العتبة العلوية المقدسة - احتجاج المامون بفضائل امير المؤمنين -
» » سيرة الإمام » مناقب وفضائل الامام علي عليه السلام » احتجاج المامون بفضائل امير المؤمنين

 

 

احتجاج المامون

 

بفضائل امير المؤمنين عليه السلام

 

  روي عن إسحاق بن حماد بن زيد ، قال : سمعنا يحيى بن أكثم القاضي قال : أمرني المأمون بإحضار جماعة من أهل الحديث وجماعة من أهل الكلام والنظر ، فجمعت له من الصنفين زهاء أربعين رجلا ، ثم مضيت بهم فأمرتهم بالكينونة في مجلس الحاجب لا علمه بمكانهم ، ففعلوا ، فأعلمته ، فأمرني بإدخالهم ، ففعلت ، فدخلوا وسلموا ، فحدثهم ساعة وآنسهم . ثم قال : إني أريد أن أجعلكم بيني وبين الله تبارك وتعالى في يومي هذا حجة ، فمن كان حاقنا أو به حاجة فليقم إلى قضاء حاجته ، وانبسطوا وسلموا أخفافكم وضعوا أرديتكم ، ففعلوا ما أمروا به . فقال : يا أيها القوم ! إنما استحضرتكم لأحتج بكم عند الله عز وجل ، فاتقوا الله وانظروا لأنفسكم وإمامكم ! ولا تمنعكم جلالتي ومكاني من قول الحق حيث كان ورد الباطل على من أتى به ، وأشفقوا على أنفسكم من النار ، وتقربوا إلى الله برضوانه وإيثار طاعته ، فما أحد تقرب إلى مخلوق بمعصية الخالق إلا سلطه الله عليه ، فناظروني بجميع عقولكم . إني رجل أزعم أن عليا خير البشر بعد النبي صلى الله عليه وآله ، فإن كنت مصيبا فصوبوا قولي ، وإن كنت مخطئا فردوا علي ، وهلموا ، فإن شئتم سألتكم وإن شئتم سألتموني .

 

فقال له الذين يقولون بالحديث : بل نسألك .

 

 فقال : هاتوا ، وقلدوا كلامكم رجلا منكم ، فإذا تكلم فإن كان عند أحدكم زيادة فليزد ، وإن أتى بخلل فسددوه

 

فقال قائل منهم : أما نحن فنزعم أن خير الناس بعد النبي صلى الله عليه وآله أبو بكر ، ومن قبل أن الرواية المجمع عليها جاءت عن الرسول صلى الله عليه وآله قال : اقتدوا بالذين من بعدي أبي بكر وعمر فلما أمر نبي الرحمة بالاقتداء بهما ، علمنا أنه لم يأمر بالاقتداء إلا بخير الناس .

 

فقال المأمون : الروايات كثيرة ، ولا بد من أن يكون كلها حقا ، أو كلها باطلا ، أو بعضها حقا وبعضها باطلا . فلو كانت كلها حقا كانت كلها باطلا من قبل أن بعضها ينقض بعضا ولو كانت كلها باطلا كان في بطلانها بطلان الدين ودروس الشريعة . فلما بطل الوجهان ثبت الثالث بالاضطرار ، وهو أن بعضها حق وبعضها باطل ، فإذا كان كذلك ، فلا بد من دليل على ما يحق منها ليعتقد وينفي خلافه ، فإذا كان دليل الخبر في نفسه حقا كان أولى ما أعتقده وآخذ به . وروايتك هذه من الأخبار التي أدلتها باطلة في نفسها ، وذلك أن رسول الله صلى الله عليه وآله أحكم الحكماء وأولى الخلق بالصدق وأبعد الناس من الأمر بالمحال وحمل الناس على التدين بالخلاف ، وذلك أن هذين الرجلين لا يخلوا من أن يكونا متفقين من كل جهة أو مختلفين ، فإن كانا متفقين من كل جهة كانا واحدا في العدد والصفة والصورة والجسم ، وهذا معدوم أن يكون اثنان بمعنى واحد من كل جهة . وإن كانا مختلفين ، فكيف يجوز الاقتداء بهما ؟ وهذا تكليف ما لا يطاق ، لأنك إن اقتديت بواحد خالفت الآخر . والدليل على اختلافهما : أن أبا بكر سبى أهل الردة ، وردهم عمر أحرارا . وأشار عمر على أبي بكر بعزل خالد وبقتله بمالك بن نويرة ، فأبى أبو بكر عليه . وحرم عمر المتعة ، ولم يفعل ذلك أبو بكر . ووضع عمر ديوان العطية ، ولم يفعله أبو بكر . واستخلف أبو بكر ، ولم يفعل ذلك عمر . ولهذا نظائر كثيرة.

 

فقال آخر من أصحاب الحديث : فإن النبي صلى الله عليه وآله قال : لو كنت متخذا خليلا لا تخذت أبا بكر خليلا أ

 

فقال المأمون : هذا مستحيل ، من قبل أن رواياتكم أنه صلى الله عليه وآله آخى بين أصحابه وأخر عليا ، فقال عليه السلام له في ذلك ؟ فقال : ما أخرتك زلا لنفسي فأي الروايتين ثبتت بطلت الأخرى .

 

 قال آخر : إن عليا قال على المنبر : خير هذه الأمة بعد نبيها أبو بكر وعمر . قال المأمون : هذا مستحيل ، من قبل أن النبي صلى الله عليه وآله لو علم أنهما أفضل ما ولى عليهما مرة عمرو بن العاص ومرة أسامة بن زيد ، ومما يكذب هذه الرواية قول علي عليه السلام : قبض النبي وأنا أولى بمجلسه مني بقميصي ولكني أشفقت أن يرجع الناس كفارا . وقوله عليه السلام : أنى يكونان خيرا مني ؟ وقد عبدت الله عز وجل قبلهما وعبدته بعدهما .

 

قال آخر : فإن أبا بكر أغلق بابه وقال : هل من مستقيل فأقيله ؟ فقال علي عليه السلام : قدمك رسول الله فمن ذا يؤخرك ؟

 

 فقال المأمون : هذا باطل ، من قبل أن عليا عليه السلام قعد عن بيعة بي بكر ، ورويتم أنه قعد عنها حتى قبضت فاطمة عليها السلام ، وأنها أوصت أن تدفن ليلا لئلا يشهدا جنازتها . ووجه آخر : وهو أنه إن كان النبي صلى الله عليه وآله استخلفه فكيف كان له أن يستقيل ؟ وهو يقول للأنصاري : قد رضيت لكم أحد هذين الرجلين : أبا عبيدة وعمر !

 

 قال آخر : إن عمرو بن العاص قال : يا نبي الله من أحب الناس إليك من النساء ؟ فقال : عائشة . فقال : من الرجال ؟ فقال : أبوها .

 

 فقال المأمون : هذا باطل ، من قبل أنكم رويتم أن النبي صلى الله عليه وآله وضع بين يديه طائر مشوي ، فقال : اللهم ائتني بأحب خلقك إليك فكان علي عليه السلام ، فأي روايتكم تقبل ؟

 

فقال آخر : فإن عليا عليه السلام قال : من فضلني على أبي بكر وعمر جلدته حد المفتري .

 

 قال المأمون : كيف يجوز أن يقول علي عليه إسلام اجلد الحد من لا يجب الحد عليه ؟ فيكون متعديا لحدود الله عز وجل عاملا بخلاف أمره ! وليس تفضيل من فضله عليهما فرية ، وقد رويتم عن إمامكم أنه قال : وليتكم ولست بخيركم فأي الرجلين أصدق عندكم ، أبو بكر على نفسه أو علي على أبي بكر ؟ مع تناقض الحديث في نفسه ، ولا بد له في قوله من أن يكون صادقا أو كاذبا ، فإن كان صادقا فأنى عرف ذلك ؟ أبوحي ؟ فالوحي منقطع ، أو بالنظر ؟ فالنظر متحير ، وإن كان غير صادق فمن المحال أن يلي أمر المسلمين ويقوم بأحكامهم ويقيم حدودهم [ وهو ] كذاب .

 

 قال آخر : فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وآله قال : أبو بكر وعمر سيدا كهول أهل الجنة .

 

 قال المأمون : هذا الحديث محال ، لأنه لا يكون في الجنة كهل ، ويروى أن أشجعية كانت عند النبي صلى الله عليه وآله فقال : لا يدخل الجنة عجوز فبكت ! فقال النبي صلى الله عليه وآله : إن الله عز وجل يقول : إنما أنشأناهن إنشاء فجعلنا هن أبكارا عربا أترابا فإن زعمتم أن أبا بكر ينشأ شابا إذا دخل الجنة ، فقد رويتم أن النبي صلى الله عليه وآله قال للحسن والحسين : إنهما سيدا شباب أهل الجنة من الأولين والآخرين ، وأبوهما خير منهما .

 

 قال آخر : فقد جاء أن النبي صلى الله عليه وآله قال : لو لم أبعث فيكم ، لبعث عمر .

 

 قال المأمون : هذا محال ، لأن الله عز وجل يقول : إنا أوحينا إليك كما أوحينا إلى نوح والنبيين من بعده وقال عز وجل : وإذ أخذنا من النبيين ميثاقهم ومنك ومن نوح وإبراهيم وموسى وعيسى بن مريم فهل يجوز أن يكون من لم يؤخذ ميثاقه على النبوة مبعوثا ؟ ومن أخذ ميثاقه على النبوة مؤخرا ؟ !

 

 قال آخر : إن النبي صلى الله عليه وآله نظر إلى عمر يوم عرفة فتبسم وقال : إن الله تعالى باهى بعباده عامة وبعمر خاصة .

 

قال المأمون : فهذا مستحيل ، من قبل أن الله تعالى لم يكن ليباهي بعمر ويدع نبيه ، فيكون عمر في الخاصة والنبي في العامة ! وليست هذه الرواية بأعجب من روايتكم : أن النبي صلى الله عليه وآله قال : دخلت الجنة فسمعت خفق نعلين ، فإذا بلال مولى أبي بكر قد سبقني إلى الجنة وإنما قالت الشيعة : علي خير من أبي بكر فقلتم : عبد أبي بكر خير من رسول الله صلى الله عليه وآله لأن السابق أفضل من المسبوق . وكما رويتم : أن الشيطان يفر من حس عمر ، وألقى على لسان النبي صلى الله عليه وآله : أنهن الغرانيق العلى ، ففر من عمر وألقى على لسان النبي صلى الله عليه وآله بزعمكم الكفر !

 

قال آخر : قد قال النبي صلى الله عليه وآله : لو نزل العذاب ما نجا إلا عمر بن الخطاب .

 

 قال المأمون : هذا خلاف الكتاب نصا ، لأن الله عز وجل يقول : وما كان الله ليعذبهم وأنت فيهم فجعلتم عمر مثل الرسول .

 

 قال آخر : فقد شهد النبي صلى الله عليه وآله لعمر بالجنة في عشرة من الصحابة .

 

فقال : لو كان هذا كما زعمت كان عمر لا يقول لحذيفة : نشدتك بالله أمن المنافقين أنا ؟ فإن كان قد قال له النبي صلى الله عليه وآله : أنت من أهل الجنة ولم يصدقه حتى زكاه حذيفة وصدق حذيفة ولم يصدق النبي صلى الله عليه وآله فهذا على غير الإسلام ، وإن كان قد صدق النبي صلى الله عليه وآله فلم سأل حذيفة ؟ وهذان الخبران متناقضان في أنفسهما .

 

 فقال آخر : فقد قال النبي صلى الله عليه وآله : وضعت أمتي في كفة الميزان ووضعت في أخرى فرجحت بهم ، ثم وضع مكاني أبو بكر فرجح بهم ، ثم عمر فرجح ، ثم رفع الميزان .

 

 فقال المأمون : هذا محال ، من قبل أنه لا يخلو من أن يكون من أجسامهما أو أعمالهما . فإن كانت الأجسام ، فلا يخفى على ذي روح أنه محال ، لأنه لا يرجح أجسامهما بأجسام الأمة . وإن كانت أفعالهما ، فلم يكن بعد ، فكيف يرجح بما ليس ؟ وخبروني : بما يتفاضل بالناس ؟

 

 فقال بعضهم : بالأعمال الصالحة .

 

 قال : فأخبروني فمن فضل صاحبه على عهد النبي صلى الله عليه وآله ؟ ثم إن المفضول عمل بعد وفاة النبي صلى الله عليه وآله بأكثر من عمل الفاضل على عهد النبي صلى الله عليه وآله أيلحق به ؟ فإن قلتم : نعم ، أوجدتكم في عصرنا هذا من هو أكثر جهادا وحجا وصوما وصلاة وصدقة من أحدهما .

 

 قالوا : صدقت لا يلحق فاضل دهرنا فاضل عصر النبي صلى الله عليه وآله .

 

 قال المأمون : فانظروا فيما روت أئمتكم الذين أخذتم عنهم أديانكم في فضائل علي عليه السلام وقايسوا إليها ما رووا في فضائل تمام العشرة الذين شهدوا لهم بالجنة ، فإن كانت جزءا من أجزاء كثيرة فالقول قولكم ، وإن كانوا قد رووا في فضائل علي عليه السلام أكثر فخذوا عن أئمتكم ما رووا ولا تعدوه .

 

 قال : فأطرق القوم جميعا .

 

فقال المأمون : ما لكم سكتم ؟

 

 قالوا : قد استقصينا .

 

 قال المأمون : فإني أسألكم خبروني أي الأعمال كان أفضل يوم بعث الله نبيه صلى الله عليه وآله ؟

 

 قالوا : السبق إلى الإسلام ، لأن الله تبارك وتعالى يقول : السابقون السابقون أولئك المقربون قال : فهل علمتم أحدا أسبق من علي عليه السلام إلى الإسلام ؟

 

 قالوا : أنه سبق حدثا لم يجر عليه حكم ، وأبو بكر أسلم كهلا قد جرى عليه الحكم وبين هاتين الحالتين فرق .

 

 قال المأمون : فخبروني عن إسلام علي عليه السلام أبإلهام من قبل الله عز وجل ، أم بدعاء النبي صلى الله عليه وآله ؟ فإن قلتم : بإلهام ، فقد ‹ فضلتموه على النبي صلى الله عليه وآله ، لأن النبي لم يلهم بل أتاه جبرئيل عليه السلام عن الله عز وجل داعيا ومعرفا ، وإن قلتم : بدعاء النبي صلى الله عليه وآله فهل دعاه من قبل نفسه أم بأمر الله عز وجل ؟ فإن قلتم : من قبل نفسه ، فهذا خلاف ما وصف الله عز وجل نبيه عليه السلام في قوله تعالى : وما أنا من المتكلفين وفي قوله عز وجل : وما ينطق عن الهوى وإن كان من قبل الله عز وجل ، فقد أمر الله سبحانه وتعالى نبيه صلى الله عليه وآله بدعاء علي عليه السلام من بين صبيان الناس وإيثاره عليهم ، فدعاه ثقة به وعلما بتأييد الله تعالى إياه .

 

 وخلة أخرى : خبروني عن الحكيم هل يجوز أن يكلف خلقه ما لا يطيقون ؟ فإن قلتم : نعم ، كفرتم ، وإن قلتم : لا ، فكيف يجوز أن يأمر نبيه صلى الله عليه وآله بدعاء من لم يمكنه قبول ما يؤمر به ، لصغره وحداثة سنه وضعفه عن القبول .

 

 وخلة أخرى : هل رأيتم النبي صلى الله عليه وآله دعا أحدا من صبيان أهله وغيرهم فيكون أسوة علي عليه السلام ؟ فإن زعمتم أنه لم يدع غيره ، فهذه فضيلة لعلي عليه السلام على جميع صبيان الناس .

 

 ثم قال : أي الأعمال أفضل بعد السبق إلى الإيمان ؟

 

قالوا : الجهاد في سبيل الله . قال : فهل تحدثون لأحد من العشرة في الجهاد ما لعلي عليه السلام في جميع مواقف النبي صلى الله عليه وآله من الأثر ؟ هذه بدر قتل من المشركين فيها نيف وستون رجلا ، قتل علي عليه السلام منهم نيفا وعشرين ، وأربعون لسائر الناس .

 

 فقال قائل : كان أبو بكر مع النبي صلى الله عليه وآله في عريشه يدبرها .

 

 فقال المأمون : لقد جئت بها عجيبة ! أكان يدبر دون النبي صلى الله عليه وآله ؟ أو معه فيشركه ؟ أو لحاجة النبي صلى الله عليه وآله إلى رأي أبي بكر ؟ أي الثلاث أحب إليك ؟

 

 فقال : أعوذ بالله ! من أن أزعم أنه يدبر دون النبي صلى الله عليه وآله أو يشركه ، أو بافتقار من النبي إليه .

 

قال : فما الفضيلة في العريش ؟ فإن كانت فضيلة أبي بكر بتخلفه عن الحرب ، فيجب أن يكون كل متخلف فاضلا أفضل من المجاهدين ! والله عز وجل يقول : لا يستوي القاعدون من المؤمنين غير أولي الضرر والمجاهدون في سبيل الله بأموالهم وأنفسهم فضل الله المجاهدين بأموالهم وأنفسهم على القاعدين درجة وكلا وعد الله الحسنى وفضل الله المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما .

 

 قال إسحاق بن حماد بن زيد : ثم قال لي : إقرأ هل أتى على الإنسان حين من الدهر فقرأت حتى بلغت ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا إلى قوله : وكان سعيكم مشكورا فقال : فيمن نزلت هذه الآيات ؟

 

 قلت : في علي عليه السلام

 

 قال : فهل بلغك أن عليا عليه السلام قال حين أطعم المسكين واليتيم والأسير : إنما نطعمكم لوجه الله لا نريد منكم جزاء ولا شكورا على ما وصف الله عز وجل في كتابه ؟

 

 فقلت : لا

 

قال : فإن الله عز وجل عرف سريرة علي عليه السلام ونيته ، فأظهر ذلك في كتابه تعريفا لخلقه أمره . فهل علمت أن الله عز وجل وصف في شئ مما وصف في الجنة ما في هذه السورة قوارير من فضة ؟

 

 قلت : لا . قال : فهذه فضيلة أخرى ، فكيف يكون القوارير من فضة ؟

 

 قلت : لا أدري .

 

قال : يريد كأنها من صفائها من فضة يرى داخلها ما يرى خارجها ، وهذا مثل قوله صلى الله عليه وآله : يا أبخشة رويدا سوقك بالقوارير ! وعنى به النساء كأنهن القوارير رقة . وقوله عليه السلام : ركبت فرس أبي طلحة فوجدته بحرا أي كأنه بحر من كثرة جريه وعدوه . وكقول الله عز وجل : ويأتيه الموت من كل مكان وما هو بميت ومن ورائه عذاب غليظ أي كأنه ما يأتيه الموت ولو أتاه من مكان واحد لمات .

 

 ثم قال : يا إسحاق ! ألست ممن يشهد أن العشرة في الجنة ؟

 

 فقلت : بلى .

 

 قال : أرأيت لو أن رجلا قال : ما أدري أصحيح هذا الحديث أم لا ، أكان عندك كافرا ؟

 

 قلت : لا .

 

 قال : أفرأيت لو قال : ما أدري أهذه السورة قرآن أم لا ، أكان عندك كافرا ؟

 

 قلت : بلى .

 

 قال : أرى فضل الرجل يتأكد . خبرني يا إسحاق ! عن حديث الطائر المشوي أصحيح عندك ؟

 

 قال : بلى .

 

 قال : بان والله عنادك ! لا يخلو هذا إما أن يكون كما دعا النبي صلى الله عليه وآله أو يكون مردودا ، أو عرف الله الفاضل من خلقه وكان المفضول أحب إليه ، أو تزعم أن الله لم يعرف الفاضل من المفضول ! فأي الثلاث أحب إليك أن تقول به ؟ .

 

 قال إسحاق : فأطرقت ساعة ، ثم قلت ، يا أمير المؤمنين ! إن الله عز وجل يقول في أبي بكر : ثاني اثنين إذ هما في الغار إذ يقول لصاحبه لا تحزن إن الله معنا فنسبه الله عز وجل إلى صحبة نبيه صلى الله عليه وآله .

 

فقال : سبحان الله ! ما أقل علمكم باللغة والكتاب ! أما يكون الكافر صاحبا للمؤمن ؟ فأي فضيلة في هذه ؟ أما سمعت الله عز وجل يقول : قال له صاحبه وهو يحاوره أكفرت بالذي خلقك من تراب ثم من نطفة ثم سواك رجلا فقد جعله له صاحبا وقال الهذلي : ولقد غدوت وصاحبي وحشية تحت الرداء بصيرة بالمشرق وقال الأزدي : ولقد دعوت الوحش فيه وصاحبي محض القوائم من هجان هيكل فصير فرسه صاحبه . وأما قوله : إن الله معنا فإنه تبارك وتعالى مع البر والفاجر ، أما سمعت قوله عز وجل : ما يكون من نجوى ثلاثة إلا هو رابعهم ولا خمسة إلا هو سادسهم ولا أدنى من ذلك ولا أكثر إلا هو معهم أينما كانوا . وأما قوله : لا تحزن فخبرني عن حزن أبي بكر أكان طاعة أو معصية ؟ فإن زعمت أنه كان طاعة ، فقد جعلت النبي صلى الله عليه وآله ينهى عن الطاعة ، وهذا خلاف صفة الحكيم . وإن زعمت أنه معصية ، فأي فضيلة للعاصي ؟

 

وخبرني عن قوله عز وجل : فأنزل الله سكينته عليه على من ؟

 

 قال إسحاق : فقلت : على أبي بكر ، لأن النبي كان مستغنيا عن السكينة .

 

 قال : فخبرني عن قوله عز وجل : ويوم حنين إذ أعجبتكم كثرتكم فلم تغن عنكم شيئا وضاقت عليكم الأرض بما رحبت ثم وليتم مدبرين ثم أنزل الله سكينته على رسوله وعلى المؤمنين أتدري من المؤمنون الذين أراد الله عز وجل في هذا الموضع ؟ قال : قلت : لا .

 

 قال : إن الناس انهزموا يوم حنين فلم يبق مع النبي صلى الله عليه وآله إلا سبعة من بني هاشم : علي عليه السلام يضرب بسيفه ، والعباس أخذ بلجام بغلة النبي صلى الله عليه وآله والخمسة محدقون بالنبي صلى الله عليه وآله خوفا من أن يناله سلاح الكفار حتى أعطى الله تبارك وتعالى رسوله عليه السلام الظفر ، عنى بالمؤمنين في هذا الموضع : عليا عليه السلام ومن حضر من بني هاشم ، فمن كان أفضل ؟ أمن كان مع النبي صلى الله عليه وآله ونزلت السكينة على النبي صلى الله عليه وآله وعليه ؟ أم من كان في الغار مع النبي صلى الله عليه وآله ولم يكن أهلا لنزولها عليه ؟ يا إسحاق ! من أفضل ؟ من كان مع النبي صلى الله عليه وآله في الغار ، أم من نام على مهاده ووقاه بنفسه حتى تم للنبي صلى الله عليه وآله ما عزم عليه من الهجرة ؟ إن الله تبارك وتعالى أمر نبيه صلى الله عليه وآله أن يأمر عليا عليه السلام بالنوم على فراشه ووقايته بنفسه ، فأمره بذلك ، فقال علي عليه السلام : أتسلم يا نبي الله ؟ قال : نعم ، قال : سمعا وطاعة ، ثم أتى مضجعه وتسجى بثوبه وأحدق المشركون به ، لا يشكون في أنه النبي صلى الله عليه وآله وقد أجمعوا أن يضربه من كان بطن من قريش رجل ضربة لئلا يطالب الهاشميون بدمه ، وعلي عليه السلام يسمع ما القوم فيه من التدبير في تلف نفسه ، فلم يدعه ذلك إلى الجزع كما جزع أبو بكر في الغار ، وهو مع النبي صلى الله عليه وآله وعلي عليه السلام وحده ، فلم يزل صابرا محتسبا ، فبعث الله تعالى ملائكة تمنعه من مشركي قريش . فلما أصبح قام فنظر القوم إليه ، فقالوا : أين محمد ؟ قال : وما علمي به ؟ قالوا : فأنت غررتنا ! ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وآله ، فلم يزل علي أفضل منه لما بدا منه [ إلا ما ] يزيد خيرا ، حتى قبضه الله تعالى إليه وهو محمود مغفور له . يا إسحاق ! أما تروي حديث الولاية ؟

 

فقلت : نعم ،

 

قال : إروه ، فرويته .

 

 فقال : أما ترى أنه أوجب لعلي على أبي بكر وعمر من الحق ما لم يوجب لهما عليه ؟

 

قلت : إن الناس يقولون : إن هذا قاله بسبب زيد بن حارثة .

 

 قال : وأين قال النبي صلى الله عليه وآله هذا ؟

 

 قلت : بغدير خم بعد منصرفه من حجة الوداع .

 

 قال : فمتى قتل زيد بن حارثة ؟

 

 قلت : بمؤتة .

 

قال : أفليس قد كان قتل زيد بن حارثة قبل غدير خم ؟

 

قلت : بلى .

 

 قال : فخبرني لو رأيت ابنا لك أتت عليه خمس عشرة سنة يقول : مولاي مولى ابن عمي أيها الناس فاقبلوا ، أكنت تكره ذلك ؟

 

 فقلت : بلى . قال : أفتنزه ابنك عما لا تنزه النبي صلى الله عليه وآله ؟ ويحكم ! أجعلتم فقهاء كم أربابكم ؟ إن الله عز وجل يقول : اتخذوا أحبارهم ورهبانهم أرباب من دون الله والله ما صاموا لهم ولا صلوا لهم ولكنهم أمروا لهم فأطيعوا .

 

ثم قال : أتروى قول النبي صلى الله عليه وآله لعلي : أنت مني بمنزلة هارون من موسى ؟

 

 قلت : نعم .

 

 قال : أما تعلم أن هارون أخو موسى لأبيه وأمه

 

قلت : بلى .

 

 قال : فعلي كذلك ؟

 

 قلت : لا .

 

 قال : فهارون نبي وليسعلي كذلك ، فما المنزلة الثالثة إلا الخلافة . وهذا كما قال المنافقون : إنه استخلفه استثقالا له ، فأراد أن يطيب نفسه ، وهذا كما حكى الله عز وجل عن موسى حيث يقول لهارون : أخلفني في قومي وأصلح ولا تتبع سبيل المفسدين 

 

 فقلت : إن موسى خلف هارون في قومه وهو حي ، ثم مضى إلى ميقات ربه عز وجل ، وإن النبي خلف عليا عليه السلام حين خرج إلى غزاته .

 

 فقال : أخبرني عن موسى حين خلف هارون ، أكان معه - حيث مضى إلى ميقات ربه عز وجل - أحد من أصحابه ؟

 

 فقلت : نعم .

 

 قال : أوليس قد أستخلفه على جميعهم ؟

 

 قلت : بلى .

 

 قال : فكذلك علي عليه السلام خلفه النبي صلى الله عليه وآله حين خرج في غزاته في الضعفاء والنساء والصبيان ، إذ كان أكثر قومه معه وإن كان قد جعله خليفته على جميعهم ، والدليل على أنه جعله خليفة عليهم في حياته إذا غاب وبعد موته قوله عليه السلام : علي بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وهو وزير النبي صلى الله عليه وآله أيضا بهذا القول ، لأن موسى عليه السلام قد دعا الله عز وجل ، فقال فيما دعى : واجعل لي وزيرا من أهلي هارون أخي أشدد به أزري وأشركه في أمري وإذا كان علي عليه السلام منه صلى الله عليه وآله بمنزلة هارون من موسى ، فهو وزيره ، كما كان هارون وزير موسى عليه السلام وهو خليفته ، كما كان هارون خليفة موسى عليه السلام .

 

 ثم أقبل على أصحاب النظر والكلام ، فقال : أسألكم أو تسألوني ؟

 

 قالوا : بل نسألك .

 

 فقال : قولوا .

 

 فقال قائل منهم : أليست إمامة علي عليه السلام من قبل الله عز وجل نقل ذلك عن رسول الله من نقل الفرض ، مثل الظهر أربع ركعات ، وفي مائتين درهم خمسة دراهم ، والحج إلى مكة ؟

 

 فقال : بلى . قال : فما بالهم لم يختلفوا في جميع الفرض واختلفوا في خلافة علي عليه السلام وحدها ؟

 

قال المأمون : لأن جميع الفرض لا يقع فيه من التنافس والرغبة ما يقع في الخلافة .

 

 فقال آخر : ما أنكرت أن يكون النبي صلى الله عليه وآله أمرهم باختيار رجل يقوم مقامه رأفة بهم ورقة عليهم أن يستخلف هو بنفسه ، فيعصى خليفته ، فينزل العذاب ؟

 

فقال : أنكرت ذلك من قبل أن الله عز وجل أرأف بخلقه من النبي صلى الله عليه وآله وقد بعث نبيه صلى الله عليه وآله وهو يعلم أن فيهم العاصي والمطيع ، فلم يمنعه ذلك من إرساله .

 

وعلة أخرى : لو أمرهم باختيار رجل منهم كان لا يخلو من أن يأمرهم كلهم أو بعضهم ، فلو كان أمر الكل من كان المختار ؟ ولو أمر بعضا دون بعض كان لا يخلو من أن يكون على هذا البعض علامة ، فإن قلت : الفقهاء ، فلا بد من تحديد الفقيه وسمته .

 

قال آخر : فقد روي أن النبي صلى الله عليه وآله قال : ما رآه المسلمون حسنا فهو عند الله عز وجل حسن ، وما رأوه قبيحا فهو عند الله تبارك وتعالى قبيح .

 

 فقال : هذا القول لا بد من أن يريد كل المؤمنين أو البعض ؟ فإن أراد الكل فهو مفقود ، لأن الكل لا يمكن اجتماعهم ، وإن كان البعض فقد روي كل في صاحبه حسنا ، مثل رواية الشيعة في علي عليه السلام ، ورواية الحشوية في غيره ، فمتى يثبت ما يريدون من الإمامة ؟

 

قال آخر : فيجوز أن يزعم أن أصحاب محمد صلى الله عليه وآله أخطأوا ؟

 

 قال : كيف نزعم أنهم أخطأوا واجتمعوا على ضلالة وهم لا يعلمون فرضا ولا سنة ؟ لأنك تزعم أن الإمامة لا فرض من الله عز وجل ولا سنة من الرسول ، فكيف يكون فيما ليس عندك بفرض ولا سنة خطأ ؟

 

 قال آخر : إن كنت تدعي لعلي عليه السلام من الإمامة [ دون غيره ] فهات بينتك على ما تدعي .

 

 فقال : ما أنا بمدع ولكني مقر ، ولا بينة على مقر ، والمدعي من يزعم أن إليه التولية والعزل وأن إليه الاختيار ، والبينة لا تعرى من أن يكون من شركائه فهم خصماء ، أو يكون من غيرهم والغير معدوم ، فيكف بالبينة على هذا ؟

 

 قال آخر : فما كان الواجب على علي عليه السلام بعد مضي رسول الله صلى الله عليه وآله ؟

 

قال : ما فعله .

 

قال : أفما وجب عليه أن يعلم الناس أنه إمام ؟

 

 فقال : إن الإمامة لا تكون بفعل منه في نفسه ولا بفعل من الناس فيه من اختيار أو تفضيل أو غير ذلك ، إنما يكون بفعل من الله عز وجل فيه ، كما قال لإبراهيم عليه السلام : إني جاعلك للناس إماما وكما قال عز وجل لداود عليه السلام : يا داود إنا جعلناك خليفة في الأرض وكما قال عز وجل للملائكة في آدم عليه السلام : إني جاعل في الأرض خليفة فالإمام إنما يكون إماما من قبل الله باختياره إياه في بدء الصنيعة ، والتشريف في النسب ، والطهارة في المنشأ ، والعصمة في المستقبل ، ولو كانت بفعل منه في نفسه كان من فعل ذلك الفعل مستحقا للإمامة وإذا عمل خلافها اعتزل ، فيكون خليفة قبل أفعاله .

 

 وقال آخر : فلم أوجبت الإمامة لعلي عليه السلام بعد الرسول صلى الله عليه وآله ؟

 

فقال : لخروجه من الطفولية إلى الإيمان كخروج النبي صلى الله عليه وآله من الطفولية إلى الإيمان ، والبراءة من ضلالة قومه عن الحجة واجتنابه الشرك ، كبراءة النبي صلى الله عليه وآله من الضلالة واجتنابه الشرك ، لأن الشرك ظلم عظيم . ولا يكون الظالم إماما ولا من عبد وثنا بإجماع ، ومن أشرك فقد حل من الله عز وجل محل أعدائه ، فالحكم فيه الشهادة عليه بما اجتمعت عليه الأمة حتى يجيء إجماع آخر مثله ، ولأن من حكم عليه مرة فلا يجوز أن يكون حاكما فيكون الحاكم محكوما عليه ، فلا يكون حينئذ فرق بين الحاكم والمحكوم عليه .

 

 قال آخر : فلم لم يقاتل علي عليه السلام أبا بكر وعمر وعثمان كما قاتل معاوية ؟

 

فقال : المسألة محال ، لأن لم اقتضاء و لا يفعل نفي ، والنفي لا يكون له علة ، إنما العلة للإثبات ، وإنما يجب أن ينظر في أمر علي عليه السلام أمن قبل الله أم من قبل غيره ؟ فإن صح أنه من قبل الله عز وجل فالشك في تدبيره كفر ، لقوله عز وجل : فلا وربك لا يؤمنون حتى يحكموك فيما شجر بينهم ثم لا يجدوا في أنفسهم حرجا مما قضيت ويسلموا تسليما فأفعال الفاعل تبع لأصله ، فإن كان قيامه عن الله عز وجل ، فأفعاله عنه ، وعلى الناس الرضا والتسليم ، وقد ترك رسول الله صلى الله عليه وآله القتال يوم الحديبية يوم صد المشركون هديه عن البيت ، فلما وجد الأعوان وقوي حارب ، كما قال عز وجل في الأول : فاصفح الصفح الجميل ثم قال عز وجل : اقتلوا المشركين حيث وجدتموهم وخذوهم واحصروهم واقعدوا لهم كل مرصد .

 

 قال آخر : إذا زعمت أن إمامة علي عليه السلام من قبل الله عز وجل وأنه مفترض الطاعة فلم لم يجز إلا التبليغ والدعاء كما للأنبياء عليهم السلام وجاز لعلي أن يترك ما أمر به من دعوة الناس إلى طاعته .

 

 فقال : من قبل أنا لم ندع أن عليا أمر بالتبليغ فيكون رسولا ، ولكنه عليه السلام وضع علما بين الله تعالى وبين خلقه ، فمن تبعه كان مطيعا ومن خالفه كان عصايا ، فإن وجد أعوانا يتقوى بهم جاهد ، وإن لم يجد أعوانا فاللوم عليهم لا عليه ، لأنهم أمروا بطاعته على كل حال ، ولم يؤمر هو بمجاهدتهم إلا بقوة ، وهو بمنزلة البيت على الناس الحج إليه ، فإذا حجوا أدوا ما عليهم ، وإذا لم يفعلوا كانت اللائمة عليهم لا على البيت .

 

 وقال آخر : إذا وجب أنه لا بد من إمام مفترض الطاعة بالاضطرار ، فكيف يجب بالاضطرار أنه علي عليه السلام دون غيره ؟

 

فقال : من قبل أن الله عز وجل لا يفرض مجهولا ، ولا يكون المفروض ممتنعا ، إذ المجهول ممتنع ، ولا بد من دلالة الرسول على الفرض ، ليقطع العذر بين الله عز وجل وبين عباده . أرأيت لو فرض الله عز وجل على الناس صوم شهر ولم يعلم الناس أي شهر هو ولم يسم كان على الناس استخراج ذلك بعقولهم حتى يصيبوا ما أراد الله تبارك وتعالى ؟ فيكون الناس حينئذ مستغنين عن الرسول والمبين لهم وعن الإمام الناقل خبر الرسول إليهم .

 

 وقال آخر : من أين أوجبت أن عليا عليه السلام كان بالغا حين دعاه النبي صلى الله عليه وآله ؟ فإن الناس يزعمون أنه كان صبيا حين دعا ولم يكن جاز عليه الحكم ولا بلغ مبلغ الرجال .

 

 فقال : من قبل أنه لا يعرى في ذلك الوقت من أن يكون ممن أرسل إليه النبي صلى الله عليه وآله ليدعوه ، فإن كان كذلك فهو محتمل للتكليف قوي على أداء الفرائض ، وإن كان ممن لم يرسل إليه فقد لزم النبي صلى الله عليه وآله قول الله عز وجل : ولو تقول علينا بعض الأقاويل لأخذنا منه باليمين ثم لقطعنا منه الوتين وكان مع ذلك قد كلف النبي صلى الله عليه وآله عباد الله ما لا يطيقون عن الله تبارك وتعالى ، وهذا من المحال الذي يمتنع كونه ، ولا يأمر به حكيم ولا يدل عليه الرسول ، تعالى الله عن أن يأمر بالمحال ، وجل الرسول عن أن يأمر بخلاف ما يمكن كونه في حكمة الحكيم . فسكت القوم عند ذلك جميعا .

 

 فقال المأمون : قد سألتموني ونقضتم علي أفأسألكم ؟

 

قالوا : نعم .

 

 قال : أليس روت الأمة بإجماع منها أن النبي صلى الله عليه وآله قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار ؟

 

 قالوا : بلى .

 

قال : ورووا عنه عليه السلام أنه قال : من عصى بمعصية صغرت أو كبرت ثم أتخذها دينا ومضى مصرا عليها فهو مخلد بين أطباق الجحيم ؟

 

قالوا : بلى .

 

 قال : فخبروني عن رجل يختاره العامة فتنصبه خليفة هل يجوز أن يقال له خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ومن قبل الله عز وجل ولم يستخلفه الرسول ؟ فإن قلتم : نعم ، كابرتم ، وإن قلتم : لا ، وجب أن أبا بكر لم يكن خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ولا من قبل الله عز وجل ، وأنكم تكذبون على نبي الله صلى الله عليه وآله وأنكم متعرضون لأن تكونوا ممن وسمه النبي صلى الله عليه وآله بدخول النار . وخبروني في أي قوليكم صدقتم ؟ أفي قولكم : مضى صلى الله عليه وآله لم يستخلف ، أو في قولكم لأبي بكر : يا خليفة رسول الله ، فإن كنتم صدقتم في القولين فهذا ما لا يمكن كونه إذ كان متناقضا ، وإن كنتم صدقتم في أحدهما بطل الآخر .فاتقوا الله ! وانظروا لأنفسكم ، ودعوا التقليد ، وتجنبوا الشبهات ، فوالله ! ما يقبل الله عز وجل إلا من عبد لا يأتي إلا بما يعقل ولا يدخل إلا فيما يعلم أنه حق ، والريب شك ، وإدمان الشك كفر بالله عز وجل ، وصاحبه في النار .

 

 وخبروني هل يجوز ابتياع أحدكم عبدا ، فإذا ابتاعه صار مولاه وصار المشتري عبده ؟ قالوا : لا . قال : كيف جاز أن يكون من اجتمعتم عليه لهواكم واستخلفتموه صار خليفة عليكم وأنتم وليتموه ؟ ألا كنتم أنتم الخلفاء عليه ؟ بل تولون خليفة وتقولون : إنه خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله ثم إذ سخطتم عليه قتلتموه ! كما فعل بعثمان بن عفان . قال قائل منهم : لأن الإمام وكيل المسلمين إذا رضوا عنه ولوه ، وإذا سخطوا عليه عزلوه . قال : فلمن المسلمون والعباد والبلاد ! قالوا : الله عز وجل . قال : فالله أولى أن يوكل على عباده وبلاده من غيره ، لأن من إجماع الأمة أنه من أحدث في ملك غيره حدثا فهو ضامن ، وليس له أن يحدث ، فإن فعل فآثم غارم .

 

 ثم قال : خبروني عن النبي صلى الله عليه وآله هل استخلف حين مضى أم لا ؟

 

فقالوا : لم يستخلف

 

 قال : فتركه ذلك هدى أم ضلال ؟

 

قالوا : هدى .

 

 قال : فعلى الناس أن يتبعوا الهدى ويتنكبوا الضلالة ،

 

 قالوا : قد فعلوا ذلك .

 

 قال : فلم استخلف الناس بعده وقد تركه هو ؟ فترك فعله ضلال ، ومحال أن يكون خلاف الهدى هدى ، وإذا كان ترك الاستخلاف هدى فلم استخلف أبو بكر ، ولم يفعله النبي صلى الله عليه وآله ، وجعل عمر الأمر بعده شورى بين المسلمين خلافا على صاحبه ! . زعمتم أن النبي صلى الله عليه وآله لم يستخلف ، وأن أبا بكر استخلف ، وعمر لم يترك الاستخلاف كما تركه النبي صلى الله عليه وآله بزعمكم ولم يستخلف كما فعل أبو بكر وجاء بمعنى ثالث ، فخبروني أي ذلك ترونه صوابا ؟ فإن رأيتم فعل النبي صلى الله عليه وآله صوابا فقد خطأتم أبا بكر ، وكذلك القول في بقية الأقاويل .

 

 وخبروني أيهما أفضل ؟ ما فعله النبي صلى الله عليه وآله بزعمكم من ترك الاستخلاف ؟ أو ما صنعت طائفة من الاستخلاف ؟ وخبروني هل يجوز أن يكون تركه من الرسول صلى الله عليه وآله هدى وفعله من غيره هدى ، فيكون هدى ضد هدى ! فأين الضلال حينئذ ؟

 

وخبروني هل ولي أحد بعد النبي صلى الله عليه وآله باختيار الصحابة منذ قبض النبي صلى الله عليه وآله إلى اليوم ؟ فإن قلتم : لا ، فقد أوجبتم أن الناس كلهم عملوا ضلالة بعد النبي صلى الله عليه وآله ، وإن قلتم : نعم ، كذبتم الأمة وبطل قولكم الوجود الذي لا يدفع .

 

وخبروني عن قول الله عز وجل : قل لمن ما في السماوات والأرض قل لله أصدق هذا أم كذب ؟

 

 قالوا : صدق .

 

 قال : أفليس ما سوى الله لله ، إذ كان محدثه ومالكه ؟

 

 قالوا : نعم .

 

 قال : ففي هذا بطلان ما أوجبتم من اختياركم خليفة تفترضون طاعته [ إذ اخترتموه ] وتسمونه خليفة رسول الله صلى الله عليه وآله وأنتم استخلفتموه ، وهو معزول عنكم إذا غضبتم عليه وعمل بخلاف محبتكم ، وهو مقتول إذا أبى الاعتزال ، ويلكم ! لا تفتروا على الله كذبا فتلقوا وبال ذلك غدا إذ قمتم بين يدي الله عز وجل ، وإذا وردتم على رسول الله صلى الله عليه وآله وقد كذبتم عليه متعمدين ، وقد قال : من كذب علي متعمدا فليتبوأ مقعده من النار .

 

 ثم استقبل القبلة ورفع يديه وقال : اللهم إني قد نصحت لهم ، اللهم إني قد أرشدتهم ، اللهم إني قد أخرجت ما وجب علي إخراجه من عنقي ، اللهم إني لم أدعهم في ريب ولا في شك ، اللهم إني أدين بالتقرب إليك بتقديم علي عليه السلام على الخلق بعد نبيك صلى الله عليه وآله كما أمرنا به رسولك صلواتك وسلامك عليه وآله .

 

 قال : ثم افترقنا ، فلم نجتمع بعد ذلك حتى قبض المأمون .

 

 قال محمد بن أحمد بن يحيى الأشعري : وفي حديث آخر : قال : فسكت القوم ، فقال لهم : لم سكتم ؟

 

 قالوا : لا ندري ما نقول .

 

قال : يكفيني هذه الحجة عليكم . ثم أمر بإخراجهم .

 

 قال : فخرجنا متحيرين خجلين . ثم نظر المأمون إلى الفضل بن سهل ،

 فقال : هذا أقصى ما عند القوم ، فلا يظن ظان أن جلالتي منعتهم من النقض علي (

[1])

 

ثم الحق المامون هذا الاحتجاج برسالة لبني العباس بين فيها فضائل امير المؤمنين عليه السلام

 

عن الطرائف للسيد ابن طاووس  رحمه الله تعالى - قال : من الطرائف المشهورة ما بلغ إليه المأمون في مدح أمير المؤمنين علي بن أبي طالب عليه السلام ومدح أهل بيته عليهم السلام ذكره ابن مسكويه صاحب التاريخ ( المسمى ظ ) بحوادث الإسلام في كتاب سماه نديم الفريد يقول فيه حيث ذكر كتابا كتبه بنو هاشم يسألون جوابهم ما هذا لفظه : فقال المأمون : بسم الله الرحمن الرحيم ، والحمد لله رب العالمين ، وصلى الله على محمد وآل محمد على رغم أنف الراغمين . أما بعد ، عرف المأمون كتابكم وتدبير أمركم ، ومخض زبدتكم ، وأشرف على صغيركم وكبيركم ، وعرفكم مقبلين ومدبرين ، وما آل إليه كتابكم قبل كتابكم في مراوضة الباطل وصرف وجوه الحق عن مواضعها ، ونبذكم كتاب الله تعالى والآثار وكلما جاءكم به الصادق محمد صلى الله عليه وآله حتى كأنكم من الأمم السالفة التي هلكت بالخسفة والغرق والريح والصيحة والصواعق والرجم . أفلا يتدبرون القرآن أم على قلوب أقفالها ؟ والذي هو أقرب إلى المأمون من حبل الوريد ! لولا أن يقول قائل : إن المأمون ترك الجواب عجزا لما أجبتكم من سوء أخلاقكم وقلة أخطاركم وركاكة عقولكم ومن سخافة ما تأوون إليه من آرائكم ، فليستمع مستمع ، فليبلغ شاهد غائبا . أما بعد ، فإن الله تعالى بعث محمدا صلى الله عليه وآله على فترة من الرسل وقريش في أنفسها وأموالها لا يرون أحدا يساميهم ولا يباريهم ، فكان نبينا صلى الله عليه وآله أمينا من أوسطهم بيتا وأقلهم مالا ، وكان أول من آمنت به خديجة بنت خويلد ، فواسته بمالها ، ثم آمن به أمير المؤمنين علي بن أبي طالب سبع سنين ، لم يشرك بالله شيئا طرفة عين ، ولم يعبد وثنا ، ولم يأكل ربا ، ولم يشاكل الجاهلية في جهالاتهم ، وكانت عمومة رسول الله صلى الله عليه وآله إما مسلم مهين أو كافر معاند ، إلا حمزة ، فإنه لم يمتنع من الإسلام ولا يمتنع الإسلام منه ، فمضى لسبيله على بينة من ربه . وأما أبو طالب : فإنه كفله ورباه ، ولم يزل مدافعا عنه ومانعا منه ، فلما قبض الله أبا طالب فهم القوم وأجمعوا ليقتلوه ، فهاجر إلى القوم الذين تبوؤا الدار والإيمان من قبلهم ، يحبون من هاجر إليهم ولا يجدون في أنفسهم حاجة مما أوتوا ويؤثرون على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة ومن يوق شح نفسه فأولئك هم المفلحون . فلم يقم مع رسول الله صلى الله عليه وآله أحد من المهاجرين كقيام علي بن أبي طالب عليه السلام فإنه آزره ووقاه بنفسه ونام في مضجعه ، ثم لم يزل بعد متمسكا بأطراف الثغور ، وينازل الأبطال ، ولا ينكل عن قرن ، ولا يولي عن جيش ، منيع القلب ، يؤمر على الجميع ولا يؤمر عليه أحد ، أشد الناس وطأة على المشركين ، وأعظمهم جهادا في الله ، وأفقههم في دين الله وأقرأهم لكتاب الله ، وأعرفهم بالحلال والحرام ، وهو صاحب الولاية في حديث غدير خم ، وصاحب قوله : أنت مني بمنزلة هارون من موسى إلا أنه لا نبي بعدي وصاحب يوم الطائف ، وكان أحب الخلق إلى الله تعالى وإلى رسوله صلى الله عليه وآله ، وصاحب الباب فتح له وسد أبواب المسجد ، وهو صاحب الراية يوم خيبر ، وصاحب عمرو بن عبد ود في المبارزة ، وأخو رسول الله صلى الله عليه وآله حين آخى بين المسلمين . وهو منيع جزيل ، وهو صاحب آية ويطعمون الطعام على حبه مسكينا ويتيما وأسيرا وهو زوج فاطمة سيدة نساء العالمين وسيدة نساء أهل الجنة ، وهو ختن خديجة عليها السلام ، وهو ابن عم رسول الله صلى الله عليه وآله رباه وكفله ، وهو ابن أبي طالب عليه السلام في نصرته وجهاده ، وهو نفس رسول الله صلى الله عليه وآله في يوم المباهلة ، وهو الذي لم يكن أبو بكر وعمر ينفذان حكما حتى يسألانه عنه ، فما رأى إنفاذه أنفذاه وما لم يره رداه ، وهو داخل من بني هاشم في الشورى . ولعمري ! لو قدر أصحابه على دفعه عنه عليه السلام كما دفع العباس › - رضوان الله عليه - ووجدوا إلى ذلك سبيلا لدفعوه . فأما تقديمكم العباس عليه : فإن الله تعالى يقول : أجعلتم سقاية الحاج وعمارة المسجد الحرام كمن آمن بالله واليوم الآخر وجاهد في سبيل الله لا يستوون عند الله والله ! لو كان ما في أمير المؤمنين من المناقب والفضائل والآي المفسرة في القرآن خلة واحدة في رجل واحد من رجالكم أو غيره لكان مستأهلا متأهلا للخلافة مقدما على أصحاب رسول الله بتلك الخلة . ثم لم يزل الأمور تتراقى به إلى أن ولي أمور المسلمين ، فلم يعن بأحد من بني هاشم إلا بعد الله بن عباس تعظيما لحقه وصلة لرحمه وثقة به ، فكان من أمره الذي يغفر الله له . ثم نحن وهم يد واحدة كما زعمتم ، حتى قضى الله تعالى بالأمر إلينا ، فأخفناهم وضيقنا عليهم وقتلناهم أكثر من قتل بني أمية إياهم ! ويحكم ! إن بني أمية إنما قتلوا منهم من سل سيفا ، وإنا معاشر بني العباس قتلناهم جملا ! فتسألن أعظم الهاشمية بأي ذنب قتلت ؟ ولتسألن نفوس ألقيت في دجلة والفرات ونفوس دفنت ببغداد والكوفة أحياء ، هيهات ! إنه من يعمل مثال ذرة خيرا يره ومن يعمل مثقال ذرة شرا يره . وأما ما وصفتم من أمر المخلوع وما كان فيه من لبس فلعمري ! ما لبس عليه أحد غيركم ، إذ هويتم عليه النكث وزينتم له الغدر ، وقلتم له : ما عسى أن يكون من أمر أخيك هو رجل مغرب ومعك الأموال والرجال ، نبعث إليه فيؤتى به ، فكذبتم ودبرتم ونسيتم قول الله تعالى : ومن بغي عليه لينصرنه الله وأما ما ذكرتم من استبصار المأمون في البيعة لأبي الحسن الرضا عليه السلام فما بايع له المأمون إلا مستبصرا في أمره ، عالما بأنه لم يبق أحد على ظهرها أبين فضلا ولا أظهر عفة ولا أورع ورعا ولا أزهد زهدا في الدنيا ولا أطلق نفسا ولا أرضى في الخاصة والعامة ولا أشد في ذات الله منه ، وأن البيعة له لموافقة لرضى الرب عز وجل ، ولقد جهدت وما أجد في الله لومة لإثم . ولعمري ! إن لو كانت بيعتي بيعة محاباة لكان العباس ابني وسائر ولدي أحب إلى قلبي وأجلى في عيني ، ولكن أردت أمرا وأراد الله أمرا ، فلم يسبق أمري أمر الله . وأما ما ذكرتم ما مسكم من الجفاء في ولايتي : فلعمري ! ما كان ذلك إلا منكم بمظافرتكم عليه وممايلتكم إياه ، فلما قتلته وتفرقتم عباديد ، فطورا أتباعا لابن أبي خالد ، وطورا أتباعا لا عرابي ، وطورا أتباعا لابن شكله ، ثم لكل من سل سيفا علي . ولولا أن شيمتي العفو وطبيعتي التجاوز ما تركت على وجهها منكم أحدا ، فكلكم حلال الدم محل بنفسه . وأما ما سألتم من البيعة للعباس ابني : أتستبدلون الذي هو أدنى بالذي هو خير ؟ ويلكم ! إن العباس غلام حدث السن ولم يونس رشده ولم يمهل وحده ولم تحكمه التجارب ، تدبره النساء تكفله الإماء ، ثم لم يتفقه في الدين ، ولم يعرف حلالا من حرام إلا معرفة لا تأتي به رعية ولا تقوم به حجة ، ولو كان مستأهلا قد أحكمته التجارب وتفقه في الدين وبلغ مبلغ أمير العدل في الزهد في الدنيا وصرف النفس عنها ما كان له عندي في الخلافة إلا ما كان لرجل من عك وحمير ، فلا تكثروا في هذا المقال ، فإن لساني لم يزل مخزونا عن أمور وأنباء كراهية أن تخنث النفوس عندما تنكشف ، علما بأن الله بالغ أمره ومظهر قضاه يوما . فإذا أبيتم إلا كشف الغطاء وقشر العظاء ، فالرشيد أخبرني عن آبائه وعما وجد في كتاب الدولة غيرها : أن السابع من ولد العباس لا تقوم لبني العباس بعده قائمة ولا تزال النعمة متعلقة عليهم بحياته ، فإذا أودعت فودعاها ، وإذا فقدتم شخصي فاطلبوا لأنفسكم معقلا ، وهيهات ! ما لكم إلا السيف ! يأتيكم الحسني الثائر البائر فيحصدكم حصدا ، أو السفياني المرغم ، والقائم المهدي يحقن دمائكم إلا بحقها . وأما ما كنت أردته من البيعة لعلي بن موسى بعد استحقاق منه لها في نفسه واختيار مني له : فما كان ذلك مني إلا أن أكون الحاقن لدمائكم والذائد عنكم باستدامته المودة بيننا وبينهم وهي الطريق أسلكها في إكرام آل أبي طالب ومواساتهم في الفيئ بيسير ما يصيبهم منه . وإن تزعموا أني أردت أن يؤول إليهم عاقبة ومنفعة ، فإني في تدبيركم والنظر لكم ولعقبكم وأبنائكم من بعدكم ، وأنتم ساهون لاهون تائهون في غمرة تعمهون ، لا تعلمون ما يراد بكم وما أظللتم عليه من النقمة وابتزاز النعمة ، همة أحدكم أن يمسي مركوبا ويصبح مخمورا ، تباهون بالمعاصي وتبتهجون بها وآلهتكم البرابط ، مخنثون مؤنثون ، لا يتفكر متفكر منكم في إصلاح معيشة ولا استدامة نعمة ولا اصطناع مكرمة ولا كسب حسنة يمد بها عنقه يوم لا ينفع مال ولا بنون إلا من أتى الله بقلب سليم . أضعتم الصلاة ، واتبعتم الشهوات ، وأكببتم على اللذات [ عن النغمات ] ، فسوف تلقون غيا . وأيم الله ! لربما أفكر في أمركم فلا أجد أمة من الأمم استحقوا العذاب حتى نزل بهم لخلة من الخلال إلا أصيب تلك الخلة بعينها فيكم مع خلال كثيرة ، لم أكن أظن أن إبليس اهتدى إليها ولا أمر بالعمل عليها ! وقد أخبر الله تعالى في كتابه العزيز عن قوم صالح أنه كان فيهم تسعة رهط يفسدون في الأرض ولا يصلحون ، فأيكم ليس معه تسعة وتسعون من المفسدين في الأرض ؟ قد اتخذتموهم شعارا ودثارا ، استخفافا بالمعاد وقلة يقين بالحساب ، وأيكم له رأي يتبع وروية تنفع ؟ فشاهت الوجوه وعفرت الخدود ! › وأما ما ذكرتم من العشرة كانت في أبي الحسن عليه السلام نور الله وجهه : فلعمري ! أنها عندي للنهضة والاستقلال الذي أرجو به قطع الصراط والأمن والنجاة من الخوف يوم الفزع الأكبر ، ولا أظن عملت عملا هو عندي أفضل من ذلك إلا أن أعود بمثلها إلى مثله ، وأين لي بذلك ! وأني لكم بتلك السعادة !

وأما قولكم : إني سفهت آراء آبائكم وأحلام أسلافكم : فكذلك قال مشركو قريش : إنا وجدنا آباءنا على أمة وإنا على آثارهم مقتدون ويلكم ! إن الدين لا يؤخذ إلا من الأنبياء ، فافقهوا وما أراكم تعقلون ! وأما تعبيركم إياي بسياسة المجوس إياكم : فما أذهبكم الآنفة عن ذلك ! ولو ساستكم القردة والخنازير ما أردتم إلا أمير المؤمنين ، ولعمري ! لقد كانوا مجوسا فأسلموا كآبائنا وأمهاتنا في القديم ، فهم المجوس الذين أسلموا ، وأنتم المسلمون الذين ارتدوا ، فمجوسي أسلم خير من مسلم ارتد ، فهم يتناهون عن المنكر ، ويأمرون بالمعروف ، ويتقربون من الخير ، ويتباعدون من الشر ، ويذبون عن حرم المسلمين ، يتباهجون بما نال الشرك وأهله من النكر ، ويتباشرون بما نال الإسلام وأهله من الخير منهم من قضى نحبه ومنهم من ينتظر وما بدلوا تبديلا . وليس منكم إلا لاعب بنفسه مأفون في عقله وتدبيره ، إما مغن أو ضارب دف أو زامر ، والله ! لو أن بني أمية الذين قتلتموهم بالأمس نشروا ، فقيل لهم : لا تأنفوا في معائب تنالونهم بها ، لما زادوا على ما صيرتموه لكم شعارا ودثارا وصناعة وأخلاقا . ليس فيكم إلا من إذا مسه الشر جزع وإذا مسه الخير منع ، ولا تأنفون ولا ترجعون إلا خشية ، وكيف يأنف من يبيت مركوبا ويصبح باثمه معجبا ؟ كأنه قد اكتسب حمدا ! غايته بطنه وفرجه ، لا يبالي أن ينال شهوته بقتل ألف نبي مرسل أو ملك مقرب ، أحب الناس إليه من زين له معصيته أو أعانه في فاحشة ، تنظفه المخمورة وتربده المطمورة ، فشتت الأحوال . فإن ارتدعتم مما أنتم فيه من السيئات والفضائح وما تهذرون به عن عذاب ألسنتكم ، وإلا فدونك تعلوا بالحديد . ولا قوة إلا بالله ، وعليه توكلي ، وهو حسبي (

[2])

 


([1])البحار : ج 49 ص 189 - 208 عن عيون أخبار الرضا : ج 2 ص 185 ، والعقد الفريد : ج 5 ص 92 - 110
([2])البحار : ج 49 ص 208 . وراجع قاموس الرجال : ج 10 / 356 . وحياه الإمام الرضا عليه السلام : ص 453 عن الطرائف ( الترجمة الفارسية ) ص 131 نقلا عن كتاب نديم الفريد لابن مسكويه والبحار والقاموس . والينابيع : ص 484 مختصرا . والغدير عن العبقات : ج 1 ص 147