خاتمة في بيان عصمة الأنبياء و تأويل ما يوهم خلاف
قال الصدوق قدس الله ضريحه : اعتقادنا في الأنبياء و الرسل و الأئمة و
الملائكة (صلى الله عليه وآله وسلم) أنهم معصومون مطهرون من كل دنس و أنهم لا يذنبون ذنبا صغيرا و لا كبيرا
و لا يعصون الله ما أمرهم و يفعلون ما يؤمرون و من نفى عنهم العصمة في شيء من أحوالهم فقد جهلهم و اعتقادنا
فيهم أنهم موصوفون بالكمال و التمام و العلم من أوائل أمورهم إلى أواخرها لا
يوصفون في شيء من أحوالهم بنقص و لا جهل.
روى قدس الله رمسه
في كتاب الأمالي بإسناده إلى أبي الصلت الهروي قال : لما جمع المأمون لعلي بن موسى
الرضا (عليه السلام) أهل المقالات من أهل الإسلام و الديانات و اليهود و النصارى و المجوس و
الصابئين و سائر أهل المقالات فلم يقم أحد إلا و قد ألزمه حجته كأنه ألقم حجرا
فقام إليه علي بن الجهم فقال يا ابن رسول الله أ تقول بعصمة الأنبياء قال بلى قال
فما تعمل في قول الله عز و جل وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى و قوله عز و جل وَ ذَا
النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ و قوله في
يوسف وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها و قوله في داود وَ ظَنَّ داوُدُ
أَنَّما فَتَنَّاهُ و قوله في نبيه محمد وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ
مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فقال مولانا
الرضا (عليه السلام) ويحك يا علي اتق الله و لا تنسب إلى أنبياء الله الفواحش و لا تأول كتاب
الله برأيك فإن الله عز و جل يقول وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ وَ
الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ و أما قوله عز و جل وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فإن
الله عز و جل خلق آدم حجة في أرضه و خليفة في بلاده و لم يخلقه للجنة و كانت
المعصية من آدم في الجنة لا في الأرض لتتم مقادير أمر الله عز و جل فلما أهبط إلى
الأرض جعل حجة و خليفة عصم بقوله عز و جل إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً
وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ و أما قوله عز و جل وَ ذَا
النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ إنما ظن أن
الله عز و جل لا يضيق عليه
[12]
أ لا تسمع قول الله عز و جل
وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي ضيق عليه و لو ظن أن
الله لا يقدر عليه لكان قد كفر أما قوله عز و جل في يوسف وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ
وَ هَمَّ : : بِها فإنها همت بالمعصية و هم يوسف بقتلها إن أجبرته لعظم ما داخله فصرف
الله عنه قتلها و الفاحشة و هو قوله كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ
الْفَحْشاءَ يعني الزنى و أما داود فما يقولون من قبلكم فيه فقال علي بن الجهم
يقولون إن داود كان في محرابه يصلي إذ تصور له إبليس على صورة طير أحسن ما يكون من
الطيور فقطع صلاته و قام ليأخذ الطير فخرج الطير إلى الدار فخرج في أثره فطار
الطير إلى السطح فصعد في طلبه فسقط الطير في دار أوريا بن حنان فاطلع داود في أثر
الطير فإذا امرأة أوريا تغتسل فلما نظر إليها هواها و كان أوريا قد أخرجه في بعض
غزواته فكتب إلى صاحبه أن قدم أوريا أمام الحرب فقدم فظفر أوريا بالمشركين فصعب
ذلك على داود فكتب الثانية أن قدمه أمام التابوت فقتل أوريا رحمه الله و تزوج داود
بامرأته قال فضرب الرضا (عليه السلام) بيده على جبهته و قال إنا لله و إنا إليه راجعون و لقد
نسبتم نبيا من الأنبياء إلى التهاون بصلاته حتى خرج في أثر الطير ثم بالفاحشة ثم
بالقتل .
فقال يا ابن رسول الله فما كانت خطيئته فقال ويحك إن داود إنما ظن أن
الله لم يخلق خلقا هو أعلم منه فبعث الله إليه الملكين فتسورا المحراب فقالا
خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ
وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ
نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي
الْخِطابِ فعجل داود على المدعى عليه فقال لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ
إِلى نِعاجِهِ و لم يسأل المدعي البينة على ذلك و لم يقبل على المدعى عليه فيقول
ما يقول فقال هذه خطيئة حكمه لا ما ذهبتم إليه أ لا تسمع قول الله عز و جل يا
داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ
بِالْحَقِّ ...الآية فقلت يا ابن رسول الله فما قصته مع أوريا فقال الرضا (عليه السلام) إن المرأة
في أيام داود كانت إذا مات بعلها أو قتل لا تتزوج بعده أبدا و أول من أباح الله عز
و جل له أن يتزوج بامرأة قتل بعلها داود فذلك الذي على أوريا و أما محمد و قول
الله عز و جل وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ
وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فإن الله عز و جل عرف نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أزواجه في دار
الدنيا و أسماء أزواجه في الآخرة و إنهن أمهات المؤمنين و أحد من سمى له زينب بنت
جحش و هي يومئذ تحت زيد بن حارثة فأخفى (صلى الله عليه وآله وسلم) اسمها في نفسه و لم يبد له لكيلا يقول
أحد من المنافقين إنه قال في امرأة في بيت رجل إنها أحد أزواجه من أمهات المؤمنين
و خشي قول المنافقين قال الله عز و جل وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ في نفسك و
إن الله عز و جل
[13]
ما تولى تزويج أحد من خلقه إلا تزويج
حواء من آدم (عليه السلام) و زينب من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و فاطمة من علي (عليه السلام) قال فبكى علي بن الجهم و
قال يا ابن رسول الله أنا تائب إلى الله عز و جل و لن أنطق في أنبياء الله بعد
يومي هذا إلا بما ذكرته .
أقول : قوله (عليه السلام) و كانت المعصية من آدم في الجنة ظاهره تجويز الخطيئة على
آدم (عليه السلام) على بعض الجهات إما لأن المعصية منه كانت في الجنة و العصمة تكون في الدنيا
أو لأنها كانت قبل البعثة و إنما تجب عصمتهم بعد النبوة و كلاهما خلاف ما أجمع
عليه علماؤنا و دلت عليه أخبارنا .
و من ثم قال شيخنا المحدث أبقاه الله تعالى يمكن
أن يحمل كلامه (عليه السلام) على أن المراد من المعصية ارتكاب المكروه و يكونون بعد البعثة
معصومين عن مثلها أيضا و يكون ذكر الجنة لبيان كون النهي للتنزيه و الإرشاد لأن
الجنة لم تكن دار تكليف حتى يقع فيها النهي التحريمي و يحتمل أن يكون المراد
الكلام على هذا النحو لنوع من التقية مماشاة مع العامة لموافقة بعض أقوالهم أو على
سبيل التنزل و الاستظهار ردا على من جوز الذنب على الأنبياء (صلى الله عليه وآله وسلم) و أما ظن داود (عليه السلام) فيحتمل أن يكون ظن أنه أعلم أهل زمانه و هذا و إن كان صادقا إلا أنه لما كان
مصادفا لنوع من العجب نبه الله تعالى بإرسال الملكين و أما تعجيله (عليه السلام) في حال
المرافعة فليس المراد أنه حكم بظلم المدعى عليه قبل البينة إذ المراد بقوله لَقَدْ
ظَلَمَكَ أنه لو كان كما تقول فقد ظلمك و كان الأولى أن لا يقول ذلك أيضا إلا بعد
وضوح الحكم .
معاني الأخبار مسندا إلى رجل من أصحابنا عن أبي عبد الله (عليه السلام) قال : سألته عن
قول الله عز و جل في قصة إبراهيم بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ
إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ قال ما فعله كبيرهم و لا كذب إبراهيم (عليه السلام) لأنه قال
فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ إن نطقوا فكبيرهم فعل و إن لم ينطقوا فلم
يفعل كبيرهم فما نطقوا و ما كذب إبراهيم فقلت قوله عز و جل في يوسف أَيَّتُهَا
الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ قال إنهم سرقوا يوسف من أبيه أ لا ترى أنه قال لهم
حين قال ما ذا تَفْقِدُونَ قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ و لم يقل سرقتم صواع
الملك إنما عنى سرقتم يوسف من أبيه فقلت قوله إِنِّي سَقِيمٌ قال ما كان إبراهيم
سقيما و ما كذب إنما كان سقيما في دينه مرتادا .
و قد روي أنه عنى بقوله إِنِّي سَقِيمٌ أي : سأسقم و كل ميت سقيم قال الله
عز و جل لنبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) إِنَّكَ مَيِّتٌ أي ستموت.
و قد روي : أنه عنى
إِنِّي سَقِيمٌ بما يفعل بالحسين بن علي (عليه السلام) .
و في تفسير علي بن
إبراهيم سئل أبو عبد الله (عليه السلام) عن قول إبراهيم هذا رَبِّي لغير الله هل أشرك في قوله
هذا رَبِّي قال : من قال هذا اليوم فهو مشرك و لم يكن من إبراهيم
[14]
شرك و إنما كان في طلب ربه و في قوله ما كانَ
اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ قال
إبراهيم لأبيه إن لم تعبد الأصنام استغفرت لك فلما لم يدع الأصنام تبرأ منه .
عيون الأخبار مسندا إلى علي بن الجهم قال : حضرت مجلس المأمون و عنده الرضا
علي بن موسى (عليه السلام) فقال له المأمون يا ابن رسول الله أ ليس من قولك إن الأنبياء
معصومون قال بلى قال فما معنى قول الله عز و جل وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى فقال (عليه السلام) إن الله
تبارك و تعالى قال لآدم (عليه السلام) اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها
رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ و أشار لهما إلى شجرة
الحنطة فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ و لم يقل لهما كلا من هذه الشجرة و لا مما
كان من جنسها فلم يقربا من تلك الشجرة و إنما أكلا من غيرها لما أن وسوس الشيطان
إليهما و أقسم لهما إني لكما من الناصحين و لم يكن آدم و حواء قد شاهدا قبل ذلك من
يحلف بالله كاذبا فَدَلَّاهُما بِغُرُورٍ فأكلا منها ثقة بيمينه بالله و كان ذلك
من آدم قبل النبوة و لم يكن ذلك بذنب كبير استحق به النار و إنما كان من الصغائر
الموهوبة التي تجوز على الأنبياء قبل نزول الوحي عليهم فلما اجتباه الله عز و جل و
جعله نبيا كان معصوما لا يذنب صغيرة و لا كبيرة قال الله عز و جل وَ عَصى آدَمُ
رَبَّهُ فَغَوى ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى و قال تعالى
إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى
الْعالَمِينَ .
فقال له المأمون فما معنى قول الله عز و جل فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً
جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فقال الرضا (عليه السلام) إن حواء ولدت لآدم خمسمائة بطن
في كل بطن ذكر و أنثى و إن آدم و حواء عاهدا الله عز و جل و دعواه و قالا لَئِنْ
آتَيْتَنا صالِحاً من النسل خلفا سويا بريئا من الزمانة و العاهة كان ما آتاهما
صنفين صنفا ذكرانا و صنفا إناثا فجعل الصنفان لله تعالى شركاء فيما آتاهما و لم
يشكراه كشكر أبويهما له عز و جل فتعالى الله عما يشركون .
فقال المأمون أشهد أنك ابن
رسول الله حقا فأخبرني عن قول الله عز و جل في إبراهيم فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ
اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي .
فقال الرضا إن إبراهيم وقع على ثلاثة أصناف
صنف يعبد الزهرة و صنف يعبد القمر و صنف يعبد الشمس و ذلك حين خرج من السرب الذي
أخفي فيه فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى الزهرة فقال هذا ربي على الإنكار
و الاستخبار فلما أفل الكوكب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ لأن الأفول من صفات
الحدث لا من صفات القديم فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي على
الإنكار و الاستخبار فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي
لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ فلما أصبح و رأى الشمس بازغة قال هذا
ربي هذا أكبر من الزهرة و القمر على الاستخبار لا على الإخبار و الإقرار فلما أفلت
قال للأصناف الثلاثة من عبدة الزهرة و القمر و الشمس إِنِّي بَرِيءٌ مِمَّا
تُشْرِكُونَ إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي
[15]
فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً مسلما وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ و إنما أراد إبراهيم (عليه السلام) بما
قال أن يبين لهم بطلان دينهم و يثبت عندهم أن العبادة لا تحق لمن كان بصفة الزهرة
و القمر و الشمس و إنما تحق العبادة لخالقها و خالق السماوات و الأرض و كان ما
احتج به على قومه مما ألهمه الله عز و جل و آتاه وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها
إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ .
فقال المأمون لله درك يا ابن رسول الله فأخبرني عن قول
إبراهيم رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ
بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي .
قال الرضا (عليه السلام) إن الله تعالى أوحى إلى إبراهيم (عليه السلام) أني متخذ من عبادي خليلا إن سألني بإحياء الموتى أجبته فوقع في نفس إبراهيم (عليه السلام) أنه ذلك الخليل فقال رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ
تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي على الخلة قال فَخُذْ
أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ
مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ
عَزِيزٌ حَكِيمٌ فأخذ إبراهيم نسرا و بطا و طاوسا و ديكا فقطعهن و خلطهن ثم جعل
على كل جبل من الجبال التي حوله و كانت عشرة منهن جزءا و جعل مناقيرهن بين أصابعه
ثم دعاهن بأسمائهن و وضع عنده حبا و ماء فتطايرت تلك الأجزاء بعضها إلى بعض حتى
استوت الأبدان و جاء كل بدن حتى انضم إلى رقبته و رأسه فخلى إبراهيم (عليه السلام) عن مناقيرهن
فطرن ثم وقعن فشربن من ذلك الماء و التقطن من ذلك الحب و قلن يا نبي الله أحييتنا
أحياك الله فقال إبراهيم (عليه السلام) بل الله يحيي و يميت و هو على كل شيء قدير .
قال المأمون
بارك الله فيك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله عز و جل فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى
عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ .
قال الرضا (عليه السلام) إن موسى (عليه السلام) دخل مدينة من
مدائن فرعون على حين غفلة من أهلها و ذلك بين المغرب و العشاء فوجد فيها رجلين
يقتتلان هذا من شيعته و هذا من عدوه فاستغاثه الذي من شيعته على الذي من عدوه فقضى
موسى (عليه السلام) على العدو بحكم الله تعالى ذكره فمات فقال هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ يعني الاقتتال الذي كان وقع بين الرجلين لا ما فعله موسى (عليه السلام) من قتله إِنَّهُ يعني
الشيطان عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ .
قال المأمون فما معنى قول موسى رَبِّ إِنِّي
ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي قال يقول إني وضعت نفسي غير موضعها بدخولي هذه
المدينة فَاغْفِرْ لِي أي استرني من أعدائك لئلا يظفروا بي فيقتلوني فَغَفَرَ لَهُ
إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ قالَ موسى رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ من
القوة حتى قتلت رجلا بوكزة فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ بل أجاهد في
سبيلك بهذه القوة حتى ترضى فَأَصْبَحَ (عليه السلام) فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ
فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ
[16]
بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ على آخر قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ قاتلت رجلا
بالأمس و تقاتل هذا اليوم لأودينك و أراد أن يبطش به فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ
يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما و هو من شيعته قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ
أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلَّا أَنْ
تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ
.
قال المأمون جزاك الله خيرا يا أبا الحسن فما معنى قول موسى لفرعون فَعَلْتُها
إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ .
قال الرضا (عليه السلام) إن فرعون قال لموسى لما أتاه وَ
فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بي قالَ موسى
فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ عن الطريق بوقوعي إلى مدينة من
مدائنك فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ
جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ و قد قال الله عز و جل لنبيه محمد أَ لَمْ يَجِدْكَ
يَتِيماً فَآوى يقول أ لم يجدك وحيدا فآوى إليك الناس وَ وَجَدَكَ ضَالًّا يعني
عند قومك فَهَدى أي هداهم إلى معرفتك وَ وَجَدَكَ عائِلًا فَأَغْنى يقول أغناك بأن
جعل دعاءك مستجابا .
قال المأمون بارك الله فيك يا ابن رسول الله فما معنى قول الله
عز و جل وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي ... الآية كيف يجوز أن يكون كليم الله
موسى بن عمران لا يعلم أن الله تعالى ذكره لا يجوز عليه الرؤية حتى يسأله هذا السؤال .
فقال الرضا (عليه السلام) إن كليم الله موسى بن عمران علم أن الله تعالى عز أن يرى
بالأبصار و لكنه لما كلمه الله تعالى و قربه نجيا رجع إلى قومه فأخبرهم أن الله عز
و جل كلمه و قربه و ناجاه فقالوا لن نؤمن لك حتى نسمع كلامه كما سمعت و كان القوم
سبعمائة ألف رجل اختار منهم سبعمائة ثم اختار من السبعمائة سبعين رجلا لميقات ربه
فخرج بهم إلى طور سيناء فأقامهم في سفح الجبل و صعد موسى (عليه السلام) إلى الطور و سأل الله
تبارك و تعالى أن يكلمه و يسمعهم كلامه فكلمه الله تعالى ذكره و سمعوا كلامه من
فوق و أسفل و يمين و شمال و وراء و أمام لأن الله عز و جل أحدثه في الشجرة و جعله
منبعثا منها حتى سمعوه من جميع الوجوه فقالوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ بأن الذي سمعناه
كلام الله حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فلما قالوا هذا القول العظيم و استكبروا
و عتوا بعث الله صاعقة فأخذتهم بظلمهم فماتوا فقال موسى يا رب ما أقول لبني
إسرائيل إذا رجعت إليهم و قالوا إنك ذهبت بهم فقتلتهم لأنك لم تكن صادقا فيما
ادعيت من مناجاة الله إياك فأحياهم الله و بعثهم معه فقالوا إنك لو سألت الله أن
يراك تنظر إليه لأجابك و كنت تخبرنا كيف هو فنعرفه حق معرفته فقال موسى يا قوم إن
الله لا يرى بالأبصار و لا كيفية له و إنما يعرف بآياته
[17]
و يعلم بأعلامه فقالوا لن نؤمن لك حتى تسأله
فقال موسى (عليه السلام) يا رب إنك قد علمت مقالة بني إسرائيل و أنت أعلم بصلاحهم فأوحى الله
إليه يا موسى سلني ما سألوك فلن أؤاخذك بجهلهم فعند ذلك قال موسى (عليه السلام) يا رَبِّ
أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ
فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ و هو يهوي فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ
لِلْجَبَلِ بآية من آياته جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ
قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ يقول رجعت إلى معرفتي بك عن جهل قومي وَ أَنَا
أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ منهم بأنك لا ترى .
فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن
فأخبرني عن قول الله وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى
بُرْهانَ رَبِّهِ .
فقال الرضا : لقد همت به و لو لا أن رأى برهان ربه لهم بها كما همت
به لكنه كان معصوما و المعصوم لا يهم بذنب و لا يأتيه و قد حدثني أبي عن أبيه عن
الصادق (عليه السلام) قال همت به بأن تفعل و هم بأن لا يفعل .
فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن .
فأخبرني عن قول الله عز و جل وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ
لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ .
قال الرضا (عليه السلام) ذاك يونس بن متى ذهب مغاضبا لقومه فظن بمعنى
استيقن أن لن نقدر عليه أي لن نضيق عليه رزقه و منه قوله تعالى وَ أَمَّا إِذا مَا
ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ أي ضيق و قتر فَنادى فِي الظُّلُماتِ ظلمة
الليل و ظلمة البحر و بطن الحوت أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي
كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ بتركي مثل هذه العبادة التي قد فرغتني لها في بطن الحوت
فاستجاب الله له و قال عز و جل فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ
لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ .
فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن فأخبرني عن قول الله حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ
قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا .
قال الرضا (عليه السلام) يقول الله حتى إذا استيئس الرسل من
قومهم إن الرسل قد كذبوا جاء الرسل نصرنا فقال المأمون لله درك يا أبا الحسن .
فأخبرني عن قول الله عز و جل لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ
وَ ما تَأَخَّرَ .
قال الرضا (عليه السلام) لم يكن أحد عند مشركي أهل مكة أعظم ذنبا من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لأنهم كانوا يعبدون من دون الله ثلاثمائة و ستين صنما فلما جاءهم (صلى الله عليه وآله وسلم) بالدعوة إلى
كلمة الإخلاص كبر ذلك عليهم و عظم و قالوا أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً
إِنَّ هذا لَشَيْءٌ عُجابٌ وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ
اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْءٌ يُرادُ ما سَمِعْنا بِهذا فِي
الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ
[18]
إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ .
فلما فتح الله على نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) مكة قال له يا محمد إِنَّا فَتَحْنا لَكَ
فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما
تَأَخَّرَ عند مشركي أهل مكة بدعائك إلى توحيد الله فيما تقدم و ما تأخر لأن مشركي
مكة أسلم بعضهم و خرج بعضهم عن مكة و من بقي منهم لم يقدر على إنكار التوحيد عله
إذا دعي الناس إليه فصار ذنبه في ذلك عندهم مغفورا بظهوره عليهم .
فقال المأمون لله
درك يا أبا الحسن ; فأخبرني عن قول الله عز و جل عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ
لَهُمْ .
قال الرضا (عليه السلام) هذا مما نزل بإياك أعني و اسمعي يا جارة خاطب الله عز و جل
نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و أراد به أمته و كذلك قول الله عز و جل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ
عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ و قوله عز و جل وَ لَوْ لا أَنْ
ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا .
قال صدقت يا ابن
رسول الله فأخبرني عن قول الله وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ
عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ
تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ .
قال الرضا (عليه السلام) إن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) قصد دار زيد بن حارثة بن شراحيل
الكلبي في أمر أراده فرأى امرأته تغتسل فقال لها سبحان الذي خلقك و إنما أراد بذلك
تنزيه الله تعالى عن قول من زعم أن الملائكة بنات الله فقال الله عز و جل أ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً فقال النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فلما رآها تغتسل سبحان الذي
خلقك أن يتخذ ولدا يحتاج إلى هذا التطهير و الاغتسال فلما عاد زيد إلى منزله
أخبرته بمجيء رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) و قوله لها سبحان الذي خلقك فلم يعلم زيد ما أراد بذلك
و ظن أنه قال ذلك لما أعجبه من حسنها فجاء إلى النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال يا رسول الله امرأتي
في خلقها سوء و إني أريد طلاقها فقال له النبي (صلى الله عليه وآله وسلم) أمسك عليك زوجك و اتق الله و قد
كان الله عز و جل عرفه عدد أزواجه و إنما تلك المرأة منهن فأخفى ذلك في نفسه و لم
يبده لزيد و خشي الناس أن يقولوا إن محمدا يقول لمولاه إن امرأتك ستكون لي زوجة
فيعيبونه بذلك فأنزل الله عز و جل وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ يعني بالإسلام و أنعمت عليه بالعتق أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ
وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ
أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ ثم إن زيدا طلقها و اعتدت منه فزوجها الله من نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) و أنزل
بذلك قرآنا فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ
عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ
وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولًا .
[19]
ثم علم عز
و جل أن المنافقين سيعيبونه بتزويجها فأنزل ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ
فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ .
فقال المأمون لقد شفيت صدري يا ابن رسول الله و أوضحت
لي ما كان ملتبسا علي فجزاك الله عن أنبيائه و عن الإسلام خيرا .
قال علي بن محمد بن
الجهم فقام المأمون إلى الصلاة و أخذ بيد محمد بن جعفر بن محمد و كان حاضر المجلس
فتبعتهما فقال له المأمون كيف رأيت ابن أخيك فقال عالم و لم نره يختلف إلى أحد من
أهل العلم فقال المأمون إن ابن أخيك من أهل بيت النبي الذين قال فيهم إن أبرار
عترتي و أطايب أرومتي أحلم الناس صغارا و أعلم الناس كبارا لا تعلموهم فإنهم أعلم
منكم لا يخرجونكم من باب هدى و لا يدخلونكم في باب ضلال و انصرف الرضا (عليه السلام) إلى منزله
فلما كان من الغد غدوت إليه و أعلمته ما كان من قول المأمون و جواب عمه محمد بن
جعفر له فضحك (عليه السلام) ثم قال يا علي بن الجهم لا يغرنك ما سمعته منه فإنه سيغتالني و
الله ينتقم لي منه .
قال الصدوق : هذا الحديث عجيب من طريق علي بن محمد بن الجهم مع نصبه و
بغضه و عداوته لأهل البيت (عليهم السلام) .
أقول : هذا ليس بعجيب لأن الله سبحانه يجري الحق
لأوليائه على ألسنة أعدائه في كثير من الأحوال و في أغلب الأزمان.
و في كتاب الخصال
مسندا إلى الأشعري رفعه إلى أبي عبد الله (عليه السلام) قال : ثلاث لم يعر منها نبي فمن دونه
الطيرة و الحسد و التفكر في الوسوسة في الخلق .
قال الصدوق :و معنى الطيرة في هذا الموضع هو أن يتطير منهم قومهم فأما
هم (عليه السلام) فلا يتطيرون و ذلك كما قال الله عز و جل في قوم صالح قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ
وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ و كما قال آخرون لأنبيائهم
إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ ... الآية .
و أما
الحسد في هذا الموضع هو أن يحسدوا لا أنهم يحسدون غيرهم و ذلك كما قال الله عز و
جل أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ
آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً
عَظِيماً .
و أما التفكر في الخلق فهو بلواهم (عليهم السلام) بأهل الوسوسة لا غير ذلك كما حكى
الله عنهم من الوليد بن المغيرة المخزومي إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ فَقُتِلَ
كَيْفَ قَدَّرَ يعني قال للقرآن إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ .
أقول : ما ذكره
من التأويل حسن إلا أن في الكافي و غيره تتمة للحديث لا يحتمله و هي لكن المؤمن لا
يظهر الحسد و من ثم حمل جماعة من أهل الحديث على ما هو أعم من
[20]
الغبطة أو أن القليل منه إذا لم يظهر ليس بذنب و
الطيرة هي التشاؤم بالشيء و انفعال النفس بما يراه أو يسمعه مما يتشاءم به و لا
دليل على أنه لا يجوز ذلك على الأنبياء إذ ورد أنهم يتفاءلون بالشيء الحسن و
المراد بالتفكر في الوسوسة في الخلق التفكر فيما يحصل في نفس الإنسان من الوساوس
في خالق الأشياء و كيفية خلقها و خلق أعمال العباد و التفكر في الحكمة في خلق بعض
الشرور في العالم من غير استقرار في النفس و حصول شك بسببها و يحتمل أن يكون
المراد بالخلق المخلوقات و بالتفكر في الوساوس التفكر و حديث النفس بعيوبهم و
تفتيش أحوالهم و في الأخبار ما يؤيد الوجهين كما سيأتي و بعض أفراد هذا الأخير على
الوجهين لا يستبعد عروضها لهم (عليهم السلام) هذا .
و اعلم أن الخلاف بين علماء الإسلام في عصمة الأنبياء (عليهم السلام) يرجع إلى أربعة أقسام ما يقع في باب العقائد و ما يقع في التبليغ و ما
يقع في الأحكام و الفتيا و ما يقع في أفعالهم و سيرهم (عليهم السلام) .
أما الاعتقادات فهم
منزهون عن الكفر و الضلال فيما قبل النبوة و بعدها باتفاق الأمة غير أن الأزارقة
من الخوارج جوزوا عليهم الذنب و عندهم كل ذنب كفر فيلزمهم تجويز الكفر عليهم بل
يحكى عنهم أنهم قالوا يجوز أن يبعث الله نبيا و يعلم أنه يكفر بعد نبوته .
و أما
النوع الثاني و هو ما يتعلق بالتبليغ فقد اتفقت الأمة و أرباب الملل و الشرائع على
وجوب عصمتهم عن الكذب و التحريف فيما يتعلق بالتبليغ عمدا و سهوا إلا القاضي أبو
بكر فإنه جوز ما كان من ذلك على سبيل النسيان و فلتات اللسان .
و أما النوع الثالث
و هو ما يتعلق بالفتيا فأجمعوا على أنه لا يجوز خطأهم فيه عمدا و سهوا إلا شرذمة
قليلة من العامة .
و أما النوع الرابع و هو الذي يتعلق بأفعالهم فقد اختلفوا فيه
على خمسة أقوال أولها قول أصحابنا الإمامية رضوان الله عليهم و هو نفي الذنب عنهم
مطلقا الصغار و الكبار و العمد و النسيان و السهو و الإسهاء و لم يخالف فيه إلا
الصدوق و شيخه محمد بن الحسن بن الوليد فإنهما جوزا عليهم الإسهاء من الله لا
السهو من الشيطان و كذا القول في الأئمة الطاهرين (عليهم السلام) .
الثاني مذهب أكثر المعتزلة و
هو أنه لا يجوز عليهم الكبائر و يجوز عليهم الصغائر إلا الصغائر الخسيسة المنفردة
كسرقة حبة أو لقمة و كل ما ينسب فاعله إلى الدناءة و الضعة .
الثالث و هو مذهب أبي
علي الجبائي أنه لا يجوز أن يأتوا بصغيرة و لا كبيرة على جهة العمد لكن يجوز على
جهة التأويل و السهو كما تقدم في حكاية آدم (عليه السلام) من أنه كان .
[21]
منه غلطا في التأويل لأنه ظن أنه نهي عن شخص
الشجرة لا عن نوعها فتناول من غير التي نهي عن شخصها .
الرابع أنه لا يقع منهم
الذنب إلا على طريق السهو و الخطأ لكنهم مؤاخذون به و إن رفع حكمه عن الأمة لقوة
معرفتهم و علو مرتبتهم و قدرتهم على التحفظ و هو قول النظام و من تبعه .
الخامس أنه
يجوز عليهم الصغائر و الكبائر عمدا و سهوا و خطأ و هو قول الحشوية و كثير من أصحاب
الحديث من العامة ثم إنهم اختلفوا في وقت العصمة على ثلاثة أقوال الأول أنه من وقت
ولادتهم إلى أن يلقوا الله و هو مذهب الإمامية رضوان الله عليهم .
الثاني أنه من
حين بلوغهم و لا يجوز عليهم الكفر و الكبيرة قبل النبوة و هو مذهب كثير من
المعتزلة .
الثالث أنه وقت النبوة أو ما قبله فيجوز صدور المعصية عنهم و هو قول
أكثر الأشاعرة و منهم الفخر الرازي و أما دلائلنا على ما صرنا إليه فهي و إن كانت
متكثرة إلا أن العمدة فيها أخبارنا المتواترة و إجماعنا المقطوع به حتى إنه صار من
ضروريات ديننا .
و قد ذكر سيدنا الأجل علم الهدى في الشافي و كتاب تنزيه الأنبياء (عليهم السلام) جملة من الدلائل و البراهين القاطعة من أراد الاطلاع عليها فليطلها من هناك .
[22]