العتبة العلوية المقدسة - المجلس الثالث الحكمة في خلق الارض والسماء والشجر -
» سيرة الإمام » » المناسبات » من سيرة الامام الصادق عليه السلام » التوحيد » المجلس الثالث الحكمة في خلق الارض والسماء والشجر

 

المجلس الثالث الحكمة في خلق الارض والسماء والشجر

 

 

 

فلما كان اليوم الثالث بكرت إلى مولاي فاستؤذن لي فدخلت فأذن لي بالجلوس فجلست فقال عليه‌السلام : الحمد لله الذي اصطفانا ولم يصطف علينا اصطفانا بعلمه  ،

 

وأيدنا بحلمه  من شذ عنا  فالنار مأواه ومن تفيأ بظل دوحتنا فالجنة مثواه قد شرحت لك يا مفضل خلق الإنسان وما دبر به وتنقله في أحواله وما فيه من الاعتبار وشرحت لك أمر الحيوان وأنا أبتدئ الآن بذكر السماء والشمس والقمر والنجوم والفلك والليل والنهار والحر والبرد والرياح والجواهر الأربعة الأرض والماء والهواء والنار والمطر والصخر والجبال والطين والحجارة والنخل والشجر وما في ذلك من الأدلة والعبر.

 

 لون السماء وما فيه من صواب التدبير

 

فكر في لون السماء وما فيه من صواب التدبير فإن هذا اللون أشد الألوان موافقة وتقوية للبصر حتى إن من صفات الأطباء لمن أصابه شيء أضر ببصره إدمان النظر إلى الخضرة وما قرب منها إلى السواد وقد وصف الحذاق منهم لمن كل بصره الاطلاع في إجانة  خضراء مملوءة ماء فانظر كيف جعل الله جل وتعالى أديم السماء بهذا اللون الأخضر إلى السواد ليمسك الأبصار المتقلبة عليه فلا ينكأ فيها بطول مباشرتها له فصار هذا الذي أدركه الناس بالفكر والروية والتجارب يوجد مفروغاً منه في الخلقة حِكْمَةٌ بالِغَةٌ  ليعتبر بها المعتبرون ويفكر فيها الملحدون ، قاتَلَهُمُ اللهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ .

 

 طلوع الشمس وغروبها والمنافع في ذلك

 

فكر يا مفضل في طلوع الشمس وغروبها لإقامة دولتي النهار والليل فلو لا طلوعها لبطل أمر العالم كله فلم يكن الناس يسعون في معايشهم ويتصرفون في أمورهم والدنيا مظلمة عليهم ولم يكونوا يتهنون بالعيش مع فقدهم لذة النور وروحه والإرب في طلوعها ظاهر مستغن بظهوره عن الإطناب في ذكره والزيادة في شرحه بل تأمل المنفعة في غروبها فلو لا غروبها لم يكن للناس هدوء ولا قرار مع عظم حاجتهم إلى الهدوء والراحة لسكون أبدانهم وجموم حواسهم  وانبعاث القوة الهاضمة لهضم الطعام وتنفيذ الغذاء إلى الأعضاء ثم كان الحرص يستحملهم من مداومة العمل ومطاولته على ما يعظم نكايته في أبدانهم فإن كثيرا من الناس لو لا جثوم  هذا الليل بظلمته عليهم لم يكن لهم هدوء ولا قرار حرصا على الكسب والجمع والادخار ثم كانت الأرض تستحمى بدوام الشمس بضيائها ويحمى كل ما عليها من حيوان ونبات فقدرها الله بحكمته وتدبيره تطلع وقتا وتغرب وقتا بمنزلة سراج يرفع لأهل البيت تارة ليقضوا حوائجهم ثم يغيب عنهم مثل ذلك ليهدءوا ويقروا فصار النور والظلمة مع تضادهما منقادين متظاهرين على ما فيه صلاح العالم وقوامه.

 

 التدبير والمصلحة في الفصول الأربعة من السنة

 

ثم فكر بعد هذا في ارتفاع الشمس وانحطاطها لإقامة هذه الأزمنة الأربعة  من السنة وما في ذلك من التدبير والمصلحة ففي الشتاء تعود الحرارة في الشجر والنبات فيتولد فيهما مواد الثمار ويتكثف  الهواء فينشأ منه السحاب والمطر وتشتد أبدان الحيوان وتقوى وفي الربيع تتحرك وتظهر المواد المتولدة في الشتاء فيطلع النبات وتنور  الأشجار ويهيج الحيوان للسفاد وفي الصيف يحتدم الهواء فتنضج الثمار وتتحلل فضول الأبدان ويجف وجه الأرض فتهيأ للبناء والأعمال وفي الخريف يصفو الهواء وترتفع الأمراض وتصح الأبدان ويمتد الليل فيمكن فيه بعض الأعمال لطوله ويطيب الهواء فيه إلى مصالح أخرى لو تقصيت لذكرها لطال فيها الكلام.

 

  معرفة الأزمنة والفصول الأربعة عن طريق حركة الشمس 

 

فكر الآن في تنقل الشمس في البروج الاثني عشر  لإقامة دور السنة وما في ذلك من التدبير فهو الدور الذي تصح به الأزمنة الأربعة من السنة الشتاء والربيع والصيف والخريف تستوفيها على التمام وفي هذا المقدار من دوران الشمس تدرك الغلات والثمار وتنتهي إلى غاياتهم ثم تعود فيستأنف النشو والنمو ألا ترى أن السنة مقدار مسير الشمس من الحمل إلى الحمل فبالسنة وأخواتها يكال الزمان من لدن خلق الله تعالى العالم إلى كل وقت وعصر من غابر الأيام وبها يحسب الناس الأعمار والأوقات الموقتة للديون والإجارات والمعاملات وغير ذلك من أمورهم وبمسير  الشمس تكمل السنة ويقوم حساب الزمان على الصحة.

 

انظر إلى شروقها على العالم كيف دبر أن يكون فإنها لو كانت تبزغ في موضع من السماء فتقف لا تعدوه لما وصل شعاعها ومنفعتها إلى كثير من الجهات لأن الجبال والجدران كانت تحجبها عنها فجعلت تطلع أول النهار من المشرق فتشرق على ما قابلها من وجه المغرب ثم لا تزال تدور وتغشى جهة بعد جهة حتى تنتهي إلى المغرب فتشرق على ما استتر عنها في أول النهار فلا يبقى موضع من المواضع إلا أخذ بقسطه من المنفعة منها والإرب التي قدرت له ولو تخلفت مقدار عام أو بعض عام كيف كان يكون حالهم بل كيف كان يكون لهم مع ذلك بقاء أفلا ترى كيف كان يكون للناس هذه الأمور الجليلة التي لم يكن عندهم فيها حيلة فصارت تجري على مجاريها لا تفتل  ولا تتخلف عن مواقيتها لصلاح العالم وما فيه بقاؤه.

 

 الاستدلال بالقمر في معرفة الشهور

 

استدل بالقمر ففيه دلالة جليلة تستعملها العامة في معرفة الشهور ولا يقوم عليه حساب السنة لأن دوره لا يستوفي الأزمنة الأربعة ونشو الثمار وتصرمها ولذلك صارت شهور القمر وسنوه تتخلف عن شهور الشمس وسنيها وصار الشهر من شهور القمر ينتقل فيكون مرة بالشتاء ومرة بالصيف.

 

 ضوء القمر وما فيه من المنافع

 

فكر في إنارته في ظلمة الليل والإرب في ذلك فإنه مع الحاجة إلى الظلمة لهدوء الحيوان وبرد الهواء على النبات لم يكن صلاح في أن يكون الليل ظلمة داجية لا ضياء فيها فلا يمكن فيه شيء من العمل لأنه ربما احتاج الناس إلى العمل بالليل لضيق الوقت عليهم في بعض الأعمال في النهار ولشدة الحر وإفراطه فيعمل في ضوء القمر أعمالا شتى كحرث الأرض وضرب اللبن وقطع الخشب وما أشبه ذلك فجعل ضوء القمر معونة للناس على معايشهم إذا احتاجوا إلى ذلك وأنسا للسائرين وجعل طلوعه في بعض الليل دون بعض ونقص مع ذلك عن نور الشمس وضيائها لكيلا ينبسط الناس في العمل انبساطهم بالنهار ويمتنعوا من الهدوء والقرار فيهلكهم ذلك وفي تصرف القمر خاصة في مهله  ومحاقه  وزيادته ونقصانه وكسوفه من التنبيه على قدرة الله تعالى خالفه المصرف له هذا التصريف لصلاح العالم ما يعتبر به المعتبرون.

 

 النجوم واختلاف مسيرها والسبب في أن بعضها راتبة والأخرى منتقلة

 

فكر يا مفضل في النجوم واختلاف مسيرها فبعضها لا تفارق مراكزها من الفلك  ولا تسير إلا مجتمعة وبعضها مطلقة تنتقل في البروج وتفترق في مسيرها فكل واحد منها يسير سيرين مختلفين أحدهما عام مع الفلك نحو المغرب والآخر خاص لنفسه نحو المشرق كالنملة التي تدور على الرحى فالرحى تدور ذات اليمين والنملة تدور ذات الشمال

 

والنملة في ذلك تتحرك حركتين مختلفين إحداهما بنفسها فتتوجه أمامها والأخرى مستكرهة مع الرحى تجذبها إلى خلفها فاسأل الزاعمين أن النجوم صارت على ما هي عليه بالإهمال من غير عمد ولا صانع لها ما منعها أن تكون كلها راتبة  أو تكون كلها منتقلة فإن الإهمال معنى واحد  فكيف صار يأتي بحركتين مختلفتين على وزن وتقدير ففي هذا بيان أن مسير الفريقين على ما يسيران عليه بعمد وتدبير وحكمة وتقدير وليس بإهمال كما يزعم المعطلة فإن قال قائل ولم صار بعض النجوم راتبا وبعضها منتقلا قلنا إنها لو كانت كلها راتبة لبطلت الدلالات التي يستدل بها من تنقل المنتقلة ومسيرها في كل برج من البروج كما يستدل بها على أشياء مما يحدث في العالم بتنقل الشمس والنجوم في منازلها ولو كانت كلها منتقلة لم يكن لمسيرها منازل تعرف ولا رسم يوقف عليه لأنه إنما يوقف عليه بمسير المنتقلة منها بتنقلها في البروج الراتبة  كما يستدل على سير السائر على الأرض بالمنازل التي يجتاز عليها ولو كان تنقلها بحال واحد لاختلط نظامها وبطلت المآرب فيها ولساغ لقائل أن يقول إن كينونتها على حال واحدة توجب عليها الإهمال من الجهة التي وصفنا ففي اختلاف سيرها وتصرفها وما في ذلك من المآرب والمصلحة أبين دليل على العمد والتدبير فيها.

 

 فوائد بعض النجوم

 

فكر في هذه النجوم التي تظهر في بعض السنة وتحتجب في بعضها كمثل الثريا  والجوزاء  والشعريين  وسهيل  فإنها لو كانت بأسرها تظهر في وقت واحد لم يكن لواحد فيها على حياله دلالات يعرفها الناس ويهتدون بها لبعض أمورهم كمعرفتهم الآن بما يكون من طلوع الثور  والجوزاء إذا طلعت واحتجابها إذا احتجبت فصار ظهور كل واحد واحتجابه في وقت غير الوقت الآخر لينتفع الناس بما يدل عليه كل واحد منها على حدته وما جعلت الثريا وأشباهها تظهر حينا وتحتجب حينا إلا لضرب من المصلحة وكذلك جعلت بنات نعش  ظاهرة لا تغيب لضرب آخر من المصلحة فإنها بمنزلة الأعلام التي يهتدي بها الناس في البر والبحر للطرق المجهولة وكذلك إنها لا تغيب ولا تتوارى فهم ينظرون إليها متى أرادوا أن يهتدوا بها إلى حيث شاءوا وصار الأمران جميعا على اختلافهما موجهين نحو الإرب والمصلحة وفيهما مآرب أخرى علامات ودلالات ـ على أوقات كثيرة من الأعمال كالزراعة والغراس والسفر في البر والبحر وأشياء مما يحدث في الأزمنة من الأمطار والرياح والحر والبرد وبها يهتدي السائرون في ظلمة الليل لقطع القفار الموحشة واللجج  الهائلة مع ما في ترددها في كبد السماء مقبلة ومدبرة ومشرقة

 

ومغربة من العبر فإنها تسير أسرع السير وأحثه  أرأيت لو كانت الشمس والقمر والنجوم بالقرب منا حتى يتبين لنا سرعة سيرها بكنه ما هي عليه ألم تكن تستخطف الأبصار بوهجها وشعاعها كالذي يحدث أحيانا من البروق إذا توالت واضطرمت في الجو وكذلك أيضا لو أن أناسا كانوا في قبة مكللة بمصابيح تدور حولهم دورانا حثيثا لحارت أبصارهم حتى يخروا لوجوههم.

 

فانظر كيف قدر أن يكون مسيرها في البعد البعيد لكيلا تضر في الأبصار وتنكأ فيها وبأسرع السرعة لكيلا تتخلف عن مقدار الحاجة في مسيرها وجعل فيها جزءا يسيرا من الضوء ليسد مسد الأضواء إذا لم يكن قمر ويمكن فيه الحركة إذا حدثت ضرورة كما قد يحدث الحادث على المرء فيحتاج إلى التجافي  في جوف الليل فإن لم يكن شيء من الضوء يهتدى به لم يستطع أن يبرح مكانه.

 

فتأمل اللطف والحكمة في هذا التقدير حين جعل للظلمة دولة ومدة لحاجة إليها وجعل خلالها شيء من الضوء للمآرب التي وصفنا.

 

 الشمس والقمر والنجوم والبروج تدل على الخالق

 

فكر في هذا الفلك بشمسه وقمره ونجومه وبروجه تدور على العالم هذا الدوران الدائم بهذا التقدير والوزن لما في اختلاف الليل والنهار

 

وهذه الأزمان الأربعة المتوالية من التنبيه على الأرض وما عليها من أصناف الحيوان والنبات من ضروب المصلحة كالذي بينت وشخصت لك آنفا وهل يخفى على ذي لب أن هذا تقدير مقدر وصواب وحكمة من مقدر حكيم فإن قال قائل إن هذا شيء اتفق أن يكون هكذا فما منعه أن يقول مثل هذا في دولاب  يراه يدور ويسقي حديقة فيها شجر ونبات فيرى كل شيء من آلاته مقدرا بعضه يلقى بعضا على ما فيه صلاح تلك الحديقة وما فيها وبم كان يثبت هذا القول لو قاله وما ترى الناس كانوا قائلين له لو سمعوه منه أفينكر أن يقول في دولاب خشب مصنوع بحيلة قصيرة لمصلحة قطعة من الأرض أنه كان بلا صانع ومقدر ويقدر أن يقول في هذا الدولاب الأعظم المخلوق بحكمة تقصر عنها أذهان البشر لصلاح جميع الأرض وما عليها أنه شيء اتفق أن يكون بلا صنعة ولا تقدير لو اعتل هذا الفلك كما تعتل الآلات التي تتخذ للصناعات وغيرها أي شيء كان عند الناس من الحيلة في إصلاحه.

 

 مقادير الليل والنهار

 

فكر يا مفضل في مقادير النهار والليل كيف وقعت على ما فيه صلاح هذا الخلق فصار منتهى كل واحد منهما إذا امتد إلى خمس عشرة ساعة لا يجاوز ذلك  أفرأيت لو كان النهار يكون مقداره مائة ساعة أو مائتي ساعة ألم يكن في ذلك بوار كل ما في الأرض من حيوان ونبات أما الحيوان فكان لا يهدأ ولا يقر طول هذه المدة ولا البهائم كانت تمسك عن الرعي لو دام لها ضوء النهار ولا الإنسان كان يفتر عن العمل والحركة وكان ذلك ينهكها أجمع ويؤديها إلى التلف وأما النبات فكان يطول عليه حر النهار ووهج الشمس حتى يجف ويحترق كذلك الليل لو امتد مقدار هذه المدة كان يعوق أصناف الحيوان عن الحركة والتصرف في طلب المعاش حتى تموت جوعا وتخمد الحرارة الطبيعية عن النبات حتى يعفن ويفسد كالذي تراه يحدث على النبات إذا كان في موضع لا تطلع عليه الشمس.

 

 الحر والبرد وفوائدهما

 

اعتبر بهذا الحر والبرد كيف يتعاوران  العالم ويتصرفان هذا التصرف في الزيادة والنقصان والاعتدال لإقامة هذه الأزمنة الأربعة من السنة وما فيهما من المصالح ثم هما بعد دباغ الأبدان التي عليها بقاؤها وفيهما صلاحها فإنه لو لا الحر والبرد وتداولهما الأبدان لفسدت وأخوت  وانتكثت .

 

فكر في دخول أحدهما  على الآخر بهذا التدريج والترسل فإنك ترى أحدهما ينقص شيئا بعد شيء والآخر يزيد مثل ذلك حتى ينتهي كل واحد منهما منتهاه في الزيادة والنقصان ولو كان دخول أحدهما على الآخر مفاجأة لأضر ذلك بالأبدان وأسقمها كما أن أحدكم لو خرج من حمام حار إلى موضع البرودة لضره ذلك وأسقم بدنه فلم يجعل الله عز وجل هذا الترسل في الحر والبرد إلا للسلامة من ضرر المفاجأة ولم جرى الأمر على ما فيه السلامة من ضرر المفاجأة لو لا التدبير في ذلك فإن زعم زاعم ـ أن هذا الترسل في دخول الحر والبرد إنما يكون لإبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها سئل عن العلة في إبطاء مسير الشمس في ارتفاعها وانحطاطها فإن اعتل في الإبطاء ببعد ما بين المشرقين  سئل عن العلة في ذلك فلا تزال هذه المسألة ترقى معه إلى حيث رقي من هذا القول حتى استقر على العمد والتدبير لو لا الحر لما كانت الثمار الجاسية  المرة تنضج فتلين وتعذب حتى يتفكه بها رطبة ويابسة ولو لا البرد لما كان الزرع يفرخ  هكذا ويريع  الريع الكثير الذي يتسع للقوت وما يرد في الأرض للبذر أفلا ترى ما في الحر والبرد من عظيم الغناء والمنفعة وكلاهما مع غنائه والمنفعة فيه يؤلم الأبدان ويمضها  وفي ذلك عبرة لمن فكر ودلالة على أنه من تدبير الحكيم في مصلحة العالم وما فيه.

 

 الريح وما فيها

 

وأنبهك يا مفضل على الريح وما فيها ألست ترى ركودها إذا ركدت كيف يحدث الكرب الذي يكاد أن يأتي على النفوس ويمرض الأصحاء وينهك المرضى ويفسد الثمار ويعفن البقول ويعقب الوباء في الأبدان والآفة في الغلات ففي هذا بيان أن هبوب الريح من تدبير الحكيم في صلاح الخلق.

 

  الهواء والأصوات

 

وأنبئك عن الهواء بخلة أخرى فإن الصوت أثر يؤثره اصطكاك الأجسام في الهواء والهواء يؤديه إلى المسامع  والناس يتكلمون في حوائجهم ومعاملاتهم طول نهارهم وبعض ليلهم فلو كان أثر هذا الكلام يبقى في الهواء كما يبقى الكتاب في القرطاس لامتلأ العالم منه فكان يكربهم ويفدحهم وكانوا يحتاجون في تجديده والاستبدال به إلى أكثر مما يحتاج إليه في تجديد القراطيس لأن ما يلفظ من الكلام أكثر مما يكتب فجعل الخلاق الحكيم جل قدسه هذا الهواء قرطاسا خفيا يحمل الكلام ريثما يبلغ العالم حاجتهم ثم يمحى فيعود جديدا نقيا ويحمل ما حمل أبدا بلا انقطاع وحسبك بهذا النسيم المسمى هواء عبرة وما فيه من المصالح فإنه حياة هذه الأبدان والممسك لها من داخل بما يستنشق منه من خارج بما يباشر من روحه وفيه تطرد هذه الأصوات فيؤدي البعد البعيد وهو الحامل لهذه الأرواح ينقلها من موضع إلى موضع ..

 

ألا ترى كيف تأتيك الرائحة من حيث تهب الريح فكذلك الصوت وهو القابل لهذا الحر والبرد اللذين يتعاقبان على العالم لصلاحه ومنه هذه الريح الهابة فالريح تروح عن الأجسام وتزجي السحاب من موضع إلى موضع ليعم نفعه حتى يستكشف فيمطر وتفضه حتى يستخف فيتفشى وتلقح الشجر وتسير السفن وترخي الأطعمة وتبرد الماء وتشب النار وتجفف الأشياء الندية وبالجملة إنها تحيي كل ما في الأرض ... فلو لا الريح لذوى النبات ولمات الحيوان وحمت الأشياء وفسدت.

 

 هيئة الأرض

 

فكر يا مفضل فيما خلق الله عز وجل عليه هذه الجواهر الأربعة  ليتسع ما يحتاج إليه منها فمن ذلك سعة هذه الأرض وامتدادها فلو لا ذلك كيف كانت تتسع لمساكن الناس ومزارعهم ومراعيهم ومنابت أخشابهم وأحطابهم والعقاقير العظيمة والمعادن الجسيم غناؤها ولعل من ينكر هذه الفلوات  الخاوية والقفار الموحشة فيقول ما المنفعة فيها فهي مأوى هذه الوحوش ومحالها ومراعيها ثم فيها بعد تنفس ومضطرب للناس إذا احتاجوا إلى الاستبدال بأوطانهم فكم بيداء وكم فدفد  حالت قصورا وجنانا بانتقال الناس إليها وحلولهم فيها ولو لا سعة الأرض وفسحتها لكان الناس كمن هو في حصار ضيق لا يجد مندوحة عن وطنه إذا أحزنه أمر يضطره إلى الانتقال عنه.

 

ثم فكر في خلق هذه الأرض على ما هي عليه حين خلقت راتبة راكنة فتكون موطنا مستقرا للأشياء فيتمكن الناس من السعي عليها في مآربهم والجلوس عليها لراحتهم والنوم لهدوئهم والإتقان لأعمالهم فإنها لو كانت رجراجة منكفئة لم يكونوا يستطيعون أن يتقنوا البناء والنجارة والصناعة وما أشبه ذلك بل كانوا لا يتهنون بالعيش والأرض ترتج من تحتهم واعتبر ذلك بما يصيب الناس حين الزلازل  على قلة مكثها حتى يصيروا إلى ترك منازلهم والهرب عنها فإن قال قائل فلم صارت هذه الأرض تزلزل؟ قيل له إن الزلزلة وما أشبهها موعظة وترهيب يرهب بها الناس ليرعووا وينزعوا عن المعاصي وكذلك ما ينزل بهم من البلاء في أبدانهم وأموالهم يجري في التدبير على ما فيه صلاحهم واستقامتهم ويدخر لهم إن صلحوا من الثواب والعوض في الآخرة ما لا يعدله شيء من أمور الدنيا وربما عجل ذلك في الدنيا إذا كان ذلك في الدنيا صلاحا للعامة والخاصة ثم إن الأرض في طباعها الذي طبعها الله عليه باردة يابسة وكذلك الحجارة وإنما الفرق بينها وبين الحجارة فضل يبس في الحجارة أفرأيت لو أن اليبس أفرط على الأرض قليلا حتى تكون حجرا صلدا أكانت تنبت هذا النبات الذي به حياة الحيوان وكان يمكن بها حرث أو بناء؟؟ أفلا ترى كيف نقصت من يبس الحجارة وجعلت على ما هي عليه من اللين والرخاوة لتتهيأ للاعتماد.

 

 فوائد الماء والسبب في كثرته

 

ومن تدبير الحكيم جل وعلا في خلقة الأرض أن مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب  فلم جعل الله عز وجل كذلك إلا لتنحدر المياه على وجه الأرض فتسقيها وترويها ثم تفيض آخر ذلك إلى البحر فكما يرفع أحد جانبي السطح ويخفض الآخر لينحدر الماء عنه ولا يقوم عليه كذلك جعل مهب الشمال أرفع من مهب الجنوب لهذه العلة بعينها ولو لا ذلك لبقي الماء متحيرا على وجه الأرض فكان يمنع الناس من أعمالها ويقطع الطرق والمسالك ثم الماء لو لا كثرته وتدفقه في العيون والأودية والأنهار لضاق عما يحتاج إليه الناس لشربهم وشرب أنعامهم ومواشيهم وسقي زروعهم وأشجارهم وأصناف غلاتهم وشرب ما يرده من الوحوش والطير والسباع وتتقلب فيه الحيتان ودواب الماء وفيه منافع أخر أنت بها عارف وعن عظيم موقعها غافل فإنه  سوى الأمر الجليل المعروف من عظيم غنائه في إحياء جميع ما على الأرض من الحيوان والنبات يمزج الأشربة فتلذ وتطيب لشاربها وبه تنظف الأبدان والأمتعة من الدرن  الذي يغشاها وبه يبل  التراب فيصلح للأعمال وبه يكف عادية النار إذا اضطرمت وأشرف الناس على المكروه وبه يستحم المتعب الكال  فيجد الراحة من أوصابه إلى أشباه هذا من المآرب التي تعرف عظم موقعها في وقت الحاجة إليها فإن شككت في منفعة هذا الماء الكثير المتراكم في البحار وقلت ما الإرب فيه فعلم أنه مكتنف ومضطرب ما لا يحصى من أصناف السمك ودواب البحر ومعدن اللؤلؤ والياقوت والعنبر  وأصناف شتى تستخرج من البحر وفي سواحله منابت العود اليلنجوج  وضروب من الطيب والعقاقير ثم هو بعد مركب للناس ومحمل لهذه التجارات التي تجلب من البلدان البعيدة كمثل ما يجلب من الصين إلى العراق ومن العراق إلى الصين  فإن هذه التجارات لو لم يكن لها محمل إلا على الظهر لبارت وبقيت في بلدانها وأيدي أهلها لأن أجر حملها يجاوز أثمانها فلا يتعرض أحد لحملها وكان يجتمع في ذلك أمران أحدهما فقد أشياء كثيرة تعظم الحاجة إليها والآخر انقطاع معاش من يحملها ويتعيش بفضلها.

 

 فوائد الهواء والسبب في كثرته

 

وهكذا الهواء لو لا كثرته وسعته لاختنق هذا الأنام من الدخان والبخار الذي يتحير فيه ويعجز عما يحول إلى السحاب والضباب أولا أولا فقد تقدم من صفته ما فيه كفاية.

 

 منافع النار وجعلها كالمخزونة في الأجسام

 

والنار أيضا كذلك فإنها لو كانت مبثوثة كالنسيم والماء كانت تحرق العالم وما فيه ولما لم يكن بد من ظهورها في الأحايين لغنائها في كثير من المصالح جعلت كالمخزونة في الأجسام فتلتمس عند الحاجة إليها وتمسك بالمادة والحطب ما احتيج إلى بقائها لئلا تخبو فلا هي تمسك بالمادة والحطب فتعظم المئونة في ذلك ولا هي تظهر مبثوثة فتحرق كل ما هي فيه بل هي على تهيئة وتقدير اجتمع فيها الاستمتاع بمنافعها والسلامة من ضررها.

 

ثم فيها خلة أخرى وهي أنها مما خص بها الإنسان دون جميع الحيوان لما له فيها من المصلحة فإنه لو فقد النار لعظم ما يدخل عليه من الضرر في معاشه فأما البهائم فلا تستعمل النار ولا تستمتع بها ولما قدر الله عز وجل أن يكون هذا هكذا خلق للإنسان كفا وأصابع مهيئة لقدح النار واستعمالها ولم يعط البهائم مثل ذلك لكنها أعينت بالصبر على الجفاء والخلل في المعاش لكيلا ينالها في فقد النار ما ينال الإنسان عند فقدها وأنبئك من منافع النار على خلقة صغيرة عظيم موقعها وهي هذا المصباح الذي يتخذه الناس فيقضون به حوائجهم ما شاءوا في ليلهم ولو لا هذه الخلة لكان الناس تصرف أعمارهم بمنزلة من في القبور فمن كان يستطيع أن يكتب أو يحفظ أو ينسج في ظلمة الليل وكيف كان حال من عرض له وجع في وقت من أوقات الليل فاحتاج إلى أن يعالج ضمادا أو سفوفا  أو شيئا يستشفي به فأما منافعها في نضج الأطعمة ودفاء الأبدان وتجفيف أشياء وتحليل أشياء وأشباه ذلك فأكثر من أن تحصى وأظهر من أن تخفى.

 

 الصحو والمطر وتعاقبهما على العالم وفوائد ذلك

 

فكر يا مفضل في الصحو والمطر كيف يتعاقبان على هذا العالم لما فيه صلاحه ولو دام واحد منهما عليه كان في ذلك فساده ألا ترى أن الأمطار إذا توالت عفنت البقول والخضر واسترخت أبدان الحيوان وحصر الهواء فأحدث ضروبا من الأمراض وفسدت الطرق والمسالك وأن الصحو إذا دام جفت الأرض واحترق النبات وغيض ماء العيون والأودية فأضر ذلك بالناس وغلب اليبس على الهواء فأحدث ضروبا أخرى من الأمراض فإذا تعاقبا على العالم هذا التعاقب اعتدل الهواء ودفع كل واحد منهما عادية الآخر فصلحت الأشياء واستقامت فإن قال قائل : ولم لا يكون في شيء من ذلك مضرة البتة قيل له ليمض ذلك الإنسان ويؤلمه بعض الألم فيرعوي عن المعاصي فكما أن الإنسان إذا سقم بدنه احتاج إلى الأدوية المرة البشعة ليقوم طباعه ويصلح ما فسد

 

منه كذلك إذا طغى واشتد احتاج إلى ما يمضه ويؤلمه ليرعوي ويقصر عن مساويه ويثبته على ما فيه حظه ورشده ولو أن ملكا من الملوك قسم في أهل مملكته قناطيرا  قناطير   من ذهب وفضة ألم يكن سيعظم عندهم ويذهب له به الصوت فأين هذا من مطرة رواء يعم به البلاد ويزيد في الغلات أكثر من قناطير الذهب والفضة في أقاليم الأرض كلها .. أفلا ترى المطرة الواحدة ما أكبر قدرها وأعظم النعمة على الناس فيها وهم عنها ساهون وربما عاقت عن أحدهم حاجة لا قدر لها فيتذمر ويسخط إيثارا للخسيس قدره على العظيم نفعه جميلا محمودا لعاقبته وقلة معرفته  لعظيم الغناء والمنفعة فيها.

 

 مصالح نزول المطر على الأرض وأثر التدبير فيه

 

تأمل نزوله على الأرض والتدبير في ذلك فإنه جعل ينحدر عليها من علو ليغشى ما غلظ وارتفع منها فيرويه ولو كان إنما يأتيها من بعض نواحيها لما علا المواضع المشرفة منها ويقل ما يزرع في الأرض ألا ترى أن الذي يزرع سيحا  أقل من ذلك فالأمطار هي التي تطبق الأرض وربما تزرع هذه البراري الواسعة وسفوح الجبال وذراها فتغل الغلة الكثيرة وبها يسقط عن الناس في كثير من البلدان مئونة سياق الماء من موضع إلى موضع وما يجري في ذلك بينهم من التشاجر والتظالم حتى يستأثر بالماء ذو العز والقوة ويحرمه الضعفاء ثم إنه حين قدر أن ينحدر على الأرض انحدارا جعل ذلك قطرا شبيها بالرش ليغور في قعر الأرض فيرويها ولو كان يسكبه انسكابا كان ينزل على وجه الأرض فلا يغور فيها ثم كان يحطم الزروع القائمة إذا اندفق عليها فصار ينزل نزولا رقيقا فينبت الحب المزروع ويحيي الأرض والزرع القائم.

 

وفي نزوله أيضا مصالح أخرى فإنه يلين الأبدان ويجلو كدر الهواء فيرتفع الوباء الحادث من ذلك ويغسل ما يسقط على الشجر والزرع من الداء المسمى باليرقان  إلى أشباه هذا من المنافع فإن قال قائل أوليس قد يكون منه في بعض السنين الضرر العظيم الكثير لشدة ما يقع منه أو برد  يكون فيه تحطم الغلات وبخورة يحدثها في الهواء فيولد كثيرا من الأمراض في الأبدان والآفات في الغلات قيل بلى قد يكون ذلك الفرط لما فيه من صلاح الإنسان وكفه عن ركوب المعاصي والتمادي فيها فيكون المنفعة فيما يصلح له من دينه أرجح مما عسى أن يرزأ في ماله!.

 

  منافع الجبال

 

انظر يا مفضل إلى هذه الجبال المركومة من الطين والحجارة التي يحسبها الغافلون فضلا لا حاجة إليها والمنافع فيها كثيرة فمن ذلك أن تسقط عليها الثلوج فتبقى في قلالها  لمن يحتاج إليه ويذوب ما ذاب منه فتجري منه العيون الغزيرة التي تجتمع منها الأنهار العظام وينبت فيها ضروب من النبات والعقاقير التي لا ينبت مثلها في السهل ويكون فيها كهوف ومعاقل للوحوش من السباع العادية  ويتخذ منها الحصون والقلاع المنيعة للتحرز من الأعداء وينحت منها الحجارة للبناء والأرحاء  ويوجد فيها معادن لضرب من الجواهر وفيها خلال أخر لا يعرفها إلا المقدر لها في سابق علمه.

 

 أنواع المعادن واستفادة الإنسان منها

 

فكر يا مفضل في هذه المعادن وما يخرج منها من الجواهر المختلفة مثل الجص والكلس  والجبسين  والزرنيخ  والمرتك  والتوتياء  والزئبق  والنحاس والرصاص والفضة والذهب والزبرجد والياقوت والزمرد  وضروب الحجارة وكذلك ما يخرج منها من القار والموميا والكبريت والنفط  وغير ذلك مما يستعمله الناس في مآربهم فهل يخفى على ذي عقل أن هذه كلها ذخائر ذخرت للإنسان في هذه الأرض ليستخرجها فيستعملها عند الحاجة إليها ثم قصرت حيلة الناس عما حاولوا من صنعتها على حرصهم واجتهادهم في ذلك فإنهم لو ظفروا بما حاولوا من هذا العلم كان لا محالة سيظهر ويستفيض في العالم حتى تكثر الفضة والذهب ويسقطا عند الناس فلا تكون لهما قيمة ويبطل الانتفاع بهما في الشراء والبيع والمعاملات ولا كان يجبي السلطان الأموال ولا يدخرهما أحد للأعقاب وقد أعطي الناس مع هذا صنعة الشبه  من النحاس والزجاج من الرمل والفضة من الرصاص والذهب من الفضة وأشباه ذلك مما لا مضرة فيه.

 

فانظر كيف أعطوا إرادتهم في ما لا ضرر فيه ومنعوا ذلك فيما كان ضارا لهم لو نالوه ومن أوغل في المعادن انتهى إلى واد عظيم يجري منصلتا بماء غزير لا يدرك غوره ولا حيلة في عبوره ومن ورائه أمثال الجبال من الفضة.

 

تفكر الآن في هذا من تدبير الخالق الحكيم فإنه أراد جل ثناؤه أن يرى العباد قدرته وسعة خزائنه ليعلموا أنه لو شاء أن يمنحهم كالجبال من الفضة لفعل لكن لا صلاح لهم في ذلك لأنه لو كان فيكون فيها كما ذكرنا سقوط هذا الجوهر عند الناس وقلة انتفاعهم به واعتبر ذلك بأنه قد يظهر الشيء الظريف مما يحدثه الناس من الأواني والأمتعة فما دام عزيزا قليلا فهو نفيس جليل آخذ الثمن فإذا فشا وكثر في أيدي الناس سقط عندهم وخست قيمته ونفاسة الأشياء من عزتها

 

  النبات وما فيه من ضروب المآرب

 

فكر يا مفضل في هذا النبات وما فيه من ضروب المآرب فالثمار للغذاء والأتبان  للعلف والحطب للوقود والخشب لكل شيء من أنواع النجارة وغيرها واللحاء  والورق والأصول والعروق والصموغ لضروب من المنافع أرأيت لو كنا نجد الثمار التي نغتذي بها مجموعة على وجه الأرض ولم تكن تنبت على هذه الأغصان الحاملة لها كم كان يدخل علينا من الخلل في معاشنا وإن كان الغذاء موجودا فإن المنافع بالخشب والحطب والأتبان وسائر ما عددناه كثيرة عظيم قدرها جليل موقعها هذا مع ما في النبات من التلذذ بحسن منظره ونضارته التي لا يعدلها شيء من مناظر العالم وملاهيه.

 

 الريع في النبات وسببه

 

فكر يا مفضل في هذا الريع الذي جعل في الزرع فصارت الحبة الواحدة تخلف مائة حبة وأكثر وأقل وكان يجوز للحبة أن تأتي بمثلها فلم صارت تريع هذا الريع إلا ليكون في الغلة  متسع لما يرد في الأرض من البذر وما يتقوت الزراع إلى إدراك زرعها المستقبل ألا ترى أن الملك لو أراد عمارة بلد من البلدان كان السبيل في ذلك أن يعطي أهله ما يبذرونه في أرضهم وما يقوتهم إلى إدراك زرعهم.

 

فانظر كيف تجد هذا المثال قد تقدم في تدبير الحكيم فصار الزرع يريع هذا الريع ليفي بما يحتاج إليه للقوت والزراعة وكذلك الشجر والنبت والنخل يريع الريع الكثير فإنك ترى الأصل الواحد حوله من فراخه أمرا عظيما فلم كان كذلك إلا ليكون فيه ما يقطعه الناس ويستعملونه في مآربهم وما يرد فيغرس في الأرض ولو كان الأصل منه يبقى منفردا لا يفرخ ولا يريع لما أمكن أن يقطع منه شيء لعمل ولا لغرس ثم كان إن أصابته آفة انقطع أصله فلم يكن منه خلف.

 

 بعض النباتات وكيف تصان 

 

تأمل نبات هذه الحبوب من العدس والماش والباقلاء وما أشبه ذلك فإنها تخرج في أوعية مثل الخرائط  لتصونها وتحجبها من الآفات إلى أن تشتد وتستحكم كما قد تكون المشيمة  على الجنين لهذا المعنى بعينه وأما البر  وما أشبهه فإنه يخرج مدرجا في قشور صلاب على رءوسها أمثال الأسنة من السنبل ليمنع الطير منه ليتوفر على الزراع فإن قال قائل أوليس قد ينال الطير من البر والحبوب قيل له بلى على هذا قدر الأمر فيها لأن الطير خلق من خلق الله تعالى وقد جعل الله تبارك وتعالى له في ما تخرج الأرض حظا ولكن حصنت الحبوب بهذه الحجب لئلا يتمكن الطير منها كل التمكن فيعبث بها ويفسد الفساد الفاحش فإن الطير لو صادف الحب بارزا ليس عليه شيء يحول دونه لأكب عليه حتى ينسفه أصلا فكان يعرض من ذلك أن يبشم  الطير فيموت ويخرج الزارع من زرعه صفرا فجعلت عليه هذه الوقايات لتصونه فينال الطائر منه شيئا يسيرا يتقوت به ويبقى أكثره للإنسان فإنه أولى به إذ كان هو الذي كدح فيه وشقي به وكان الذي يحتاج إليه أكثر مما يحتاج إليه الطير

 

 الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات

 

تأمل الحكمة في خلق الشجر وأصناف النبات فإنها لما كانت تحتاج إلى الغذاء الدائم كحاجة الحيوان ولم يكن لها أفواه كأفواه الحيوان ولا حركة تنبعث بها لتناول الغذاء جعلت أصولها مركوزة في الأرض لتنزع منها الغذاء فتؤديه إلى الأغصان وما عليها من الورق والثمر فصارت الأرض كالأم المربية لها وصارت أصولها التي هي كالأفواه ملتقمة للأرض لتنزع منها الغذاء كما ترضع أصناف الحيوان أمهاتها ألم تر إلى عمد الفساطيط  والخيم كيف تمد بالأطناب  من كل جانب لتثبت منتصبة فلا تسقط ولا تميل فهكذا تجد النبات كله له عروق منتشرة في الأرض ممتدة إلى كل جانب لتمسكه وتقيمه ولو لا ذلك كيف كان يثبت هذا النخل الطوال والدوح العظام في الريح العاصف؟

 

فانظر إلى حكمة الخالق كيف سبقت حكمة الصناعة فصارت الحيلة التي تستعملها الصناع في ثبات الفساطيط والخيم متقدمة في خلق الشجر لأن خلق الشجر قبل صنعة الفساطيط والخيم .. ألا ترى عمدها وعيدانها من الشجر فالصناعة مأخوذة من الخلقة.

 

 خلق الورق ووصفه

 

تأمل يا مفضل خلق الورق فإنك ترى في الورقة شبه العروق مبثوثة فيها أجمع فمنها غلاظ ممتدة في طولها وعرضها ومنها دقاق تتخلل تلك الغلاظ منسوجة نسجا دقيقا معجما لو كان مما يصنع بالأيدي كصنعة البشر لما فرغ من ورق شجرة واحدة في عام كامل ولاحتيج إلى آلات وحركة وعلاج وكلام فصار يأتي منه في أيام قلائل من الربيع ما يملأ الجبال والسهل وبقاع الأرض كلها بلا حركة ولا كلام إلا بالإرادة النافذة في كل شيء والأمر المطاع واعرف مع ذلك العلة في تلك العروق الدقاق فإنها جعلت تتخلل الورقة بأسرها لتسقيها وتوصل الماء إليها بمنزلة العروق المبثوثة في البدن لتوصل الغذاء إلى كل جزء منه ، وفي الغلاظ منها معنى آخر فإنها تمسك الورقة بصلابتها ومتانتها لئلا تنهتك وتتمزق فترى الورقة شبيهة بورقة معمولة بالصنعة من خرق قد جعلت فيها عيدان ممدودة في طولها وعرضها لتتماسك فلا تضطرب فالصناعة تحكي الخلقة وإن كانت لا تدركها على الحقيقة.

 

 العجم والنوى والعلة في خلقه 

 

فكر في هذا العجم والنوى والعلة فيه فإنه جعل في جوف الثمرة ليقوم مقام الغرس إن عاق دون الغرس عائق كما يحرز الشيء النفيس الذي تعظم الحاجة إليه في مواضع أخر فإن حدث على الذي في بعض المواضع منه حادث وجد في موضع آخر ثم هو بعد يمسك بصلابته رخاوة الثمار ورقتها ولو لا ذلك لتشدخت  وتفسخت وأسرع إليها الفساد وبعضه يؤكل ويستخرج دهنه فيستعمل منه ضروب من المصالح وقد تبين لك موضع الإرب في العجم والنوى.

 

فكر الآن في هذا الذي تجده فوق النواة من الرطبة وفوق العجم من العنبة فما العلة فيه ولما ذا يخرج في هذه الهيئة وقد كان يمكن أن يكون مكان ذلك ما ليس فيه مأكل كمثل ما يكون في السدر  والدلب  وما أشبه ذلك فلم صار يخرج فوقه هذه المطاعم اللذيذة إلا ليستمتع بها الإنسان؟.

 

 موت الشجر وتجدد حياته وما في ذلك من ضروب التدبير

 

فكر في ضروب من التدبير في الشجر فإنك تراه يموت في كل سنة موتة فتحتبس الحرارة الغريزية في عوده ويتولد فيه مواد الثمار ثم يحيا وينتشر فيأتيك بهذه الفواكه نوعا بعد نوع كما تقدم إليك أنواع الأطبخة التي تعالج بالأيدي واحدا بعد واحد فترى الأغصان في الشجر تتلقاك بثمارها حتى كأنها تناولكها عن يد وترى الرياحين تتلقاك في أفنانها  كأنها تجيئك بأنفسها فلمن هذا التقدير إلا لمقدر حكيم وما العلة فيه إلا تفكيه الإنسان بهذه الثمار والأنوار والعجب من أناس جعلوا مكان الشكر على النعمة جحود المنعم بها.

 

 خلق الرمانة وأثر العمد فيه

 

واعتبر بخلق الرمانة وما ترى فيها من أثر العمد والتدبير فإنك ترى فيها كأمثال التلال من شحم مركوم في نواحيها وحب مرصوف صفاً كنحو ما ينضد بالأيدي وترى الحب مقسوما أقساما وكل قسم منها ملفوفا بلفائف من حجب منسوجة أعجب النسج وألطفه وقشره يضم ذلك كله.

 

فمن التدبير في هذه الصنعة أنه لم يكن يجوز أن يكون حشو الرمانة من الحب وحده وذلك أن الحب لا يمد بعضه بعضا فجعل ذلك الشحم خلال الحب ليمده بالغذاء ألا ترى أن أصول الحب مركوزة في ذلك الشحم ثم لف بتلك اللفائف لتضمه وتمسكه فلا يضطرب وغشي فوق ذلك بالقشرة المستحصفة لتصونه وتحصنه من الآفات فهذا قليل من كثير من وصف الرمانة وفيه أكثر من هذا لمن أراد الإطناب  والتذرع  في الكلام ولكن فيما ذكرت لك كفاية في الدلالة والاعتبار.

 

 حمل اليقطين وما فيه من التدبير والحكمة

 

فكر يا مفضل في حمل اليقطين الضعيف مثل هذه الثمار الثقيلة من الدباء  والقثاء  والبطيخ وما في ذلك من التدبير والحكمة فإنه حين قدر أن يحمل مثل هذه الثمار جعل نباته منبسطا على الأرض ولو كان ينتصب قائما كما ينتصب الزرع والشجر لما استطاع أن يحمل مثل هذه الثمار الثقيلة ولتقصف قبل إدراكها وانتهائها إلى غاياتها .. فانظر كيف صار يمتد على وجه الأرض ليلقى عليها ثماره فتحملها عنه فترى الأصل من القرع  والبطيخ مفترشا للأرض وثماره مبثوثة عليها وحواليه كأنه هرة ممتدة وقد اكتنفتها جراؤها  لترضع منها.

 

 موافاة أصناف النبات في الوقت المشاكل لها

 

وانظر كيف صارت الأصناف توافي في الوقت المشاكل لها من حمارة  الصيف ووقدة الحر فتلقاها النفوس بانشراح وتشوق إليها ولو كانت توافي الشتاء لوافقت من الناس كراهة لها واقشعرارا  منها مع ما يكون فيها من المضرة للأبدان ألا ترى أنه ربما أدرك شيء من الخيار في الشتاء فيمتنع الناس من أكله إلا الشره الذي لا يمتنع من أكل ما يضره ويسقم معدته.

 

  في النخل وخلقة الجذع والخشب وفوائد ذلك 

 

فكر يا مفضل في النخل فإنه لما صار فيه إناث تحتاج إلى التلقيح جعلت فيه ذكورة للقاح من غير غراس فصار الذكر من النخل بمنزلة الذكر من الحيوان الذي يلقح الإناث لتحمل وهو لا يحمل تأمل خلقة الجذع كيف هو فإنك تراه كالمنسوج نسجا من خيوط ممدودة كالسدى وأخرى معه معترضة كاللحمة  كنحو ما ينسج بالأيدي وذلك ليشتد ويصلب ولا يتقصف من حمل القنوات  الثقيلة وهز الرياح العواصف إذا صار نخلة وليتهيأ للسقوف والجسور وغير ذلك مما يتخذ منه إذا صار جذعا.

 

وكذلك ترى الخشب مثل النسج فإنك ترى بعضه مداخلا بعضه بعضا طولا وعرضا كتداخل أجزاء اللحم وفيه مع ذلك متانة ليصلح لما يتخذ منه من الآلات فإنه لو كان مستحصفا  كالحجارة لم يمكن أن يستعمل في السقوف وغير ذلك مما يستعمل فيه الخشبة كالأبواب والأسرة والتوابيت وما أشبه ذلك ومن جسيم المصالح في الخشب أنه

 

يطفو على الماء فكل الناس يعرف هذا منه وليس كلهم يعرف جلالة الأمر فيه فلو لا هذه الخلة كيف كانت هذه السفن والأظراف  تحمل أمثال الجبال من الحمولة وأنى كان ينال الناس هذا الرفق وخفة المئونة في حمل التجارات من بلد إلى بلد وكانت تعظم المئونة عليهم في حملها حتى يلقى كثير مما يحتاج إليه في بعض البلدان مفقودا أصلا أو عسر وجوده.

 

 العقاقير واختصاص كل منها

 

فكر في هذه العقاقير وما خص بها كل واحد منها من العمل في بعض الأدواء فهذا يغور في المفاصل فيستخرج الفضول الغليظة مثل الشيطرج  وهذا ينزف المرة السوداء  مثل الأفتيمون  وهذا ينفي الرياح مثل السكبينج  وهذا يحلل الأورام وأشباه هذا من أفعالها فمن جعل هذه القوى فيها إلا من خلقها للمنفعة ومن فطن الناس لها إلا من جعل هذا فيها ومتى كان يوقف على هذا منها بالعرض والاتفاق ـ كما قال القائلون وهب الإنسان فطن لهذه الأشياء بذهنه ولطيف رويته وتجاربه فالبهائم كيف فطنت لها حتى صار بعض السباع يتداوى من جراحة إن أصابته ببعض العقاقير فيبرأ وبعض الطير يحتقن من الحصر يصيبه بماء البحر فيسلم وأشباه هذا كثير ولعلك تشكك في هذا النبات النابت في الصحاري والبراري حيث لا أنس ولا أنيس فتظن أنه فضل لا حاجة إليه وليس كذلك بل هو طعم لهذه الوحوش وحبه علف للطير وعوده وأفنانه حطب فيستعمله الناس وفيه بعد أشياء تعالج بها الأبدان وأخرى تدبغ بها الجلود وأخرى تصبغ الأمتعة وأشباه هذا من المصالح ألست تعلم أن من أخس النبات وأحقره هذا البردي وما أشبهها ففيها مع هذا من ضروب المنافع فقد يتخذ من البردي القراطيس التي يحتاج إليها الملوك والسوقة والحصر التي يستعملها كل صنف من الناس ويعمل منه الغلف التي يوقى بها الأواني ويجعل حشوا بين الظروف في الأسفاط لكيلا تعيب وتنكسر وأشباه هذا من المنافع

 

فاعتبر بما ترى من ضروب المآرب في صغير الخلق وكبيره وبما له قيمة وما لا قيمة له وأخس من هذا وأحقره الزبل والعذرة التي اجتمعت فيها الخساسة والنجاسة معا وموقعها من الزروع والبقول والخضر أجمع الموقع الذي لا يعدله شيء حتى أن كل شيء من الخضر لا يصلح ولا يزكو إلا بالزبل والسماد الذي يستقذره الناس ويكرهون الدنو منه.

 

واعلم أنه ليس منزلة الشيء على حسب قيمته بل هما قيمتان مختلفتان بسوقين وربما كان الخسيس في سوق المكتسب نفيسا في سوق العلم فلا تستصغر العبرة في الشيء لصغر قيمته فلو فطن طالبوا الكيمياء لما في العذرة لاشتروها بأنفس الأثمان وغالوا بها.

 

قال المفضل : وحان وقت الزوال ، فقام مولاي إلى الصلاة وقال بكر إلي غدا إن شاء الله تعالى فانصرفت وقد تضاعف سروري بما عرفنيه مبتهجا بما آتانيه حامدا لله على ما منحنيه فبت ليلتي مسروراً.