعد مع النور والخير والصلاح، وماهي قرابة الدم والرحم التي جمعت بينهما، بل هي قرابة الروح وأين من قرابة الدماء والارحام والذي له العلم بما تضمره الضمائر وتنطوي عليه النفوس وبما تسجله الدقائق في سجلات الوجود هو وحده يعلم ماذا دار بين ذينك الرفيقين الحميمين العظيمين في خلواتهما، وفي غدواتهما وروحانهما من أحاديث ومساجلات ومطارحات وهو وحده يعلم كيف أثر كلا الرفيقين في رفيقه وكيف تأثر به، ومما لا شك فيه هو ان النور الذي أشرق في روح النبي الكريم لم يلبث ان أشرق في روح ابن عمه العظيم، وذلك بفضل فطرته العظيمة وبصيرته النيرة وذهنه المتوقد ووجدانه المتوهج وشوقه اللافح الى النور، حتى أكاد أجزم بأن الرسول لم يجد نفسه في أي يوم مكرها على اللجوء الى الجدل أو الى الحجة والبرهان لاقناع ابن عمه ليصدق كلمة من كلماته أو صواب نيه من نياته، بل اكاد أجزم كذلك بأن علياً كرم الله وجهه كان لفرط ما به من رهافة الحس بالجمال ومن الشوق الى النور يبصر الجمال قبل ان يسفر الجمال عن وجهه، ويلمح سناه قبل ان ينبلج النور لعينه، فكانه كان كمن يشهد بزوغ الشمس قبل ان تشرق الشمس.
وانقضى أجل الرسول ورسالته ما تخطت بعد حدود الجزيرة العربية وهي ما نبتت في الجزيرة لتنحصر فيها، فلم يكن بد من رجال يشدون أزرها ويمضون بها بعيداً عن نباتها فكان (علي) أبرز الذين انبروا للذود عنها، والكفاح في سبيلها، وذلك بما اوتيه من فهم لغاياتها ومن حماسة تأججه لنشرها في الناس، ومن بلاغة خارقة في التعبير عن معانيها ومقاصدها، والكشف عن مكنوناتها، وأنا انما أتحدث عن بلاغة امام البلاغة لا أجد ما أشبهها به غير ومضات البروق التي تمزق أكباد الظلمات، فتكشف لك في مثل رفة جفن عوالم من السحر ما كانت لتخطر لك في بال.
ان الحكمة في أروع مظاهرها لتترقرق فيما وصلنا من بيان الامام ترقرق الماء الزلال على الحصى، وان المروءة والشهامة والبطولة والتقوى وحب الخير والعدل لجميع الناس لتطالعك في جميع أقواله وأفعاله، لقد كان من بعد النبي خير بنية أبنتها ارضنا العربية حتى الان، وهو اليوم وغداً وبعد الغد قمة شاهقة بين القمم التي تشع من اعاليها انوار الخير والصلاح والهداية للناس، فلتكن ذكراه حافزاً لنا لاقتفاء أثره في طريق النور والخير والصلاح أعاد الله هذه الذكرى الكريمة عليكم وعلى العرب والمسلمين اعواماً بعد اعوام وشملكم والعالم بنعمة الوئام والسلام.
وهذه مقدّمة له لكتاب صوت العدالة الانسانية، علي وحقوق الانسان لجورج جرداق.
لنا في حياة العظماء معين لا ينضب من الخبرة والعبرة والايمان والامل. فهم القمم التي نتطلّع بشوق إليها ولهفة، والمنارات التي تكشّح الدياجير من أمام أرجلنا وأبصارنا. وهم الذين يجدّدون ثقتنا بأنفسنا وبالحياة واهدافها البعيدة السعيدة. ولولاهم لتولاّنا القنوط في كفاحنا مع المجهول، ولرفَعْنا الاعلام البيض من زمان وقلنا للموت: نحن أسراك وعبيدك يا موت. فافعل بنا ما تَشاء.
إلاّ اننا ما استسلمنا يوماً للقنوط، ولن نستسلم. فالنصر لنا بشهادة الذين انتصروا منّا. وابن ابي طالب منهم. وهم معنا في كل حين، وإن قامت بيننا وبينهم وهدات سحيقة من الزمان والمكان. فلا الزمان بقادر ان يخنق اصواتهم في آذاننا، ولا المكان بماح صورهم من أذهاننا.
وهذا الكتاب الذي بين يديك خير شاهد على ما أقول. فهو مكرّس لحياة عظيم من عظماء البشرية، أنبتته أرض عربية، ولكنها ما استأثرت به. وفجّر ينابيع مواهبه الاسلام، ولكنه ما كان للاسلام وحده. وإلاّ فكيف لحياهت الفذّة أن تلهب روح كاتب مسيحيّ في لبنان[2]، وفي العام 1956، فيتصدّى لها بالدرس والتمحيص والتحليل، ويتغنّى تغني الشاعر المتيّم بمفاتنها ومآثرها وبطولاتها؟
وبطولات الامام ما اقتصرت يوماً على ميادين الحرب. فقد كان بطلاً في صفاء بصيرته، وطهارة وجدانه، وسحر بيانه، وعمق إنسانيته، وحرارة ايمانه، وسموّ دعته، ونصرته للمحروم والمظلوم من الحارم والظالم وتعبُّده للحق أينما تجلّى له الحق. وهذه البطولات، ومهما تقادم بها العهد، لا تزال مقلعاً غنياً نعود إليه اليوم وفي كل يوم كلما اشتدّ بنا الوجد الى بناء حياة صالحة، فاضلة.
لست أريد أن استبق القارئ الى الكشف عن مواطن المتعة في هذا الكتاب. فهي كثيرة منها بيانٌ مشرق يسمو هنا وهناك إلى سوامق من الصور الشعرية، المشبوبة العاطفة، الزاهية اللون، العذبة الرنّة. ومنها اتّزان في التقدير والتفسير. ومنها محاولة جريئة في نقل عليٍّ وآرائه السياسية والدينية والاجتماعية والاقتصادية الى مسرح الحياة التي نحياها اليوم. وهي محاولة بارعة وموفّقة، ما فطن لها الذين كتبوا في الموضوع من قبل. ناهيك باجتهادات جديدة في تفسير بعض الاحداث التي رافقت حياة الامام تفسيراً يغاير النمط الذي درج عليه مؤرّخوه حتى اليوم.
إنه ليستحيل على أي مؤرخ أو كاتب، مهما بلغ من الفطنة والعبقرية، ان يأتيك حتى في ألف صفحة بصورة كاملة لعظيم من عيار الامام عليّ، ولحقبة حافلة بالاحداث الجِسام كالحقبة التي عاشها. فالذي فكّره وتأمّله، وقاله وعمله ذلك العملاق العربي بينه وبين نفسه وربّه لممّا لم تسمعه اذن ولم تبصره عين. وهو اكثر بكثير ممّا عمله بيده أو أذاعه بلسانه وقلمه. واذ ذاك فكل صورة نرسمها له هي صورة ناقصة لا محالة. وقصارى ما نرجوه منها أن تنبض بالحياة.
إلاّ أن العبرة في كتاب من هذا النوع هي في تفحُّص ما اتصل بنا من أعمال عليّ وأقواله. ثم في تفهُّمه تفهُّماً دقيقاً، عميقاً. ثم في عرضه عرضاً تبرز منه صورة الرجل كما تخيله المؤلف وكما يشاؤك أن تتخيله.
ويقيني ان مؤلف هذا السفر النفيس، بما في قلمه من لباقة، وما في قلبه من حرارة، وما في وجدانه من إنصاف، قد نجح الى حد بعيد في رسم صورة لابن أبي طالب لا تستطيع امامها الا ان تشهد بأنها الصورة الحية لاعظم رجل عربي بعد النبي.
بسكنتا - لبنان (ميخائيل نعيمه)