نكث الزبير وطلحة لبيعة الامام علي عليه السلام
قال امير المؤمنين عليه السلام يصف الزبير: يزعم أنه قد بايع بيده ولم يبايع بقلبه، فقد أقر بالبيعة، وادعى الوليجة. فليأت عليها بأمرٍ يعرف، وإلا فليدخل فيما خرج منه.
قال ابن ابي الحديد : كان الزبير يقول: بايعت بيدي لا بقلبي، وكان يدعي تارة أنه أكره، ويدعي تارة أنه ورى في البيعة تورية، ونوى دخيلة، وأتى بمعاريض على ظاهرها، فقال عليه السلام: هذا الكلام إقرار منه بالبيعة وادعاء أمر آخر لم يقم عليه دليلاً، ولم ينصب له برهاناً، فإما أن يقيم دليلاً على فساد البيعة الظاهرة، وأنها غير لازمة له، وإما أن يعاود طاعته.
قال علي عليه السلام للزبير يوم بايعه: إني لخائف أن تغدر بي وتنكث بيعتي، قال: لا تخافن، فإن ذلك لا يكون مني أبداً، فقال عليه السلام: فلي الله عليك بذلك راعٍ وكفيل. قال: نعم، الله لك علي بذلك راعٍ وكفيل.
خديعة معاوية لهما
لما بويع علي عليه السلام كتب إلى معاوية: أما بعد، فإن الناس قتلوا عثمان عن غير مشورة مني، وبايعوني عن مشورة منهم واجتماع، فإذا أتاك كتابي فبايع لي، وأوفد إلي أشراف أهل الشام قبلك.
فلما قدم رسوله على معاوية، وقرأ كتابه، بعث رجلاً من بني عميس، وكتب معه كتاباً إلى الزبير بن العوام، وفيه: بسم الله الرحمن الرحيم.. لعبد الله الزبير أمير المؤمنين من معاوية بن أبي سفيان: سلام عليك، أما بعد، فإني قد بايعت لك أهل الشام، فأجابوا واستوسقوا كما يستوسق الجلب ، فدونك الكوفة والبصرة، لا يسبقك إليها ابن أبي طالب، فإنه لا شيء بعد هذين المصرين، وقد بايعت لطلحة بن عبيد الله من بعدك، فأظهرا الطلب بدم عثمان، وادعوا الناس إلى ذلك، وليكن منكما الجد والتشمير، أظفركما الله، وخذل مناوئكما! فلما وصل هذا الكتاب إلى الزبير سر به، وأعمل به طلحة وأقرأه إياه، فلم يشكا في النصح لهما من قبل معاوية، وأجمعا عند ذلك على خلاف علي عليه السلام.
جاء الزبير وطلحة إلى علي عليه السلام بعد البيعة بأيام، فقالا له: يا أمير المؤمنين، قد رأيت ما كنا فيه من الجفوة في ولاية عثمان كلها، وعلمت رأي عثمان كان في بني أمية، وقد ولاك الله الخلافة من بعده، فولنا بعض أعمالك، فقال لهما: ارضيا بقسم الله لكما، حتى أرى رأيي، واعلما أني لا أشرك في أمانتي إلا من أرضى بدينه وأمانته من أصحابي، ومن قد عرفت دخيلته، فانصرفا عنه وقد دخلهما اليأس، فاستأذناه في العمرة.
طلب طلحة والزبير من علي عليه السلام أن يوليهما المصرين: البصرة والكوفة، فقال: حتى أنظر. ثم استشار المغيرة بن شعبة، فقال له: أرى أن توليهما إلى أن يستقيم لك أمر الناس. فخلا بابن عباس، وقال: ما ترى؟ قال: يا أمير المؤمنين، إن الكوفة والبصرة عين الخلافة، وبهما كنوز الرجال، ومكان طلحة والزبير من الإسلام ما قد علمت، ولست آمنهما إن وليتهما أن يحدثا أمراً. فأخذ علي عليه السلام برأي ابن عباس. وقد كان استشار المغيرة أيضاً في أمر معاوية، فقال له: أرى إقراره على الشام، وأن تبعث إليه بعهده إلى أن يسكن شغب الناس. ولك بعد رأيك. فلم يأخذ برأيه.
فقال المغيرة بعد ذلك: والله ما نصحته قبلها، ولا أنصحه بعدها ما بقيت.
الخروج الى مكة
دخل الزبير وطلحة على علي عليه السلام، فاستأذناه في العمرة، فقال: ما العمرة تريدان؛ فحلفا له بالله أنهما ما يريدان غير العمرة، فقال لهما: ما العمرة تريدان، وإنما تريدان الغدرة ونكث البيعة؛ فحلفا بالله ما الخلاف عليه ولا نكث بيعةٍ يريدان، وما رأيهما غير العمرة. قال لهما: فأعيدا البيعة لي ثانية، فأعاداها بأشد ما يكون من الإيمان والمواثيق، فأذن لهما، فلما خرجا من عنده، قال لمن كان حاضراً: والله لا ترونهما إلا في فتنة يقتتلان فيها. قالوا: يا أمير المؤمنين، فمر بردهما عليك، قال: ليقضي الله أمراً كان مفعولاً.
لما خرج الزبير وطلحة من المدينة إلى مكة لم يلقيا أحداً إلا وقالا له: ليس لعلي في أعناقنا بيعة، وإنما بايعناه مكرهين.
فبلغ علياً عليه السلام قولهما، فقال: أبعدهما الله وأغرب دارهما! أما والله لقد علمت أنهما سيقتلان أنفسهما أخبث مقتلٍ، ويأتيان من وردا عليه بأشأم يوم، والله ما العمرة يريدان، ولقد أتياني بوجهي فاجرين، ورجعا بوجهي غادرين ناكثين، والله لا يلقيانني بعد اليوم إلا في كتيبة خشناء ، يقتلان فيهما أنفسهما، فبعداً لهما وسحقاً!
خطبة الامام علي عليه السلام في هذه المرحلة
وذكر أبو مخنف في كتاب الجمل، أن علياً عليه السلام خطب لما سار الزبير وطلحة من مكة ومعهما عائشة يريدون البصرة، فقال: أيها الناس، إن عائشة سارت إلى البصرة، ومعها طلحة والزبير، وكل منهما يرى الأمر له دون صاحبه، أما طلحة فابن عمها، وأما الزبير فختنها ، والله لو ظفروا بما أرادوا - ولن ينالوا ذلك أبداً - ليضربن أحدهما عنق صاحبه بعد تنازع منهما شديد. والله إن راكبة الجمل الأحمر ما تقطع عقبة ولا تحل عقدة إلا في معصية الله وسخطه، حتى تورد نفسها ومن معها موارد الهلكة، أي والله ليقتلن ثلثهم، وليهربن ثلثهم، وإنها التي تنبحها كلاب الحوأب ، وإنهما ليعلمان أنهما مخطئان. ورب عالمٍ قتله جهله، ومعه علمه لا ينفعه، وحسبنا الله ونعم الوكيل! فقد قامت الفتنة فيها الفئة الباغية، أين المحتسبون؟ أين المؤمنون؟ مالي ولقريش! أما والله لقد قتلتهم كافرين، ولأقتلهم مفتونين! وما لنا إلى عائشة من ذنب إلا أنا أدخلناها في حيزنا. والله لأبقرن الباطل، حتى يظهر الحق من خاصرته، فقل لقريش فلتضج ضجيجها. ثم نزل.
اللقاء في البصرة
برز علي عليه السلام يوم الجمل، ونادى بالزبير: يا عبد الله، مراراً، فخرج الزبير، فتقاربا حتى اختلفت أعناق خيلهما، فقال له علي عليه السلام: إنما دعوتك لأذكرك حديثاً قاله لي ولك رسول الله صلى الله عليه وسلم، أتذكر يوم رآك وأنت معتنقي، فقال لك: " أتحبه "؟ قلت: وما لي لا أحبه وهو اخي وابن خالي! فقال: " أما إنك ستحاربه وأنت ظالم له ". فاسترجع الزبير، وقال: أذكرتني ما أنسانيه الدهر، ورجع إلى صفوفه. فقال له عبد الله ابنه، لقد رجعت إلينا بغير الوجه الذي فارقتنا به! فقال: أذكرني علي حديثاً أنسانيه الدهر فلا أحاربه أبداً، وإني لراجع وتارككم منذ اليوم. فقال له عبد الله: ما أراك إلا جبنت عن سيوف بني عبد المطلب، إنها لسيوف حداد، تحملها فتية أنجاد؛ فقال الزبير: ويلك! أتهيجني على حربه! أما إني قد حلفت ألا أحاربه، قال: كفر عن يمينك؛ لا تتحدث نساء قريش أنك جبنت، وما كنت جباناً، فقال الزبير: غلامي مكحول حر كفارة عن يميني، ثم أنصل سنان رمحه، وحمل على عسكر علي عليه السلام برمح لا سنان له، فقال علي عليه السلام: أفرجوا له، فإنه محرج، ثم عاد إلى أصحابه، ثم حمل ثانية، ثم ثالثة، ثم قال لابنه: أجبناً ويلك ترى! فقال: لقد أعذرت.
لما أذكر علي عليه السلام الزبير بما أذكره به ورجع الزبير، قال:
لما أذكر علي عليه السلام الزبير بما أذكره به ورجع الزبير، قال:
نادى علي بأمر لسـت أنـكـره
|
|
وكان عمر أبيك الخير مذحـين
|
فقلت حسبك من عذلٍ أبا حسـنٍ
|
|
بعض الذي قلت منذ اليوم يكفيني
|
ترك الأمور التي تخشى مغبتهـا
|
|
والله أمثل في الدنيا وفي الـدين
|
فاخترت عاراً على نارٍ مؤجـجة
|
|
أنى يقوم لها خلق من الطـين!
|
بئست الكفارة
*- لما اراد الزبير الرجوع عن الحرب بعد ان حاججه امير المؤمنين عليه السلام لقيه عبدالله ابنه فقال : جبنا جبنا ؟ ! فقال : يا بني قد علم الناس أني لست بحبان ولكن ذكرني علي شيئا سمعته من رسول الله ( صلى الله عليه وآله ) فحلفت أن لا أقاتله .فقال : دونك غلامك فلان اعتقه كفارة ليمينك .
وفي ذلك قال همام الثقفي :
أيعتق مكحولا ويعصى نبيه * لقد تاه عن قصد الهدى ثم عوق
لشتان ما بين الضلالة والهدى * وشتان من يعصى الاله ويعتق
و قالت عائشة : لا والله بل خفت سيوف ابن أبي طالب أما إنها طوال حداد تحملها سواعد أنجاد ولئن خفتها فلقد خافها الرجال من قبلك .فرجع إلى القتال فقيل لامير المؤمنين ( عليه السلام ) إنه قد رجع فقال : دعوه فإن الشيخ محمول عليه
الزبير لا يقتلني
*- لما خرج علي عليه السلام لطلب الزبر خرج حاسراً، وخرج إليه الزبير دارعاً مدججاً، فقال علي عليه السلام : يا أبا عبد الله، قد لعمري أعددت سلاحاً، وحبذا فهل أعددت عند الله عذراً؟ فقال الزبير: إن مردنا إلى الله، قال علي عليه السلام: " يومئذٍ يوفيهم الله دينهم الحق ويعلمون أن الله هو الحق المبين " ، ثم أذكره الخبر، فلما كر الزبير راجعاً إلى أصحابه نادماً واجماً، رجع علي عليه السلام إلى أصحابه جذلاً مسروراً، فقال له أصحابه: يا أمير المؤمنين، تبرز إلى الزبير حاسراً، وهو شاكٍ في السلاح، وأن تعرف شجاعته! قال: إنه ليس بقاتلي، إنما يقتلني رجل خامل الذكر، ضئيل النسب، غيلةً في غير مأقط حرب، ولا معركة رجال، ويلمه أشقى البشر! ليودن أن أمه هبلت به! أما إنه وأحمر ثمود لمقرونان في قرن.
*- لمارجع الزبير من مواجهة امير المؤمنين عليه السلام إلى عائشة فقالت : ما وراءك يا أبا عبدالله ؟ فقال الزبير : والله ورائي إني ما وقفت موقفا في شرك ولا إسلام إلا ولي فيه بصيرة وأنا اليوم على شك من أمري وما أكاد أبصر موضع قدمي .ثم شق الصفوف وخرج من بينهم ونزل على قوم من بني تميم .
قتل الزبير بن عوام
*- لما انصرف الزبير عن حرب علي عليه السلام مر بوادي السباع، والأحنف بن قيس هناك في جمع من بني تميم قد اعتزل الفريقين، فأخبر الأحنف بمرور الزبير، فقال رافعاً صوته: ما أصنع بالزبير! لف غارين من المسلمين، حتى إذا أخذت السيوف منهما مأخذها، انسل وتركهم. أما إنه لخليق بالقتل، قتله الله! فاتبعه عمرو بن جرموزٍ - وكان فاتكاً - فلما قرب منه وقف الزبير، وقال: ما شأنك؟ قال: جئت لأسألك عن أمر الناس، قال الزبير: إني تركتهم قياماً في الركب، يضرب بعضهم وجه بعض بالسيف. فسار ابن جرموز معه، وكل واحد منهما يتقي الآخر. فلما حضرت الصلاة، قال الزبير: يا هذا، إنا نريد أن نصلي.
فقال ابن جرموز: وأنا أريد ذلك، فقال الزبير: فتؤمني وأؤمنك؟ قال: نعم، فثنى الزبير رجله، وأخذ وضوءه. فلما قام إلى الصلاة شد ابن جرموز عليه فقتله، وأخذ رأسه وخاتمه وسيفه، وحثا عليه التراب يسيراً، ورجع إلى الأحنف، فأخبره، فقال: والله ما أدري أسات أم أحسنت؟ اذهب إلى علي عليه السلام فأخبره، فجاء إلى علي عليه السلام، فقال للآذن: قل له: عمرو بن جرموز بالباب ومعه رأس الزبير وسيفه، فأدخله. وفي كثير من الروايات أنه لم يأت بالرأس بالسيف، فقال له: وأنت قتلته؟ قال: نعم، قال: والله ما كان ابن صفية جباناً ولا لئيماً، ولكن الحين ومصارع السوء، ثم قال: ناولني سيفه، فناوله فهزه، وقال: سيف طالما جلى به الكرب عن وجه رسول الله صلى الله عليه وسلم. فقال ابن جرموز: الجائزة يا أمير المؤمنين، فقال: أما إني سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: " بشر قاتل ابن صفية بالنار "، فخرج ابن جرموز خائباً، وقال :
أتـيت عـلـياً بـــرأس الـــزبـــير
|
|
أبـغـي بـه عـنـدي الــزلـــفـــه
|
فبـشـر بـالـنـار يوم الـحـــســـاب
|
|
فبـئسـت بـشـارة ذي الـتـحــفـــه
|
فقلت له إن قتل الزبير
|
|
لولا رضاك من الكلفه
|
فإن ترض ذاك فمنك الرضا
|
|
وإلا فـدونـك لــي حـــلـــفـــه
|
ورب الـمـحـلـين والـمـحــرمـــين
|
|
ورب الـجــمـــاعة والألـــفـــه
|
لسـيان عـنـدي قـتــل الـــزبـــير
|
|
وضـرطة عـنـزٍ بـذيالـجـحـفـــه
|
ثم خرج ابن الجرموز على علي عليه السلام، مع أهل النهر، فقتله معهم فيمن قتل.
*ـعن مروان بن الحكم : هرب الزبيرفارّاً إلي المدينة حتي أتي وادى السباع ، فرفع الأحنف صوته وقال : ما أصنع بالزبير ! قد لفّ بين غارينمنالناس حتي قتل بعضهم بعضاً ، ثمّ هو يريد اللحاق بأهله .
فسمع ذلك ابن جرموز ، فخرج فى طلبه واتّبعه رجل من مجاشع حتيلحقاه ، فلمّا رآهما الزبير حذّرهما .
فقالا : يا حوارىّ رسول الله ، أنت فى ذمّتنا لا يصل إليك أحد ،وسايره ابن جرموز ، فبينا هو يسايره ويستأخر ، والزبير يفارقه ، قال : يا أبا عبدالله ، انزع درعك فاجعلها علي فرسك فإنّها تثقلك وتُعييك ، فنزعها الزبير وجعل عمروبن جرموز ينكص ويتأخّر ، والزبير يناديه أن يلحقه وهو يجرى بفرسه ، ثمّ ينحاز عنهحتي اطمأنّ إليه ولم ينكر تأخّره عنه ، فحمل عليه وطعنه بين كتفيه فأخرج السنان منثدييه ، ونزل فاحتزّ رأسه وجاء به إلي الأحنف ، فأنفذه إلي أمير المؤمنين .
فلمّا رأي رأس الزبير وسيفه قال : ناولنى السيف ، فناوله ، فهزّهوقال :
سيف طالما قاتل به بين يدى رسول الله ولكنّ الحين ومصارعالسوء !
ثمّ تفرّس فى وجه الزبير وقال :
لقد كان لك برسول الله صحبة ومنه قرابة ، ولكنّ الشيطان دخل منخريك ، فأوردكهذا المورد !