الحسين ضمير الأديان إلى أبد الدهور
الدكتور أسعد علي
ـ 1 ـ
إنّ للألم سرّاً يتّصل بينبوع السّرور ، بل يتدفّق منه كما ينشق ( الأمل ) من حروف ( الألم ) بقليل من حركيّة التركيب والتواصل بين الحروف ( ألم = أمل ) . هذا على مستوى التركيب اللغويّ الواضح .
أمّا على مستوى الرّوح الواسع كالرّيح فظاهر المظاهر خفيّ السّرائر يكتشفه أهل الذّوق في سِير الأنبياء والشهداء والصّالحين .
ـ 2 ـ
في الإنجيل ـ والإنجيل يعني : البشارة ـ صلّى السّيد المسيح (عليه السّلام) عشيّة تسليمه ، وناجى الله قائلاً : (( إن كان يُستطاع فَلتعبُر عنّي هذه الكأس ، لكن ليس كمشيئتي بل كمشيئتك ؛ أمّا الرّوح فمستعدٌّ ، وأمّا الجسد فضعيف ، ولكن كيف تتمّ الكتب
فإنّه هكذا ينبغي أن يكون ؟ .
ضعفُ الجسد مصدر الألم ، واستعداد الرّوح لتنفيذ المشيئة العليا ، يصلها بينبوع السّرور الخالد .. فلا موت .. والنّصر الحقيقيّ لا يكون إلاّ انسجاماً مع التوجّه الينبوعي الطاهر .. وهل ينتصر مَن يخسر نفسه ولو ربح العالم متّي 26 / 40 ـ 55 . ؟
بهذا المقياس الانتصاري ، ماذا يقول العالَم بثورة الحسين بن علي بن أبي طالب (عليه السّلام) ؟ هل انسجم الحسين مع التوجّه الينبوعيّ الطّاهر ، فكان منتصراً في شهادته وشهادة آل بيته ؟
فطن المؤرّخون والباحثون لرمزيّة الثورة الحسينيّة ، واستعذبوا تكرار السّيرة الحسينيّة ؛ استلهاماً لها واستقواءً بروح صاحبها(
ـ 3 ـ
يقول الباحث الشابّ السيّد أنطون بارا في بحثه الجديد ( الحسين في الفكر المسيحيّ ) ما خلاصته : لم يسجّل التاريخ شبيهاً لاستشهاد الحسين في كربلاء ، فاستشهاد الحسين وسيرته عنوان صريح لقيمة الثبات على المبدأ ، ولعظمة المثاليّة في أخذ العقيدة وتمثّلها .
لذلك غدا حبّ الحسين الثائر واجباً علينا كبشر ، وغدا حبّ الحسين الشهيد جزءاً من نفثات ضمائرنا .
فقد جاءت صيحة الحسين نبراساً لبني الإنسان في كلّ عصر ومصر ، وتحت أيّة عقيدة انضوى ؛ إذ إنّ أهداف الأديان هي المحبّة والتمسّك بالفضائل لتنظيم علاقة الفرد بربّه أوّلاً ، وبأخيه ثانياً(
إنّ بحث السيّد أنطون بارا بمجمل فصوله يؤكّد حقيقة تجلّت له ، وجسّدها بقوله : فقد كان الحسين (عليه السّلام) شمعة الإسلام أضاءت ممثّلة ضمير الأديان إلى أبد الدهورإنّ هذه النتيجة مثيرة للغاية ؛ لأنّها تحكم الماضي والمستقبل ، ومقياس الحُكم فيها ثورة الحسين الواقعيّة .. ثمّ مثاليّة الرّمز في شخصيّته . فكيف يخرج هذا الحكم الذي يبدو وكأنّه انخطاف بالتأثّر حتّى الغلوّ ؟ هل مثّل الحسين ضمير الأديان في الماضي ؟ وهل يمثّله في المستقبل ؟
ـ 4 ـ
ضمير الأديان بمقياس المسيحيّة وصيّتان :
أحبب الربّ إلهك بكل قلبك وكلّ نفسك وكلّ ذهنك . هذه هي الوصيّة العظمى والاُولى .
أحبب قريبك كنفسك . هذه هي الوصيّة الثانية التي تشبه الأولى . بهاتين الوصيّتين يتعلّق الناموس كلّه والأنبياء(متّي 22 / 38 ـ 41
إنّ ضمير الأديان محبّة لله وتحابّ بين العباد ، كما يُفهم من عبارة السيّد المسيح ، فكيف يفهم ضمير الأديان من عبارة القرآن ؟
ـ 5 ـ
آيات المحبّة في القرآن الكريم تؤكّد ضمير الأديان هذا ، فضمير الأديان : محبّة وتحابّ ، ومن صيغ التعبير عن هذه الحقيقة : ( يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَيُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكَافِرِينَ يُجَاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللهِ وَلاَ يَخَافُونَ لَوْمَةَ لاَئِمٍ ذَلِكَ فَضْلُ اللهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشَاءُ وَاللهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ
قوم الله يحبّونه ، وهو لذلك يحبّهم . فدينه المحبّة ، ولا يقبل قوماً يرتدّون عن هذا الدين ، أو يتقاعسون في تنفيذ أخلاقه التي أشارت إليها الآية : رحمة ، وشدّة ، وجهاداً ، وشجاعة
هذا ضمير الأديان في الصّيغة الإسلاميّة ، وفي الصّيغة المسيحيّة السّابقة .
إنّها المحبّة والتحابّ ، فكيف مثّله الحسين بن عليّ بالثورة ؟
خير الأمم أمّة هَديت إلى الحقّ فَهَدت به والتزمته بالعدل، وما الحقّ الذي يجعل الاُمّة خير الاُمم ؟
إنّه الإخلاص لله ، والتعايش بالمعروف المطهّر من المنكر
النّصوص القرآنيّة تؤكّد مقاييس خير الاُمم بصيغة جديدة لدين الحبّ والتحابّ ، فهل كانت ثورة الحسين تمثيلاً عمليّاً لضمير الأديان هذا ؟
ـ 7 ـ
يقول الحسين (عليه السّلام : (( إنّما خرجت لطلب الإصلاح في اُمّة جدّي ، اُريد أن آمر بالمعروف وأنهى عن المنكر ، فمَن قَبلني بقبول الحقّ فالله أولى بالحقّ ، ومَن ردّ عليّ هذا أصبر حتّى يقضي الله بيني وبين القوم بالحقّ وهو خير الحاكمين
حلّلت هذا النصّ مرّة أمام أصدقاء من الشّعب والعلماء في بيروت سنة 1975 ، وناقشنا مبادئ الأديان المركّزة فيه ، إنّما جاء تركيزها ميدانيّاً ، فالحسين يقرّر واقعة خروجه للثورة ، ويعلن غاية ثورته طلباً للإصلاح في اُمّة
جدّه الذي بُعث للنّاس جميعاً ، كما يعلن أصول ثورته الإصلاحيّة فهي أمر بالمعروف ونهي عن المنكر . حتّى يكون انسجام الإنسان مع الحقّ ، فما هي دروس الثورة المعروفة في ضمير الأديان والتي أوضحها الحسين بحبر جديد من دم الشهادة المحرّرة المنقذة ؟
ـ 8 ـ
من دروس المعروف الخالدة في الثورة الحسينيّة : الحريّة ، الإيثار ، التطوّر ، الإبداع .
ألا تمثّل هذه الدروس ضمير الأديان إلى أبد الدهور ؟ ولكن كيف نفهمها في عصرنا كما أرادها الحسين بن علي في ثورته ؟
أمثّل لذلك بمقاطع من ( جامعة الحسين ) : أوّل دروس المعروف ( الحريّة ) ، ويقابلها من مظاهر المنكر ( العبوديّة ) ، فكلّ المظاهر التحكميّة أو التسلّطيّة أو الاستغلاليّة ، إنّما هي مظاهر للعبودية وزبانيّة لها ..
وثورة الحسين كانت وثبة شجاعة من أعماق سجون التسلّط في عصره ليخترق جدران العبوديّة مطلقاً هواء الحريّة بالفداء في فضاء الزمان ؛ ليصل الهواء النقي ببعضه ، من ماضٍ وحاضرٍ وآتٍ .. فالهواء حرّ من طبعه الحرّية ولا يستطيع الحياة بين جدران . الهواء الحرّ يُحيي ، والهواء الحبيس يقتل .
حرّر الحسين ، بوثبته الفدائيّة ، هواء تتنفّسه النفوس الحرّة الشريفة ؛ لأنّه أكّد عذوبة الموت ، طلباً للإصلاح الإنسانيّ .
وإن كان الموت بهذا المستوى من العذوبة ، فلماذا يستعبد الخوف الإنسان ؟ لماذا لا يندفع كالسّهم الملتهب فيحترق ويخترق ؟
إنّ الاحتراق الخارق حرّية فائقة المذاق . إنّه الشهادة التي تثمر الشهداء ( أشهد أن لا إله إلاّ الله ) عنوان جامعة الشهادة ، أي الحرّية ؛ لأنّ هذه العبارة تعني عدم الخضوع لغير الله والخضوع لله حرّية ؛ لأنّ مَن يخضع لله يتقوّى بقوّته ويتحوّل بحوله .
والشهداء خرّيجو هذه الجامعة التي تصنع الأحرار وتدعو عشّاق الحريّة في كلّ سبيل
أمّا الدرس الثاني من دروس المعروف فهو الإيثار ، ويقابل الإيثار من مظاهر المنكر الأنانيّة .
فكلّ الأعمال التي تجعل الآخرين وأشياءهم وقفاً لأنا الفرد المتسلّط ، تعتبر من أشواك الأنانيّة أو من ثمارها الشائكة .
وثورة الحسين (عليه السّلام) إنّما هي خروج محبّ من أجل الجماعة ، ولو كان هذا الخروج الثوريّ مودّياً بحياته وحياة أبنائه وبناته ، إنّ الحسين يطلب الإصلاح في اُمّة جدّه ، خير أمّة أخرجت للناس بثلاث مواقفها : الإيمان ، والأمر ،
والنهي، تلك المواقف المكتوبة في التوراة والإنجيل
لقد آثر الحسين صلاح اُمّة جدّه ـ الإنسانيّة الهادية بالحقّ ، العادلة به على حياته ، فانطلق إلى كربلاء ؛ ليكون عاشوراء ، وليبقى الفداء ضمير الأديان المطوّر والمبدع
كذلك يفهم درس التطوّر في ثورة الحسين ، وكذلك يفهم درس الإبداع فيها . وبمثل هذا الفهم يكون التحرّر من مظاهر المنكر جموداً وتخلّفاً وتقليداً أعمى .
ـ 9 ـ
أليس ضمير الأديان إيقاظاً مستمرّاً وتذكيراً دائماً بهذه المبادئ التي فداها الحسين في عاشوراء ؟
أليست الحرّية والإيثار ـ كما فهمناهما من ثورة الحسين ـ جوهر وصيَّتَي الإنجيل العظميين ؟
ـ 10 ـ
لقد أثار السيّد أنطون بارا في كتابه ( الحسين في الفكر المسيحيّ ) إثارات تدعو الإنسانيّة المعاصرة إلى مزيد من التأمّل ؛ لمعرفة الحقّ الذي يحرّر كما يقول السيّد المسيح ، فهل يتأمّل المعاصرون(