العتبة العلوية المقدسة - أبو جَعفر الحَسَنى -
» » سيرة الإمام » قالوا في امير المؤمنين » المحدثين والمؤرخين » أبو جَعفر الحَسَنى

 أبو جَعفر الحَسَنى

شرح نهج البلاغة : كان [أبو جعفر] يقول : انظروا إلي أخلاقهما [رسول الله  وعلىّ   ] وخصائصهما ، هذا شجاع وهذا شجاع ، وهذا فصيح وهذا فصيح ، وهذا سخىّ جواد وهذا سخىّ جواد ، وهذا عالم بالشرائع والاُمور الإلهيّة وهذا عالم بالفقه والشريعة والاُمور الإلهيّة الدقيقة الغامضة ، وهذا زاهد فى الدنيا غير نهم ولا مستكثر منها وهذا زاهد فى الدنيا تارك لها غير متمتّع بلذّاتها ، وهذا مذيب نفسه فى الصلاة والعبادة وهذا مثله ، وهذا غير محبّب إليه شىء من الاُمور العاجلة إلاّ النساء وهذا مثله ، وهذا ابن عبد المطّلب بن هاشم ، وهذا فى قُعْدده ، وأبواهما أخوان لأب واحد دون غيرهما من بنى عبد المطّلب ، وربّى محمّدٌ  فى حِجْر والد هذا وهذا أبو طالب ، فكان جارياً عنده مجري أحد أولاده . ثمّ لمّا شبّ  وكبر استخلصه من بنى أبى طالب وهو غلام ، فربّا[هُ] فى حجره مكافأةً لصنيع أبى طالب به ، فامتزج الخلقان ، وتماثلت السجيّتان ، وإذا كان القرين مقتدياً بالقرين ، فما ظنّك بالتربية والتثقيف الدهر الطويل ؟ فواجب أن تكون أخلاق محمّد  كأخلاق أبى طالب ، وتكون أخلاق علىّ   كأخلاق أبى طالب أبيه ، ومحمّد   مربّيه ، وأن يكون الكلّ شيمة واحدة ، وسوساً(١) واحداً ، وطينة مشتركة ، ونفساً غير منقسمة ولا متجزّئة ، وأن لا يكون بين بعض هؤلاء وبعض فرق ولا فضل ، لولا أنّ الله تعالي اختصّ محمّداً  برسالته ، واصطفاه لوحيه ، لما يعلمه من مصالح البريّة فى ذلك ، ومن أنّ اللطف به أكمل ، والنفع بمكانه أتمّ وأعمّ . فامتاز رسول الله  بذلك عمّن سواه ، وبقى ما عدا الرسالة علي أمر الاتّحاد ، وإلي هذا المعني أشار  بقوله : "أخصمك بالنبوّة ; فلا نبوّة بعدى ، وتخصم الناس بسبع" وقال له أيضاً : "أنت منّى بمنزلة هارون من موسي إلاّ أنّه لا نبىّ بعدى" فأبان نفسه منه بالنبوّة ، وأثبت له ما عداها من جميع الفضائل والخصائص مشتركاً بينهما(شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٢١).

* ـ شرح نهج البلاغة ـ فى ذكر كلام أبى جعفر الحسنى فى الأسباب التى أوجبت محبّة الناس لعلىّ   ـ : كان أبو جعفر لا يجحد الفاضل فضله ، والحديث شجون .قلت له [أبى جعفر] مرّة : ما سبب حبّ الناس لعلىّ بن أبى طالب   ، وعشقهم له ، وتهالكهم فى هواه ؟ ودعنى فى الجواب من حديث الشجاعة والعلم والفصاحة ، وغير ذلك من الخصائص التى رزقه الله سبحانه الكثير الطيّب منها . فضحك وقال لى : كم تجمع جراميزك علىَّ !ثمّ قال : هاهنا مقدّمة ينبغى أن تُعلم ; وهى أنّ أكثر الناس موتورون من الدنيا ، أمّا المستحقّون فلا ريب فى أنّ أكثرهم محرومون ، نحو عالم يري أنّه لا حظّ له فى الدنيا ، ويري جاهلاً غيره مرزوقاً وموسّعاً عليه .وشجاع قد أبلي فى الحرب ، وانتفع بموضعه ، ليس له عطاء يكفيه ويقوم بضروراته ، ويري غيره وهو جبان فشل ، يفرق من ظلّه ، مالكاً لقطر عظيم من الدنيا ، وقطعة وافرة من المال والرزق .وعاقل سديد التدبير صحيح العقل ، قد قدر عليه رزقه ، وهو يري غيره أحمق مائقاً تدرّ عليه الخيرات ، وتتحلّب عليه أخلاف الرزق .وذى دين قويم ، وعبادة حسنة ، وإخلاص وتوحيد ، وهو محروم ضيّق الرزق ويري غيره يهوديّاً أو نصرانيّاً أو زنديقاً كثير المال حسن الحال .حتي إنّ هذه الطبقات المستحقّة يحتاجون فى أكثر الوقت إلي الطبقات التى لا استحقاق لها ، وتدعوهم الضرورة إلي الذلّ لهم ، والخضوع بين أيديهم ، إمّا لدفع ضرر ، أو لاستجلاب نفع . ودون هذه الطبقات من ذوى الاستحقاق أيضاً ما نشاهده عياناً من نجّار حاذق ، أو بنّاء عالم ، أو نقّاش بارع ، أو مصوّر لطيف ، علي غاية ما يكون من ضيق رزقهم ، وقعود الوقت بهم ، وقلّة الحيلة لهم ، ويري غيرهم ممّن ليس يجرى مجراهم ، ولا يلحق طبقتهم مرزوقاً مرغوباً فيه ، كثير المكسب ، طيّب العيش ، واسع الرزق . فهذا حال ذوى الاستحقاق والاستعداد .وأمّا الذين ليسوا من أهل الفضائل ، كحشو العامّة ; فإنّهم أيضاً لا يخلون من الحقد علي الدنيا والذمّ لها ، والحنق والغيظ منها لما يلحقهم من حسد أمثالهم وجيرانهم ، ولا يري أحد منهم قانعاً بعيشه ، ولا راضياً بحاله ، بل يستزيد ويطلب حالاً فوق حاله . قال : فإذا عرفت هذه المقدّمة ، فمعلوم أنّ عليّاً   كان مستحقّاً محروماً ، بل هو أمير المستحقّين المحرومين ، وسيّدهم وكبيرهم ، ومعلوم أنّ الذين ينالهم الضيم ، وتلحقهم المذلّة والهضيمة ، يتعصّب بعضهم لبعض ، ويكونون إلباً ويداً واحدة علي المرزوقين الذين ظفروا بالدنيا ، ونالوا مآربهم منها ، لاشتراكهم فى الأمر الذى آلمهم وساءهم ، وعَضَّهم ومضّهم ، واشتراكهم فى الأنفة والحميّة والغضب والمنافسة لمن علا عليهم وقهرهم ، وبلغ من الدنيا ما لم يبلغوه .فإذا كان هؤلاء ـ أعنى المحرومين ـ متساوين فى المنزلة والمرتبة ، وتعصّب بعضهم لبعض ، فما ظنّك بما إذا كان منهم رجل عظيم القدر جليل الخطر كامل الشرف ، جامع للفضائل محتو علي الخصائص والمناقب ، وهو مع ذلك محروم محدود ، وقد جرّعته الدنيا علاقمها ، وعلّته عللاً بعد نَهَل من صابها وصبرها ، ولقى منها برحاً بارحاً ، وجهداً جهيداً ، وعلا عليه من هو دونه ، وحكم فيه وفى بنيه وأهله ورهطه من لم يكن ما ناله من الإمرة والسلطان فى حسابه ، ولا دائراً فى خلده ، ولا خاطراً بباله ، ولا كان أحد من الناس يرتقب ذلك له ولا يراه له .ثمّ كان فى آخر الأمر أن قُتل هذا الرجل الجليل فى محرابه ، وقُتل بنوه بعده ، وسبى حريمه ونساؤه ، وتتبّع أهله وبنو عمّه بالقتل والطرد والتشريد والسجون ، مع فضلهم وزهدهم وعبادتهم وسخائهم ، وانتفاع الخلق بهم .فهل يمكن ألاّ يتعصّب البشر كلّهم مع هذا الشخص ؟ ! وهل تستطيع القلوب ألاّ تحبّه وتهواه ، وتذوب فيه وتفني فى عشقه ، انتصاراً له ، وحميّةً من أجله ، وأنفة ممّا ناله ، وامتعاضاً ممّا جري عليه ؟ ! وهذا أمر مركوز فى الطبائع ، ومخلوق فى الغرائز ، كما يشاهد الناس علي الجرف إنساناً قد وقع فى الماء العميق ، وهو لا يحسن السباحة ; فإنّهم بالطبع البشرى يرقّون عليه رقّة شديدة ، وقد يلقى قوم منهم أنفسهم فى الماء نحوه ، يطلبون تخليصه ،لا يتوقّعون علي ذلك مجازاة منه بمال أو شكر ، ولا ثواباً فى الآخرة ، فقد يكون منهم من لا يعتقد أمر الآخرة ، ولكنّها رقّة بشرية ، وكأنّ الواحد منهم يتخيّل فى نفسه أنّه ذلك الغريق ، فكما يطلب خلاص نفسه لو كان هذا الغريق ، كذلك يطلب تخليص من هو فى تلك الحال الصعبة للمشاركة الجنسيّة .وكذلك لو أنّ ملكاً ظلم أهل بلد من بلاده ظلماً عنيفاً ، لكان أهل ذلك البلد يتعصّب بعضهم لبعض فى الانتصار من ذلك الملك ، والاستعداء عليه ، فلو كان من جملتهم رجل عظيم القدر ، جليل الشأن ، قد ظلمه الملك أكثر من ظلمه إيّاهم ، وأخذ أمواله وضياعه ، وقتل أولاده وأهله ، كان لياذهم به ، وانضواؤهم إليه ، واجتماعهم والتفافهم به أعظم وأعظم ; لأنّ الطبيعة البشرية تدعو إلي ذلك علي سبيل الإيجاب الاضطرارى ، ولا يستطيع الإنسان منه امتناعاً . وهذا محصول قول النقيب أبى جعفر ، قد حكيته والألفاظ لى والمعني له ; لأنّى لا أحفظ الآن ألفاظه بعينها ، إلاّ أنّ هذا هو كان معني قوله وفحواه) شرح نهج البلاغة : ١٠ / ٢٢٣(.