العتبة العلوية المقدسة - زينب في عاصمة أبيها -
» سيرة الإمام » » اولاد الامام علي عليه السلام » سيرة الامام الحسين عليه السلام » الامام الحسين باقلام اعلام الامة » زينب في عاصمة أبيها

 

زينب في عاصمة أبيها

 

 

 

لسماحة السيد: هبة الدين الحسيني الشهرستاني

 

إن كان أبو حفص أول من إختط الكوفة للجند والمؤنه فأبو الحسن أول من مصرها وعمرها ومدنها.. وأتخذها عاصمة الحكومة. فصارت في عصره مشهد القضاء والخطابة ومعهد العلم والعبادة وكانت ابنته زينب التي امتازت بأجل حسب وأشرف نسب وأكمل نفس وأطهر قلب. أميرة الكوفة حينما كان أبوها أمير المؤمنين. ويعزز مجدها أخوتها الأمجاد، وزوجها عبد الله بن جعفر سيد الأجواد الذي إشتهر بالجود حتى انه اقرض شخصاً واحداً وهو الزبير ألف ألف درهم ثم وهب الصك لأبن الزبير وبيت زينب في الكوفة ملجأ الفقراء والأمراء. حتى كان أبوها يضيف عندها أحياناً.

 

فإلى مثل هذا البلد. وإلى مقرِّ عزها وعاصمة أبيها تسبى زينب الخطوب وعقيلة بني هاشم وتدخلها بجملة ربات الخدور من آل الرسول. وحولها يتامى وذراري أبيها على محامل غير مجللة بالغطاء وهن لا يملكن من السواتر إلاّ الحياء يسوقهن الجيش المنتصر كالإماء واهل الكوفة في عبره وعبر من هذا المشهد الغريب. يضجون ويعجون مما جرى على عترة الرسول وفيهم من يناولون الأطفال بعض الخبز والتمر، رأفة ورحمة.

 

فحري بالحرة الهاشمية سليلة الرسول أن تصرخ بهم وتقول:

 

( إن الصدقة محرمة علينا أهل البيت) ولنساء الأزقة والسطوح باكيات على هذه الحالة وما حلت بآل الرسول.

 

هذه زينب بنت أمير المؤمنين، علي بن أبي طالب (عليه السلام )، شقيقة الحسين وأميرة الكوفة في عهد أبيها وسيدة الطف في نهضة أخيها.

 

هذه زينب ، هي التي قامت في خلال هذا السفر الخطير، تدير ضيافة الرجال، وحوائج الأطفال وتستعرض أحوال القتال وكل ذلك بنشاط وحزم لا يعرفان الكلل والملل وهي التي قامت بأعمال يعجز عنها الرجال، وهاهي تشاطر الحسين في تحمل الكوارث وآلام الحوادث.

 

لقد حولت قلبها الرقيق طوعاً للظروف إلى قلب صلد، وتجلدت حين رأت مصارع أخيها وأهلها بمشهد منها ورأت رؤوسهم مرفوعة على القنا وما فعل اللئام في رض صدورهم بارجل الخيل إلى غير ذلك من مصائب ومصاعب، لا تطيق رؤيتها الأجانب فكيف بأقرب الأقارب.

 

إلاّ أن بنت علي ووريثه الحسين تحملت جميع هذه المصائب وما يتبعها من المصاعب ونابت عن أخيها في إنجاز مهمته وإبلاغ حجته في تحمل الخطوب وإلقاء الخطب ومكابدة الآلام من كربلا إلى الكوفة ومن الكوفة إلى الشام ومن الشام إلى المدينة قائمة بوظيفته محافظة على أسرار نهضته ناشرة لدعوته. روى الجاحظ عن خزيمة الأسدي حيث قال (دخلت الكوفة فصادفت منصرف علي بن الحسين بالذرية، من كربلا إلى إبن زياد ورأيت نساء الكوفة يومئذ قياماً يندبن متهتكات الجيوب وسمعت علي بن الحسين وهو يقول بصوت ضئيل وقد نحل من شدة المرض (( يا أهل الكوفة إنكم تبكون علينا فمن قتلنا غيركم)) ورأيت زينب بنت علي (عليها السلام) فلم أرَ والله خفرة أنطق منها بياناً كأنما تفرغ عن لسان أبيها أمير المؤمنين فأومأت على الناس أن اسكتوا، فسكتت الأنفاس وهدأت الأجراس، فقالت (( الحمد لله والصلاة على أبي رسول الله وعلى آله الطيبين الأخيار، أما بعد، يا أهل الكوفة ! يا أهل الختر والخذل !! فلا رقأت العبرة ولا هدأت الرنة… إنما مثلكم كمثل التي نقضت غزلها من بعد قوة أنكاثا تتخذون إيمانكم دخلاً بينكم، ألا وهل فيكم إلاّ الصلف والشنف وملق الأماء وغمز الأعداء وهل أنتم إلاّ كمرعى على دمنه، وكغضة على ملحودة، ألا ساء ما قدمت أنفسكم أن سخط الله عليكم وفي العذاب أنتم خالدون…

 

أتبكون..!! أي والله فأبكوا… وإنكم والله أحرياء بالبكاء فأبكوا كثيراً وأضحكوا قليلاً… فلقد فزتم بعارها وشنارها. ولن ترخصوها بغسل بعدها أبدا.. وأنى ترخصون قتل سليل خاتم النبوة.. ومعدن الرسالة.. وسيد شباب أهل الجنة.. ومنار محجتكم ومدرء حجتكم.. ومفزع نازلتكم.. فتعساً ونكساً لقد خاب السعي وخسرت الصفقة.. وبوئتم بغضب من الله.. وضربت عليكم الذلة والمسكنة.. لقد جئتم شيئاً إداً تكاد السموات يتفطرن منه.. وتنشق الأرض وتخرُّ الجبال هدَّا.

 

أتدرون أيَّ كبدٍ لرسول الله فريتم..؟؟ وأي كريمة له أبرزتم..؟؟ وأي دمله سفكتم..؟؟ لقد جئتم بها شوهاء خرقاء.. شرها طلاع الأرض والسماء.. أفعجبتم أن مطرت السماء دماً. ولعذاب الآخرة أخزى وهم لا ينصرون.. فلا يستخفنكم المهل. فأنه لاتحفزه المبادرة. ولا يخاف عليه فوت الثأر..كلا..!! إن ربك لنا ولهم لبالمرصاد))

 

ثم ولت عنهم زينب (عليها السلام).. فظل الناس حيارى وقد ردوا أيديهم إلى أفواههم.

 

أما الجيش الأموي. فقد نزل بالسبايا في قصر الإمارة. على عبيد الله بن زياد.. وقد سبقها رأس الحسين (عليه السلام).. لإن أبن سعد ساعة ما قتل الحسين أرسل رأسه إلى أبن زياد مع خولي الأصبحي فبات الرأس في بيته تلك الليلة واصبح عند أبن زياد في طشت بين يديه ومجلسه مكتظ بالشيوخ ورؤساء الأحياء فصار أبن زياد يبتسم من عظيم سروره وأبتهاجه وينكث رأس الحسين بخيزرانة في يده  ويضرب شفتيه غير مكترث ولا محتشم لأحد ولا أحد ينكر فعلته هذه إلا الصحابي المعظم زيد بن أرقم إذ صرخ به قائلاً إرفع قضيبك من هاتين الشفتين فقد والله رأيت رسول الله يضع شفتيه على هاتين ويقبلهما. ثم بكى فسبه أبن زياد وقال له (( أبكى الله عينيك فلولا أنك شيخ قد كبرت وخرفت لضربت عنقك)) فخرج زيد يقول للناس (( أنتم يا معشر العرب عبيد بعد اليوم تقتلون أبن فاطمة وتؤمرون ابن مرجانة..؟ فهو يقتل خياركم ويستعبد أشراركم)).

 

ولما أدخلوا سبايا الحسين (عليه السلام) على ابن زياد تنكرت أخته زينب بين النساء وحفت بها جواريها لكي لا تعرف فقال ابن زياد. من هذه المتنكرة..؟؟ فلم تجبه ثم كررها ثلاثاً وهي لا تكلمه فقالت له إحدى الجواري هذه زينب بنت فاطمة فقال لها ابن زياد (( الحمد لله الذي فضحكم وأكذب أحدوثتكم)) فأجابته (( الحمد لله الذي كرمنا بمحمد وطهرنا تطهيرا)) إلى أن تقول ((إنما يفتضح الفاسق ويكذب الفاجر وهـو غيرنا)) فقـال أبن زياد.. ( كيف رأيت صنع الله بأهل بيتك..؟)) فقالت ((هؤلاء قوم كتب الله عليهم القتل فبرزوا إلى مضاجعهم. وسيجمع الله بينك وبينهم فتختصمون عنده فتنظر لمن الفلج)) فغضب أبن زياد واستشاط. فقال له عمرو بن حريث يا أمير انها امرأة والمرأة لا تؤاخذ بشيء من منطقها فقال لها: قد شفي الله غيظي من طاغيتك والعصاة المردة من أهل بيتك. فبكت زينب وقالت لعمري لقد قتلت كهلي. وأبرزت أهلي. وقطعت فرعي وأجتثثت أصلي. فإن يشفيك هذا فقد اشتفيت. فقال ابن زياد لجلسائه هذه سجاعة وقد كان أبوها أسجع منها. ثم التفت إلى حفدة رسول الله فرأى علي بن الحسين فقال ما أسمك قال علي بن الحسين قال.. أوليس الله قد قتل علي بن الحسين.. قال علي كان لي أخ يسمى علياً قتله الناس قال ابن زياد. بل قتله الله.

 

قال علي ) الله يتوفى الأنفس حين موتها ( )وما كان لنفس أن تموت إلاّ بإذن الله (. فغضب ابن زياد وأمر بقتله فتعلقت به عمته زينب قائلة ((حسبك يا بن زياد من دمائنا…؟ أما أرتويت وأشتفيت..؟ وهل أبقيت منا أحدا..؟ أسئلك بالله أن كنت مؤمناً به فأقتلني معه إن كنت قاتله…))  فنظر أبن زياد أليها طويلاً ثم قال (( عجباً للرحم تود أن تُقتل دونه..! دعوا الغلام ينطلق مع نسائه..!!))

 

هكـذا قـالت عقيلة بني هاشم زينب الخطوب. بنت أمـير المؤمنين علي (عليهما السلام) بدورها المجيد في هذه المواقف فأظهرت للملأ آية من آيات الجرأة والحنان إلى جانب ما أحاطت من طلاقة اللسان وبلاغة البيان ما أصبحت المثل الأعلى بين نساء العرب قاطبة وكيف لا تكون كذلك وهي بنت إمام البلاغة وفارس الهيجاء وحفيدة صاحب الرسالة وربيبة معدن النبوة فالتبر من معدنه لا يستبعد.(15)