الندى المحترق


الاستاذ يقين البصري


مقدّمة
تـعـال إلـى روح شفيف هيامُهـا*وعين برغم الصبح طـال ظلامُهـا
تـعـال نلمّ الشوق ورداً ونسـمـة*ومُفردةً عذراء ثـرٌّ غـمـامـهـا
تـعـال نوافيك الهـوى جمـر ليلة*تطول كليل القطب كـيـف تنـامها
لنرحل صوب الشمس عجلى خيولنا*وقد سـاقها يحدو الرّكـابَ مرامها
فجازت بـنـا والنجم يرقب شوطنا*وقد طاف في أقصى الفضاء سلامها
إلـى مولد السبط الذي شعّت الدُّنـى*بـمـولـده مـذ حلّ فجراً هُمامها
فيا صابراً صــبر المسيح وملجماً*ًخطوباً على الإسـلام صعبٌ لجامها
فرغم دعـاوى البغي كنتَ زعيمَهـا*لك انقاد رغم الـبغي طوعاً زِمامُها

الندى المحترق

نـزفـنـا فـي الغميم دمـاً مضافاً*فأورثنا الـصـدى سـُمّـاً زُعـافا
يـفـيـض بـداوةً وتفيض مجـدا*ًونـغـترف الـسـمـو به اغترافا


(196)

هـبـي دمـنـا الـمفجَّـر أريحيـا*فكيـف رمـيـته البيض الخِفـافـا
وكيف رأيت مجدك أن تصفّي ( م )*الأسـنّة والسيـوف لـه اصطفافـا
رغـبـت عـن العلى شـرفاً ومجداً*وتـأبـيـن الـمـروءة والعفـافـا
سـطـوت بـغدرة فـزرعت لؤمـاً*وعُـدنا نحصـد الشـرف المضـافا
ولــولا مـا أراد الله فـيـنـــا*لأورثـنــاكِ ذلاً واعـتـســافـا
وأوردنــاك فــيـضَ دمٍ وكأسـاً*مُصبَّرة وبـالـسـيـف انتصـافـا
بـدأت بـحـربـنا حـتى مضينـا*عـن البيت ابتعـاداً وانـصـرافـا
فليت شعاب مكة مـا اسـتـقامـت*عـلـى سـمّ القطيعـة أن يـدافـا
ورحـت تحكّميـن السيـف دهـراً*إلى أن كَـلَّ عزمُـك أو تـنـافـى
وأرخـصـت الـدمـاء إذ انتضينـا*سـيـوف نبـوّةٍ بـيـضاً رهـافـا
وأيّ مـدى يـغطّي الشمـس حتـى*تنكّـر مـسـتـريـبٌ أو تجـافـى
وآمـنّـاك مـــن فـزع وإنــا*نُـؤمِّـن مـسـتـغـيثا أن يخـافا
وآثـرنـا عليك الـوحـي حـتـى*ملكنا الـبـيـت رُكنـاً والطّـوافـا
وأعـطـيـنـاك فكـراً مستنيــراً*فـفـضـلـت التنـافر والخـلافـا
وكـم سـطعت لنـا شمس فعـادت*عـلـى عينيـك قـاراً أو غـلافـا
كـأنّـك تـرتـديـن الـليل ستـراً*ليفضحـك الـنـهـار إذا تـوافـى
ركبت خيـولَ حـقـدك فاستشاطت*وأزمـعـت الشـقـاق والاختلافـا
وكـم رحـمٍ قطعـت بغيـر حـق*ركـبـت هـوىً وأحـلاماً خفافـا
وفــي بـيـت النبي أطـلّ فجـرٌ*ورفـرف بـيـرق خفـق انعطـافا
فـأسـرجـنا إليـك لسـانَ وحـي*يـقارع ألـف صـرحٍ إن تنـافـى
ويـا بـكـر النبـوّة ألـف نجــم*إلـى قدميك قد سـجـد اعتـرافـا
تـلاقى فـيـك عُـرْفُ دم كـريم*فـلامـس بـالهدى مـنك الشِّغـافا


(197)

عـلـى كفّيك ماءُ حياً تصاف*ومن عينيك أطلقتَ الرِّعافا
وطـرزت الـمدى ألقاً كريماً*كـأنّ النجم طـلّ به وطافا
تـسـاقينا هوى عينيك سكراً*نعاف به الكؤوس أو السُّلافا
وأفـرغـنـا الجوى ليلمَّ عنّا*عيون اللّيل والسهد المضافا
نجرّ لـك الخطى شوقاً وسكراً*ونـعـتـمر التمنّع والعفافا
يـعير الشمس وجنته افتخاراً*فـتـنهل منه عبَّا واغترافا
تـديـن لـه المكاره قبل ألف*ويغمر من سماحته الصّحافا
مشى مجداً وطاف هُدى وأسرى*كـريم الطبع قد سلك القيافا
وعـش تحت الكرامة مستظلاًّ*مـن المجد اعتباراً لا يكافى
تـمـطر عارض هطل فسالت*مـرابع طالما شكت الجفافا
يطيب بك الزمان أريـج قدس*تـذوق به الدُّنى طعماً نطافا
سـقـتك من النبوة ألفُ عينٍ*وعـاد جناك يُقتطَف اقتطافا
تـطـير بك السماء لتمتطيها*وتحتضن الشواطىء والضفافا
ولدت بمهده فحباك حـجـراً*فكنتَ بـه المُشرَّف والمُعافى


(198)

  • الاستاذ يقين البصري

  • قصيدة يقين البصري تعجن إمكاناتها عجناً فنّياً من جهة وأخلاقياً من جهة اُخرى لتقترب من آفاق القصيدة ـ النموذج ـ بصيغة المحاكاة الساعية إلى المضاهاة ، فهي ترتدي المتاح لها في زمانها وتمدّ يدها إلى مشجب الآتي ، محاولة سحب حلّة لم تلبس بعد لتتوشّح بها ، وبين هذه التجسّدات يمتد نتاج البوتقة السحرية ليبلّلنا رذاذه المتصاعد.
    لو تأمّلنا المقطوعة الافتتاحية لرأينا بصمات النموذج واضحة المعالم ، بارزة التأثّر على مستوى البناء الفنّي وعلى مستوى المضمون الأخلاقي أيضاً ، فأن إلحاق ضمير الغائبة إلى روي القصيدة ما هو إلاّ محاولة للتقرّب غير المتوجّس لفتح حساب يسحب أرصدة مجمّدة قد كانت عملة من عملات ذلك الزمان لا تصرف في غيره ، مع كثرة ما في مصارف التراث من مجوهرات ثمينة تباع في كلّ زمان ومكان ، فهي مفتوحة للتداول والتلقّي بمساحاته العريضة ذوقاً وتحسّساً واستجابة.
    وهذه الخطوة هي ابتداء التحرّك إلى اُفق النموذج فهي الواجهة الأمامية أو السياج الخارجي للمقطوعة ، وإذا أضفنا النظم على بحر الطويل المقبوض إلى ذلك ، وهو بحر الفروسية والفرسان تأكّد لدينا أنّ هناك قصدية تحاول الانتخاب والاختيار والالتقاء.
    فالنفس الأخلاقي لدى يقين البصري يلبسُ حلّة الفرسان المفتخرين بسلوكياتهم ، وهذا المنحى يكاد يتكرّر في قصائد البصري على الرغم من اختلاف المواضيع التي يعالجها شعرياً ، وإمعاناً في تأصيله لهذا المنحى نرى الفروسية عنده مستمدّة من النائي البعيد في أغوار الشخصية العربية الباحثة عن مكارم الأخلاق عرفاً ولو على مستوى الجو العام الذي يغلّف القصيدة ، فهي


    (199)

    أقرب إلى النفس الأخلاقي في الجاهلية منها إلى غيره. وهو بهذا يحاول أن يضاهي ليتجاوزه أكثر من أن يحاكي ليتطابق ، فأجواء قصائد الفرسان في الجاهلية تحيط قصيدة البصري بمدارات متخفيّة ، فربّما هناك عنترة أو دريد بن الصمّة أو عروة بن الورد ، أو الشنفرى يطلّون على مساحة النص من منافذ يسترها الشاعر ويخفيها بحذق غير مكتمل ، ونقول : الأجواء العامّة والآفاق المترامية تخلّصاً من التدقيق المتفحّص والتنقيب المتأنّي اللّذين لا يتفقان مع عجالة هذا الجهد المبسّط ، لكنّنا نشير إشارات من المستوى النحوي إلى بعض الظواهر مثل استخدام الصفة المقطوعة عن الموصوف في :
    تعال إلى روح شفيف هيامها
    أو استخدام جملة الحال الاسميّة :
    لنرحل صوب الشمس عجلى خيولنا
    أو استخدام اسم الفاعل العامل في :

    فيا صابراً صبر المسيح وملجماً*خــطـوبــاً..............

    ويمكن للدقّة والفحص النقدي المتأنّي أن يكشف إشارات المحاكاة أو المضاهاة في مستويات اُخرى كالمستوى التركيبي أو المستوى الدلالي.
    أمّا عن قصيدته ( الندى المحترق ) فسرعان ما نكتشف أنّ العنوان كان اختفاءاً رومانسياً وواجهة برّاقة لا تشف عمّا في داخلها ، فلا نستطيع أن نوازن بين موضوع القصيدة وهو ميلاد الإمام الحسن عليه السلام وبين الندى المحترق ، حتى لو أخذنا بالاشتراك اللفظي لكلمة ( الندى ) التي تعني قطرات الماء المتساقطة فجراً على الأوراق والغصون وتعني كذلك الكروم ، وكلا المعنيين كاشف عن العطاء مثلاً أو الرقّة أو الطراوة ، فعندما تحترق هذه المعاني ـ تجوّزاً ـ تجد لها مبرّراً شاعرياً رومانسيّ التركيب ، لكنّنا لا نتوافق مع الشاعر في هذا الاختيار


    (200)

    على الرغم من وجود نبرات الألم والتوجّه في قصيدته ، فهو لم يفارق توجّهاته الأخلاقية وموقفه السلوكي في الضغط على أجواء القصيدة وأراضيها ، وسنرصد مثلاً اختياره للفظة ( المجد ) وكيف استطاع الشاعر أن يركّبها ويفرّعها ويفعّلها ليضفي من خلال معانيها مسحاته السلوكية على مضمون القصيدة ، فهو يرى أنّ المجد يقابل التمدّن الساعي إلى التحضّر :

    يـفـيض بداوة وتفيض مـجدا*ونـغترف السمو بـه اغترافـا

    ويرى ( المجد ) انتصاراً أخلاقياً ليخاطب :

    وكيف رأيت مجدك أن تصفي ( م )*الأسنّـة والسيوف لـه اصطفـافـا

    ويراه منبعاً أخلاقياً للخلود في :

    رغـبت عن العلى شرفاً ومجداً*وتـأبـيـن المروءة والعفـافا

    ويعود ليراه سلوكاً تفصيلياً يومياً لمكارم الأخلاق في :

    مشى مجداً وطاف هدى وأسرى*كـريـم الطبع قـد سلك اقتيافا

    ويراه أيضاً مظلّة يتفيّأ الفرسان ظلالها في :

    فعش تحت الكرامة مستظلاًّ*من المجد اعتباراً لا يكافى

    ويقين البصري لا يكفّ عن استخدام معجمه اللغوي الذي اختاره ، مخصّصاً أكثر من مكان للألفاظ ذات الصبغة الأخلاقية مثل ( الشرف ، العلى ، المجد ، أريحي ، المروءة ، العفاف ، انتصاف ، كريم ، الهدى ، افتخار ، المكارم ، السماحة ، الكرامة ) وربمّا نلاحظ افتنانه باستخدام لفظة ( كريم ) في معظم قصائده فلا تخلو هذه القصيدة من هذه اللفظة أيضاً فهو يوردها ليحدّد نجابة الاُصول والانحدار العرقي فيما مضى من أصل الإمام الحسن عليه السلام :

    تلاقي فيك عرف دم كـريم*فلامس بالهدى منك الشغافا

    ويورد هذه اللفظة المجرّدة مع لفظة حسيّة ليعطي التركيب المتحصّل


    (201)

    مضموناً أخلاقياً يريده ويتمنّاه ويبحث عنه في :

    وطرزت المدى ألقاً كريماً*كأنّ النجم طلّ به وطافا

    ويوردها متعلّقة بالسجية والسلوك والطباع في :

    مشى مجداً وطاف هدىً وأسرى*كـريـم الطبع قد سلك اقتيافا

    لنرى أنّ يقين البصري لا يفارق إطلالته الموشّاة بجمال الأخلاق ، ونرى أنّ نشوته وجذله عندما ينظم بيتاً تظهر فيه الأخلاق مذابة في محاكاته للنموذج ومضاهاته لعنفوان القصيدة العربية الكلاسيكية ، وقد أوشكنا أن ننتهي من تقرير هذا المنحى عنده بشكل قطعي ، إلاّ أنّنا نضيف دليلاً من المستوى العروضي لكشف هذه المحاكاة.
    قصيدة البصري من بحر الوافر ورويّها هو حرف الفاء المفتوح وتحوّلت الفتحة إلى ألف إطلاق ، ولو تأمّلنا في هذا البحر وفي تفعيلاته لرأينا أنّه كالآتي :

    مفاعلتن مفاعلتن فعولن*مفاعلتن مفاعلتن فعولن

    فلو قطعنا المجموع ( مفا ) من أوّل الصدر ومن أوّل العجز لبقي لدينا :

    علتن مفاعلتن فعولن*علتن مفاعلتن فعولن

    وهذه الصيغة الإيقاعية تقابل بالضبط صيغة مجزوء الكامل المرفل :

    متفاعلن متفاعلاتن*متفاعلن متفاعلاتن

    وللشاعر الكبير محمّد مهدي الجواهري قصيدة بعنوان ( رسالة مُملَّحة ) ، منظومة على هذا البحر وعلى روي قصيدة البصري نفسه ، وهذه القصيدة في ذاكرة البصري بلا أدنى شك ممّا يمنحه الفرصة للتقاطع معها كركيزة للمحاكاة والمضاهاة على المستوى النظمي ، ولا أقول التعكّز عليها لأنّ المضامين التي يطرحها البصري تفرز شاعريته الخصوصية غير المتداخلة مع نصّ الجواهري في مضامينه ، لكنّني أقول إنّ هناك تراسلاً لا شعورياً وتناصّاً لا يبرأ منه نصّ


    (202)

    البصري وإن كان على مستوى نظام التقفية لديه ، مع كون المنحى الأخلاقي الذي يدعو إليه الجواهري في نصّه متدنّياً وداعياً إلى سلوك مضاد لما يدعو إليه يقين البصري في نصّه ، ومن هذا التضاد تتكشّف مقدرة يقين البصري على مقاربة أدوات الآخرين مع مسح الظلال الذاتية التي تعتورها ، وهذه كفاءة يفخر بها البصري بلا شك.


    (203)

    البوح المشتهى


    الاستاذ فرات الأسدي


    نضّر الأرضَ أيّهـا الحسنُ*يدهشِ الخلد تنبهـرْ عـدَنُ
    ويمدّ الورد الخطى ولـهـاً*والينابيـع تـُروَ والـمُزن
    ويُرقْ دورقُ الفتون شـذىً*أخضر الرُّوح جسمه الفنن
    والـربيع البهيُّ أغـنـيـةٌ*والعناقيدُ لـحـنُـها وطن
    كـم تثنّى نبضُ الأسى فرحاً*ًفي يـديها وأورق الشجـن
    في جـدار البقيع في مـدنٍ*حيثُ لا غير حزنها مـدن
    وغفا الحلم أو صحا الوسنُ*ُوانـطـوى الــزمــنُ
    نـضّـر الـحسن مــرّةً*يشـتـعلْ عـالـم الترابْ
    بـالـمـواويـل غـضـّة*وحـكـايـا اللظى العذاب
    وبـقـايــا خـبـيـئـةٍ*دونـهـا سُـدَّ ألـف باب
    ليفيـق الـثـرى عـلـى*وجـعٍ جـامـح الـرِّغاب
    أيُّـهـا الـمترف الخطـى*أيٌّها الـفـتـنـة العُجـاب


    (204)

    يــا أخ الـنـهــر مــولــداً*يـا رؤى الـبـحـر والـعـبـابْ
    دونــــك الــــزمــــنُ
    والــــمـــدى ســـفــن
    أطلق الخصب فـهــو مـرتـهنُ
    يـولَــد الـنــوء يـخـتـزن
    يـا رائـع المجتلى بـي للهوى ظمأُ*يـكاد لولا ولاك الـعـذب ينطفىءُ
    تَلهُّفُ الـرمـلِ للأمـطار قـافيتي*تَـتـوهُ ثم إلـى لـقـيـاك تلتجىء
    سفحتَ جـمري واستبقيت صبـوتَهُ*يـا ليتها دون نـار الـوجد تختبىء
    الحـبّ وجهك ينـدى كبرياء هوىً*ولي مـن الخوف وجهٌ رشّه الصدأ
    ولي مـن الـعـمُرِ المجدورِ اُمنيةٌ*خرساءُ قبل صداها الصمتُ مُهترىء
    تكاد لـولا ولاكَ الـعـذب تنطفىء*وفي متيه الزمان الـمـسـخ تنكفىء
    احمل الشمسَ في مقلتيك فإنّ الشتاء يكاد يضيق بليل الضياع المجدّر وجه
    المصابيح والعتمات تمزّق تاريخنا
    احمل البحرَ في شفتيك ومرّ على الماء زنبقةً ومدى دون جنحين من زهرات
    الفراشات في يثرب الشاحبة
    احمل الحبَّ بين يديك ورُشّ به تلعاتِ الضغينة وارتدْ بزهوك ذلّ حقول قريش
    اليبيسة أطلق ينابيعك الفرحة
    احمل الطفلَ في وجهك النبويّ البريء وباركْ به النظرات وأيقظْ لغاتِ العيون
    الكسيرة أطلقْ حروف القناديل من كلّ معنى دنيء
    إبتكرْ حُلمنا أيُّهذا الفتون الوضيءْ
    أيّها الماثلُ الآن في الرُّوح يا مبدأ الحبّ والمنتهى
    أيّها الرائع المشتهى



    (205)

    أيّها البوح في دمنا العلويّ المرقرَقِ بين المياه ونيرانها أيّها الجرح يا سيّد العنفوانْ
    لك في مقلتيّ بريقُ الكلام وفي سرّي الهمس والاُغنيات الحِسان
    صمتتْ بعد أن راود الشوك أجفانها بنعاس الضغينهْ
    خرستْ بعد أن سرّبتها الحرائق خلف جدار البقيع الأصمّْ
    آهِ يا سيّد الحزن يا وجهنا الأبديَّ الذي يصلُ النبعَ بالدمع والموت بالفرح المستبدّْ
    آهِ يا ذاهل الشدو يا رائع الخطوات الشهيده
    آه يا موتنا المتشظّي المؤرّخ عصر الرمادْ
    لم يكن غير أن تحمل الشمس في اُفقيك وأن تتهاوى النهارات خلف حصاد السيوفْ
    لم يكن غير أن تُودِع النهر في قدميك وأن تتوضّأ منك التواريخُ بالعشب واللّهفة اليانعهْ
    لم يكُنْ غير أن تحمل الخصب ما بين يوميك ثمّ تسرّبُه للشهاده
    لم يكن غير أن تمنح الأرض ميلادها..
    لم يكن غير أن :
    أوقظَ اللّغة المستعادهْ



    (206)

  • الاستاذ فرات الأسدي

  • فرات الأسدي ـ شاعراً ـ مشغول بالكثافة على حساب كلّ الأبعاد والإمكانات الاُخرى ، وهذه الكثافة داخلة في كلّ مستويات النصّ صوتاً ونحواً وصرفاً وتركيباً ودلالة وترميزاً ، ممّا يعسّر على المحاولة النقدية المختصرة أن تنصفه وتعطيه حقّه ، وكذا الحال بالنسبة إلى القراءة المتعجّلة والتلقّي السريع.
    ولأنّه يسحب هذا المفهوم المكاني ( الكثافة ) إلى أرضيّة الشعر الذي لا يتعاطى مع المكان إلاّ تجوّزاً فستبدو الصعوبة شاخصة في الاقتراب من نصّه ، ففرات الأسدي مشغوف بفنّ العمارة وهو أكثر الفنون التصاقاً بالمكان ، فنرى الحسّ المعماري يطغى على نصوصه ومن هنا تبدو المفارقة ، فمعظم الأدوات الشعرية زمانية ـ فعلاً وأداءاً وتأثُّراً ـ فينتج من هذا التضادّ حاجز سميك في عملية توصيل النص.
    وسنلاحظ في هذه القصيدة ( البوح المشتهى ) أنّ فرات الأسدي قد أعمل حسّه المعماري المكاني على الإيقاع الشعري الزماني ، وقبل هذا لنشرح العلاقة بين الكثافة ـ كمفهوم فيزيائي ـ وبين المكان ـ كمفهوم فلسفي ـ وكيف يلتقيان عند فرات الأسدي في معالجته الجمالية لهذا الالتحام كأداة تتمثّل في الكتلة التي يقاربها الشاعر ـ تنظيماً وترتيباً وتوحيداً ـ فتتجلّى عنده كحسّ معماري يعامل المواد التعبيرية الأوّليّة على أساسه في تجربته الشعرية ، فينبري للتصدّي للبنية الإيقاعية من خلال استخدامه لخمسة أوزان شعرية هي ( الخفيف المهذّب ـ هذا المصطلح أطلقه العلاّمة الدكتور مصطفى جمال الدين في كتابه الإيقاع في الشعر العربي لصيغة : فاعلاتن مستفعلن فعلن من بحر الخفيف ـ الخفيف المجزوء ، المتدارك المنهوك ، المتدارك المجزوء ، البسيط ) ليصل بعدها إلى كتابة بقية القصيدة شعراً حرّاً مدوّراً على بحر المتدارك.


    (207)

    ولو نظرنا إلى هذا التراسل بين الأوزان الخمسة التي نظّم عليها الشاعر عمودياً لرأينا ما يلي :
    1 ـ من :

    نضّر الأرض أيّها الحسن*يُدهـش الخلد تنبهر عدنُ

    إلى :

    في جدار البقيع في مدن*حيث لا غير حزنها مدن

    تنتظم تفعيلاتها على بحر الخفيف المهذّب :

    فاعلاتن مستفعلن فعلن*فاعلاتن مستفعلن فعلن

    مع خبن ( فاعلاتن ) لتصبح ( فَعِلاتن ) أحياناً وكثرة خبن ( مستفعلن ) لتصبح ( مَفاعِلُن ).
    والخبن كما هو معروف زحاف يحذف به الحرف الثاني الساكن من التفعيلة فتصبح ( مستفعلن = مُتَفْعِلُنْ ) وتتحوّل للتسهيل إلى ( مَفاعِلُنْ ) وكذلك ( فاعلاتن = فَعِلاتُنْ ، فَاعِلُنْ = فَعِلُنْ ).
    2 ـ إفراد شطر ( وغفا الحلمُ أو صحا الوسنُ ) بخبن ( فاعلاتن ومستفعلن ) ليصبح وزن الشطر :
    فَعِلاتن مَفاعِلُن فَعِلُنْ
    من بحر الخفيف المهذّب أيضاً.
    3 ـ الإتيان ببحر المتدارك المنهوك مع خبن ( فاعِلُنْ ) لتصبح ( فَعِلُنْ ) هكذا : وانطوى الزمنُ : فاعِلُنْ فَعِلُنْ.
    ليكون البناء الإيقاعي متوافقاً على وحدة ( فاعلن فعلن ) الموجودة أيضاً في نهاية بحر الخفيف المهذّب بالشكل الآتي :
    فاعلاتن مـ ( فاعلن فعلن ).


    (208)

    ومع الالتفات لوحدة حرف الروي في التركيبين وهو حرف النون المضموم ، تتراسل البنيتان إيقاعاً ولحناً تحت إشراف الحسّ المعماري الذي يشغل الشاعر آلياته بكثافة أيضاً ، وكأنّها كتل كونكريتية أو قطع من الآجر المتساوية الأحجام يبني بها الشاعر هيكل القصيدة وواجهاتها المطلّة على ساحة التلقّي.
    4 ـ بعد أن أحدث الشاعر توافقاً على نهايات الأجزاء أو الأبيات أو الأشطر يعود ثانية إلى بداياتها ليورد من بحر الخفيف المجزوء المذيّل مقطوعة بستّة أبيات تبدأ :

    نضّر الحسن مـرّة*يشتعل عالم التراب

    ووزنها :

    فـاعلاتُنْ مَفَاعَلُنْ*فاعِلاتُنْ مَفَاعِلأنْ

    وهي صيغة تتفق مع ما ورد أوّلاً من بحر الخفيف المهذّب ( فاعلاتن مفاعلن فعلن ) في التفعيلتين الأوّليتين ( فاعلاتن ، مفاعلن ).
    ومع إيراد فعل الأمر نفسه ( نضّر ) يريد الشاعر أن يلفت انتباهنا لما يقصد ، ومع استخدام للفظة ( الحسن ) التي ناداها في المقطع الأوّل ( نضّر الأرض أيّها الحسن ) جاءت هنا ( نضّر الحسن ) وكلّ هذا التكثيف لمحاولة شدّنا وجلب اهتمامنا إلى صراع الاشتقاقات لنفهم انّه يعتني بلفظة ( الحسن ) وهو اسم الإمام المعصوم عليه السلام الذي كُتِبَت في مولده القصيدة.
    5 ـ سيرجعنا الشاعر إلى بحر المتدارك المنهوك والمخبون ضرباً وعروضاً في :

    دونـــك الـــزمــنُ
    والـمـدى ســـفــنُ
    فـاعـلــن فـعــلـن


    (209)


    فـاعـلــن فـعـلـن

    كل هذا استحضار وتهيئة للمقطع الختامي فهو يبني لنا بحسّه المعماري المكثّف بناءه هيكلاً من الداخل ، وواجهات من الخارج ليجعلنا نستأنس بهذه القفزات أو التنويعات الإيقاعية.
    6 ـ إرجاع آخر إلى بحر الخفيف المهذّب بشطر واحد يحمل نفس القافية النونيّة ونفس حركة حرف الروي المضموم :

    فاعلاتن مـفـاعـلن فعلن
    أطلق الخصب فهو مرتهنُ

    7 ـ تهيئة اُخرى واستبذار لبحر المتدارك بصيغة مجزوءة :

    يـولـد الـنـوء يختزنُ
    فـاعـلـن فـاعلن فعلن

    ويحافظ الشاعر على القافية النونية وحركة حرف الروي المضمومة ليخمِّن التراسل المطلوب بين الصيغ الوزنية الإيقاعية التي انشأها وبناها.
    8 ـ ستة أبيات من بحر البسيط جاء بها الشاعر ليفاجأنا ببناء مشتمل صغير قرب البناية الأصلية ، داخل نفس المساحة لكنّه مغاير لها طولاً وعرضاً وارتفاعاً.
    وإمعاناً في الإدهاش والمفاجأة نظمت المقطوعة على قافية همزية مضمومة الرَّوي غريبة على النّظم المتعارف ، لقلّة المفردات التي تنتظم في سياقها ، وهنا يحقّ لنا أن نتساءل : لِمَ لمْ يأت الشاعر بقافية المقطوعات الاُخرى ( حرف النون المضموم ) ليحدث توافقاً موسيقياً قائماً على ما يُسمّى في الموسيقى ( الطباق كونتربوينت )؟
    والجواب هنا هو أنّ الشاعر لا يريد ان يستفيد من الإمكانات الفنية ذات الطابع الزماني مثل الموسيقى إلاّ بعد ان تحلّى بحسّه المعماري المكاني ،


    (210)

    فدحرج علينا كتلة سرعان ما كبرت بالانحدار ليضرب انتشاءنا الإيقاعي في الصميم ، لكنّه لا يعدم وسيلة لتبرير هذا الخرق وله الحقّ في هذا التبرير لأنّ نهايات بحر البسيط هنا تنتهي بنفس القفلة الإيقاعية ( فاعِلُن فَعِلُنْ ) وسنراها هكذا :
    يا رائع المجتلى بي للهوى ظمأ
    مستفعلن فاعلن مستفعلن فعلـن
    ويمكن كتابته :
    مستفعلن فاعلاتن فاعلن فعلن
    ولدعم هذا التبرير نرى الشاعر قد أورد في الشطر الأوّل هذين التركيبين ( رائع المجتلى ، للهوى ظمأ ) وهما تركيبان من منهوك المتدارك بلا شكّ ليهذّب الكتلة وفقاً للنسب المعمارية والوحدات البنائية التي استخدمها في هيكلية النصّ وواجهاته.
    9 ـ المقطع الختامي منسوج بقماش شعر التفعيلة بتدوير تفعيلتي المتدارك؛ الصحيحة ( فاعلن ) والمخبونة ( فَعِلن ) مع وقوف على تذييل ( التذييل إضافة حرف ساكن إلى نهاية التفعيلة فتصبح فاعلن : فاعلن ن وتحوّر إلى : فاعلان ) أو ترفيل ( الترفيل إضافة سبب خفيف إلى نهاية التفعيلة والسبب الخفيف حرفان الأوّل منهما متحرّك والثاني ساكن فتصبح فاعلن : فاعلن تن وتحور تسهيلاً إلى : فاعلاتن ) في نهايات بعض الأشطر مع احتفاء ومراعاة للقوافي المزدوجة في بعض الأشطر.
    ننتهي إلى أنّ هذا النص حمل مبرّرات خروجه على البنى الإيقاعية السائدة والمتعارفة ليحقّق إخلاصه بتوجّه جمالي من موقف آخر يصعب تناوله إلاّ من خلال حقيقة نفسية سيكولوجية هي تراسل الحواس ، تقابل المرئي والمسموع ، ممّا يحدث إعاقة ظاهرة على مستوى التلقّي غير المدرّب.


    (211)

    صوفيّة جرح


    الشيخ علي الفرج


    ( 1 )
    حينما يقرأ الناس كفَّكَ خطاً فخطاً..
    يقولون : تعشقكَ امرأةٌ من دخانٍ تسمّى سماءْ
    يقولون : إنّك يوماً
    ستصبح والبحر شيئاً
    فحيناً يسمّى الزكيَّ
    وحيناً يسمّى محيطات ماءْ
    يقولون : إنّ الزمان سيحفر أيامك الحالماتِ شقوقاً..
    وينهش ثوبك ذئبٌ ويعوي.. إلى أن يموت
    وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً.. وتتركه.. ثمّ تمضى مع الأنبياءْ
    وأمّا أنا..
    سوف أقرأ كلّ أكفّ الحياة جميعاً


    (212)

    وسوف أراك بها شاخصاً من بعيدٍ
    وجوداً.. وجوداً
    وغيرُكَ حتى أكفّ الحياة
    فناءٌ.. فناءْ
    ( 2 )
    كـان وجهاً ممزّقا*كيف غنّى وصفّقا
    كان نهراً محاصَراً*وحـريـقـاً تدفّقا
    بين ألف انكسارةٍ*تـتـدلـّى ليشنقا
    كان جرحاً وأعمقا*وجـحيماً وأحرقا
    لـمـسـتْه من البتول غصونٌ فأورقا
    فـتـمـشّـى به الجحيم شفيفاً وأزرقا
    يتمطّى عـلى الشقاء ولا يعرف الشقا
    أنـا شـيءٌ على يـديك ترامى ليغرقا
    فإذا مـا رأى سناك على السحب حدّقا
    وإذا مـا رأى سـنـاك جـبالاً تسلَّقا
    وسيصحو بك الشروقُ ويهواكَ مَشرقا
    وسـتغدو إلـى الـسماءِ ويغدو مُحلّقا
    غـيـر أنّي إلى الفناءِ ومسراك للبَقـا
    ****
    أنا شيءٌ مـن الرمادِ صريعٌ بأحرفي
    أتـلـوّى عـلى يديك وأحيا وأنطفي
    وتلهّفتُ فانسكبتُ أنـا فـي تـلهُّفي


    (213)

    أنتَ شيءٌ أراك تسكن حـتّـى تصوّفي
    أنت صوفيّتي نمَتْ بين كهفي ومُصحفي
    فـي دمي يختفي الورى وأنا فيك أختفي
    أنتَ تـحـتـلُّ من صلاتي خفايا تزلّفي
    وبرؤياي مـالكٌ تـتـشـهّى وتصطفي
    أنـتَ مـن أنتَ يـا هوىً عسليّاً لمدنفِ
    مات قـيـسٌ عـلى هواه وليلاه لم تَفِ
    وأنـا أنـهـل الحياة بذكراكَ يا وفـي
    ****
    حدّثتْني رؤاي أنّك شيءٌ قـد انـتـثـرْ
    فغدا هذه النجوم الـجـمـيـلات والقمر
    وارتمى بعض ضوئه في يد الاُفق وانهمر
    فغدا يصنع الصباح الذي يشـربُ السّحر
    ثمّ غنّى على التراب لـحـوناً من القدر
    فمشى يفرش التراب أفانينَ من شـجـر
    حدّثتني رؤاي أنّك في رحلة الـسـفـر
    سكنتْ فـيك آهةٌ آه ما أظلمَ الـبـشـر
    أنت تُغضي ويـظـلمون وتعفو وتؤتسر
    عجباً يقطع الخميلةَ من يأكل الـثَّـمـر
    ****
    أنا شيءٌ علـى البقيع هيامٌ علـى هيامْ
    واُسـمّى جنـازةً وقفت فـوقها الحمام


    (214)

    صُلِبَتْ ألفُ شمعةٍ هـا هنا تحمل السّلام
    وهنا الكون يـنـحـنـي ومجرّاته تنام
    وأنـا جاثم هـنـاك حريقاً مـن الغرام
    طفتُ لوناً على الترابِ ولوناً على الغمام
    أهنا أنتَ أم على السحب أم أنتَ لا ترام
    مَن أنا يا ترى تناثر وجهي مـع الحطام
    أأنا ذلك الـهـشيم تـنـاءى به الظلام
    فتذكرتُ أن نـعـشـي قد غيلَ بالسهام
    من بقاياك طـيـنةٌ أنا لا أعشق انقسام

    ****

    (215)

  • الشيخ علي الفرج :

  • يبدأ علي الفرج باستخدام حدث فلكلوري شعبي هو ( قراءة الكفّ ) ليقول لنا : إنّ أبسط طرق الناس للمعرفة ستوصلنا إلى علاقة الإمام المعصوم عليه السلام بالسماء حتماً.
    فنراه يستخدم ( يقولون ) فعل حكاية ليسرد بطريقة القصص الشعبية الفلكلورية تصوّرات البسطاء من الناس على ثلاث مراحل.
    سنتناول المرحلتين الاُولى والثانية أوّلاً :
    يقولون : تعشقك امرأةٌ من دخان تسمّى سماء
    يقولون : إنّك يوماً ستُصبح والبحر شيئاً
    فالإمام المعصوم عليه السلام يُلبسه الناس البسطاء حلّة غرائبية هي بالتالي حلّة البطل المقدّس المخلّص من الآلام والشقاء والعذاب الدنيوي.
    ونلاحظ انّ علي الفرج قد استبقى التصوّرات تلك بتراكيبها الغرائبية ذاتها ، فهناك عشقٌ يحدّد العلاقة ، وصاحبته امرأة من دخان هي الجزء السحري والمدهش من الكون والوجود وهي السماء.. أمّا على الأرض فيختار علي الفرج من أجزائها البحر ليواصل الإدهاش بالغامض والمستتر فيصبح الإمام المعصوم عليه السلام والبحر شيئاً واحداً من جهات عدّة يمكننا شرحها وتفصيلها ، فالإمام والبحر هما العمق والإحاطة والعطاء المستمر والسعة اللامتناهية والطهارة وهذه الأخيرة هي الجهة التي اختارها الشاعر ليقول :
    فحيناً يُسمى الزكيّ...
    ولا يخفى هنا استمرار علي الفرج في احتفائه الدائب بالصور المائية وخصوصاً البحرية منها ، ممّا يطبع شاعريته بهذا الحسّ الذي سبق لنا أن أشرنا إليه في أكثر من دراسة لشعره.


    (216)

    يقولون : إنّ الزمان سيحفر أيامك الحالماتِ شقوقاً..
    وينهش ثوبك ذئبٌ ويعوي.. إلى أن يموت
    وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً.. وتتركه.. ثمّ تمضى مع الأنبياءْ
    هنا يسرد الشاعر قصّة مختصرة كاملة وبنفس الطريقة الفلكلورية العجائبية الغرائبية حيث يتدخّل الزمان ـ وهو القدر والمصير في التصوّر الشعبي ـ ليحفر شقوقاً في أيّام المعصوم عليه السلام الهانئة الحالمة ـ وهذا أيضاً وفقاً للتصوّرات الشعبية ـ وتأتي أحداث القصّة حيث يتعرّض ثوب البطل إلى نهش الذئب الذي سيعوي بعد النهش ويستمر في العواء الجائع إلى أن يموت ، وكأنّ نهشه للثوب كان سبباً لموته ، ثم يتدخّل الشاعر ليضفي على هذا الجو الاُسطوري مسحة رمزية شفّافة حين يقول :
    وتدفنه أنتَ في ظلمة العار وجهاً غريباً وتتركه
    ونلاحظ أنّ عملية دفن الذئب في ظلمة العار هي ترميز لاندثار الخطّ المعادي للمعصوم عليه السلام لأنّ هذا الخط يصبح وجهاً غريباً عن حركة الحياة بحقائقها الساطعة حينما يمضي الإمام المعصوم عليه السلام مع الانبياء في خطّهم ومنهجهم الإلهي.
    وبمقابل عملية قراءة الكفّ الشعبية الفلكلورية ستكون هناك عملية قراءة من نوع آخر عندما يبدأ الشاعر نفسه بقراءة أكفّ الحياة جميعها ، وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ أكفّ الحياة وقراءتها ليستا من النوع الأوّل ، بل هما يقابلان ـ تجوّزاً ـ كل النشاطات الحياتية العملية والفكرية.
    والقراءة هنا قراءة تقصّ واكتشاف بعيدة عن الغرائبية والتصوّرات المندهشة بالمغيبات بدون تصنيف علمي وبدون فرز إدراكي عقائدي سليم.
    ويحلو لي ان اسمّيها قراءة شاعرية ، وأظنّها كذلك فهي مستندة إلى التصوّر


    (217)

    العقائدي الواضح لحالة الإمام المعصوم عليه السلام لكنّها تحاوره ببديلٍ شعري هو معادل وجداني للفكرة يقرّره الشاعر هكذا :
    وسوف أراك بها شاخصاً من بعيد
    وجوداً.. وجوداً

    مقابل ان كلّ الوجودات غيره فانية حتى أكفّ الحياة التي قرأها الشاعر.
    ولا يفوتني ان اُشير إلى أنّي أقرأ لعلي الفرج محاولته الاُولى في الشعر الحرّ التي تكشفه لنا متمكّناً أيضاً في هذا النوع من الفن الشعري الذي اتمنّى أن يواصل كتابته فيه شاعراً ولائياً تحاصره الحداثة وتطرق بواباته نصف المغلقة.
    أمّا عن قصيدته العمودية ( صوفيّة جرح ) فقد تعمّد علي الفرج فيها ان يقف مع الجمال على أرضيته ، وأن يحلّق في فضاءاته الواسعة على حساب كلّ ما هو بليغ ، فقصيدته جميلة أكثر منها بليغة ، بل انّه بدأ ينسف بعض الجسور التي تجعله متواصلاً مع البلاغة القديمة ، ولنقل أيضاً : إنّ الشاعر بدأ يتلمّس طريقه إلى بلاغة جديدة من صنعه هو ، وهذه الخطوة المفتوحة بقوّة في طريقه الإبداعي محسوبة على محاولاته للخروج والتجاوز والتخطّي وعلى مستويات عدّة ، فمنها انّ الشاعر اختار النظم ـ عمودياً ـ على بحر الخفيف المجزوء وهو صيغة حديثة في النظم انتشرت بكثرة منذ أقل من قرن من الزمان في الشعر العمودي ، وهو لم يكتف بذلك فقط ، بل دوّر ( 32 ) بيتاً من أصل ( 45 ) بيتاً على غير عادة النظم في هذا البحر ، ليحقّق تعبيراً صارخاً عن ضيقه بهيكلية الصدر والعجز في البيت الشعري ، وتوزيع الكلمات والجمل عليهما ، فلو نظرنا إلى توزيع عدد الأبيات على القوافي لرأينا الآتي :
    قافية حرف القاف ( 13 ) بيتاً ، قافية حرف الفاء ( 11 ) بيتاً ، قافية حرف الراء ( 10 ) أبيات ، قافية حرف الميم ( 11 ) بيتاً.


    (218)

    ممّا يؤشّر أنّ الشاعر لم يحتفل بنظام حسابي معيّن لهندسة قصيدته ، وهذا أيضاً يوضّح نفوره وضيقه من التقليد ويؤكّد خروجه وتجاوزه لما هو سائد ومألوف :
    أمّا على المستوى التركيبي فسنرى :

    كـان نهراً محاصرا*وحـريـقــاً تـدفّقا

    أو :

    فتمشّــى بــه الجحيــم شفيفـاً وأزرقــا

    أو :

    أنـا شـيء مـن الـرماد صـريع بـأحـرفي

    من فجائية التركيب يصل الشاعر إلى صوره الجميلة ، والتراكيب عنده عبارة عن مادّة تعبيرية يوصل بها ما يريد وما يختار ، فشعره منحاز إلى الصيرورة والتوليد أكثر من انحيازه للكينونة والثبات ، بمعنى انّه يجمع احتمالات الولادة والطزاجة ليفاجىء المتلقّي ويسحره ويسحبه إلى داخل عوالمه الجميلة :

    وارتمى بعض ضوئـه فـي يـد الاُفق وانهمر
    فغدا يصنـع الصبـاح الذي يـشـرب السحر

    أمّا على المستوى الدلالي فأنّ القصيدة قد تلاعبت بضمائر ثلاثة ( أنا.. أنتَ.. هو ) أو ( المتكلّم والمخاطب والغائب ) ثلاثة أشخاص تناوبوا على أبيات القصيدة.
    فافتتح الشاعر القصيدة مع ضمير الغائب بسبعة أبيات ليعرض حالة وجه ممزّق ونهر محاصر وحريق ، وهذه كلّها إسقاطات للجرح الذي يدور بصوفيّته على ما أراد الشاعر التعبير عنه وتوصيله لنا بعد ذلك :
    يحتدم بعدها الحوار بين ( أنا وأنتَ ) أي بين المتكلّم والمخاطب وعلى


    (219)

    امتداد ( 17 ) بيتاً ليُطرح هذا التساؤل المضطرب :

    أنـتَ مَـن أنتَ يـا هـوىً عسليّـاً لمدنفِ

    ونستمع إلى ( 10 ) أبيات رائية من حديث رؤى المتكلّم مع المتكلّم نفسه :

    حـدّثتنـي رؤاي أنّـك شـيء قـد انتثـر

    أو :

    حـدّثتنـي رؤاي أنّـك فـي رحلـة السفـر

    وحديث الرؤى حديث كشف لحقيقة المخاطَب ، فنحن نقترب من شخصية الإمام الحسن عليه السلام وخصوصاً في هذا البيت :

    أنـت تغضي ويظلمـون وتعفـو وتـؤتسرْ

    ونعود في نهاية القصيدة إلى المتكلّم الذي يؤشّر بقعة جغرافية محدّدة ( البقيع ) ليؤكّد لنا انّه كان يتكلّم عن الإمام الحسن عليه السلام :

    أنـا شـيء علـى البقيع هيـام علـى هيامْ

    لتبدأ بعدها تساؤلات تدخلنا إلى مناطق اضطراب الدلالة وكثرة احتمالات التأويل.
    وننتهي مع الشاعر الذي يؤكّد انتماءه ومحبّته ، لكن بطريقة أقرب للغرابة منها للوضوح التقريري ، وهي تلامس أكثر من نمط من أنماط الغموض الجميل ، لكن القصيدة تمضي إلى النجاح بأكثر من خطوة موفّقة.