أم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية
تابعية من أهل الكوفة، معروفة بالذكاء والفصاحة والبلاغة. رأت أصحاب النبيّ صلى الله عليه واله وانضمت إلى شيعة عليِّ بن أبي طالب (عليه السلام) وحضرت معه حرب صفّين. وكانت على جمل أرمك وقد احيط حولها حواء، وبيدها سوط منتشر الظفرة، وهي كالفحل تخطب وتحرض الجيوش على القتال، وتدعو الأنصار والمهاجرين على الصبر والمثابرة والجهاد.
اُم الخير بنت الحُريش بن سراقة البارقيّة .
قال ابن طيفور في بلاغات النساء : حدّثني عبدالله بن سعد ، قال : حدّثنا ابراهيم بن عبدالله المقدمي ، قال : أخبرنا محمّد بن الفضل المكي ، قال : أخبرنا ابراهيم بن محمّد الشافعي ، عن خالد بن الوليد المخزومي ، عن سعد بن حذافة الجمحي . وحدّثونيه عن العباس بن بكار ، عن عبيدالله بن عمر الغساني ، عن الشعبي ، قال :
كتبَ معاوية إلى واليه بالكوفة أن أوفد عليّ اُم الخير بنت الحريش بن سراقة البارقية ، رحلة محمود الصحبة غير مذمومة العاقبة ، واعلم أنّي مجازيك بقولها فيك بالخير خيراً وبالشرّ شرّاً .
فلمّا وردَ الكتاب عليه فأقرأها الكتاب ، فقالت اُم الخير : أما أنا فغير زائغة عن طاعة ، ولا معتلة بكذب ، ولقد كنتُ اُحب لقاء أميرالمؤمنين ، لاُمور تختلج في صدري ، تجري مجرى النفس ، يغلي بها غلي المِرجل بحب البُلسُن يُوقد بجزل السَمُرُ
فلمّا حملها وأراد مفارقتها قال : يا اُم الخير إنّ معاوية قد ضمن لي عليه أن يقبل بقولك في الخير خيراً ، وبالشر شراً ، فانظري كيف تكونين .
قالت : يا هذا لا يطمعك والله بِرّك بيّ في تزويقي الباطل ، ولا يؤنسنك معرفتك إياي أن أقول فيك غير الحقّ .
فسارت خير مسير ، فلمّا قدمت على معاوية أنزلها مع الحرم ثلاثاً ، ثم أذن لها في اليوم الرابع ، وجمع لها الناس ، فدخلت عليه فقالت : السّلام عليك يا أميرالمؤمنين
فقال : وعليكِ السّلام ، بالرغم والله منكِ دعوتيني بهذا الإسم .
فقالت : مَه يا هذا ، فإنّ بديهة السلطان مدحضة لما يحب علمه .
قال : صدقتِ يا خالة ، وكيف رأيتِ مسيرك ؟
قالت : لم أزل في عافية وسلامة حتى اُوفدت إلى ملك جزل ، وعطاء بذل ، فأنا في عيش أنيق ، عند ملك رفيق .
فقال معاوية : بحسن نيتي ظفرتُ بكم ، وأعنتُ عليكم .
قالت : مَه يا هذا ، والله من دحض المقال ما تردي عاقبته .
قال : ليس لهذا أردناك .
قالت : إنّما أجري في ميدانك ، إذا أجريت شيئاً أجريته ، فاسأل عمّا بدا لك .
قال : كيف كان كلامك يوم قتل عمّار بن ياسر ؟
قالت : لم أكن والله رويته قبل ، ولا زوّرته بعد ، وإنّما كانت كلمات نفثهنّ لساني حين الصدمة ، فإن شئت أن اُحدّث لك مقالاً غير ذلك فعلت .
قال : لا أشاء ذلك ، ثم التفتَ إلى أصحابه فقال : أيّكم حفظ كلام اُم الخير ؟
قال رجل من القوم : أنا أحفظه يا أميرالمؤمنين كحفظي سورة الحمد .
قال : هاته .
قال : نعم ، كأنّي بها يا أميرالمؤمنين وعليها برد زبيدي
كثيف الحاشية ، وهي على جمل أرمك ، وقد اُحيط حولها ، وبيدها سوط منتشر الضفر ، وهي كالفحل يهدر في شقشقته
، وتقول :
يا أيّها الناس اتّقوا ربكم ، إنّ زلزلة الساعة شيء عظيم ، إنّ الله قد أوضح الحقّ وأبان الدليل ، ونوّر السبيل ، ورفع العلم . فلم يدعكم في عمياء مبهمة ، ولا سوداء مدلهمّة ، فإلى أين تريدون رحمكم الله ، أفراراً عن أميرالمؤمنين ، أم فراراً من الزحف ، أم رغبةً عن الاسلام ، أم ارتداداً عن الحقّ ؟ أما سمعتم الله عزّ وجل يقول : ( ولنبلونّكم حتى نعلم المجاهدين منكم والصابرين ونبلوَ خباركم)
ثم رفعت رأسها إلى السماء وهي تقول :
اللهم قد عِيلَ الصبر ، وضعف اليقين ، وانتشر الرُعب ، وبيدك يا رب أزمة القلوب ، فاجمع الكلمة على التقوى ، وألّف القلوب على الهدى ، واردد الحقّ إلى أهله . هلمّوا رحمكم الله إلى الإمام العادل ، والوصي الوفي ، والصدّيق الأكبر . إنّها إحن بدريّة ، وأحقاد جاهليّة ، وضغائن اُحديّة وثب بها معاوية حين الغفلة ليدرك ثارات بني عبدشمس .
ثم قالت :
فقاتلوا أئمة الكفر إنّهم لا إيمان لهم لعلّهم ينتهون، صبراً يا معاشر المهاجرين والأنصار ، قاتلوا على بصيرة من ربّكم وثبات من دينكم . وكأني بكم غداً قد لقيتم أهل الشام كحمر مستنفرة فرت من قسورة ، لا تدري أين يسلك بها من فجاج الأرض . باعوا الآخرة بالدنيا ، واشتروا الضلالة بالهدى ، وباعوا البصيرة بالعمى ، وعمّا قليل ليصبحنّ نادمين حين تحلّ الندامة فيطلبون الإقالة . إنّه والله مَن ضلّ عن الحقّ وقع في الباطل ، ومَن لم يسكن الجنة نزل النار(.
أيّها الناس إنّ الأكياس استقصروا عمر الدنيا فرفضوها ، واستبطأوا مدّة الآخرة فسعوا لها . والله أيّها الناس لولا أن تبطل الحقوق ، وتعطّل الحدود ، ويظهر الظالمون ، وتقوى كلمة الشيطان ، لما اخترنا ورود المنايا على خفض العيش وطيبه
. فالى أين تريدون رحمكم الله عن ابن عمّ رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم ، وزوج ابنته ، و أبي ابنيه ، خُلق من طينته ، وتفرّع من تبعته ، وخصّه بسرّه ، وجلعه باب مدينته ، وأعلمَ بحبّه المسلمين ، وأبانَ ببغضه المنافين ، فلم يزل كذلك يؤيده الله عزّوجلّ بمعونته ، ويمضي على سنن استقامته ، ولا يعرج لراحة اللذات ، وهو مُفلّق الهام ، ومكسّر الأصنام ، إذ صلّى والناس مشركون ، وأطاع والناس مرتابون . فلم يزل كذلك حتى قتل مبارزي بدر ، وأفنى أهل اُحد ، وفرّق جمع هوازن ، فيالها وقائع زرعت قلوب قوم نفاقاً وردّة وشقاقاً .
وقد اجتهدتُ في القول ، وبالغت في النصيحة ، وبالله التوفيق ، وعليكم السلام ورحمة الله وبركاته
فقال معاوية : والله يا اُم الخير ما أردتِ بهذا إلاّ قتلي ، والله لو قتلتكِ ما حَرِجتُ في ذلك .
قالت : والله ما يسوءني يابن هند أن يجري الله على يدَي من يسعدني الله بشقائه .
قال : هيهات يا كثيرة الفضول ، ما تقولين في عثمان بن عفان ؟
قالت : وما عسيت أن أقول فيه ، استخلفه الناس وهم كارهون ، وقتلوه وهم راضون .
فقال معاوية : يا اُم الخير ، هذا والله أصلك الذي تبنين عليه .
قالت : الله يشهد وكفى بالله شهيداً ما أردت بعثمان نقصاً ، ولقد كان سبّاقاً إلى الخيرات ، وانّه لرفيع الدرجة .
قال : فما تقولين في طلحة بن عبيدالله ؟
قالت : وما عسى أن أقول في طلحة ، اُغتيل من مأمنه ، واُوتي من حيث لم يحذر ، وقد وعده
رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم الجنة .
قال : فما تقولين بالزبير ؟
قالت : يا هذا لا تدعني كرَجيع الصَبيغ يُعركُ في المِركن.
قال : حقاً لتقولين ذلك وقد عزمت عليك .
قالت : وما عسيت أن أقول في الزبير ابن عمّة رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم وحواريه ، وقد شهد له رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم بالجنة ، ولقد كان سبّاقاً إلى كلّ مكرمة في الاسلام ، وإني أسألك بحق الله يا معاوية ، فإنّ قريشاً تحدّث أنّك أحلمها أن تسعني بفضل حلمك ، وأن تعفيني من هذه المسائل .
قال : نعم وكرامة وقد أعفيتك ، وردّها الى بلدها
وروى ذلك أيضاً باختلافٍ يسير في الألفاظ ابن عبدربّه ـ في العقد الفريد ، ضمن الوافدات على معاوية بن أبي سفيان ـ عن عبيدالله بن عمر الغساني ، عن الشعبي.
(أعلام النساء 1/ 389. أعيان الشيعة 3/ 476. بلاغات النساء / 36. الدر المنثور / 57. العقد الفريد 1/ 300، 302. الغدير 3/ 21 و9/ 371 و10/ 299)