العتبة العلوية المقدسة - وصيّته عليه السلام للحسن بن علي عليه السلام -
» » سيرة الإمام » بلاغة الامام علي وحكمته » وصاياه عليه السلام » وصيّته عليه السلام للحسن بن علي عليه السلام

وصيّته عليه السلام للحسن بن علي عليه السلام

 كتبها إليه بـ حاضرين عند انصرافه من صفّين

مِنَ الْوَالِدِ الْفَانِ، الْمُقِرِّ لِلزَّمَانِ، الْمُدْبِرِ الْعُمُرِ، الْمُسْتَسْلِمِ لِلدَّهْرِ، الذَّامِ لِلدُّنْيَا، السَّاكِنِ مَسَاكِنَ الْمَوْتَى، الظَّاعِنِ عَنْهَا غَداً، إِلَى الْمَوْلُودِ الْمُؤَمِّلِ مَا لاَ يُدْرَكُ، السَّالِكِ سَبِيلَ مَنْ قَدْ هَلَكَ، غَرَضِ الاَْسْقَامِ،رَهِينَةِ الاَْيَّامِ، وَرَمِيَّةِالْمَصَائِبِ، وَعَبْدِ الدُّنْيَا، وَتَاجِرِ الْغُرُورِ، وَغَرِيمِ الْمَنَايَا، وَأَسِيرِ الْمَوْتِ، وَحَلِيفِ الْهُمُومِ،قَرِينِ الاَْحْزَانِ، وَنُصْبِ الاْفَاتِ، وَصَرِيعِ الشَّهَوَاتِ، وَخَلِيفَةِ الاَْمْوَاتِ.

أَمَّا بَعْدُ، فَإِنَّ فِيَما تَبَيَّنْتُ مِنْ إِدْبَارِ الدُّنْيَا عَنِّي، وَجُمُوحِ الدَّهْرِ عَلَيَّ، وَإِقْبَالِ الاْخِرَةِ إِلَيَّ، مَا يَزَعُنِي عَنْ ذِكْرِ مَنْ سِوَايَ، وَالاْهْتَِمامِ بِمَا وَرَائِي، غَيْرَ أَنِّي حَيْثُ تَفَرَّدَ بِي دُونَ هُمُومِ النَّاسِ هَمُّ نَفْسِي، فَصَدَفَنِي رَأْيِي، وَصَرَفَنِي عَنْ هَوَايَ، وَصَرَّحَ لِي مَحْضُ أَمْرِي، فَأَفْضَى بِي إِلَى جِدّ لاَ يَكُونُ فِيهِ لَعِبٌ، وَصِدْق لاَ يَشُوبُهُ كَذِبٌ.

وَوَجَدْتُكَ بَعْضِي، بَلْ وَجَدْتُكَ كُلِّي، حَتَّى كَأَنَّ شَيْئاً لَوْ أَصَابَكَ أَصَابَنِي، وَكَأَنَّ الْمَوْتَ لَوْ أَتَاكَ أَتَانِي، فَعَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِيني مِنْ أَمْرِ نَفْسِي،فَكَتَبْتُ إِليْكَ كِتَابِي هَذا، مُسْتظْهِراً بِهِ إِنْ أَنا بَقِيتُ لَكَ أَوْ فَنِيتُ.

فَإِنِّي أُوصِيكَ بِتَقْوَى اللهِ ـ أَيْ بُنيَّ ـ وَلُزُومِ أَمْرِهِ، وَعِمَارَةِ قَلْبِكَ بِذِكْرِهِ، وَالاْعْتِصَامِ بِحَبْلِهِ، وَأَيُّ سَبَب أَوْثقُ مِنْ سَبَب بَيْنكَ وَبَيْنَ اللهِ عَزّوَجَلَّ إِنْ أَنْتَ أَخَذْتَ بِهِ!أَحْيِ قَلْبَكَ بِالْمَوْعِظَةِ، وَأَمِتْهُ بِالزَّهَادَةِ، وَقَوِّهِ بِالْيَقِينِ، وَ بِالْحِكْمَةِ، وَذَلِّلْهُ بِذِكْرِ الْمَوْتِ، وَقَرِّرْهُ بِالْفَنَاءِ، وَبَصِّرْهُ فَجَائِعَ الدُّنْيَا، وَحَذِّرْهُ صَوْلَةَ الدَّهْرِ وَفُحْشَ تَقَلُّبِ اللَّيَالِي وَالاَْيَّامِ، وَاعْرِضْ عَلَيْهِ أَخْبَارَ الْمَاضِينَ، وَذَكِّرْهُ بِمَا أَصَابَ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ مِنَ الاَْوَّلِينَ، وَسِرْ فِي دِيَارِهِمْ وَآثَارِهِمْ، فَانْظُرْ مَا فَعَلُواعَمَّا انْتَقَلُوا، وَأَيْنَ حَلُّوا وَنَزَلُوا! فَإِنَّكَ تَجِدُهُمْ انْتَقَلُوا عَنِ الاَْحِبَّةِ، وَحَلُّوا دَارَالْغُرْبَةِ، وَكَأَنَّكَ عَنْ قَلِيل قَدْ صِرْتَ كَأَحَدِهِمْ.

فَأَصْلِحْ مَثْوَاكَ، وَلاَ تَبِعْ آخِرَتَكَ بِدُنْيَاكَ، وَدَعِ الْقَوْلَ فِيَما لاَ تَعْرِفُ، وَالْخِطَابَ فِيَما لَمْ تُكَلَّفْ، وَأَمْسِكْ عَنْ طَرِيق إِذَا خِفْتَ ضَلاَلَتَهُ، فَإِنَّ الْكَفَّ عِنْدَ حَيْرَةِ الضَّلاَلِ خَيْرٌ مِنْ رُكُوبِ الاَْهْوَالِ، وَأْمُرْ بالْمَعْرُوفِ تَكُنْ مِنْ أَهْلِهِ، وَأَنْكِرِ المُنكَرَ بِيَدِكَ وَلِسَانِكَ، وَبَايِنْ مَنْ فَعَلَهُ بِجُهْدِكَ، وَجَاهِدْ فِي اللهِ حَقَّ جَهَادِهِ، وَلاَ تَأْخُذْكَ فِي اللهِ لَوْمَةُ لاَئم، وَخُضِ الْغَمَرَاتِ إلَى الحَقِّ حَيْثُ كَانَ، وَتَفَقَّهُ فِي الدِّينِ، وَعَوِّدْ نَفْسَكَ الصَّبْرَ عَلَى الْمَكْرُوهِ، وَنِعْمَ الْخُلُقُ التَّصَبُّرُ، وَأَلْجِىءْ نَفْسَكَ فِي الاُمُورِ كُلِّهَا إِلَى إِلهِكَ، فَإِنَّكَ تُلجِئُهَا إِلَى كَهْف حَرِيز، وَمَانِع عَزِيز، وَأَخْلِصْ فِي الْمَسْأَلَةِ لِرَبِّكَ، فَإِنَّ بِيَدِهِ الْعَطَاءَ وَالْحِرْمَانَ، وَأَكْثِرِ الاسْتِخَارَةَ، وَتَفَهَّمْ وَصِيَّتِي، وَلاَ تَذْهَبَنَّ عَنْكَ صَفْحاً، فَإِنَّ خَيْرَ الْقَوْلِ مَا نَفَعَ.

وَاعْلَمْ أَنَّهُ لاَ خَيْرَ فِي عِلْم لاَ يَنْفَعُ، وَلاَ يُنْتَفَعُ بِعِلْم لاَ يَحِقُّ تَعَلُّمُهُ.

أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي لَمَّا رَأَيْتُنِي قَدْ بَلَغْتُ سِنّاً، وَرَأَيْتُنِي أَزْدَادُ وَهْناً، بَادَرْتُ بِوَصِيَّتِي إِلَيْكَ، وَأَوْرَدْتُ خِصَالاً مِنْهَا قَبْلَ أَنْ يَعْجَلَ بِي أَجَلِي دُونَ أَنْ أُفْضِيَ إِلَيْكَ بِمَا فِي نَفْسِي، أَوْ أَنْ أَنْقُصَ فِي رَأْيِي كَمَا نُقِصْتُ فِي جِسْمِي، أَوْ يَسْبِقَنِي إِلَيْكَ بَعْضُ غَلَبَاتِ الْهَوَى وَفِتَنِ الدُّنْيَا، فَتَكُونَ كَالصَّعْبِ النَّفُورِ، وَإِنَّمَا قَلْبُ الْحَدَثِ كَالاَْرْضِ الْخَالِيَةِ مَا ألْقِيَ فِيهَا مِنْ شَيء قَبِلَتْهُ، فَبَادَرْتُكَ بِالاَْدَبِ قَبْلَ أَنْ يَقْسُو قَلْبُكَ، وَيَشْتَغِلَ لُبُّكَ، لِتَسْتَقْبِلَ بِجِدِّ رَأْيِكَ مِنَ الاَْمْرِ مَا قَدْ كَفَاكَ أَهْلُ التَّجَارِبِ بُغْيَتَهُ  وَتَجْرِبَتَهُ، فَتَكُونَ قَدْ كُفِيتَ مَؤُونَةَ الطَّلَبِ، وَعُوفِيتَ مِنْ عِلاَجِ التَّجْرِبَةِ، فَأَتَاكَ مِنْ ذلِكَ مَا قَدْ كُنَّا نَأْتِيهِ، وَاسْتَبَانَ لَكَ مَا رُبَّمَا أَظْلَمَ عَلَيْنَا مِنْهُ.أَيْ بُنَيَّ، إِنِّي وَإِنْ لَمْ أَكُنْ عُمِّرْتُ عُمُرَ مَنْ كَانَ قَبْلِي، فَقَدْ نَظَرْتُ فِي أَعْمَالِهِمْ، وَفَكَّرْتُ فِي أَخْبَارِهِمْ، وَسِرْتُ فِي آثَارِهِمْ، حَتَّى عُدْتُ كَأَحَدِهِمْ، بَلْ كَأَنِّي بِمَا انْتَهَى إِلَيَّ مِنْ أُمُورِهِمْ قَدْ عُمِّرْتُ مَعَ أَوَّلِهِمْ إِلَى آخِرِهِمْ، فَعَرَفْتُ صَفْوَ ذلِكَ مِنْ كَدَرِهِ، وَنَفْعَهُ مِنْ ضَرَرِهِ، فَاسْتَخْلَصْتُ لَكَ مِنْ كُلِّ أَمْر نَخِيلَتَهُ،تَوَخَّيْتُ لَكَ جَمِيلَهُ، وَصَرَفْتُ عَنْكَ مَجْهُولَهُ، وَرَأَيْتُ حَيْثُ عَنَانِي مِنْ أَمْرِكَ مَا يَعْنِي الْوَالِدَ الشَّفِيقَ، وَأَجْمَعْتُ عَلَيْهِ مِنْ أَدَبِكَ أَنْ يَكُونَ ذلِكَ وَأَنْتَ مُقْبِلُ الْعُمُرِ مُقْتَبَلُ الدَّهْرِ، ذُونِيَّة سَلِيمَة، وَنَفْس صَافِيَة، وَأَنْ أَبْتَدِئَكَ بِتَعْلِيمِ كِتَابِ اللهِ عَزَّ وَجَلَّ وَتَأْوِيلِهِ، وَشَرَائِعِ الاِْسْلاَمِ وَأَحْكَامِهِ، وَحَلاَلِهِ وَحَرَامِهِ، لاَ أُجَاوِزُ ذلِكَ بَكَ إِلَى غَيْرِهِ. ثُمَّ أَشْفَقْتُ أَنْ يَلْتَبِسَ عَلَيْكَ مَا اخْتَلَفَ النَّاسُ فِيهِ مِنْ أَهْوَائِهِمْ وَآرَائِهِمْ مِثْلَ الَّذِي الْتَبَسَ عَلَيْهِمْ، فَكَانَ إِحْكَامُ ذلِكَ عَلَى مَا كَرِهْتُ مِنْ تَنْبِيهِكَ لَهُ أَحَبَّ إِلَيَّ مِنْ إِسْلاَمِكَ إِلَى أَمْر لاَ آمَنُ عَلَيْكَ بِهِ الْهَلَكَةَ، وَرَجَوْتُ أَنْ يُوَفِّقَكَ اللهُ فِيهِ لِرُشْدِكَ، وَأَنْ يَهْدِيَكَ لِقَصْدِكَ، فَعَهِدْتُ إِلَيْكَ وَصِيَّتِي هذِهِ.

وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ أَحَبَّ مَا أَنْتَ آخِذٌ بِهِ إِلَيَّ مِنْ وَصِيَّتِي تَقْوَى اللهِ، وَالاِْقْتِصَارُ عَلَى مَا فَرَضَهُ اللهُ عَلَيْكَ، وَالاَْخْذُ بِمَا مَضَى عَلَيْهِ الاَْوَّلُونَ مِنْ آبَائِكَ، وَالصَّالِحُونَ مِنْ أَهْلِ بَيْتِكَ، فَإِنَّهُمْ لَمْ يَدَعُوا أَنْ نَظَرُوا لاَِنْفُسِهِمْ كَمَا أَنْتَ نَاظِرٌ، وَفَكَّرُوا كَمَا أَنْتَ مُفَكِّرٌ، ثُمَّ رَدَّهُمْ آخِرُ ذلِكَ إِلَى الاَْخْذِ بِمَا عَرَفُوا، وَالاِْمْسَاكِ عَمَّا لَمْ يُكَلَّفُوا، فَإِنْ أَبَتْ نَفْسُكَ أَنْ تَقْبَلَ ذلِكَ دُونَ أَنْ تَعْلَمَ كَمَا عَلِمُوا فَلْيَكُنْ طَلَبُكَ ذلِكَ بَتَفَهُّم وَتَعَلُّم، لاَ بِتَوَرُّطِ الشُّبُهَاتِ، وَعُلَقِ الْخُصُومَاتِ.

وَابْدَأْ قَبْلَ نَظَرِكَ فِي ذلِكَ بِالاسْتِعَانَةِ بِإِلهِكَ، وَالرَّغْبَةِ إِلَيْهِ فِي تَوْفِيقِكَ، وَتَرْكِ كُلِّ شَائِبَة أَوْلَجَتْكَ فِي شُبْهَة، أَوْ أَسْلَمَتْكَ إِلَى ضَلاَلَة.

فَإذا أَيْقَنْتَ أَنْ قَدْ صَفَا قَلْبُكَ فَخَشَعَ، وَتَمَّ رَأْيُكَ وَاجْتَمَعَ، وَكَانَ هَمُّكَ فِي ذلِكَ هَمّاً وَاحِداً، فَانْظُرْ فِيَما فَسَّرْتُ لَكَ، وَإِنْ أنْتَ لَمْ يَجْتَمِعْ لَكَ مَا تُحِبُّ مِنْ نَفْسِكَ، وَفَرَاغِ نَظَرِكَ وَفِكْرِكَ، فَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا تَخْبِطُ الْعَشْوَاءَ، وَتَتَوَرَّطُ الظَّلْمَاءَ، وَلَيْسَ طَالِبُ الدِّينِ مَنْ خَبَطَ وَلاَ مَنْ خَلَّطَ، وَالاِْمْسَاكُ عَنْ ذلِكَ أَمْثَلُ.

فَتَفَهَّمْ يَا بُنَيَّ وَصِيَّتِي، وَاعْلَمْ أَنَّ مَالِكَ الْمَوْتِ هُوَمَالِكُ الحَيَاةِ، وَأَنَّ الْخَالِقَ هُوَ الْمُمِيتُ، وَأَنَّ الْمُفْنِيَ هُوَ الْمُعِيدُ، وَأَنَّ الْمُبْتَلِيَ هُوَ الْمُعَافِي، وَأَنَّ الدُّنْيَا لَمْ تَكُنْ لِتَسْتَقِرَّ إِلاَّ عَلَى مَا جَعَلَهَا اللهُ عَلَيْهِ مِنْ النَّعْمَاءِ، وَالاِْبْتِلاَءِ، وَالْجَزَاءِ فِي الْمَعَادِ، أَوْ مَاشَاءَ مِمَّا لاَ تعْلَمُ، فَإِنْ أَشْكَلَ عَلَيْكَ شَيْءٌ مِنْ ذلِكَ فَاحْمِلْهُ عَلَى جَهَالَتِكَ بِهِ، فَإِنَّكَ أَوَّلُ مَا خُلِقْتَ جَاهِلاً ثُمَّ عَلِمْتَ، وَمَا أَكْثَرَ مَا تَجْهَلُ مِنَ الاَْمْرِ، وَيَتَحَيَّرُ فِيهِ رَأْيُكَ، وَيَضِلُّ فِيهِ بَصَرُكَ ثُمَّ تُبْصِرُهُ بَعْدَ ذلِكَ ! فَاعْتَصِمْ بِالَّذِي خَلَقَكَ وَرَزَقَكَ وَسَوَّاكَ، وَلْيَكُنْ لَهُ تَعَبُّدُكَ، وَإِلَيْهِ رَغْبَتُكَ، وَمِنْهُ شَفَقَتُكَ.

وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ أَنَّ أَحَداً لَمْ يُنْبِىءْ عَنِ اللهِ سُبْحَانَهُ كَمَا أَنْبَأَ عَنْهُ نَبِيُّنَا(صلى الله عليه وآله)فَارْضَ بِهِ رَائِداً، وَإِلَى النَّجَاةِ قَائِدَاً، فَإِنِّي لَمْ آلُكَ نَصِيحَةً، وَإِنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ فِي النَّظَرِ لِنَفْسِكَ ـ وَإِنِ اجْتَهَدْتَ ـ مَبْلَغَ نَظَرِي لَكَ.

وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّهُ لَوْ كَانَ لِرَبِّكَ شَرِيكٌ لاََتَتْكَ رُسُلُهُ، وَلَرَأَيْتَ آثَارَ مُلْكِهِ وَسُلْطَانِهِ، وَلَعَرَفْتَ أَفْعَالَهُ وصِفَاتِهِ، وَلكِنَّهُ إِلهٌ وَاحدٌ كَمَا وَصَفَ نَفْسَهُ، لاَ يُضَادُّهُ فِي مُلْكِهِ أَحَدٌ، وَلاَ يَزُولُ أَبَداً وَلَمْ يَزَلْ، أَوَّلٌ قَبْلَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ أَوَّلِيَّة، وَآخِرٌ بَعْدَ الاَْشْيَاءِ بِلاَ نِهَايَة، عَظُمَ عَنْ أَنْ تَثْبُتَ رُبُوبِيَّتُهُ بَإحَاطَةِ قَلْب أَوْ بَصَر.

فَإِذَا عَرَفْتَ ذلِكَ فَافْعَلْ كَمَا يَنْبَغِي لِمِثْلِكَ أَنْ يَفْعَلَهُ فِي صِغَرِ خَطَرِهِ، وَقِلَّةِ مَقْدِرَتِهِ، وَكَثْرَةِ عَجْزِهِ،عَظِيمِ حَاجَتِهِ إِلَى رَبِّهِ، فِي طَلَبِ طَاعَتِهِ، وَالرَّهْبَةِ مِنْ عُقُوبَتِهِ، وَالشَّفَقَةِ مِنْ سُخْطِهِ، فَإِنَّهُ لَمْ يَأْمُرْكَ إِلاَّ بِحَسَن، وَلَمْ يَنْهَكَ إِلاَّ عَنْ قَبِيح.

يَا بُنَيَّ، إِنِّي قَدْ أَنْبَأْتُكَ عَنِ الدُّنْيَا وَحَالِهَا، وَزَوَالِهَا وَانْتِقَالِهَا، وَأَنْبَأْتُكَ عَنِ الاْخِرَةِ وَمَااُعِدَّ لاَِهْلِهَا فِيهَا،وَضَرَبْتُ لَكَ فِيهِمَا الاَْمْثَالَ، لِتَعْتَبِرَ بِهَا، وَتَحْذُوَعَلَيْهَا.

إِنَّمَا مَثَلُ مَنْ خَبَرَ الدُّنْيَا كَمَثَلِ قَوْم سَفْر، نَبَا بِهِمْ مَنْزِلٌ جَدِيبٌ، فأَمُّوا مَنْزِلاً خَصِيباً وَجَنَاباً مَرِيعاً، فَاحْتَمَلُوا وَعْثَاءَ الطَّرِيقِ، وَفِرَاقَ الصَّدِيقِ، وَخُشُونَةَ السَّفَرِ، وَجُشُوبَةَالْمَطْعَمِ، لِيَأتُوا سَعَةَ دَارِهِمْ، وَمَنْزِلَ قَرَارِهِمْ، فَلَيْسَ يَجِدُونَ لِشَيْء مِنْ ذلِكَ أَلَماً، وَلاَ يَرَوْنَ نَفَقَةً مَغْرَماً، وَلاَ شَيْءَ أَحَبُّ إِلَيْهِمْ مِمَّا قَرَّبَهُمْ مِنْ مَنْزِلِهِمْ، وَأَدْنَاهُمْ مِنْ مَحَلِّهِمْ.

وَمَثَلُ مَنِ اغْتَرَّ بِهَا كَمَثَلِ قَوْم كَانُوا بِمَنْزِل خَصِيب، فَنَبا بِهِمْ إِلَى مَنْزِل جَدِيب، فَلَيْسَ شَيْءٌ أَكْرَهَ إِلَيْهِمْ وَلاَ أَفْظَعَ عِنْدَهُمْ مِنْ مُفَارَقَةِ مَا كَانُوا فيِهِ، إِلَى مَا يَهْجُمُونَ عَلَيْهِ، وَيَصِيرُونَ إِلَيْهِ.

يَا بُنَيَّ، اجْعَلْ نَفْسَكَ مِيزَاناً فِيَما بَيْنَكَ وَبَيْنَ غَيْرِكَ، فَأَحْبِبْ لِغَيْرِكَ مَا تُحِبُّ لِنَفْسِكَ، وَاكْرَهْ لَهُ مَا تَكْرَهُ لَهَا، وَلاَ تَظْلِمْ كَمَا لاَ تُحِبُّ أَنْ تُظْلَمَ، وَأَحْسِنْ كَمَا تُحِبُّ أَنْ يُحْسَنَ إِلَيْكَ، وَاسْتَقْبِحْ مِنْ نَفْسِكَ مَا تَسْتَقْبِحُ مِنْ غَيْرِكَ، وَارْضَ مِنَ النَّاسِ بِمَا تَرْضَاهُ لَهُمْ مِنْ نَفْسِكَ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تَعْلَمُ وَإِنْ قَلَّ مَا تعْلَمُ، وَلاَ تَقُلْ مَا لاَ تُحِبُّ أَنْ يُقَالَ لَكَ.

وَاعْلَمْ، أَنَّ الاِْعْجَابَ ضِدُّ الصَّوَابِ، وَآفَةُ الاَْلْبَابِ. فَاسْعَ فِي كَدْحِكَ، وَلاَ تَكُنْ خَازِناً لِغَيْرِكَ، وَإِذَا أَنْتَ هُدِيتَ لِقَصْدِكَ فَكُنْ أَخْشَعَ مَا تَكُونُ لِرَبِّكَ.

وَاعْلَمْ، أَنَّ أَمَامَكَ طَرِيقاً ذَا مَسَافَة بَعِيدَة، وَمَشَقَّة شَدِيدَة، وَأَنَّهُ لاَ غِنَى بِكَ فِيهِ عَنْ حُسْنِ الاِْرْتِيَادِ، وَقَدْرِ بَلاَغِكَ مِنَ الزَّادِ، مَعَ خِفَّةِ الظَّهْرِ، فَلاَ تَحْمِلَنَّ عَلَى ظَهْرِكَ فَوْقَ طَاقَتِكَ، فَيَكُونَ ثِقْلُ ذلِكَ وَبَالاً عَلَيْكَ، وَإِذَا وَجَدْتَ مِنْ أَهْلِ الْفَاقَةِ مَنْ يَحْمِلُ لَكَ زَادَكَ إِلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ، فَيُوَافِيكَ بِهِ غَداً حَيْثُ تَحْتَاجُ إِلَيْهِ، فَاغْتَنِمْهُ وَحَمِّلْهُ إِيَّاهُ، وَأَكْثِرْ مِنْ تَزْوِيدِهِ وَأَنْتَ قَادِرٌ عَلَيْهِ، فَلَعَلَّكَ تَطْلُبُهُ فَلاَ تَجِدُهُ، وَاغْتَنِمْ مَنِ اسْتَقْرَضَكَ في حَالِ غِنَاكَ، لِيَجْعَلَ قَضَاءَهُ لَكَ في يَوْمِ عُسْرَتِكَ.

وَاعْلَمْ، أَنَّ أمَامَكَ عَقَبَةً كَؤوداً، الْـمُخِفُّ فِيهَا أَحْسَنُ حَالاً مِن الْمُثْقِلِ، وَالْمُبْطِىءُ عَلَيْهَا أَقْبَحُ حَالاً مِنَ الْمُسْرِعِ، وَأَنَّ مَهْبِطَهَابِكَ لاَمَحَالَةَ عَلَى جَنَّة أَوْ عَلَى نَار، فَارْتَدْ لِنَفْسِكَ قَبْلَ نُزُولِكَ، وَوَطِّىءِ الْمنْزِلَ قَبْلَ حُلُولِكَ، فَلَيْسَ بَعْدَ الْمَوْتِ مُسْتَعْتَبٌ، وَلاَ إِلَى الدُّنْيَا مُنْصَرَفٌ.

وَاعْلَمْ، أَنَّ الَّذِي بِيَدِهِ خَزَائِنُ السَّموَاتِ وَالاَْرْضِ قَدْ أَذِنَ لَكَ فِي الدُّعَاءِ، وَتَكفَّلَ لَكَ بِالاِْجَابَةِ،أَمَرَكَ أَنْ تَسْأَلَهُ لِيُعْطِيَكَ، وَتَسْتَرْحِمَهُ لِيَرْحَمَكَ، وَلَمْ يَجْعَلْ بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ مَنْ يَحْجُبُكَ عَنْهُ، وَلَمْ يُلْجِئْكَ إِلَى مَنْ يَشْفَعُ لَكَ إِلَيْهِ، وَلَمْ يَمْنَعْكَ إِنْ أَسَأْتَ مِنَ التَّوْبَةِ، وَلَمْ يُعَاجِلْكَ بَالنِّقْمَةِ، وَلَمْ يُعَيِّرْكَ بِالاِْنَابَةِ، وَلَمْ يَفْضَحْكَ حَيْثُ الْفَضِيحَةُ بِكَ أَوْلَى، وَلَمْ يُشدِّدْ عَلَيْكَ فِي قَبُولِ الاِْنَابَةِ، وَلَمْ يُنَاقِشْكَ بِالْجَرِيمَةِ، وَلَمْ يُؤْيِسْكَ مِنَ الرَّحْمَةِ، بَلْ جَعَلَ نُزُوعَكَ عَنِ الذَّنْبِ حَسَنةً، وَحَسَبَ سَيِّئَتَكَ وَاحِدَةً، وَحَسَبَ حَسَنَتَكَ عَشْراً، وَفَتحَ لَكَ بَابَ الْمَتَابِ، فَإِذَا نَادَيْتَهُ سَمِعَ نِدَاك، وَإِذَا نَاجَيْتَهُ عَلِمَ نَجْوَاكَ،فَأَفْضَيْتَ إِلَيْهِ بِحَاجَتِكَ، وَأَبْثَثْتَهُ ذاتَ نَفْسِكَ، وَشَكَوْتَ إِلَيْهِ هُمُومَك، وَاسْتَكْشَفْتَهُ كُرُوبَكَ، وَاسْتَعَنْتَهُ عَلَى أُمُورِكَ، وَسَأَلْتَهُ مِنْ خَزَائِنِ رَحْمَتِهِ مَا لاَ يَقْدِرُ عَلَى إِعْطَائِهِ غيْرُهُ، مِنْ زِيَادَةِ الاَْعْمَارِ، وَصِحَّةِ الاَْبْدَانِ، وَسَعَةِ الاَْرْزَاقِ.

ثُمَّ جَعَلَ فِي يَدَيْكَ مَفاتِيحَ خَزَائِنِهِ بِمَا أَذِنَ لَكَ فِيهِ مِنْ مَسْأَلتِهِ، فَمَتَى شِئْتَ اسْتَفْتَحْتَ بِالدُّعَاءِ أَبْوَابَ نِعَمِهِ، وَاسْتَمْطَرْتَ شآبِيبَ رَحْمَتِهِ، فَلاَ يُقَنِّطَنَّكَ إِبْطَاءُ إِجَابَتِهِ، فَإِنَّ الْعَطِيَّةَ عَلَى قَدْرِ النِّيَّةِ، وَرُبَّمَا أُخِّرَتْ عَنْكَ الاِْجَابَةُ، لِيَكُونَ ذلِكَ أَعْظمَ لاَِجْرِ السَّائِلِ، وَأَجْزَلَ لِعَطَاءِ الاْمِلِ، وَرُبَّمَا سَأَلْتَ الشَّيْءَ فَلاَ تُؤْتاهُ، وَأُوتِيتَ خَيْراً مِنْهُ عَاجلاً أَوْ آجِلاً، أ َوْ صُرِفَ عَنْكَ لِمَا هُوَ خَيْرٌ لَكَ، فَلَرُبَّ أَمْر قَدْ طَلَبْتَهُ فِيهِ هَلاَكُ دِينِكَ لَوْ أُوتِيتَهُ، فَلْتَكُنْ مَسَأَلَتُكَ فِيَما يَبْقَى لَكَ جَمَالُهُ، وَيُنْفَى عَنْكَ وَبَالُهُ، فَالْمَالُ لاَ يَبْقَى لَكَ وَلاَ تَبْقَى لَهُ.

يَا بُنَيَّ، أَكْثِرْ مِنْ ذِكْرِ الْمَوْتِ، وَذِكْرِ مَا تَهْجُمُ عَلَيْهِ، وَتُفْضِي بَعْدَ الْمَوْتِ إِلَيْهِ، حَتَّى يَأْتِيَكَ وَقَدْ أَخَذْتَ مِنْهُ حِذْرَكَ، وَشَدَدْتَ لَهُ أَزْرَكَ، وَلاَ يَأْتِيَكَ بَغْتَةً فَيَبْهَرَكَ.

وَاعْلَمْ أَنَّكَ إِنَّمَا خُلِقْتَ لِلاْخِرَةِ لاَ لِلدُّنْيَا، وَلِلْفَنَاءِ لاَ لِلْبَقَاءِ، وَلِلْمَوْت لاَ لِلْحَيَاةِ، وَأَنَّكَ فِي مَنْزِلِ قُلْعَة، وَدَارِ بُلْغَة، وَطرِيق إِلَى الاْخِرَةِ، وَأَنَّكَ طَريدُ الْمَوْتِ الَّذِي لاَ يَنْجُو مِنْهُ هَارِبُهُ، وَلاَ بُدَّ أَنَّهُ مُدْرِكُهُ، فَكُنْ مِنْهُ عَلَى حَذرِ أَنْ يُدْرِكَكَ وَأَنْتَ عَلَى حَال سَيِّئَة، قَدْ كُنْتَ تُحَدِّثُ نفْسَكَ مِنْهَا بِالتَّوْبَةِ، فَيَحُولَ بَيْنَكَ وَبَيْنَ ذلِكَ، فَإِذَا أَنْتَ قَدْ أَهْلَكتَ نَفْسَكَ.

رُوَيْداً يُسْفِرُ الظَّلاَمُ، كَأَنْ قَدْ وَرَدَتِ الاَْظْعَانُ، يُوشِكُ مَنْ أَسْرَعَ أَنْ يَلْحَقَ!
وَاعْلَمْ، أَنَّ مَنْ كَانَتْ مَطِيَّتُهُ اللَّيْلَ والنَّهَارَ، فَإِنَّهُ يُسَارُ بِهِ وَإِنْ كَانَ وَاقِفاً، وَيَقْطَعُ الْمَسَافَةَ وَإِنْ كَانَ مُقِيماً وَادِعاً.

وَإِيَّاكَ أَنْ تَغْتَرَّ بِمَا تَرَى مِنْ إِخْلاَدِ أَهْلِ الدُّنْيَا إِلَيْهَا، وَتَكَالُبِهِمْ عَلَيْهَا، فَقَدْ نَبَّأَكَ اللهُ عَنْهَا، وَنَعَتْ لَكَ نَفْسَهَا، وَتَكَشَّفَتْ لَكَ عَنْ مَسَاوِيهَا، فَإِنَّمَا أَهْلُهَا كِلاَبٌ عَاوِيَةٌ، وَسِبَاعٌ ضَارِيَةٌ، يَهِرُّ بَعْضُهَا بَعْضاً،يَأْكُلُ عَزِيزُهَا ذَلِيلَهَا، وَيَقْهَرُ كَبِيرُهَا صَغِيرَهَا، نَعَمٌ مُعَقَّلَةٌ، وَأُخْرَى مُهْمَلَةٌ، قَدْ أَضَلَّتْ عُقُولَهَا،رَكِبَتْ مَجْهُولَهَا، سُرُوحُ عَاهَة بِوَاد وَعْث، لَيْسَ لَهَا رَاع يُقيِمُهَا، وَلاَ مُسِيمٌ يُسِيمُهَا، سَلَكَتْ بِهِِمُ الدُّنْيَا طَرِيقَ الْعَمَى، وَأخَذَتْ بِأَبْصَارِهِمْ عَنْ مَنَارِ الْهُدَى، فَتاهُوا فِي حَيْرَتِهَا، وَغَرِقُوا فِي نِعْمَتِهَا، وَاتَّخَذُواهَا رَبّاً، فَلَعِبَتْ بِهِمْ وَلَعِبُوا بِهَا، وَنَسُوا مَا وَرَاءَهَا.

وَاعْلَمْ يَقِيناً، أَنَّكَ لَنْ تَبْلُغَ أَمَلَكَ، وَلَنْ تَعْدُوَ أَجَلَكَ، وَأَنَّكَ فِي سَبِيلِ مَنْ كَانَ قَبْلَكَ، فَخَفِّضْ فِي الطَّلَبِ، وَأَجْمِلْ فِي الْمُكْتَسَبِ، فَإِنَّهُ رُبَّ طَلَب قَدْ جَرَّ إِلَى حَرَب، فَلَيْسَ كُلُّ طَالِب بِمَرْزُوق، وَلاَكُلُّ مُجْمِل بِمَحْروُم، وَأَكْرِمْ نَفْسَكَ عَنْ كُلِّ دَنِيَّة وَإِنْ سَاقَتْكَ إِلَى الرَّغَائِبِ، فَإِنَّكَ لَنْ تَعْتَاضَ بِمَا تَبْذُلُ مِنْ نَفْسِكَ عِوَضاً. وَلاَ تَكُنْ عَبْدَ غَيْرِكَ وَقَدْ جَعَلَكَ اللهُ حُرّاً. وَمَا خَيْرُ خَيْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِشَرٍّ، ويُسْر لاَ يُنَالُ إِلاَّ بِعُسْر؟!

وَتَلاَفِيكَ مَا فَرَطَ مِنْ صَمْتِكَ أَيْسَرُ مِنْ إِدْرَاكِكَ مَا فَاتَ مِنْ مَنْطِقِكَ، وَحِفْظُ مَا فِي الْوِعَاءِ بِشَدِّ الْوِكَاءِ، وَحِفْظُ مَا فِي يَدَيْكَ أَحَبُّ إِلَيَّ مِنْ طَلَبِ مَا فِي يَدَيْ غَيْرِكَ، وَمَرَارَةُ الْيَأْسِ خَيْرٌ مِنَ الطَّلَبِ إِلَى النَّاسِ، وَالْحِرْفَةُ مَعَ الْعِفَّةِ خَيْرٌ مِنَ الْغِنَى مَعَ الْفُجُورِ، وَالْمَرْءُ أَحْفَظُ لِسِرِّهِ، وَرُبَّ سَاعِ فِيَما يَضُرُّهُ! مَنْ أَكْثَرَ أَهْجَرَ، وَمَنْ تَفَكَّرَ أَبْصَرَ، قَارِنْ أهْلَ الْخَيْرِ تَكُنْ مِنْهُمْ، وَبَايِنْ أَهْلَ الشَّرِّ تَبِنْ عَنْهُمْ،بِئْسَ الطَّعَامُ الْحَرَامُ! وَظُلْمُ الضَّعِيفِ أَفْحَشُ الظُّلْمِ، إِذَا كَانَ الرِّفْقُ خُرْقاً كَانَ الْخُرْقُ رِفْقاً، رُبَّمَا كَانَ الدَّوَاءُ دَاءً، وَالدَّاءُ دَوَاءً، وَرُبَّمَا نَصَحَ غَيْرُ النَّاصِحِ، وَغَشَّ الْمُسْتَنْصَحُ.وَإِيَّاكَ وَالاتِّكَالَ عَلَى الْمُنَى، فَإِنَّهَا بَضَائِعُ النَّوْكَى،

وَإِيَّاكَ أَنْ تُوجِفَ بِكَ مَطَايَا الطَّمَعِ، فَتُورِدَكَ مَنَاهِلَ الْهَلَكَةِ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَكُونَ بَيْنَكَ بَيْنَ اللهِ ذُونِعْمَة فَافْعَلْ، فإِنَّكَ مُدْرِكٌ قِسْمَكَ، وَآخِذٌ سَهْمَكَ، وَإِنَّ الْيَسِيرَ مِنَ اللهِ سُبْحَانَهُ أَكْرَمُ أَعْظَمُ مِنَ الْكَثِيرِ مِنْ خَلْقِهِ وَإِنْ كَانَ كُلٌّ مِنْهُ.

وَالْعَقْلُ حِفْظُ التَّجَارِبِ، وَخَيْرُ مَا جَرَّبْتَ مَا وَعَظَكَ، بَادِرِ الْفُرْصَةَ قَبْلَ أَنْ تَكُونَ غُصَّةً، لَيْسَ كُلُّ طَالِب يُصِيبُ، وَلاَ كُلُّ غَائِب يَؤُوبُ، وَمِنَ الْفَسَادِ إِضَاعَةُ الزَّادِ،وَمَفْسَدَةُ الْمَعَادِ، وَلِكُلِّ أَمْر عَاقِبَةٌ، سَوْفَ يَأْتيِكَ مَا قُدِّرَ لَكَ، التَّاجِرُ مُخَاطِرٌ، وَرُبَّ يَسِير أَنْمَى مِنْ كَثِير! لاَ خَيْرَ فِي مُعِين مَهِين، وَلاَ فِي صَدِيق ظَنِين، سَاهِلِ الدَّهْرَمَا ذَلَّ لَكَ قَعُودُهُ، وَلاَ تُخَاطِرْ بِشَيء رَجَاءَ أَكْثَرَ مِنْهُ، وَإِيَّاك أَنْ تَجْمَحَ بِكَ مَطِيَّةُ اللَّجَاجِ.

احْمِلْ نَفْسَكَ مِنْ أَخِيكَ عِنْدَ صَرْمِهِ عَلَى الصِّلَةِ، وَعِنْدَ صُدُودِهِ عَلَى اللَّطَفِ وَالْمُقَارَبَةِ، وَعِنْدَ جُمُودِهِ عَلَى الْبَذْلِ، وَعِنْدَ تَبَاعُدِهِ عَلَى الدُّنُوِّ، وَعِنْدَ شِدَّتِهِ عَلَى اللِّينِ، وَعِنْدَ جُرْمِهِ عَلَى الْعُذْرِ، حَتَّى كَأَنَّكَ لَهُ عَبْدٌ، وَكَأَنَّهُ ذُونِعْمَة عَلَيْكَ.وَإِيَّاكَ أَنْ تَضَعَ ذلِكَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِهِ، أَوْ أَنْ تَفْعَلَهُ بِغَيْرِ أَهْلِهِ، لاَ تَتَّخِذَنَّ عَدُوَّ صَدِيقِكَ صَدِيقاً فَتُعَادِيَ صَدِيقَكَ، وَامْحَضْ أَخَاكَ النَّصِيحَةَ، حَسَنةً كَانَتْ أَمْ قَبِيحَةً، وَتَجَرَّعِ الْغَيْظَ، فَإِنِّي لَمْ أَرَ جُرْعَةً أَحْلَى مِنْهَا عَاقِبَةً، وَلاَ أَلَذَّ مَغَبَّةً، وَلِنْ لِمَنْ غَالَظَكَ، فَإِنَّهُ يُوشِكُ أَنْ يَلِينَ لَكَ، وَخُذْ عَلَى عَدُوِّكَ بِالْفَضْلِ فإِنَّهُ أَحْلَى الظَّفَرَيْنِ، وَإِنْ أَرَدْتَ قَطِيعَةَ أَخِيكَ فَاسْتَبْقِ لَهُ مِنْ نَفْسِكَ بَقِيَّةً يَرْجِعُ إِلَيْهَا إِنْ بَدَا لَهُ ذلِكَ يَوْماً مَا، وَمَنْ ظَنَّ بِكَ خَيْراً فَصَدِّقْ ظَّنهُ، وَلاَ تُضِيعَنَّ حَقَّ أَخِيكَ اتِّكَالاً عَلَى مَا بَيْنَكَ وَبَيْنَهُ، فَإِنَّهُ لَيْسَ لَكَ بِأَخ مَنْ أَضَعْتَ حَقَّه، وَلاَ يكُنْ أَهْلُكَ أَشْقَى الْخَلْقِ بِكَ وَلاَ تَرْغَبَنَّ فِيمَنْ زَهِدَ فِيكَ، وَلاَ يَكُونَنَّ أَخُوكَ أَقْوَى عَلَى قَطِيعَتِكَ مِنْكَ عَلَى صِلَتِهِ، وَلاَ تكُونَنَّ عَلَى الاِْسَاءَةِ أَقْوَى مِنْكَ عَلَى الاِْحْسَانِ، وَلاَ يَكْبُرَنَّ عَلَيْكَ ظُلْمُ مَنْ ظَلَمَكَ، فَإِنَّهُ يَسْعَى فِي مَضَرَّتِهِ وَنَفْعِكَ، وَلَيْسَ جَزَاءُ مَنْ سَرَّكَ أَنْ تَسُوءَهُ.

وَاعْلَمْ يَا بُنَيَّ، أَنَّ الرِّزْقَ رِزْقَانِ: رِزْقٌ تَطْلُبُهُ، وَرِزْقٌ يَطْلُبُكَ، فَإِنْ أَنْتَ لَمْ تَأْتِهِ أَتَاكَ، مَا أَقْبَحَ الْخُضُوعَ عِنْدَ الْحَاجَةِ، وَالْجَفَاءَ عِنْدَ الْغِنَى! إِنَّمَا لَكَ مِنْ دُنْيَاكَ، مَا أَصْلَحْتَ بِهِ مَثْوَاكَ، وَإِنْ جَزِعْتَ عَلَى مَا تَفَلَّتَ مِنْ يَدَيْكَ، فَاجْزَعْ عَلَى كُلِّ مَا لَمْ يَصِلْ إِلَيْكَ.

اسْتَدِلَّ عَلَى مَا لَمْ يَكُنْ بِمَا قَدْ كَانَ، فَإِنَّ الاُْمُورَ أَشْبَاهٌ، وَلاَ تَكُونَنَّ مِمَّنْ لاَ تَنْفَعُهُ الْعِظَةُ إِلاَّ إِذَا بَالَغْتَ فِي إِيلاَمِهِ، فَإِنَّ الْعَاقِلَ يَتَّعِظُ بِالاَْدَبِ، وَالْبَهَائِمَ لاَ تَتَّعِظُ إِلاَّ بِالضَّرْبِ.

اطْرَحْ عَنْكَ وَارِدَاتِ الْهُمُومِ بِعَزَائِمِ الصَّبْرِ وَحُسْنِ الْيَقِينِ، مَنْ تَرَكَ الْقَصْدَجَارَ، وَالصَّاحِبُ مُنَاسِبٌ، وَالصَّدِيقُ مَنْ صَدَقَ غَيْبُهُ، وَالْهَوَى شَرِيكُ الْعَمَى، رُبَّ بَعِيد أَقْرَبُ مِنْ قَرِيب، وَقَرِيب أَبْعَدُ مِنْ بَعِيد، وَالْغَرِيبُ مَنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ حَبِيبٌ، مَنْ تَعَدَّى الْحَقَّ ضَاقَ مَذْهَبُهُ، وَمَنِ اقْتَصَرَ عَلَى قَدْرِهِ كَانَ أَبْقَى لَهُ، وَأوْثَقُ سَبَب أَخَذْتَ بِهِ سَبَبٌ بَيْنَكَ وَبَيْنَ اللهِ سُبْحَانَهُ، وَمَنْ لَمْ يُبَالِكَ فَهُوَ عَدُوُّكَ، قَدْ يَكُونُ الْيَأْسُ إِدْرَاكاً، إِذَا كَانَ الطَّمَعُ هَلاَكاً، لَيْسَ كُلُّ عَوْرَة تَظْهَرُ، وَلاَ كُلُّ فُرْصَة تُصَابُ، وَرُبَّمَا أَخْطَأَ الْبَصِيرُ قَصْدَهُ،أَصَابَ الاَْعْمَى رُشْدَهُ.أَخِّرِ الشَّرَّ، فَإِنَّكَ إِذَا شِئْتَ تَعَجَّلْتَهُ، وَقَطِيعَةُ الْجَاهِلِ تَعْدِلُ صِلَةَ الْعَاقِلِ، مَنْ أَمِنَ الزَّمَانَ خَانَهُ، وَمَنْ أَعْظَمَهُ أَهَانَهُ، لَيْسَ كُلُّ مَنْ رَمَى أَصَابَ، إِذَا تَغَيَّرَ السُّلْطَانُ تَغَيَّرَ الزَّمَانُ.

سَلْ عَنِ الرَّفِيقِ قَبْلَ الطَّرِيقِ، وَعَنِ الْجَارِ قَبْلَ الدَّارِإِيَّاكَ أَنْ تَذْكُرَ مِنَ الْكَلاَمِ مَا يَكُونُ مُضْحِكاً، وَإِنْ حَكَيْتَ ذلِكَ عَنْ غَيْرِكَ.

وَإِيَّاكَ وَمُشَاوَرَةَ النِّسَاءِ، فَإِنَّ رَأَيَهُنَّ إِلَى أَفْن، وَعَزْمَهُنَّ إِلَى وَهْن وَاكْفُفْ عَلَيْهِنَّ مِنْ أَبْصَارِهِنَّ بِحِجَابِكَ إِيَّاهُنَّ، فَإِنَّ شِدَّةَ الْحِجَابِ أَبْقَى عَلَيْهِنَّ، وَلَيْسَ خُرُوجُهُنَّ بِأَشَدَّ مَنْ إِدْخَالِكَ مَنْ لاَيُوثَقُ بِهِ عَلَيْهِنَّ، وَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَلاَّ يَعْرِفْنَ غَيْرَكَ فَافْعَلْ.وَلاَ تُمَلِّكِ الْمَرْأَةَ مِنْ أَمْرِهَا مَا جَاوَزَ نَفْسَهَا، فَإِنَّ الْمَرْأَةَ رَيْحَانَةٌ، وَلَيْسَتْ بِقَهْرَمَانَة وَلاَ تَعْدُ بِكَرَامَتِهَا نَفْسَهَا، وَلاَ تُطْمِعْهَا أَنْ تَشْفَعَ لِغَيْرِهَا.وَإِيَّاكَ وَالتَّغايُرَ فِي غَيْرِ مَوْضِعِ غَيْرَة، فَإِنَّ ذلِكَ يَدْعُوالصَّحِيحَةَ إِلَى السَّقَمِ، وَالْبَرِيئَةَ إِلَى الرِّيَبِ.

وَاجْعَلْ لِكُلِّ إِنْسَان مِنْ خَدَمِكَ عَمَلاً تَأْخُذُهُ بِهِ، فَإِنَّهُ أَحْرَى أَلاَّ يَتَوَاكَلُوافِي خِدْمَتِكَ.وَأَكْرِمْ عَشِيرَتَكَ، فَإِنَّهُمْ جَنَاحُكَ الَّذِي بِهِ تَطِيرُ، وَأَصْلُكَ الَّذِي إِلَيْهِ تَصِيرُ، وَيَدُكَ الَّتي بِهَا تَصُولُ.