طرماح بن عدي بن جبلة
بن عدي بن ربيعة بن معاوية بن الحارث بن معاوية بن ثور بن مرتع بن معاوية بن كندة بن عفير بن عدي بن الحارث بن مرة بن أدد بن زيد بن يشجب...
بعثه أمير المؤمنين (عليه السلام) إلى معاوية. وكان من الموالين المخلصين لأهل البيت (عليهم السلام) لازم السبط الشهيد الحسين (عليه السلام) واشترك في وقعة الطف، وسقط بين القتلى، وكان به رمق فأتاه قومه وحملوه وداووه، فبرىء وعوفي، وبقي على حبه وإخلاصه للعترة الطاهرة إلى أن مات. وهو غير الطرماح بن الحكيم بن نفر بن جحدر الطائي المتوفى نحو 125هـ .
وجاء في بعض المراجع، أنّ الحسين (عليه السلام) لما بلغ (عذيب الهجانات) وهو في طريقه إلى العراق، لقيه أربعة رجال قد أقبلوا من الكوفة لنصرته على رواحلهم ومعهم دليل يقال له الطرماح بن عدي الطائي، فطلب الطرماح إلى الحسين (عليه السلام) أن يذهب معه إلى بلاد قومه ـ وهي المعروفة اليوم ببلاد شمّر ـ حتّى يرى رأيه، وأن ينزل جبلهم (اجأ) وتكفل له بأن ينصره وقومه، فجزّاه الحسين (عليه السلام) وقومه خيراً، وقال له: إنّ بيننا وبين القوم قولاً لا نقدر معه على الانصراف، فإن يدفع الله عنا فقديماً مّا أنعم علينا وكفى، وإن يكن ما لا بد منه ففوز وشهادة إن شاء الله.
وقال الحسين (عليه السلام) لأصحابه: هل فيكم أحد يعرف الطريق على غير الجادة؟ فقال الطرماح: نعم يا ابن رسول الله، أنا اخبر الطريق، قال: فسر بين أيدينا، فسار الطرماح أمهم، وجعل يرتجز ويقول:
يا ناقتي لا تذعري من زجر وامضي بنا قبل طلوع الفجر
بخير فتيان وخير سفر آل رسول الله آل الفخر
السادة البيض الوجوه الزهر الطاعنين بالرماح السمر
ألضاربين بالسيوف البتر حتّى تجلي بكريم النجر
ألماجد الجد الرحيب الصدر أصابه الله بخير أمر
عمّره الله بقاء الدَّهر يا مالك النفع معاً والضر
أيَّد حسيناً سيدي بالنصر على الطغاة من بقايا الكفر
ثم إنّ الطرماح ودع الحسين (عليه السلام) ووعده أن يوصل الميرة لأهله ويعود لنصره، فلما عاد بلغه خبر قتله.
ومن طريف دخوله على معاوية هذا الخبر
في كتاب فتن البحار: عن خط بعض الأفاضل: قال الشيخ الأديب أبو بكر عبدالعزير البستلي بالأسانيد الصحاح: إنّ أميرالمؤمنين (عليه السلام) لما رجع من وقعة الجمل، كتب إِليه معاوية بن أبي سفيان:
بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد الله بن عبد الله معاوية بن أبي سفيان الى علي بن أبي طالب.
أما بعد: فقد اتبعت ما يضرك، وتركت ما ينفعك، وخالفت كتاب اللّه وسنة رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وقد انتهى إِليَّ ما فعلت بحواري رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) طلحة والزبير وأُم المؤمنين عايشة، فواللّه لأرمينك بشهاب لا تطفيه المياه، ولا تزعزعه الرياح، اذا وقع وقب، واذا وقب ثقب، واذا ثقب نقب، واذا نقب التهب، فلا تغرنك الجيوش، واستعد للحرب فإنّي ملاقيك بجنود لا قبل لك بها والسلام.
فلما وصل الكتاب الى أميرالمؤمنين (عليه السلام)، فكه وقرأه، ودعي بدواة وقرطاس، وكتب اليه:
بسم اللّه الرحمن الرحيم: من عبد الله وابن عبده علي بن أبي طالب، أخي رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، وابن عمه، ووصيه، ومغسِّله ومكفنه، وقاضي دينه، وزوج ابنته البتول، وأبي سبطيه الحسن والحسين، الى معاوية بن أبي سفيان.
أما بعد: فإنّي أفنيت قومك يوم بدر، وقتلت عمك وخالك وجدك، والسيف الذي قتلتهم به معي، يحمله ساعدي بثبات من صدري، وقوة من بدني، ونصرة من ربي، كما جعله النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) في كفي، واللّه ما اخترت على اللّه رباً، ولا على الإِسلام ديناً، ولا على محمد (صلى الله عليه وآله وسلم) نبياً، ولا على السيف بدلاً، فبالغ من رأيك فاجتهد ولا تقصر فقد استحوذ عليك الشيطان، واستفزك الجهل والطغيان، ﴿ وسيعلم الذين ظلموا أي منقلب ينقلبون ﴾ والسلام على من اتبع الهدى، وخشي عواقب الردى.
ثم طوى الكتاب وختمه، ودعى رجلاً من أصحابه يقال له الطرماح بن عدي ، وكان رجلاً جسيماً، طويلاً، أديباً، لبيباً، فصيحاً، لسناً متكلماً، لا يكل لسانه، ولا يَعِي عن الجواب، فعممه بعمامة، ودعى له بجمل بازل، وشيق فائق أحمر، فقوى راحلته، ووجهه الى دمشق، فقال له: ياطرماح إِنطلق بكتابي هذا الى معاوية بن أبي سفيان، وخذ الجواب، فأخذ الطرماح الكتاب وكور عمامته، وركب مطيته، وانطلق حتى دخل دمشق، فسأل عن دار العمارة، فلما وصل الى الباب قال له الحجاب: من يعنيك؟ قال: أريد أصحاب الأمير اولاً، ثم الأمير ثانياً.
فقالوا له: من تريد منهم، قال: أُريد جعشماً، وجرولاً، ومجاشعاً، وباقعاً، وكان أراد أبا الأعور السلمي، وأبا هريرة الدوسي، وعمرو بن العاص ومروان بن الحكم.
فقالوا: هم بباب الخضراء، يتنـزهون في بستان، فانطلق وسار حتى أشرف على ذلك الموضع، فإِذا قوم ببابه، فقالوا: جاءَنا اعرابي بدوي دوين الى السماء.
فقالوا: نستهزئ به، فلما وقف عليهم، قالوا يااعرابي: هل عندك من السماء خبر؟
فقال: بلى اللّه تعالى في السماء، وملك الموت في الهواء وأميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) في القفاء، فاستعدوا لما ينـزل عليكم من البلاء يا أهل الشقاوة والشقاء.
قالوا: من أين اقبلت.
قال: من عند حرّ تقي، نقي زكي، مؤمن رضي مرضي.
فقالوا: وأي شيء تريد؟
فقال: أريد هذا الدعي الردي، المنافق المردي الذي تزعمون إِنه أميركم، فعلموا إنّه رسول أميرالمؤمنين علي (عليه السلام) الى معاوية.
فقالوا: هو في هذا الوقت مشغول، قال: بماذا بوعد أو وعيد؟
قالوا: لا؛ ولكنه يشاور أصحابه فيما يلتقيه غداً.
قال: فسحقاً له وبعداً، فكتبوا الى معاوية بخبره، أما بعد، فقد ورد من عند علي بن أبي طالب (عليه السلام) رجل اعرابي بدوي فصيح، لسن طلق ذلق، يتكلم فلا يكل، ويطيل فلا يمل، فاعدّ لكلامه جواباً بالغاً، ولا تكن عنه غافلاً ولا ساهياً والسلام.
فلمّا علم الطرماح بذلك، أناخ راحلته، ونزل عنها وعقلها وجلس مع القوم الذين يتحدثون، فلما بلغ الخبر الى معاوية أمر ابنه يزيد أن يخرج ويضرب المصاف على باب داره، فخرج يزيد وكان على وجهه أثر ضربة، فإِذا تكلم كان جهور الصوت، فأمر بضرب المصاف ففعلوا ذلك، وقالوا للطرماح: هل لك أن تدخل على باب أميرالمؤمنين؟
فقال: لهذا جئت وبذلك أُمرت، فقام اليه ومشى، فلما رأى أصحاب المصاف وعليهم ثياب سود، قال: من هؤلاء القوم كأنّهم زبانية المالك على ضيق المسالك، فلمّا دنى من يزيد نظر اليه فقال: مَن هذا الميشوم بن الميشوم الواسع الحلقوم المضروب على الخرطوم؟
فقالوا: مه يا اعرابي ابن الملك يزيد.
فقال: ومن يزيد، ومن أبوه، كانا قدماً غائصين في بحر الجلافة، واليوم استويا على سرير الخلافة، فسمع ذلك واستشاط وهمّ بقتله غضباً، ثم كره أن يحدث دون إِذن أبيه فلم يقتله خوفاً منه، وكظم غيظه وخبأ ناره وسلّم عليه. فقال: يا اعرابي إنّ أميرالمؤمنين يقرأ عليك السلام، فقال: سلامه معي من الكوفة، فقال يزيد: سلني عمّا شئت، فقد أمرني أميرالمؤمنين بقضاء حاجتك؟
فقال: حاجتي اليه أن يقوم من مقامه حتى يجلس من هو أولى منه بهذا الامر.
قال: فماذا تريد آنفاً؟
قال: الدخول عليه، فأمر برفع الحجاب وأَدخله الى معاوية وصواحبه، فلما دخل الطرماح وهو منتعل، قالوا له: إِخلع نعليك، فالتفت يميناً وشمالا، ثم قال: أهذا رب الوادي المقدس: فأَخلع نعلي، فنظر فاذا هو معاوية قاعد على السرير مع قواعده وخاصته ومثّل بين يديه خدمه، فقال: السلام عليك أيها الملك العاصي، فقرب إِليه عمرو بن العاص فقال: ويحك يا اعرابي، ما منعك أن تدعوه بأميرالمؤمنين؟
فقال الاعرابي: ثكلتك أُمك، نحن المؤمنون، فمن أَمّرَهُ علينا بالخلافة؟
فقال معاوية: مامعك يا اعرابي؟
فقال: كتاب مختوم، من إمام معصوم.
فقال: ناولينه، قال: أكره أن أطأ بساطك، قال ناوله وزيري هذا وأشار الى عمرو بن العاص، فقال: هيهات هيهات ظلم الامير وخان الوزير، فقال: ناوله ولدي هذا وأَشار الى يزيد، فقال: ما نرضى بابليس، فكيف بأَولاده، فقال: ناوله مملوكي هذا وأشار الى غلام له قائم على رأسه، فقال الاعرابي: مملوك اشتريته من غير حل وتستعمله في غير حق، قال: ويحك يااعرابي، فما الحيلة، وكيف نأخذ الكتاب؟
فقال الاعرابي: أن تقوم من مقامك وتأخذه بيدك على غير كره منك، فإنّه كتاب رجل كريم، وسيد عليم، وحبر حليم، بالمؤمنين رؤوف رحيم.
فلما سمع منه معاوية هذا، وثب من مكانه وأخذ منه الكتاب بغضب وفكّه وقرأه ووضعه تحت ركبتيه، ثم قال: كيف خلفت أبا الحسن والحسين.
قال: خلفته بحمد اللّه كالبدر الطالع، حواليه اصحابه كالنجوم الثواقب اللوامع، اذا أَمرهم بأمر ابتدروا إِليه، وإِذا نهاهم عن شيء لم يتجاسروا عليه، وهو من بأسه يا معاوية في تجلد، بطل شجاع، سيد سميدع، إن لقى جيشاً هزمه وأَرداه، وإن لقى قرناً سلبه وافناه، وإن لقى عدواً قتله وجزاه.
قال معاوية: وكيف خلفت الحسن والحسين؟
قال: خلفتهما بحمد اللّه شابين تقيين نقيين زكيين عفيفين صحيحين سيدين طيبين فاضلين عاقلين عالمين مصلحين في الدنيا والآخرة.
فسكت معاوية ساعة فقال: ما افصحك يا اعرابي؟
قال: لو بلغت باب أميرالمؤمنين (عليه السلام) لوجدت الأُدباء الفصحاء البلغاء الفقهاء النجباء الاتقياء الاصفياء، ولرأيت رجالاً سيماهم في وجوههم من أثر السجود، حتى إِذا استعرت نار الوغى قذفوا بأنفسهم في تلك الشعل لابسين القلوب على مدارعهم، قائمين ليلهم، صائمين نهارهم، لا تأخذهم في اللّه ولا في ولي اللّه علي (عليه السلام) لومة لائم، فاذا أنت يا معاوية رأيتهم على هذه الحال غرقت في بحر عميق لا تنجو من لجَّته.
فقال عمرو بن العاص لمعاوية سرّاً: هذا رجل اعرابي بدوي لو أرضيته بالمال لتكلم فيك بخير.
فقال معاوية: يا اعرابي ما تقول في الجائزة أتاخذها مني أم لا؟
قال: بل آخذها، فواللّه أنا أُريد استقباض روحك من جسدك، فكيف باستقباض مالك من خزائنك.
فأَمر له بعشرة آلاف درهم، ثم قال: أتحب أن أُزيدك؟
قال: فإنّك لا تعطيه من مال أبيك، وإنّ اللّه تعالى وليّ مَن يزيد.
قال: اعطوه عشرين الفاً، قال الطرماح: اجعلها وتراً، فإنّ اللّه هو الوتر ويحب الوتر.
قال: اعطوه ثلاثين ألفاً، فمدّ الطرماح بصره الى إِيراده فأَبطأ عليه ساعة،
فقال: يا ملك تستهزئ بي على فراشك؟
فقال: لماذا يااعرابي؟
قال: إنّك أمرت لي بجائزة لا أراها ولا تراها، فإنّها بمنـزلة الريح التي تهبّ من قلل الجبال فأُحضر المال وَوُضِعَ بين يدي الطرماح، فلما قبض المال، سكت ولم يتكلم بشيء.
قال عمرو بن العاص: يا اعرابي: كيف ترى جائزة أميرالمؤمنين؟
فقال الاعرابي: هذا مال المسلمين من خزانة رب العالمين، أخذه عبد من عباد اللّه الصالحين، فالتفت معاوية الى كاتبه فقال: اكتب جوابه فواللّه لقد اظلمت الدنيا عليَّ، وما لي طاقة، فأَخذ الكاتب القرطاس، فكتب:
بسم اللّه الرحمن الرحيم، من عبد اللّه وابن عبده معاوية بن أبي سفيان الى علي بن أبي طالب، أما بعد: فإنّي اوجه إِليك جنداً من جنود الشام مقدمته بالكوفة وساقته بساحل البحر، ولأَرمينّك بألف حمل من خردل، تحت كل خردلة ألف مقاتل، فإنّ أطفأت نار الفتنة وسلّمت الينا قتلة عثمان، إِالاّ فلا تقل غال ابن ابي سفيان، ولا يغرنك شجاعة أهل العراق واتفاقهم، فإنّ اتفاقهم ومثلهم كمثل الحمار الناهق، يميلون مع كل ناعق والسلام.
فلما نظر الطرماح الى ما يخرج تحت قلمه قال: سبحان اللّه، لا أدري ايكما اكذب، أنت بادعائك، أم كاتبك فيما كتب، لو اجتمع أهل الشرق والغرب من الجن والإِنس لم يقدروا به، فنظر معاوية فقال: واللّه لقد كتب غير أمري.
فقال: إن كنت لم تأمره فقد استضعفك، وإن كنت أمرته فقد استفضحك أو قال إن كتب من تلقاء نفسه فقد خانك، وإن أمرته بذلك فانتما خائنان كاذبان في الدنيا والآخرة.
ثم قال الطرماح: يا معاوية اظنك تهدّد البطّ بالشطّ؟
فدع الوعيد فما وعيدك ضائر |
|
اطنين اجنحة الذباب يضير |
واللّه إنّ لاميرالمؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام) لديكا عَلِيِ الصوت، عظيم المنقار، يلتقط الجيش بخيشومه، ويصرفه الى قانصته، ويحطه الى حوصلته.
فقال معاوية: واللّه كذلك هو مالك بن اشتر النخعي، ثم قال ارجع بسلام مني.
(وفي رواية أُخرى) خذ المال والكتاب وانصرف فجزاك اللّه عن صاحبك خيراً، فأَخذ الطرماح الكتاب وحمل المال وخرج من عنده وركب مطيته وسار.
ثم التفت معاوية الى أصحابه فقال: لو اعطيت جميع ما أملك لرجل منكم لم يؤدِّ عني عشر عُشَير ما أدّى إِليَ هذا الاعرابي من صاحبه.
فقال عمرو بن العاص: لو أنّ لك قرابة كقرابة أميرالمؤمنين علي بن ابي طالب (عليه السلام)، وكان معك الحق كما هو معه، لأَدّينا عنكَ أفضلُ من ذلك أضعافاً مضاعفة.
فقال معاوية: مه فض الله فاك وقطع شفتيك، واللّه لكلامك عليَّ اشدُ من كلام الاعرابي، ولقد ضاقت عليَّ الدنيا بحذافيرها انتهى(البحار:33/298،باب 20 نوادر الاحتجاج على معاوية.).
(إتقان المقال /197. الاشتقاق /386. أعيان الشيعة 7/396. أنساب الأشراف 3/172. تاريخ الطبري 6/230. تحفة الأحباب /151. تنقيح المقال 2/109. جامع الرواة 1/421. جمهرة أنساب العرب/403. خزانة الأدب 3/418. رجال ابن داود /112. رجال الطوسي /46. سفينة البحار 2/82. شرح ابن أبي الحديد 5/23. الغدير 2/178. قاموس الرجال 5/161. الكامل في التاريخ 4/49 ـ 50. الكنى والألقاب 3/290. اللباب 2/160. مجمع الرجال 3/229. معجم الثقات /289. معجم رجال الحديث 9/161. منتهى المقال /169. مجالس المؤمنين 1/298. نقد الرجال /175.)