مناظرته صلى الله عليه واله مع اهل الاديان والملل
* - في تفسير الإمام العسكري : قوله عز وجل : : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين بلى من أسلم وجهه لله وهو محسن فله أجره عند ربه ولا خوف عليهم ولا هم يحزنون قال الإمام عليه السلام : قال أمير المؤمنين عليه السلام : وقالوا يعني اليهود والنصارى . قالت اليهود : لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أي يهوديا ، وقوله : أو نصارى يعني وقالت النصارى : لن يدخل الجنة إلا من كان نصرانيا ،
قال أمير المؤمنين عليه السلام : وقد قال غيرهم قالت الدهرية : الأشياء لا بدء لها وهي دائمة ، من خالفنا ضال مخطئ مضل ، وقالت الثنوية : النور والظلمة هما المدبر ان ، من خالفنا فقد ضل ، وقالت مشركو العرب : إن أوثاننا آلهة من خالفنا في هذا ضل ، فقال الله تعالى : تلك أمانيهم التي يتمنونها قل لهم هاتوا برهانكم على مقالتكم إن كنتم صادقين .
وقال الصادق عليه السلام وقد ذكر عنده الجدال في الدين ، وأن رسول الله صلى الله عليه وآله والأئمة عليهم السلام قد نهوا عنه
فقال الصادق عليه السلام : لم ينه عنه مطلقا ، ولكنه نهى عن الجدال بغير التي هي أحسن أما تسمعون الله يقول : ولا تجادلوا أهل الكتاب إلا بالتي هي أحسن ؟ وقوله تعالى : ادع إلى سبيل ربك بالحكمة والموعظة الحسنة وجادلهم بالتي هي أحسن ؟ . فالجدال بالتي هي أحسن قد قرنه العلماء بالدين ، والجدال بغير التي هي أحسن محرم حرمه الله على شيعتنا ، وكيف يحرم الله الجدال جملة وهو يقول : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى قال الله تعالى : تلك أمانيهم قل هاتوا برهانكم إن كنتم صادقين ؟ فجعل علم الصدق الاتيان بالبرهان ، وهل يؤتى بالبرهان إلا في الجدال بالتي هي أحسن ؟
قيل : يا ابن رسول الله فما الجدال بالتي هي أحسن والتي ليست بأحسن ؟ .
قال : أما الجدال الذي بغير التي هي أحسن فأن تجادل مبطلا فيورد عليك باطلا فلا ترده بحجة قد نصبها الله ، ولكن تجحد قوله أو تجحد حقا يريد ذلك المبطل أن يعين به باطله ، فتجحد ذلك الحق مخافة أن يكون له عليك فيه حجة ، لأنك لا تدري كيف المخلص منه ، فذلك حرام على شيعتنا أن يصيروا فتنة على ضعفاء إخوانهم وعلى المبطلين ، أما المبطلون فيجعلون ضعف الضعيف منكم إذا تعاطى مجادلته وضعف ما ( من خ ل ) في يده حجة له على باطله ، وأما الضعفاء منكم فتعمى قلوبهم لما يرون من ضعف المحق في يد المبطل . وأما الجدال بالتي هي أحسن فهو ما أمر الله تعالى به نبيه أن يجادل به من جحد البعث بعد الموت وإحياءه له ، فقال الله تعالى حاكيا عنه : وضرب لنا مثلا و نسي خلقه قال من يحيي العظام وهي رميم فقال الله تعالى في الرد عليه : قل يا محمد يحييها الذي أنشأها أول مرة وهو بكل خلق عليم الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا فإذا أنتم منه توقدون فأراد الله من نبيه أن يجادل المبطل الذي قال : كيف يجوز أن يبعث هذه العظام وهي رميم ؟ فقال الله : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة أفيعجز من ابتدأ به لا من شئ أن يعيده بعد أن يبلى ؟ بل ابتداؤه أصعب عندكم من إعادته ، ثم قال : الذي جعل لكم من الشجر الأخضر نارا أي إذا كان قد كمن النار الحارة في الشجر الأخضر الرطب ثم يستخرجها فعرفكم أنه على إعادة من بلي أقدر ، ثم قال : أوليس الذي خلق السماوات والأرض بقادر على أن يخلق مثلهم بلى وهو الخلاق العليم أي إذا كان خلق السماوات والأرض أعظم وأبعد في أوهامكم وقدركم ( وقدرتكم خ ل ) أن يقدروا عليه من إعادة البالي فكيف جوزتم من الله خلق الأعجب عندكم والأصعب لديكم ، ولم تجوزوا منه ما هو أسهل عندكم من إعادة البالي ؟ . قال الصادق عليه السلام : فهذا الجدال بالتي هي أحسن ، لان فيها قطع عذر الكافرين وإزالة شبههم ، وأما الجدال بغير التي هي أحسن فأن تجحد حقا لا يمكنك أن تفرق بينه وبين باطل من تجادله ، وإنما تدفعه عن باطله بأن تجحد الحق ، فهذا هو المحرم لأنك مثله ، جحد هو حقا وجحدت أنت حقا آخر . وقال أبو محمد الحسن بن علي العسكري عليهما السلام : فقام إليه رجل آخر فقال : يا بن رسول الله أفجادل رسول الله ؟ فقال الصادق عليه السلام : مهما ظننت برسول الله صلى الله عليه وآله من شئ فلا تظنن به مخالفة الله ، أليس الله قد قال : وجادلهم بالتي هي أحسن وقال : قل يحييها الذي أنشأها أول مرة لمن ضرب لله مثلا ، أفتظن أن رسول الله صلى الله عليه وآله خالف ما أمره الله به ، فلم يجادل ما أمر الله به ، ولم يخبر عن الله بما أمره أن يخبر به ؟ ولقد حدثني أبي الباقر ، عن جدي علي بن الحسين زين العابدين ، عن أبيه الحسين سيد الشهداء ، عن أمير المؤمنين علي بن أبي طالب صلوات الله عليهم أجمعين أنه اجتمع يوما عند رسول الله صلى الله عليه وآله أهل خمسة أديان : اليهود ، والنصارى ، والدهرية ، والثنوية ، ومشركو العرب ،
فقالت اليهود : نحن نقول : عزير ابن الله ، وقد جئناك يا محمد لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك . وقالت النصارى : نحن نقول : المسيح ابن الله اتحد به ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك . وقالت الدهرية : نحن نقول : الأشياء لا بدء لها وهي دائمة ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك .
وقالت الثنوية : نحن نقول : إن النور والظلمة هما المدبر ان ، وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك . وقالت مشركو العرب : نحن نقول : إن أوثاننا آلهة وقد جئناك لننظر ما تقول ، فإن اتبعتنا فنحن أسبق إلى الصواب منك وأفضل ، وإن خالفتنا خصمناك . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : آمنت بالله وحده لا شريك له ، وكفرت بالجبت وبكل معبود سواه ، ثم قال لهم : إن الله تعالى قد بعثني كافة للناس بشيرا ونذيرا حجة على العالمين ، وسيرد كيد من يكيد دينه في نحره ، ثم قال لليهود : أجئتموني لاقبل قولكم بغير حجة ؟ قالوا : لا ، قال : فما الذي دعاكم إلى القول بأن عزيرا ابن الله ؟ قالوا : لأنه أحيا لبني إسرائيل التوراة بعد ما ذهبت ، ولم يفعل بها هذا إلا لأنه ابنه . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : فكيف صار عزير ابن الله دون موسى وهو الذي جاءهم بالتوراة ورئي منه من المعجزات ما قد علمتم ؟ فإن كان عزير ابن الله لما أظهر من الكرامة بإحياء التوراة فلقد كان موسى بالبنوة أحق وأولى ، ولئن كان هذا المقدار من إكرامه لعزير يوجب أنه ابنه فأضعاف هذه الكرامة لموسى توجب له منزلة أجل من البنوة ، وإن كنتم إنما تريدون بالبنوة الولادة على سبيل ما تشاهدونه في دنياكم هذه من ولادة الأمهات الأولاد بوطي آبائهم لهن فقد كفرتم بالله وشبهتموه بخلقه ، وأوجبتم فيه صفات المحدثين ، ووجب عندكم أن يكون محدثا مخلوقا ، وأن يكون له خالق صنعه وابتدعه ، قالوا : لسنا نعني هذا ، فإن هذا كفر كما ذكرت ، ولكنا نعني أنه ابنه على معنى الكرامة وإن لم يكن هناك ولادة ، كما يقول بعض علمائنا لمن يريد إكرامه وإبانته بالمنزلة عن غيره : يا بني ، وإنه ابني ، لا على إثبات ولادته منه ، لأنه قد يقول ذلك لمن هو أجنبي لانسب بينه وبينه ، وكذلك لما فعل الله بعزير ما فعل كان قد اتخذه ابنا على الكرامة لا على الولادة ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : فهذا ما قلته لكم : إنه إن وجب على هذا الوجه أن يكون عزير ابنه فإن هذه المنزلة لموسى أولى ، وإن الله يفضح كل مبطل بإقراره ويقلب عليه حجته . وأما ما احتججتم به يؤديكم إلى ما هو أكبر مما ذكرته لكم ، لأنكم قلتم : إن عظيما من عظمائكم قد يقول لأجنبي لا نسب بينه وبينه : يا بني ، وهذا ابني ، لا على طريق الولادة ، فقد تجدون أيضا هذا العظيم يقول لأجنبي آخر : هذا أخي ، ولآخر : هذا شيخي وأبي ، ولآخر : هذا سيدي ويا سيدي على سبيل الاكرام ، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، فإذا يجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله أو شيخا له أو أبا أو سيدا لأنه قد زاده في الاكرام مما لعزير ، كما أن من زاد رجلا في الاكرام قال له يا سيدي ويا شيخي ويا عمي ويا رئيسي على طريق الاكرام ، وإن من زاده في الكرامة زاده في مثل هذا القول ، أفيجوز عندكم أن يكون موسى أخا لله ، أو شيخا ، أو عما أو رئيسا ، أو سيدا ، أو أميرا ؟ لأنه قد زاده في الاكرام على من قال له : يا شيخي أو يا سيدي ، أو يا عمي ، أو يا أميري ، أو يا رئيسي ، قال : فبهت القوم وتحيروا و قالوا : يا محمد أجلنا نتفكر فيما قلته لنا ، فقال : انظروا فيه بقلوب معتقدة للانصاف يهدكم الله . ثم أقبل صلى الله عليه وآله على النصارى فقال : وأنتم قلتم : إن القديم عز وجل اتحد بالمسيح ابنه ، فما الذي أردتموه بهذا القول ؟ أردتم أن القديم صار محدثا لوجود هذا المحدث الذي هو عيسى ؟ أو المحدث الذي هو عيسى صار قديما لوجود القديم الذي هو الله ؟ أو معنى قولكم : إنه اتحد به أنه اختصه بكرامة لم يكرم بها أحدا سواه ؟ فإن أردتم أن القديم تعالى صار محدثا فقد أبطلتم ، لان القديم محال أن ينقلب فيصير محدثا ، وإن أردتم أن المحدث صار قديما فقد أحلتم ، لان المحدث أيضا محال أن يصير قديما ، وإن أردتم أنه اتحد به بأن اختصه واصطفاه على سائر عباده فقد أقررتم بحدوث عيسى وبحدوث المعنى الذي اتحد به من أجله ، لأنه إذا كان عيسى محدثا وكان الله اتحد به بأن أحدث به معنى صار به أكرم الخلق عنده فقد صار عيسى وذلك المعنى محدثين ، وهذا خلاف ما بدأتم تقولونه ، قال : فقالت النصارى : يا محمد إن الله تعالى لما أظهر على يد عيسى من الأشياء العجيبة ما أظهر فقد اتخذه ولدا على جهة الكرامة . فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله : قد سمعتم ما قلته لليهود في هذا المعنى الذي ذكرتموه ، ثم أعاد صلى الله عليه وآله ذلك كله ، فسكتوا إلا رجلا واحدا منهم قال له : يا محمد أو لستم تقولون : إن إبراهيم خليل الله ؟ قال : قد قلنا ذلك ، فقال إذا قلتم ذلك فلم منعتمونا من أن نقول : إن عيسى ابن الله ؟ . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : إنهما لم يشتبها ، لان قولنا : إن إبراهيم خليل الله فإنما هو مشتق من الخلة أو الخلة ، فأما الخلة فإنما معناها الفقر والفاقة ، وقد كان خليلا إلى ربه فقيرا ، وإليه منقطعا ، وعن غيره متعففا معرضا مستغنيا ، وذلك لما أريد قذفه في النار فرمي به في المنجنيق فبعث الله تعالى جبرئيل عليه السلام وقال له : أدرك عبدي ، فجاءه فلقيه في الهواء فقال : كلفني ما بدا لك فقد بعثني الله لنصرتك ، فقال : بل حسبي الله ونعم الوكيل ، إني لا أسأل غيره ولا حاجة لي إلا إليه ، فسماه خليله أي فقيره ومحتاجه والمنقطع إليه عمن سواه . وإذا جعل معنى ذلك من الخلة ( الخلل خ ل ) وهو أنه قد تخلل معانيه ووقف على أسرار لم يقف عليها غيره كان معناه العالم به وبأموره ، ولا يوجب ذلك تشبيه الله بخلقه ، ألا ترون أنه إذا لم ينقطع إليه لم يكن خليله ؟ وإذا لم يعلم بأسراره لم يكن خليله ؟ وأن من يلده الرجل وإن أهانه وأقصاه لم يخرج عن أن يكون ولده ؟ لان معنى الولادة قائم ، ثم إن وجب لأنه قال : إبراهيم خليلي أن تقيسوا أنتم فتقولوا : إن عيسى ابنه وجب أيضا أن تقولوا له ولموسى : إنه ابنه ، فإن الذي معه من المعجزات لم يكن بدون ما كان مع عيسى ، فقولوا : إن موسى أيضا ابنه ، وإنه يجوز أن تقولوا على هذا المعنى : إنه شيخه وسيده وعمه و رئيسه وأميره كما ذكرته لليهود . فقال بعضهم لبعض : وفي الكتب المنزلة أن عيسى قال : أذهب إلى أبي ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : فإن كنتم بذلك الكتاب تعملون فإن فيه : أذهب إلى أبي وأبيكم ، فقولوا : إن جميع الذين خاطبهم عيسى كانوا أبناء الله كما كان عيسى ابنه من الوجه الذي كان عيسى ابنه ، ثم إن ما في هذا الكتاب يبطل عليكم هذا الذي زعمتم أن عيسى من جهة الاختصاص كان ابنا له ، لأنكم قلتم : إنما قلنا : إنه ابنه لأنه اختصه بما لم يختص به غيره ، وأنتم تعلمون أن الذي خص به عيسى لم يخص به هؤلاء القوم الذين قال لهم عيسى : أذهب إلى أبي وأبيكم ، فبطل أن يكون الاختصاص لعيسى ، لأنه قد ثبت عندكم بقول عيسى لمن لم يكن له مثل اختصاص عيسى وأنتم إنما حكيتم لفظة عيسى وتأولتموها على غير وجهها ، لأنه إذا قال : أبي وأبيكم فقد أراد غير ما ذهبتم إليه ونحلتموه ، وما يدريكم لعله عنى : أذهب إلى آدم أو إلى نوح إن الله يرفعني إليهم ويجمعني معهم ، وآدم أبي وأبيكم وكذلك نوح ، بل ما أراد غير هذا ، فسكتت النصارى وقالوا : ما رأينا كاليوم مجادلا ولا مخاصما وسننظر في أمورنا . ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الدهرية فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى القول بأن الأشياء لا بدء لها وهي دائمة لم تزل ولا تزال ؟
فقالوا : لأنا لا نحكم إلا بما نشاهد ولم نجد للأشياء محدثا فحكمنا بأنها لم تزل ، ولم نجد لها انقضاء وفناء فحكمنا بأنها لا تزال ، فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أفوجدتم لها قدما أم وجدتم لها بقاء أبدا لابد ؟ فإن قلتم : إنكم وجدتم ذلك أثبتم لأنفسكم أنكم لم تزالوا على هيئتكم وعقولكم بلا نهاية ولا تزالون كذلك ، ولئن قلتم هذا دفعتم العيان وكذبكم العالمون الذين يشاهدونكم ، قالوا : بل لم نشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الأبد ،
قال رسول الله صلى الله عليه وآله : فلم صرتم بأن تحكموا بالقدم والبقاء دائما ؟ لأنكم لم تشاهدوا حدوثها وانقضاءها أولى من تارك التميز لها مثلكم ، فيحكم لها بالحدوث والانقضاء والانقطاع ، لأنه لم يشاهد لها قدما ولا بقاء أبد الأبد ، أو لستم تشاهدون الليل والنهار وأحدهما بعد الآخر ؟
فقالوا : نعم ، فقالوا : أفترونهما لم يزالا ولا يزالان ؟ فقالوا : نعم ، قال : أفيجوز عندكم اجتماع الليل والنهار ؟
فقالوا : لا ، فقال عليه السلام : فإذا ينقطع أحدهما عن الآخر فيسبق أحدهما ويكون الثاني جاريا بعده ، فقالوا : كذلك هو ، فقال : قد حكمتم بحدوث ما تقدم من ليل ونهار ولم تشاهدوهما فلا تنكروا لله قدرة ( قدرته خ ل ) ثم قال عليه السلام : أتقولون ما قبلكم من الليل والنهار متناه أم غير متناه ؟ فإن قلتم : غير متناه فقد وصل إليكم آخر بلا نهاية لأوله ، وإن قلتم : إنه متناه فقد كان ولا شئ منهما ، قالوا : نعم ، قال لهم : أقلتم : إن العالم قديم غير محدث وأنتم عارفون بمعنى ما أقررتم به وبمعنى ما جحدتموه ؟ قالوا : نعم ، قال رسول الله صلى الله عليه وآله : فهذا الذي نشاهده من الأشياء بعضها إلى بعض مفتقر ، لأنه لأقوام للبعض إلا بما يتصل به ، كما ترى البناء محتاجا بعض أجزائه إلى بعض وإلا لم يتسق ولم يستحكم ، وكذلك سائر ما نرى ، قال : فإذا كان هذا المحتاج بعضه إلى بعض لقوته وتمامه هو القديم فأخبروني أن لو كان محدثا كيف كان يكون ؟ وماذا كانت تكون صفته ؟ قال : فصمتوا وعلموا أنهم لا يجدون للمحدث صفة يصفونه بها إلا وهي موجودة في هذا الذي زعموا أنه قديم ، فوجموا وقالوا : سننظر في أمرنا . ثم أقبل رسول الله صلى الله عليه وآله على الثنوية الذين قالوا : النور والظلمة هما المدبر ان فقال : وأنتم فما الذي دعاكم إلى ما قلتموه من هذا ؟
فقالوا : لأنا قد وجدنا العالم صنفين : خيرا وشرا ، ووجدنا الخير ضدا للشر ، فأنكرنا أن يكون فاعل واحد يفعل الشئ وضده . بل لكل واحد منهما فاعل ، ألا ترى أن الثلج محال أن يسخن كما أن النار محال أن تبرد ، فأثبتنا لذلك صانعين قديمين : ظلمة ونورا ، فقال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله : أفلستم قد وجدتم سوادا وبياضا وحمرة وصفرة وخضرة وزرقة ؟ وكل واحد ضد لسائرها لاستحالة اجتماع اثنين منها في محل واحد ، كما كان الحر والبرد ضدين لاستحالة اجتماعهما في محل واحد ؟
قالوا : نعم ، قال : فهلا أثبتم بعدد كل لون صانعا قديما ليكون فاعل كل ضد من هذه الألوان غير فاعل الضد الآخر ؟ ! قال : فسكتوا . ثم قال : وكيف اختلط هذا النور والظلمة وهذا من طبعه الصعود وهذا من طبعه النزول ؟ أرأيتم لو أن رجلا أخذ شرقا يمشي إليه والآخر غربا يمشي إليه أكان يجوز أن يلتقيا ما داما سائرين على وجوههما ؟ قالوا : لا ، فقال : وجب أن لا يختلط النور والظلمة ، لذهاب كل واحد منهما في غير جهة الآخر ، فكيف حدث هذا العالم من امتزاج ما محال أن يمتزج ؟
بل هما مدبران جميعا مخلوقان ، فقالوا : سننظر في أمورنا . ثم أقبل على مشركي العرب وقال : وأنتم فلم عبدتم الأصنام من دون الله ؟ فقالوا : نتقرب بذلك إلى الله تعالى ، فقال : أو هي سامعة مطيعة لربها ، عابدة له ، حتى تتقربوا بتعظيمها إلى الله ؟ فقالوا : لا ، قال : فأنتم الذين نحتتموها بأيديكم فلان تعبدكم هي لو كان يجوز منها العبادة أحرى من أن تعبدوها إذا لم يكن أمركم بتعظيمها من هو العارف بمصالحكم وعواقبكم والحكيم فيما يكلفكم ، قال : فلما قال رسول الله صلى الله عليه وآله هذا اختلفوا فقال بعضهم . إن الله قد حل في هياكل رجال كانوا على هذه الصور فصورنا هده الصور نعظمها لتعظيمنا تلك الصور التي حل فيها ربنا . وقال آخرون منهم : إن هذه صور أقوام سلفوا كانوا مطيعين لله قبلنا ، فمثلنا صورهم وعبدناها تعظيما لله . وقال آخرون منهم : إن الله لما خلق آدم وأمر الملائكة بالسجود له كنا نحن أحق بالسجود لآدم من الملائكة ، ففاتنا ذلك فصورنا صورته فسجدنا له تقربا إلى الله تعالى كما تقربت الملائكة بالسجود لآدم إلى الله تعالى ، وكما أمرتم بالسجود بزعمكم إلى جهة مكة ( كعبة خ ل ) ففعلتم ، ثم نصبتم في ذلك البلد بأيديكم محاريب سجدتم إليها وقصدتم الكعبة لا محاريبكم ، وقصدكم بالكعبة إلى الله عز وجل لا إليها . فقال رسول الله صلى الله عليه وآله : أخطأتم الطريق وضللتم ، أما أنتم - وهو يخاطب الذين قالوا : إن الله يحل في هياكل رجال كانوا على هذه الصور التي صورناها ، فصورنا هذه نعظمها لتعظيمنا لتلك الصور التي حل فيها ربنا - فقد وصفتم ربكم بصفة المخلوقات ، أو يحل ربكم في شئ حتى يحيط به ذلك الشئ ؟ فأي فرق بينه إذا وبين سائر ما يحل فيه من لونه وطعمه ورائحته ولينه وخشونته وثقله وخفته ؟ ولم صار هذا المحلول فيه محدثا وذلك قديما دون أن يكون ذلك محدثا وهذا قديما ؟ وكيف يحتاج إلى المحال من لم يزل قبل المحال وهو عز وجل كما لم يزل ؟ وإذا وصفتموه بصفة المحدثات في الحلول فقد لزمكم أن تصفوه بالزوال ، أما ما وصفتموه بالزوال والحدوث فصفوه بالفناء ، لان ذلك أجمع من صفات الحال و المحلول فيه ، وجميع ذلك يغير الذات ، فإن كان لم يتغير ذات الباري عز وجل بحلوله في شئ جاز أن لا يتغير بأن يتحرك ويسكن ويسود ويبيض ويحمر و يصفر وتحله الصفات التي تتعاقب على الموصوف بها حتى يكون فيه جميع صفات المحدثين ، ويكون محدثا - عز الله تعالى عن ذلك - ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله : فإذا بطل ما ظننتموه من أن الله يحل في شئ فقد فسد ما بنيتم عليه قولكم ،
قال : فسكت القوم وقالوا : سننظر في أمورنا . ثم أقبل على الفريق الثاني فقال : أخبرونا عنكم إذا عبدتم صور من كان يعبد الله فسجدتم له وصليتم فوضعتم الوجوه الكريمة على التراب بالسجود لها فما الذي أبقيتم لرب العالمين ؟
أما علمتم أن من حق من يلزم تعظيمه وعبادته أن لا يساوى به عبده ؟ أرأيتم ملكا أو عظيما إذا ساويتموه بعبيده في التعظيم والخشوع والخضوع أيكون في ذلك وضع من الكبير كما يكون زيادة في تعظيم الصغير ؟ فقالوا : نعم ، قال : أفلا تعلمون أنكم من حيث تعظمون الله بتعظيم صور عباده المطيعين له تزرون على رب العالمين ؟
قال : فسكت القوم بعد أن قالوا : سننظر في أمورنا . ثم قال رسول الله صلى الله عليه وآله للفريق الثالث : لقد ضربتم لنا مثلا وشبهتمونا بأنفسكم ولا سواء ، وذلك لأنا عباد الله مخلوقون مربوبون نأتمر له فيما أمرنا ، وننزجر عما زجرنا ، ونعبده من حيث يريده منا ، فإذا أمرنا بوجه من الوجوه أطعناه ولم نتعد إلى غيره مما لم يأمرنا ولم يأذن لنا ، لأنا لا ندري لعله أراد منا الأول وهو يكره الثاني ، وقد نهانا أن نتقدم بين يديه ، فلما أمرنا أن نعبده بالتوجه إلى الكعبة أطعنا ثم أمرنا بعبادته بالتوجه نحوها في سائر البلدان التي نكون بها فأطعنا ، فلم نخرج في شئ من ذلك عن اتباع أمره ، والله عز وجل حيث أمرنا بالسجود لآدم لم يأمر بالسجود لصورته التي هي غيره ، فليس لكم أن تقيسوا ذلك عليه ، لأنكم لا تدرون لعله يكره ما تفعلون إذ لم يأمركم به ،
ثم قال لهم رسول الله صلى الله عليه وآله : أرأيتم لو أذن لكم رجل في دخول داره يوما بعينه ألكم أن تدخلوها بعد ذلك بغير أمره ؟ أولكم أن تدخلوا دارا له أخرى مثلها بغير أمره ؟ أو وهب لكم رجل ثوبا من ثيابه أو عبدا من عبيده أو دابة من دوابه ألكم أن تأخذوا ذلك ؟ فإن لم تأخذوه أخذتم آخر مثله قالوا : لا ، لأنه لم يأذن لنا في الثاني كما أذن لنا في الأول ،
قال : فأخبروني : الله أولى بأن لا يتقدم على ملكه بغير أمره أو بعض المملوكين ؟ قالوا : بل الله أولى بأن لا يتصرف في ملكه بغير إذنه ، قال : فلم فعلتم ، ومتى أمركم أن تسجدوا لهذه الصور ؟ قال : فقال القوم : سننظر في أمورنا وسكتوا . وقال الصادق عليه السلام : فوالذي بعثه بالحق نبيا ما أتت على جماعتهم إلا ثلاثة أيام حتى أتوا رسول الله صلى الله عليه وآله فأسلموا ، وكانوا خمسة وعشرين رجلا من كل فرقة خمسة ، وقالوا : ما رأينا مثل حجتك يا محمد ، نشهد أنك رسول الله صلى الله عليه وآله . وقال الصادق عليه السلام : قال أمير المؤمنين عليه السلام : فأنزل الله تعالى : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض وجعل الظلمات والنور ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فكان في هذه الآية ردا على ثلاثة أصناف منهم ، لما قال : الحمد لله الذي خلق السماوات والأرض فكان رد على الدهرية الذين قالوا : الأشياء لا بدء لها وهي دائمة ، ثم قال : وجعل الظلمات والنور فكان ردا على الثنوية الذين قالوا : إن النور والظلمة هما المدبر ان ، ثم قال : ثم الذين كفروا بربهم يعدلون فكان ردا على مشركي العرب الذين قالوا : إن أوثاننا آلهة ، ثم أنزل الله تعالى : قل هو الله أحد إلى آخرها ، فكان ردا على من ادعى من دون الله ضدا أو ندا . قال : فقال رسول الله صلى الله عليه وآله لأصحابه : قولوا : إياك نعبد أي نعبد واحدا لا نقول كما قالت الدهرية : إن الأشياء لا بدء لها وهي دائمة ، ولا كما قالت الثنوية الذين قالوا : إن النور والظلمة هما المدبر ان ، ولا كما قال مشركو العرب : إن أوثاننا إلهة ، فلا نشرك بك شيئا ، ولا ندعي من دونك إلها كما يقول هؤلاء الكفار ، و لا نقول كما قالت اليهود والنصارى : إن لك ولدا ، تعاليت عن ذلك . قال : فذلك قوله : وقالوا لن يدخل الجنة إلا من كان هودا أو نصارى وقال غيرهم من هؤلاء الكفار ما قالوا قال الله : يا محمد تلك أمانيهم التي يتمنونها بلا حجة قل هاتوا برهانكم وحجتكم على دعواكم إن كنتم صادقين كما أتى محمد ببراهينه التي سمعتموها ، ثم قال : بلى من أسلم وجهه لله يعني كما فعل هؤلاء الذين آمنوا برسول الله صلى الله عليه وآله لما سمعوا براهينه وحججه وهو محسن في عمله لله فله أجره ثوابه عند ربه يوم فصل القضاء ولا خوف عليهم حين يخاف الكافرون ما ( مما خ ل ) يشاهدونه من العذاب ولا هم يحزنون عند الموت لان البشارة بالجنان تأتيهم عند ذلك ([1])