العتبة العلوية المقدسة - خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام خطبها في المدينة المنورة -
» » سيرة الإمام » بلاغة الامام علي وحكمته » خطب الامام علي عليه السلام » خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام خطبها في المدينة المنورة

خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام خطبها في المدينة المنورة

الحمدُ للهَ الَّذي مَنَعَ الأوهامَ أنْ تَنالَ وُجُدَهُ   وحَجَبَ العقولَ أنْ تتخيلَ ذاتَهُ لامتناعِها من الشَّبهِ و المُشاكِلِ ، وَ النَظيرِ و الممُاثِلِ هو الذي لا يَتفاوت في ذاتِهِ ، ولا يتبّعضُ بتجزِئة العدد في كمالهِ . فارَقَ الأشياءَ لا باختلافِ الأماكِنِ ، وتمكَّنَ منها لا على جهةِ الحُلول و الممُازَجَة ، وَعَلِمَها لا بأداةٍ ، إن قيل : كان ، فعلى تأويل أزَليّةِ الوجود . وإن قيلَ : لم يزل ، فعلى تأويل نفي العدم .

نحمدَهُ بالحمدِ الذي ارتضاهُ من خلقِهِ ، و أوجَبَ قَبُولَه على نفسِهِ ، و اشهدُ أن لا اله إلا الله وحدَه لا شرِيكَ لهُ و اشهَدُ أن مُحمداً عبدُهُ ورسوله شهادتان ترفعان القَولَ وتُضاعِفانِ العَمَلَ ، خَفَّ ميزانٌ ترفعان منه وَثَقُلَ مِيزانٌ تُوضعانِ فيه ، بهما الفوز بالجنةِ و النجاةُ مِنَ النار،وَ الجوازُ على الصراط.

أيُّها الناسُ ! لا شرفَ أعلى مِنَ الإسلامِ ، ولا كَرَمَ أعزُّ من التقوى ، ولا معْقِلَ أحرَزُ من الوَرَعِ ، ولا شَفيعَ أنجحُ من التوبةِ ، و لباسَ أجَملُ مِنَ العافيةِ ، ولا وِقايةَ أمنعُ من السلامَةِ ، ولا مالَ أذهبُ بالفاقةِ من الرضا و القناعَةِ ، وَمن اقتَصَرَ على بُلغَةِ الكَفافِ فقد انْتَظَمَ الراحَةَ ، وتَبَوِّأَ خفضَ الدَّعة ، ألا وإنَّ الرغَّبةَ مِفتاحُ التعبِ ، و الاحتكارَ مَطيَّةُ النَّصَبِ ،و الحَسَدُ آفةُ الدينِ؛ و الحرصَ داعٍ للتَقَحُّمِ في الذنوب ، و الشَّرَةَ جامعُ لمساوئ العيوبِ ، وربَّ طَمَعٍ خائبٍ ، و أملٍ كاذبٍ ، ورجاءٍ يُؤدَّي إلى الحرمانِ ، وتجارَة تَؤوُلُ إلى الخُسرانِ. ومن تورَّط في الأمورِ غيرَ ناظرٍ في العواقِبِ ، فقد تعرَّض لمفظعات النوائبِ .

 أيُّها الناسُ ! لا كنزَ انفعُ من العلم ، ولا عزَّ ارفع من الحلمِ ، ولا حسبَ ابلغ من الأدب ،ولا نسبَ أوضعُ من الغضب ، ولا جمالَ أجملُ من العقل ، ولا قرِينَ شرُّ من الجهلِ ، ولا سَوأةَ أسوأُ منَ الكَذِب ، ولا حافظَ احفظُ من الصمتِ ، ولا غائبَ اقربُ من الموت . لا ينجو منهُ غنيُّ بماله ، ولا فقيرٌ بإقلالِهِ .

أيُّها الناسُ ! مَن نظرَ في عيبِ نفسِهِ شُغِل عن عَيب غيرهِ ، ومن سَلَّ سيفَ البغي قُتِلَ به ، ومن حَفَرَ بئراً وقع فيها ، ومن هَتَك حِجابَ غَيره انكشفت عوراتُ بيتِهِ ، ومن نسي زَلـلَهُ استَعظَمَ زَلَلَ غَيرِهِ ، ومن أُعجِبَ برأيه ضلَّ ، ومن استَغنى بعقلِهِ زَلّ ، ومن تكبَّر على الناسِ ذَلّ ، ومن خالط العلماء وُقِّر ، ومن خالط الأنذالَ حُقِّر ، ومن حَمّلَ نفسَه ما لا يطيق عجز ، ومن لم يملك لسانَه يندَم ، ومن لا يتحلّم لا يَحلَم .

أيُّها الناسُ ! من قرَّ ذَلَّ ، ومن جاد ساد ، ومن كثُرَ مْالهُ رَؤُس ، ومن كثُر حلمهُ نُبل ، ومن فكَّر في ذاتِ اللهِ تزندق ، ومن كثُر مزاحُهُ استُخِفَّ به ؛ ومن كثُر ضحكُه ذهَبَتْ هيبتُه . و افضلُ الفَعَالِ صيانةُ العرض بالمالِ . وفي التجارُب علمٌ مُستَأنفٌ ، و الاعتبارُ يقودُ إلى الرشاد ؛ وفي تقلُبِ الأحوالِ علمُ جواهر الرجال ،و الأيامُ تُوضِحُ السرائرَ الكامِنةَ ، وكَفاكَ أدباً لِنَفسِكَ ما تكرَهُهُ من غيركَ ، ومَنِ استَقْبَلَ وجوهَ الآراءِ ، عَرَفَ مواقِعَ الخطأ.

 

و التدبيرُ قَبلَ العَمَل يُؤمِّنُكَ من النَدَم. و اشرفُ الغِنى تركُ المُنى . و الصبر جُنَّةٌ من الفاقَةِ ، و الحرْصُ علامةُ الفقر ، و البخلُ جلبابُ المسكَنة ، و المودَّةُ قرابةٌ مستَفادة، ووَصُولٌ مُعدمٌ خيرٌ من جافٍ مُكثِرٌ ، وعليكَ لأخيك المؤمِن مثلُ الذي لك عليهِ ، ومن ضاق خُلُقُه ، ملَّهُ أهلُهُ ، وفي سَعَة الأخلاقِ كُنوزُ الأرزاق ، ومن عرَف الأيامَ لم يغفَل عن الاستِعدادِ ، ولا تُنالُ نعمةٌ إلا بزوالِ أُخرى ، ولكلِ ذي رمقٍ قوتٌ، ولكلِ حبةٍ آكلٌ ، و أنتَ قوتُ الموت .


أيُّها الناسُ ! كفر النعمةِ لؤمٌ ، وصحبة الجاهلِ شؤمٌ ، وإنَّ من الكرمِ لينَ الكلام، و إياكم و الخديَعة فإنها من خُلقِ اللئام ، ليسَ كلُ طالبِ يُصيب ، ولا كل غائبٍ يَؤُوبُ ، وربّ بعيدٍ هو اقرَبُ من قريب ، سلْ عن الرفيقِ قبل الطريقِ ، وعن الجارِ قبل الدارِ . و استر عورةَ أخيكَ ، لما يعلمُهُ فيك ، و اغتفِرْ زَلَةَ صديقِكَ ليوم يركَبُكَ فيه عَدُوُّك ، ومَن لم يعرفِ الخيرَ من الشرّ فهو بمنزلة البَهيمة ، وما شرٌّ بشرٍّ بعدَه الجَّنة . ولا خيرٌ بخيرٍ بعده النار ([1]) ، وكلُّ نعيمٍ دون الجنةِ مُحتقر ، وكل بلاءٍ دون النارِ عافية. وعند تصحِيحِ الضمائر تبدو الكبائر .وتصفيةُ العمل اشدُّ من العمل ([2]) ، وتخليصُ النية من الفساد اشدُّ على العاملين من طولِ الجهاد ، هيهات !: لولا التُّقى لكُنتُ أدهى العرب !

ومنها

عليكم بتقوى اللهِ في الغيبِ و الشهادة ، وبكلمة الحق في الرضا و الغضب ، وبالقصد في الغنى و الفقر ، وبالعدلِ على الصديقِ و العدّو ، وبالعمل في النشاطِ و الكسل ، وبالرضا في الشدةِ و الرخاء ، ومن تركَ الشهوات كان حرّاً  ، ومن اكثر ذكر الموتِ رضي باليسير . و إن الغفلة ظلمة ، و الجهالَةَ ضلالةٌ . و السعيد من وُعظَ بغيرهِ . و الأدبُ خيرُ ميراثٍ ، وحُسنُ الخُلقِ خيرُ قَرين ، و العفافُ زِينة الفقرِ ، و الشكرُ زينةُ الغنى ، و الصبرُ من كنوزِ الإيمان ، و الطَّمأنينةُ قبل الخِبرةِ ضدُّ الحزم ، و إعجابُ المرءِ بنفسهِ دليلُ على ضعفِ عقلهِ ، وبئس الزاد إلى المعاد : العُدوانُ على العِباد . طُوبى لمن اخلصَ للهِ علَمه وعمله ، وأخْذَه وتركَه ، وكلامَه وصمْتَه ، وقولَه وفعلَه ، ولا يكون المسلمُ مسلماً حتى يكون ورِعاً . ولنَ يكون ورعاً حتى يَكونَ زاهداً، ولن يكونَ زاهداً حتى يكون حازماً ، ولن يكونَ حازماً حتى يكونَ عاقلاً ، وما العاقِلُ إلا من عَقَلَ عن اللهِ ([3]) وعمِل للدارِ الآخرةِ .

 



([1]) يريد عليه السلام  أن كل فعل أو قول حسن يؤدي إلى الجنة ويحسبه الناس في حينه شراً ، يجب أن لا يعدّ شراً وكذلك الخير الذي يؤدي إلى النار يجب أن لا يعدّ خيرا.

([2]) تصفية العمل جعله صافياً خالصاً لله .

([3]) أي تفقّه فعمل بالمعروف أو انتهى عن المنكر .