طلحة والزبير ينكثان البيعة
يفران من عدل الامام علي عليه السلام
*- ذكر أبو جعفر الإسكافي في كتابه الذي نقض فيه كتاب للجاحظ،: لما اجتمعت الصحابة في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد قتل عثمان للنظر في أمر الإمامة، أشار أبو الهيثم بن التيهان ورفاعة بن رافع ومالك بن العجلان وأبو أيوب الأنصاري وعمار بن ياسر بعلي عليه السلام، وذكروا فضله وسابقته وجهاده وقرابته، فأجابهم الناس إليه، فقام كل واحد منهم خطيباً يذكر فضل علي عليه السلام فمنهم من فضله على أهل عصره خاصة، ومنهم من فضله على المسلمين كلهم كافة. ثم بويع وصعد المنبرفي اليوم الثاني من يوم البيعة، وهويوم السبت، لإحدى عشرة ليلة بقين من ذي الحجة، فحمد الله وأثنى عليه، وذكر محمداً فصلى عليه، ثم ذكر نعمة الله على أهل الإسلام، ثم ذكر الدنيا، فزهدهم فيها، وذكر الآخرة فرغبهم إليها، ثم قال:
"أما بعد: فإنه لما قبض رسول الله صلى الله عليه وسلم استخلف الناس أبا بكر، ثم استخلف أبوبكر عمر، فعمل بطريقه، ثم جعلها شورى بين ستة، فأفضى الأمر منهم إلى عثمان، فعمل ما أنكرتم وعرفتم، ثم حصر وقتل، ثم جئتموني طائعين فطلبتم إلي وإنما أنا رجل منكم، لي ما لكم، وعلي ما عليكم، وقد فتح الله الباب بينكم وبين أهل القبلة، وأقبلت الفتن كقطع الليل المظلم، ولا يحمل هذا الأمر إلا أهل الصبر والبصر والعلم بمواقع الأمر، وإني حاملكم على منهج نبيكم صلى الله عليه واله وسلم، ومنفذ فيكم ماأمرت به إن استقمتم لي. وبالله المستعان. ألا إن موضعي من رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد وفاته كموضعي منه أيام حياته، فامضوا لما تؤمرون به، وقفوا عند ما تنهون عنه، ولا تعجلوا في أمر حتى نبينه لكم فإن لنا عن كل أمر تنكرونه عذراً. ألاوإن الله عالم من فوق سمائه وعرشه أني كنت كارهاً للولاية على أمة محمد حتى اجتمع رأيكم على ذلك، لأني سمعت رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يقول: "أيما وال ولي الأمر من بعدي، أقيم على حد الصراط ونشرت الملائكة صحيفته فإن كان عادلاً أنجاه الله بعدله، وإن كان جائراً انتفض به الصراط حتى تتزايل مفاصله، ثم يهوي إلى النار فيكون أول ما يتقيها به أنفه وحر وجهه، ولكني لما اجتمع رأيكم لم يسعني ترككم.
ثم التفت عليه السلام يميناً وشمالاً، فقال: ألا لا يقولن رجال منكم غداً قد غمرتهم الدنيا فاتخذوا العقار، وفجروا الأنهار، وركبوا الخيول الفارهة ، واتخذوا الوصائف الروقة فصار ذلك عليهم عاراً وشناراً إذا ما منعتهم ما كانوا يخوضون فيه، وأصرتهم إلى حقوقهم التي يعلمون، فينقمون ذلك، ويستنكرون ويقولون: حرمنا ابن أبي طالب حقوقنا ألا وأيما رجل من المهاجرين والأنصار من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم يرى أن الفضل له على من سواه لصحبته، فإن الفضل النيرغداً عند الله، وثوابه وأجره على الله، وأيما رجل استجاب لله وللرسول، فصدق ملتنا، ودخل في ديننا، واستقبل قبلتنا فقد استوجب حقوق الإسلام وحدوده فأنتم عباد الله، والمال مال الله، يقسم بينكم بالسوية، لا فضل فيه لأحد على أحد، وللمتقين عند الله غداً أحسن الجزاء، وأفضل الثواب لم يجعل الله الدنيا للمتقين أجراً ولا ثواباً، وما عند الله خير للأبرار.
وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر إذا كان مسلماً حراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم نزل.
وإذا كان غداً إن شاء الله فاغدوا علينا، فإن عندنا مالاً نقسمه فيكم، ولا يتخلفن أحد منكم عربي ولا عجمي، كان من أهل العطاء أو لم يكن إلا حضر إذا كان مسلماً حراً. أقول قولي هذا وأستغفر الله لي ولكم. ثم نزل.
قال أبو جعفر: وكان هذا أول ما أنكروه من كلامه عليه السلام ، وأورثهم الضغن عليه وكرهوا إعطاءه وقسمه بالسوية. فلما كان من الغد، غداً وغدا الناس لقبض المال فقال لعبيد الله بن أبي رافع كاتبه: أبداً بالمهاجرين فنادهم، وأعط كل رجل ممن حضر ثلاثة دنانيرثم ثن بالأنصار فافعل معهم مثل ذلك ومن يحضر من الناس كلهم الأحمر والأسود فاصنع به مثل ذلك.
فقال سهل بن حنيف: يا أمير المؤمنين، هذا غلامي بالأمس وقد أعتقته اليوم فقال: نعطيه كما نعطيك، فأعطى كل واحد منهما ثلاثة دنانير ولم يفضل أحداً على أحد وتخلف عن هذا القسم يومئذ طلحة والزبيروعبد الله بن عمر وسعيد بن العاص ومروان بن الحكم ورجال من قريش وغيرها.
قال: وسمع عبيد الله بن أبي رافع عبد الله بن الزبيريقول لأبيه وطلحة ومروان وسعيد: ما خفي علينا أمس من كلام علي ما يريد فقال سعيد بن العاص والتفت إلى زيد بن ثابت: إياك أعني واسمعي يا جارة فقال عبيد الله بن أبي رافع لسعيد وعبد الله بن الزبير: إن الله يقول في كتابه: "ولكن أكثرهم للحق كارهون".
ثم إن عبيد الله بن أبي رافع أخبرعلياً عليه السلام بذلك، فقال: والله إن بقيت وسلمت لهم لأقيمنهم على المحجة البيضاء، والطريق الواضح، قاتل الله ابن العاص! لقد عرف من كلامي ونظري إليه أمس أني أريده وأصحابه ممن هلك فيمن هلك.
قال: فبينا الناس في المسجد بعد الصبح إذ طلع الزبيروطلحة، فجلسا ناحية عن علي عليه السلام ، ثم طلع مروان وسعيد وعبد الله بن الزبير فجلسوا إليهما، ثم جاء قوم من قريش فانضموا إليهم، فتحدثوا نجياً ساعة ثم قام الوليد بن عقبة بن أبي معيط، فجاء إلى علي عليه السلام فقال: يا أبا الحسن إنك قد وترتنا جميعاً أما أنا فقتلت أبي يوم بدر صبراً، وخذلت أخي يوم الدار بالأمس وأما سعيد فقتلت أباه يوم بدر في الحرب وكان ثور قريش وأما مروان فسخفت أباه عند عثمان إذ ضمه إليه ونحن إخوتك ونظراؤك من بني عبد مناف، ونحن نبايعك اليوم على أن تضع عنا ما أصبناه من المال في أيام عثمان، وأن تقتل قتلته وإنا إن خفناك تركناك فالتحقنا بالشام.
فقال: أما ما ذكرتم من وتري إياكم فالحق وتركم، وأما وضعي عنكم ما أصبتم فليس لي أن أضع حق الله عنكم ولا عن غيركم، وأما قتلي قتلة عثمان فلو لزمني قتلهم اليوم لقتلتهم أمس ولكن لكم علي إن خفتموني أن أؤمنكم لان خفتكم أن أسيركم.
فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم، وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف فلما ظهر ذلك من أمرهم، قال عمار بن ياسر لأصحابه: قوموا بنا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف، والطعن على إمامهم وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق يعني طلحة
فقام الوليد إلى أصحابه فحدثهم، وافترقوا على إظهار العداوة وإشاعة الخلاف فلما ظهر ذلك من أمرهم، قال عمار بن ياسر لأصحابه: قوموا بنا إلى هؤلاء النفر من إخوانكم فإنه قد بلغنا عنهم ورأينا منهم ما نكره من الخلاف، والطعن على إمامهم وقد دخل أهل الجفاء بينهم وبين الزبير والأعسر العاق يعني طلحة
فقام أبو الهيثم وعمار وأبو أيوب وسهل بن حنيف وجماعة معهم، فدخلوا على علي عليه السلام ، فقالوا: يا أمير المؤمنين، انظر في أمرك، وعاتب قومك، هذا الحي من قريش فإنهم قد نقضوا عهدك، وأخلفوا وعدك، وقد دعونا في السر إلى رفضك، هداك الله لرشدك! وذاك لأنهم كرهوا الأسوة، وفقدوا الأثرة، ولما آسيت بينهم وبين الأعاجم أنكروا واستشاروا عدوك عظموه، وأظهروا الطلب بدم عثمان فرقة للجماعة، وتألفاً لأهل الضلالة. فرأيك! فخرج علي عليه السلام ، فدخل المسجد، وصعد المنبرمرتدياً بطاق، مؤتزراً ببرد قطري، متقلداً سيفاً، متوكئاً على قوس، فقال:
أما بعد، فإنا نحمد الله ربنا وإلهنا وولينا، وولي النعم علينا، الذي أصبحت نعمه علينا ظاهرة وباطنة، امتناناً منه بغيرحول منا ولا قوة، ليبلونا أنشكر أم نكفر فمن شكر زاده ومن كفر عذبه فأفضل الناس عند الله منزلة، وأقربهم من الله وسيلة، أطوعهم لأمره، وأعلمهم بطاعته وأتبعهم لسنة رسوله، وأحياهم لكتابه ليس لأحد عندنا فضل إلا بطاعة الله وطاعة الرسول. هذا كتاب الله بين أظهرنا، وعهد رسول الله وسيرته فينا، لا يجهل ذلك إلا جاهل عاند عن الحق منكر، قال تعالى: "يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوباً وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم".
ثم صاح بأعلى صوته: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن توليتم فإن الله لا يحب الكافرين.
ثم صاح بأعلى صوته: أطيعوا الله وأطيعوا الرسول، فإن توليتم فإن الله لا يحب الكافرين.
ثم قال: يا معشر المهاجرين والأنصار: أتمنون على الله ورسوله بإسلامكم، بل الله يمن عليكم أن هداكم للإيمان إن كنتم صادقين.
ثم قال: أنا أبو الحسن وكان يقولها إذا غضب ثم قال:
"ألا إن هذه الدنيا التي أصبحتم تمنونها وترغبون فيها، وأصبحت تغضبكم وترضيكم، ليست بداركم ولا منزلكم الذي خلقتم له فلا تغرنكم فقد حذرتكموها، واستتموا نعم الله عليكم بالصبرلأنفسكم على طاعة الله، والذل لحكمه جل ثناؤه، فأما هذا الفيء فليس لأحد على أحد فيه أثرة، وقد فرغ الله من قسمته، فهو مال الله، وأنتم عباد الله المسلمون، وهذا كتاب الله به أقررنا وله أسلمنا، وعهد نبينا بين أظهرنا، فمن لم يرض به فليتول كيف شاء، فإن العامل بطاعة الله والحاكم بحكم الله لا وحشة عليه.
ثم نزل عن المنبر، فصلى ركعتين، ثم بعث بعمار بن ياسر، وعبد الرحمن بن حسل القرشي إلى طلحة والزبير، وهما في ناحية المسجد، فأتياهما فدعواهما، فقاما حتى جلسا إليه عليه السلام ، فقال لهما:
نشدتكما الله، هل جئتماني طائعين للبيعة، ودعوتماني إليها، وأنا كاره لها!
قالا: نعم،
فقال: غيرمجبرين ولا مقسورين، فأسلمتما لي بيعتكما وأعطيتماني عهدكما!
قالا: نعم، قال: فما دعاكما بعد إلى ما أرى
قالا: أعطيناك بيعتنا على ألا تقضي الأمور ولا تقطعها دوننا وأن تستشيرنا في كل أمر ولا تستبد بذلك علينا، ولنا من الفضل على غيرنا ما قد علمت فأنت تقسم القسم وتقطع الأمر، وتمضي الحكم بغيرمشاورتنا ولاعلمنا.
فقال: لقد نقمتما يسيراً وأرجأتما كثيراً فاستغفرا الله يغفر لكما. ألا تخبرانني، أدفعتكما عن حق وجب لكما فظلمتكما إياه؟
قالا: معاذ الله!
قال: فهل استأثرت من هذا المال لنفسي بشيء؟
قالا: معاذ الله!
قال: أفوقع حكم أو حق لأحد من المسلمين فجهلته أو ضعفت عنه
قالا: معاذ الله!
قال: فما الذي كرهتما من أمري حتى رأيتما خلافي؟
قالا: خلافك عمر بن الحطاب في القسم أنك جعلت حقنا في القسم كحق غيرنا، وسويت بيننا وبين من لا يماثلنا فيما أفاء الله تعالى علينا بأسيافنا ورماحنا، وأوجفنا عليه بخيلنا ورجلنا، وظهرت عليه دعوتنا، وأخذناه قسراً قهراً، ممن لا يرى الإسلام إلا كرهاً.
فقال: فأنا ما ذكرتماه من الاستشارة بكما فوالله ما كانت لي في الولاية رغبة ولكنكم دعوتموني إليها، وجعلتموني عليها فخفت أن أردكم فتختلف الأمة، فلما أفضت إلي نظرت في كتاب الله وسنة رسوله فأمضيت ما دلاني عليه واتبعته، ولم أحتج إلى آرائكما فيه ولا رأي غيركما، ولو وقع حكم ليس في كتاب الله بيانه ولا في السنة برهانه، واحتيج إلى المشاورة فيه لشاورتكما فيه وأما القسم والأسوة فإن ذلك أمر لم أحكم فيه بادىء بدء! قد وجدت أنا وأنتما رسول الله صلى الله عليه واله وسلم يحكم بذلك، وكتاب الله ناطق به، وهو الكتاب الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد. وأما قولكما: جعلت فيئنا وما أفاءته سيوفنا ورماحنا، سواء بيننا وبين غيرنا، فقديماً سبق إلى الإسلام قوم ونصروه بسيوفهم ورماحهم، فلم يفضلهم رسول الله صلى الله عليه واله وسلم في القسم، ولا آثرهم بالسبق، والله سبحانه موف السابق والمجاهد يوم القيامة أعمالهم، وليس لكما والله عندي ولا لغيركما إلا هذا. أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلى الحق، وألهمنا وإياكم الصبر.
ثم قال: رحم الله امرأ رأى حقاً فأعان عليه، ورأى جوراً فرده، وكان عوناً للحق على من خالفه.
قال أبو جعفر: وقد روي أنهما قالا له وقت البيعة: نبايعك على أنا شركاؤك في هذا الأمر،
فقال لهما: لا، ولكنكما شريكاي في الفيء، لا أستأثر عليكما ولا على عبد حبشي مجدع بدرهم فما دونه، لا أنا ولا ولداي هذان، فإن أبيتما إلا لفظ الشركة، فأنتما عونان لي عند العجز والفاقة، لا عند القوة والاستقامة.
قال أبوجعفر فاشترطا ما لا يجوز في عقد الأمانة، وشرط عليه السلام لهما ما يجب في الدين والشريعة.
قال رحمه الله تعالى: وقد روي أيضاً أن الزبيرقال في ملأ من الناس: هذا جزاؤنا من علي! قمنا له في أمر عثمان حتى قتل، فلما بلغ بنا ما أراد جعل فوقنا من كنا فوقه.
وقال طلحة: ما اللوم إلا علينا، كنا معه أهل الشورى ثلاثة، فكرهه أحدنا يعني سعداً وبايعناه، فأعطيناه ما في أيدينا، ومنعنا ما في يده، فأصبحنا قد أخطأنا اليوم ما رجوناه أمس، ولا نرجو غداً ما أخطأنا اليوم.
فإن قلت: فإن أبا بكر قسم بالسواء، كما قسمه أمير المؤمنين عليه السلام ، ولم ينكروا ذلك، كما أنكروه أيام أمير المؤمنين، فما الفرق بين الحالتين؟
*ـ : ذكروا أنّ الزبير وطلحةأتيا عليّاً ـ بعد فراغ البيعة ـ فقالا : هل تدرى علي ما بايعناك يا أمير المؤمنين؟
قال علىّ : نعم ، علي السمع والطاعة ، وعلي ما بايعتم عليه أبابكر وعمر وعثمان .
فقالا : لا ، ولكنّا بايعناك علي أنّا شريكاك فى الأمر .
قال علىّ : لا ، ولكنّكما شريكان فى القول والاستقامة والعون عليالعجز والأوَد .
*ـ لمّا قال طلحة والزبيرلامير المؤمنين عليه السلام : نبايعك عليأنّا شركاؤك فى هذا الأمر ، قال ـ : لا ولكنّكما شريكان فى القوّة والاستعانة ،وعونان علي العجز والأوَد .
*- أتاه عليه السلام طلحة والزبير فقالا : إنّه قد نالتنا بعد رسول الله جَفْوة،فأشرِكنا فى أمرك !
فقال : أنتما شريكاى فى القوّة والاستقامة ، وعوناى علي العجزوالأوَد .
*ـقال ابن قتيبة : كان الزبير لا يشكّ فىولاية العراق ، وطلحة فى
اليمن ، فلمّا استبان لهما أنّ عليّاً غير مولّيهما شيئاً ، أظهراالشكاة ; فتكلّم الزبير فى ملأ من قريش ، فقال : هذا جزاؤنا من علىّ ! قمنا له فىأمر عثمان ، حتي أثبتنا عليه الذنب ، وسبّبنا له القتل ، وهو جالس فى بيته وكفىالأمر . فلمّا نال بنا ما أراد ، جعل دوننا غيرنا .
فقال طلحة : ما اللوم إلاّ أنّا كنّا ثلاثة من أهل الشوري ، كرههأحدنا وبايعناه ، وأعطيناه ما فى أيدينا ، ومنعَنا ما فى يده ; فأصبحنا قد أخطأناما رجونا .
قال : فانتهي قولهما إلي علىّ ، فدعا عبد الله بن عبّاس وكاناستوزره ، فقال له : بلغك قول هذين الرجلين ؟ قال : نعم ، بلغنى قولهما . قال : فماتري ؟ قال : أري أنّهما أحبّا الولاية ; فولِّ البصرة الزبير ، وولِّ طلحة الكوفة ; فإنّهما ليسا بأقرب إليك من الوليد وابن عامر من عثمان . فضحك علىّ ، ثمّ قال : ويحك ، إنّ العراقَين بهما الرجال والأموال ، ومتي تملّكا رقاب الناس يستميلاالسفيه بالطمع ، ويضربا الضعيف بالبلاء ، ويقوَيا علي القوىّ بالسلطان ، ولو كنتمستعملاً أحداً لِضُرّهِ ونفعه لاستعملت معاوية علي الشام ، ولولا ما ظهر لى منحرصهما علي الولاية ، لكان لى فيهما رأى .
*ـمن كلام للامام علي عليه السلام كلّم به طلحة والزبيربعد بيعته بالخلافة ، وقد عتبا عليه من ترك مشورتهما والاستعانة فى الاُمور بهما ـ : لقد نقمتما يسيراً ، وأرجأتما كثيراً . أ لا تُخبرانى ، أىّ شىء كان لكما فيه حقّدفعتكما عنه ؟ أم أىّ قَسْم استأثرت عليكما به ؟ أم أىّ حقّ رفعه إلىّ أحد منالمسلمين ضعفت عنه ، أم جهلته ، أم أخطأت بابه ؟والله ، ما كانت لى فى الخلافة رغبة ، ولا فى الولايةإرْبة، ولكنّكم دعوتمونى إليها ،وحملتمونى عليها ، فلمّا أفضَت إلىّ نظرت إلي كتاب الله وما وضع لنا ، وأمرنابالحكم به فاتّبعتُه ، وما استنّ النبىّ فاقتديتُه ، فلم أحتج فى ذلك إلي رأيكما ، ولا رأىغيركما ، ولا وقع حكم جهلته فأستشيركما وإخوانى من المسلمين ، ولو كان ذلك لم أرغبعنكما ، ولا عن غيركما .
وأمّا ما ذكرتما من أمر الاُسوة ; فإنّ ذلك أمر لم أحكم أنا فيهبرأيى ، ولا وَلِيْته هويً منّى ، بل وجدت أنا وأنتما ما جاء به رسول الله قد فرغ منه ، فلم أحتجإليكما فيما قد فرغ الله من قَسْمه ، وأمضي فيه حكمه ، فليس لكما ـ والله ـ عندىولا لغيركما فى هذا عُتْبي . أخذ الله بقلوبنا وقلوبكم إلي الحقّ ، وألهمنا وإيّاكم الصبر .
ثمّ قال : رحم الله رجلاً رأي حقّاً فأعان عليه ، أو رأي جوراً فردّه ،وكان عوناً بالحقّ علي صاحبه .
خروج طلحة والزبير إلي مكّة
*ـلمّا دخلا [ طلحة والزبير ] عليهقالا : يا أمير المؤمنين ! قد جئناك نستأذنك للخروج فى العمرة ، فلم يأذن لهما .
فقالا : نحن بعيدو العهد بها ، ائذن لنا فيها .
فقال لهما : والله ، ما تريدان العمرة ، ولكنّكما تريدان الغدرة ! وإنّما تريدان البصرة !
فقالا : اللهمّ غفراً ، ما نريد إلاّ العمرة .
فقال لهما : احلفا لى بالله العظيم أنّكما لا تفسدان علىَّ اُمور المسلمين ،ولا تنكثان لى بيعة ، ولا تسعيان فى فتنة . فبذلا ألسنتهما بالأيمان الوكيدة فيمااستحلفهما عليه من ذلك .
فلمّا خرجا من عنده لقيهما ابن عبّاس فقال لهما : فأَذن لكما أميرالمؤمنين ؟ قالا : نعم .
فدخل علي أمير المؤمنين فابتدأه وقال : يابن عبّاس ، أ عندك خبر ؟
فقال : قد رأيت طلحة والزبير .
فقال له : إنّهما استأذنانى فى العمرة ، فأذنت لهما بعد أناستوثقت منهما بالأيمان أن لا يغدرا ولا ينكثا ولا يُحدثا فساداً ، والله يا بنعبّاس ما قصدا إلاّالفتنة ، فكأنّى بهما وقد صارا إلي مكّة ليستعينا علي حربى ; فإنّيعلي بن منية الخائن الفاجر قد حمل أموال العراق وفارس لينفق ذلك ، وسيُفسد هذانالرجلان علىَّ أمرى ، ويسفكان دماء شيعتى وأنصارى .
فقال عبد الله بن عبّاس : إذا كان عندك الأمر كذلك فَلِمَ أذنتَلهما ؟ وهلاّ حبستهما وأوثقتهما بالحديد ، وكفيت المسلمين شرّهما !
فقال له : يابن عبّاس ! أ تأمرنى أن أبدأ بالظلم ، وبالسيّئة قبل الحسنة ،واُعاقب علي الظنّة والتُّهمَة ، وآخذ بالفعل قبل كونه ؟ كلاّ ! والله لا عدلت عمّاأخذ الله علىَّ من الحكم بالعدل ، ولا القول بالفصل .
*ـ عن بكر بن عيسي : إنّ عليّاً أخذ عليهما العهدوالميثاق أعظم ما أخذه علي أحد من خلقه ألاّ يخالفا ولا ينكثا ، ولا يتوجّها وجهاًغير العمرة حتي يرجعا إليه ، فأعطياه ذلك من أنفسهما ، ثمّ أذن لهما فخرجا .
الاستعانة بعائشة
*ـأنساب الأشراف عن صالح بن كيسان وأبى مخنف : قالوا : قدم طلحةوالزبير علي عائشة ، فدعواها إلي الخروج ، فقالت : أ تأمرانى أناُقاتل ؟
فقالا : لا ، ولكن تُعلمين الناس أنّ عثمان قُتل مظلوماً ،وتدعيهم إلي أن يجعلوا الأمر شوري بين المسلمين ; فيكونوا علي الحالة التى تركهمعليها عمر بن الخطّاب ، وتُصلحين بينهم .
*ـقا ل ابن الاعثم خرج الزبير وطلحة إلي مكّة ، وخرجمعهما عبد الله بن عامر بن كريز وهو ابن خال عثمان ، فجعل يقول لهما : أبشرا ! فقدنلتما حاجتكما ، والله لأمدّنّكما بمائة ألف سيف .
قال : وقدموا مكّة وبها يومئذ عائشة ، وحرّضوها علي الطلب بدمعثمان ، وكان معها جماعة من بنى اُميّة ، فلمّا علمت بقدوم طلحة والزبير فرحت بذلكواستبشرت ، وعزمت علي ما أرادت من أمرها .
*ـ ولمّا عرف طلحة والزبير من حالها [أىعائشة] وحال القوم عمِلا علي اللحاق بها والتعاضد علي شقاق أمير المؤمنين ، فاستأذناه فى العمرة . . . وسارا إلي مكّة خالعَين الطاعة ، ومفارقَين الجماعة .
فلمّا وردا إليها فيمن تبعهما من أولادهما وخاصّتهما وخالصتهماطافا بالبيت طواف العمرة ، وسعيا بين الصفا والمروة ، وبعثا إلي عائشة عبد الله بنالزبير وقالا له : امضِ إلي خالتك ، فاهدِ إليها السلام منّا وقل لها : إنّ طلحةوالزبير يُقرئانك السلام ويقولان لك : إنّ أمير المؤمنين عثمان قتل مظلوماً ، وإنّعلىّ بن أبى طالب ابتزّ الناس أمرهم ، وغلبهم عليه بالسفهاء الذين تولّوا قتل عثمان،ونحن نخاف انتشار الأمر به ; فإن رأيت أن تسيرى معنا لعلّ اللهيرتق بك فتق هذه الاُمّة ، ويشعب بك صدعهم ، ويلمّ بك شعثهم، ويُصلح بك اُمورهم .
فأتاها عبد الله ، فبلّغها ما أرسلاه به ، فأظهرت الامتناع منإجابتهما إلي الخروج عن مكّة ، وقالت : يا بنىّ ، لم آمر بالخروج ، لكنّى رجعت إليمكّة لاُعلم الناس ما فُعل بعثمان إمامهم ، وأنّه أعطاهم التوبة ، فقتلوه تقيّاًنقيّاً بريّاً ، ويرون فى ذلك رأيهم ، ويُشيرون إلي من ابتزّهم أمرهم ، وغصبهم منغير مشورة من المسلمين ولا مؤامرة ، بتكبّر وتجبّر ، ويظنّ أنّ الناس يرون له حقّاًكما كانوا يرونه لغيره .
هيهات هيهات ! يظنّ ابن أبى طالب يكون فى هذا الأمر كابن أبىقحافة ، لا والله ، ومن فى الناس مثل ابن أبى قحافة ؟ تخضع إليه الرقاب ، ويُلقيإليه المَقاد ، ولِيَها والله ابن أبى قحافة فخرج منها كما دخل ، ثمّ وليها أخو بنىعدىّ ، فسلك طريقه ، ثمّ مضيا فوليها ابن عفّان ; فركبها رجل له سابقة ومصاهرةبرسول الله ،وأفعال مع النبىّ مذكورة ، لا يعمل أحد من الصحابة مثل ما عمله فى ذات الله ، وكان محبّاً لقومه ،فمال بعض الميل ، فاستتبناه فتاب ثمّ قُتل ، فيحقّ للمسلمين أن يطلبوا بدمه .
فقال لها عبد الله : فإذا كان هذا قولك فى علىّ يا اُمّهْ ، ورأيكفى قاتلى عثمان ، فما الذى يُقعدكِ عن المساعدة علي جهاد علىّ بن أبى طالب وقدحضركِ من المسلمين من فيه غنيً وكفاية فيما تريدين ؟
فقالت : يا بنىّ اُفكّر فيما قلت وتعود إلىّ .
فرجع عبد الله إلي طلحة والزبير بالخبر ، فقالا له : قد أجابتاُمّنا والحمد لله إلي ما نريد ، ثمّ قالا له : باكِرْها فى الغد ، فذكِّرها أمرالمسلمين ، وأعلِمها أنّا قاصدان إليها لنجدّد بها عهداً ، ونحكم معها عقداً ،فباكرَها عبد الله ، وأعاد عليها بعض ما أسلفه من القول إليها ، فاجابت إلي الخروجونادي مناديها : إنّ اُمّ المؤمنين تريد أن تخرج تطلب بدم عثمان ، فمن كان يريد أنيخرج فليتهيّأ للخروج معها .
وصار إليها طلحة ، فلمّا بصرت به قالت له : يا أبا محمّد قتلتعثمان وبايعت عليّاً ؟ فقال لها : يا اُمّهْ ، ما مثلي إلاّ كما قال الأوّل :
ندمتُ ندامة الكُسَعىّلمّا
|
رأت عيناه ما صنعتيداهُ
|
وجاءها الزبير فسلّم عليها ، فقالت له : يا أبا عبد الله ! شركتفى دم عثمان ، ثمّ بايعت عليّاً ، وأنت والله أحقّ منه بالأمر ؟
فقال لها الزبير : أمّا ما صنعت مع عثمان فقد ندمت منه وهربت إليربّى من ذنبى فى ذلك ، ولن أترك الطلب بدم عثمان . والله ما بايعت عليّاً إلاّمكرَها ، التفّ به السفهاء من أهل مصر والعراق ، وسلّوا سيوفهم وأخافوا الناس حتيبايعوه .
وصار إلي مكّة عبد الله بن أبى ربيعة ـ وكان عامل عثمان علي صنعاءـ فدخلها وقد انكسر فخذه ، وكان سبب ذلك ما رواه الواقدى عن رجاله : أنّه لما
اتّصل بابن أبى ربيعة حصر الناس لعثمان أقبل سريعاً لنصرته ،فلقيه صفوان بن اُميّة ، وهو علي فرس يجرى وعبد الله بن أبى ربيعة علي بغلة ، فدنامنها الفرس ، فحادت فطرحت ابن أبى ربيعة وكسرت فخذه ، وعرف أنّ الناس قد قتلواعثمان ، فصار إلي مكّة بعد الظهر ، فوجد عائشة يومئذ بها تدعو إلي الخروج للطلب بدمعثمان ، فأمر بسرير فوضع له سرير فى المسجد ، ثمّ حُمل ووُضع عليه وقال للناس : منخرج للطلب بدم عثمان فعلىّ جهازه ، فجهّز ناساً كثيراً ، فحملهم ولم يستطع الخروجمعهم لما كان برجله .
العزم على محاربة الامام علي عليه السلام والمسير الى البصرة
*ـقال ابن قتيبة : قال الزبير : الشام بهاالرجال والأموال ، وعليها معاوية ، وهو ابن عمّ الرجل ، ومتي نجتمع يولِّنا عليه .
وقال عبد الله بن عامر : البصرة ; فإن غلبتم عليّاً فلكم الشام ،وإن غلبكم علىٌّ كان معاوية لكم جُنّة ، وهذه كتب أهل البصرة إلىّ .
فقال يعلي بن منيةـوكان داهياً ـ : أيّها الشيخان ! قدِّرا قبل أن ترحلا أنّ معاوية قد سبقكم إليالشام وفيها الجماعة ، وأنتم تقدمون عليه غداً فى فرقة ، وهو ابن عمّ عثمان دونكم ; أ رأيتم إن دفعكم عن الشام ، أو قال : أجعلها شوري ، ما أنتم صانعون ؟ أ تقاتلونهأم تجعلونها شوري فتخرجا منها ؟ وأقبح من ذلك أن تأتيا رجلاً فى يديه أمر قد سبقكماإليه ، وتريدا أن تخرجاه منه .
فقال القوم : فإلي أين ؟
قال : إلي البصرة .
*ـشاوروا فى المسير فقال الزبير : عليكم بالشام ! فيها الرجال والأموال ، وبها معاوية ; وهو عدوّ لعلىّ .
فقال الوليد بن عُقْبة : لا والله ما فى أيديكم من الشام قليل ولاكثير ! وذلك أنّ عثمان بن عفّان قد كان استعان بمعاوية لينصره وقد حوصر ، فلم يفعلوتربّص حتي قُتل ، لذلك يتخلّص له الشام ، أ فتطمع أن يُسلّمهاإليكم ؟ مهلاً عن ذكر الشام وعليكم بغيرها .
*قال الطبرى : ثمّ ظهرا ـ يعنى طلحةوالزبير ـ إلي مكّة بعد قتل عثمان بأربعة أشهر وابن عامر بها يجرّ الدنيا ، وقدميعلي بن اُميّة معه بمال كثير ، وزيادة علي أربعمائة بعير ، فاجتمعوا فى بيت عائشة، فأرادوا الرأى ، فقالوا : نسير إلي علىّ فنقاتله .
فقال بعضهم : ليس لكم طاقة بأهل المدينة ، ولكنّا نسير حتي ندخلالبصرة والكوفة ، ولطلحة بالكوفة شيعة وهوي ، وللزبير بالبصرة هوي ومعونة .
فاجتمع رأيهم علي أن يسيروا إلي البصرة وإلي الكوفة . فأعطاهم عبدالله بن عامر مالاً كثيراً وإبلاً ، فخرجوا فى سبعمائة رجل من أهل المدينة ومكّة ،ولحقهم الناس حتي كانوا ثلاثة آلاف رجل .