خُطبَةٍ لهُ عَليه السَّلام خطبها في المدينة المنورة
الحمدُ للهَ الَّذي مَنَعَ الأوهامَ أنْ تَنالَ وُجُدَهُ وحَجَبَ العقولَ أنْ تتخيلَ ذاتَهُ لامتناعِها من الشَّبهِ و المُشاكِلِ ، وَ النَظيرِ و الممُاثِلِ هو الذي لا يَتفاوت في ذاتِهِ ، ولا يتبّعضُ بتجزِئة العدد في كمالهِ . فارَقَ الأشياءَ لا باختلافِ الأماكِنِ ، وتمكَّنَ منها لا على جهةِ الحُلول و الممُازَجَة ، وَعَلِمَها لا بأداةٍ ، إن قيل : كان ، فعلى تأويل أزَليّةِ الوجود . وإن قيلَ : لم يزل ، فعلى تأويل نفي العدم .
نحمدَهُ بالحمدِ الذي ارتضاهُ من خلقِهِ ، و أوجَبَ قَبُولَه على نفسِهِ ، و اشهدُ أن لا اله إلا الله وحدَه لا شرِيكَ لهُ و اشهَدُ أن مُحمداً عبدُهُ ورسوله شهادتان ترفعان القَولَ وتُضاعِفانِ العَمَلَ ، خَفَّ ميزانٌ ترفعان منه وَثَقُلَ مِيزانٌ تُوضعانِ فيه ، بهما الفوز بالجنةِ و النجاةُ مِنَ النار،وَ الجوازُ على الصراط.
أيُّها الناسُ ! لا شرفَ أعلى مِنَ الإسلامِ ، ولا كَرَمَ أعزُّ من التقوى ، ولا معْقِلَ أحرَزُ من الوَرَعِ ، ولا شَفيعَ أنجحُ من التوبةِ ، و لباسَ أجَملُ مِنَ العافيةِ ، ولا وِقايةَ أمنعُ من السلامَةِ ، ولا مالَ أذهبُ بالفاقةِ من الرضا و القناعَةِ ، وَمن اقتَصَرَ على بُلغَةِ الكَفافِ فقد انْتَظَمَ الراحَةَ ، وتَبَوِّأَ خفضَ الدَّعة ، ألا وإنَّ الرغَّبةَ مِفتاحُ التعبِ ، و الاحتكارَ مَطيَّةُ النَّصَبِ ،و الحَسَدُ آفةُ الدينِ؛ و الحرصَ داعٍ للتَقَحُّمِ في الذنوب ، و الشَّرَةَ جامعُ لمساوئ العيوبِ ، وربَّ طَمَعٍ خائبٍ ، و أملٍ كاذبٍ ، ورجاءٍ يُؤدَّي إلى الحرمانِ ، وتجارَة تَؤوُلُ إلى الخُسرانِ. ومن تورَّط في الأمورِ غيرَ ناظرٍ في العواقِبِ ، فقد تعرَّض لمفظعات النوائبِ .
أيُّها الناسُ ! لا كنزَ انفعُ من العلم ، ولا عزَّ ارفع من الحلمِ ، ولا حسبَ ابلغ من الأدب ،ولا نسبَ أوضعُ من الغضب ، ولا جمالَ أجملُ من العقل ، ولا قرِينَ شرُّ من الجهلِ ، ولا سَوأةَ أسوأُ منَ الكَذِب ، ولا حافظَ احفظُ من الصمتِ ، ولا غائبَ اقربُ من الموت . لا ينجو منهُ غنيُّ بماله ، ولا فقيرٌ بإقلالِهِ .
أيُّها الناسُ ! مَن نظرَ في عيبِ نفسِهِ شُغِل عن عَيب غيرهِ ، ومن سَلَّ سيفَ البغي قُتِلَ به ، ومن حَفَرَ بئراً وقع فيها ، ومن هَتَك حِجابَ غَيره انكشفت عوراتُ بيتِهِ ، ومن نسي زَلـلَهُ استَعظَمَ زَلَلَ غَيرِهِ ، ومن أُعجِبَ برأيه ضلَّ ، ومن استَغنى بعقلِهِ زَلّ ، ومن تكبَّر على الناسِ ذَلّ ، ومن خالط العلماء وُقِّر ، ومن خالط الأنذالَ حُقِّر ، ومن حَمّلَ نفسَه ما لا يطيق عجز ، ومن لم يملك لسانَه يندَم ، ومن لا يتحلّم لا يَحلَم .
أيُّها الناسُ ! من قرَّ ذَلَّ ، ومن جاد ساد ، ومن كثُرَ مْالهُ رَؤُس ، ومن كثُر حلمهُ نُبل ، ومن فكَّر في ذاتِ اللهِ تزندق ، ومن كثُر مزاحُهُ استُخِفَّ به ؛ ومن كثُر ضحكُه ذهَبَتْ هيبتُه . و افضلُ الفَعَالِ صيانةُ العرض بالمالِ . وفي التجارُب علمٌ مُستَأنفٌ ، و الاعتبارُ يقودُ إلى الرشاد ؛ وفي تقلُبِ الأحوالِ علمُ جواهر الرجال ،و الأيامُ تُوضِحُ السرائرَ الكامِنةَ ، وكَفاكَ أدباً لِنَفسِكَ ما تكرَهُهُ من غيركَ ، ومَنِ استَقْبَلَ وجوهَ الآراءِ ، عَرَفَ مواقِعَ الخطأ.
و التدبيرُ قَبلَ العَمَل يُؤمِّنُكَ من النَدَم. و اشرفُ الغِنى تركُ المُنى . و الصبر جُنَّةٌ من الفاقَةِ ، و الحرْصُ علامةُ الفقر ، و البخلُ جلبابُ المسكَنة ، و المودَّةُ قرابةٌ مستَفادة، ووَصُولٌ مُعدمٌ خيرٌ من جافٍ مُكثِرٌ ، وعليكَ لأخيك المؤمِن مثلُ الذي لك عليهِ ، ومن ضاق خُلُقُه ، ملَّهُ أهلُهُ ، وفي سَعَة الأخلاقِ كُنوزُ الأرزاق ، ومن عرَف الأيامَ لم يغفَل عن الاستِعدادِ ، ولا تُنالُ نعمةٌ إلا بزوالِ أُخرى ، ولكلِ ذي رمقٍ قوتٌ، ولكلِ حبةٍ آكلٌ ، و أنتَ قوتُ الموت .
أيُّها الناسُ ! كفر النعمةِ لؤمٌ ، وصحبة الجاهلِ شؤمٌ ، وإنَّ من الكرمِ لينَ الكلام، و إياكم و الخديَعة فإنها من خُلقِ اللئام ، ليسَ كلُ طالبِ يُصيب ، ولا كل غائبٍ يَؤُوبُ ، وربّ بعيدٍ هو اقرَبُ من قريب ، سلْ عن الرفيقِ قبل الطريقِ ، وعن الجارِ قبل الدارِ . و استر عورةَ أخيكَ ، لما يعلمُهُ فيك ، و اغتفِرْ زَلَةَ صديقِكَ ليوم يركَبُكَ فيه عَدُوُّك ، ومَن لم يعرفِ الخيرَ من الشرّ فهو بمنزلة البَهيمة ، وما شرٌّ بشرٍّ بعدَه الجَّنة . ولا خيرٌ بخيرٍ بعده النار ([1]) ، وكلُّ نعيمٍ دون الجنةِ مُحتقر ، وكل بلاءٍ دون النارِ عافية. وعند تصحِيحِ الضمائر تبدو الكبائر .وتصفيةُ العمل اشدُّ من العمل ([2]) ، وتخليصُ النية من الفساد اشدُّ على العاملين من طولِ الجهاد ، هيهات !: لولا التُّقى لكُنتُ أدهى العرب !
ومنها
عليكم بتقوى اللهِ في الغيبِ و الشهادة ، وبكلمة الحق في الرضا و الغضب ، وبالقصد في الغنى و الفقر ، وبالعدلِ على الصديقِ و العدّو ، وبالعمل في النشاطِ و الكسل ، وبالرضا في الشدةِ و الرخاء ، ومن تركَ الشهوات كان حرّاً ، ومن اكثر ذكر الموتِ رضي باليسير . و إن الغفلة ظلمة ، و الجهالَةَ ضلالةٌ . و السعيد من وُعظَ بغيرهِ . و الأدبُ خيرُ ميراثٍ ، وحُسنُ الخُلقِ خيرُ قَرين ، و العفافُ زِينة الفقرِ ، و الشكرُ زينةُ الغنى ، و الصبرُ من كنوزِ الإيمان ، و الطَّمأنينةُ قبل الخِبرةِ ضدُّ الحزم ، و إعجابُ المرءِ بنفسهِ دليلُ على ضعفِ عقلهِ ، وبئس الزاد إلى المعاد : العُدوانُ على العِباد . طُوبى لمن اخلصَ للهِ علَمه وعمله ، وأخْذَه وتركَه ، وكلامَه وصمْتَه ، وقولَه وفعلَه ، ولا يكون المسلمُ مسلماً حتى يكون ورِعاً . ولنَ يكون ورعاً حتى يَكونَ زاهداً، ولن يكونَ زاهداً حتى يكون حازماً ، ولن يكونَ حازماً حتى يكونَ عاقلاً ، وما العاقِلُ إلا من عَقَلَ عن اللهِ ([3]) وعمِل للدارِ الآخرةِ .
([3]) أي تفقّه فعمل بالمعروف أو انتهى عن المنكر .