قراءات في وادي السنا


الشيخ نزار سنبل


قـرأتُ حبّك منقوشاً عـلـى اُفقٍ*تضجّ فـيه دموعُ الورد والشفـقِ
قرأت فيه حياتـي كــلّ دائرتي*فـفـي الفؤاد حكايا آخـر الرّمق
وخاطبتْ لغتي أقلامَ مـحـبرتي :*هوى المحبّين حرفٌ من دم الحَدَق
تذوب كلّ لغات الزهر حين هوت*علـى يديه طيور العشق فاحترقي
* * *
قـرأتُ فـجـركَ يا أحلام قافيتي*فاُلهبت فـي دمي أثوابُه الخضـرُ
وكان يشرق مـلء الأرض هالتُه*يضيء يبسم لـكنّ المـدى جَمُـر
يـسـلّ من وجع العشّاق إبـرته*فتنطفي الـروح والأحلام والكِبَـر
ومـا تـعـوّد أو ألقـاه مُنكسراً*حـتـى تكسَّر فـي شطآنه البحر
* * *
قـرأتُ ليلك مشـدوهاً على سفرِ*تـئنُّ فيه حكايـا الدّمـع والسهرِ
رأيتُ روحاً تمـدّ الكـون سابحةً*تشدّ خـيط شعاع الشمس بـالقمر


(168)

رأيتُ ظـلاًّ شفـافيّ الـرؤى ألِقـاً*يـرشَّ أفـنـيـةَ الأيـام بـالزّهر
رأيتُ شيئاً وما أدركـتُ صورتـه*وحسبُ روحي أن تفنى على قَـدَر
* * *
قرأتُ عـصـرك أصناماً مُحنّطةً*وسُجَّداً حـولـهـا تبكي بـلا أملِ
تعثّرت فـي كهوف الليل وانطفأت*حتى الشموع التي ترنو على خجل
وكنتَ تلمح خـلف الغيب قـاحلة*تـذيـب كـل معاني الوحي والمُثل
وكـانت الفأس في كفيك غـاضبةً*فحطّمتْ كـلّ مـجـد صيغ بالحيل
وإن سعيت إلـى الجلّى بلا وجل*فإنَّ رُوحك مـن روح الإمام علـي
* * *
قرأتُ كلّ دوالي الورد بـوحَ مُنـى*وصرتُ أقطفُ من ثدي النخيل جَنى
وصغت من ولهي اُنشـودة رُسِمَـتْ*عـلى دروب الحيـارى التائهين سَنا
وناغمت بسـماتُ الطيـر سـاقيتي*فرفَّ من حُـلُـمِ الواحات مـا سَكنا
ومـا تحيّرت فـي حـسـن أبادله*حلوالأحاديث إلاّ الـوحـي والحَسَنا
* * *



(169)

  • الشيخ نزار سنبل :

  • لأنّ الشيخ نزار سنبل شاعر يحتفي ويحنو على المفردات اللّغوية بشكل يقدّمها على الإمكانات والأدوات الاُخرى في العملية الشعرية ، فسوف نسائله وفقاً لمعطيين من معطيات المفردة ونترك غيرها عملاً بالاختصار والإيجاز المطلوبين لهذه الدراسة المتعجّلة.
    أولاً سندلّل : كيف انّ الشاعر شاعر مفردات أساساً؟ ثم نعرّج على التفريعات الاُخرى ، من المسلّم به انّ التجربة الشعرية ظاهرة لغوية أساساً ، لها طبيعة خاصة بها ، لكنّها على أرض الواقع لغة أوّلاً وآخراً ، وهي بالتالي كلمات أو مفردات لغوية وأشياء اُخرى ، لكنّ النظام المعجمي الذي يحفظ اللغة ويصونها هو مجموعة كلمات وألفاظ ، ونحن نبدأ ـ على العموم ـ في تعلّم لغة معينة من خلال تعلّم مفرداتها اللغوية ، فالحال انّ مستوى استخدام الألفاظ في التجربة الشعرية له ضرورته التي لا تُنكر.
    لكنّنا نرى عند الشيخ نزار سنبل احتفاء خاصاً بالمفردات بشكل واضح على محور اختياره لها ، بحيث نرى هناك قصدية لا تستتر في عملية الاختيار في أغلب قصائده ، ويمكننا أن نحدّد سياقاً أو نمطاً لاختياراته في كلّ قصيدة.
    وسنسمّي هذا النمط المستخلص من قصيدته ( قراءات في وادي السنا ) بالنمط الريفي الزراعي الذي نجده ينظم غالبية ألفاظ القصيدة بالشكل الذي يجعل الإشارة واضحة معلومة ، ويدعم التصوّر الأوّلي ليكون مبتوتاً بصحّته من خلال عملية الاستقصاء والتصنيف فسنجد مثلاً : في المقطع الأوّل ( الاُفق ، الورد ، الشفق ، الزهر ، طيور ).
    وتنتظم في المقطع الثاني كلمات ( فجر ، الخضر ، يشرق مـلء الأرض هالته ، المـدى ، شطآن ، البحر ) ليقترب أكـثر مـن بيئته التي اسـتمدّ مـنها


    (170)

    كفايتـه اللغوية.
    ونحدّد في المقطع الثالث ( خيط شعاع الشمس ، يرش بالزهر ) على مستوى التركيب.
    فهو في قراءاته الثلاث الاُولى ( قرأت حبّك ، قرأت فجرك ، قرأت ليلك ) لم يغادر الرؤى الريفية الزراعية التي تنظم اختياره على محور واضح ، لكنّه في المقطع الرابع من القصيدة يقرأ شيئاً آخر ( قرأتُ عصركَ.. ) فينتبه إلى المفارقة بين قراءاته للعصر وبين قراءاته للرؤى الريفية الزراعية التي يحمّلها بالمعاني على محور الدلالة في كلماته المختارة فلا يأتي بشيء منها في هذا المقطع ، لكنّه على سبيل الموازنة يوظّف المقطع الأخير لإبراز هذه الرؤى وبكثافة فنرى ( دوالي الورد ، أقطف من ثدي النخيل جنى ، انشودة ، بسمات الطير ، حلم الواحات ).
    ونسمّي نمطاً آخر من أنماط اختياره لمفردات تنتظم في سياق خاص بالنمط اللغوي ، وهذا النمط معني بانتقاء ألفاظ تعبّر عن ظواهر اللغة والكلام والقول فيظهر لنا الاستقصاء ما يلي ( قرأتُ حبّكَ ، قرأتُ فيه ، حكايا آخر الرمق ، خاطبتْ لغتي أقلام محبرتي ، هوى المحبّين حرف ، لغات الزهر ، قرأتُ فجركَ ، أحلام قافيتي ، قرأتُ ليلكَ ، حكايا الدمع والسهر ، قرأت عصركَ ، معاني الوحي ، قرأت كلّ دوالي الورد بوح منى ، صغت من ولهي انشودة ، حلو الأحاديث ) ممّا يؤكّد القصدية في الاختيار مع الجهد الواضح في بعثرة هذا التوجّه لتحقيق العفوية والتلقائية في النص ، لكنّنا نلاحظ في المقطع الثالث انّ الشاعر قد كشف ـ بلا قصد ـ عن التنظيم في إعطائه الأولوية للمفردات في حالة تكرّر فعل ( رأيت ) ثلاث مرات في بدايات البيت الثاني والثالث والرابع من المقطع فنرى على التوالي ( رأيت روحاً ، رأيت ظلاًّ ، رأيت شيئاً وما أدركت


    (171)

    صورته ) وهذا التدرّج في الكشف عن دلالة اللفظ الأوّل ( روحاً ) في التتابع ( ظلاًّ ) يمنحنا مفتاحاً في تعامل الشاعر مع الألفاظ لنراه يدور حول الألفاظ التي يعتني بها مثل لفظة ( روح ) التي سيقول عنها في البيت الرابع بعد نفس الفعل ( رأيت ) :

    رأيت شيئاً وما أدركتُ صورته*وحسب روحي أن تفنى على قدرِ

    ليكمل دورة اختياره بنفس اللفظة ( وحسب روحي ) ممّا يدعم فرضية اهتمامه بالمفردات على المستوى الدلالي.
    لكنّنا نكتشف جانباً آخر من هذا الاهتمام اللّغوي بالمفردات لدى الشاعر على المستوى الصوتي ، هذا الاهتمام الذي يختفي بشكل أعمق وأبعد من الظهور ، ممّا يقرّبه لحالة الاستخدام اللاشعوري ويبعده عن القصدية والتعمّد وهذا الجانب له بُعد غائر وعميق لعلّنا نفرد له بحثاً خاصاً عندما نجده عند غيره من الشعراء. وسنطلق على هذا الجانب من المستوى الصوتي تسمية مؤقتة هي ( رنين الرّوي ).
    إنّ القافية في الشعر تعتمد على تكرار حرف أو عدّة حروف في نهايات الأشطر أو الأبيات ، وفي الشعر العمودي تأخذ شكل بناء شاقولي من الخارج ، وهي رغم اعتمادها على جرس حرف الرُّويّ وما قبله وما بعده فهي كذلك تسور القصيدة العمودية بسور إيقاعي ضاغط بحيث يجتهد الشاعر بالإتيان بها سلسلة محقّقة للمتطلبات الشعرية الاُخرى ، وتظل تشاغله في عملية الكتابة فكأنّها تضغط برنين روِّيها ـ لا شعورياً ـ على البيت الشعري بشكل استباق منذ بداية تشكّله ، ممّا يقتضي مراعاته والاهتمام بشروطه.
    هذا الضغط يؤثّر على الألفاظ المختارة في صدر البيت وعجزه بما يولّد استعداداً مسبقاً ينكشف على اللاشعور في عملية الكتابة ، فيبدأ بالمناوشة


    (172)

    بشكل حضور لنفس حرف الرُّوي في متن البيت بسبب من رنين حرف الروي الذي ينتظر تشكّله في كلمة ملائمة.
    ولشرح هذا البعد الصوتي الغامض سنلاحظ المقطع الأوّل من قصيدة الشاعر فنرى حرف القاف :
    في البيت الأوّل في ألفاظ ( قرأت ، منقوشة ).
    وفي البيت الثاني ( قرأت ).
    وفي البيت الثالث ( أقلام ).
    وفي البيت الرابع ( العشق ).
    وفي المقطع الثاني حيث حرف الروي هو حرف الراء نرى :
    في البيت الأوّل ( قرأت ، فجرك ).
    في البيت الثاني ( يشرق ، الأرض ).
    في البيت الثالث ( ابرته ، الروح ).
    وفي البيت الرابع ( منكسراً ، تكسر ).
    وهكذا في المقطع الثالث أيضاً حيث حرف الروي هو حرف الراء أيضاً :
    ففي في البيت الأوّل ( قرأت ).
    وفي البيت الثاني ( رأيت ، روحاً ).
    وفي البيت الثالث ( رأيت ، الرؤى ، يرش ).
    وفي البيت الرابع ( رأيت ، ادركت ، صورته ، روح ).
    ومع حرف اللام في المقطع الرابع نرى :
    في البيت الأوّل ( حولها ، بلا ).
    في البيت الثاني ( الليل ، التي ، على ).
    وفي البيت الثالث ( تلمح ، خلف ، الغيب ، قاحلة ، كل ، الوحي ، المثل ).


    (173)

    وفي البيت الرابع ( الفأس ، كل ، بالحيل ).
    وفي البيت الخامس ( إلى ، الجلّى ، بلا ، وجل ، الامام ).
    وأخيراً نرى نون المقطع الأخير :
    في البيت الأوّل منه ( منى ، كنت ، من ، النخيل ).
    وفي البيت الثاني ( من ، انشودة ، التائهين ).
    وفي البيت الثالث ( ناغمت ).
    وفي البيت الرابع ( حسن ).
    وهذه الظاهرة يمكن أن تستقصي في الشعر العربي قديمه وحديثه ، لتحدّد على المستوى الصوتي الذي يشكّل جانباً حيوياً أصيلاً في تكوين التجربة الشعرية وامتدادها وحضورها كنوع أدبي متميز.
    بقي لنا مع نصّ الشيخ نزار سنبل ملاحظة عامّة من قدرته في إعطاء أكثر من مدخل لمعالجته ، مع اكتفائنا بهذا المدخل التشريحي المبسط لمستوى الاختيار اللّغوي والمستوى الصوتي المرتبط بنظام التقفية وهو في طور التجريب المستمر المنفتح على ما يُتاح من إمكانات تعبيرية وتوصيلية ، ففي هذه المعالجة النقدية أكثر من فائدة لتجربته ولتجارب الشعراء الآخرين ممّن نتوخّى فيهم مواصلة الإبداع ورفده بكلّ جديد.

    (174)


    (175)

    سمات البقيع


    الشيخ قاسم آل قاسم

    إذا شئتَ أن تقرأ الوحي ، أن تكتب الوحي ، أو أن تقولْ...
    فلا بد أن تستشفّ البقيع لتصبح وحياً وتصبح بعض معاني الرسول
    إذا شئت أن ترسم النور أو تنحت النور... فارحل مع الشّمسِ.
    لا تنتظر أن تضيق دائرة الاُفقِ
    فكم ألّم العاشقين الاُفولْ.
    إذا شئت أن تسمع الوحي لا تخش أن تدع الناس تغرقُ نحو السّماء
    تطرق أبوابها وحلّق إلى الأرض خلف البقيع..
    ولا تنسَ أن تطرق الباب كما كان يطرقه جبرئيل.
    وقف خاشعاً خلف أعتابه واطرقِ.. وإن شئت فاجثُ على الأرضِ
    كي تستعير من الزغب ، زغبَ الملائكِ شيئاً لترسم وجه ( الحسن )
    ولن تستطيع
    لأنّك حين تحاول أن ترسم بعض معانيه يسمو ، لأنّ ( الحسنْ )


    (176)

    فوق ضيق المسافات فوق الزمن
    ولن تستطيع
    لأنّك حين استضفت القوافي وقاموسك الأبجديّ
    حكمتَ بأنّ على الفن أن يتنازل عن عرشه
    ليسجن بين زواياك بين حدود القلمْ
    وحتى لو انّ رؤاك خيال السماوات لن تستطيع
    لأنّ الذي دونه حسن والذي تبتغيه ( الحسنْ )
    وكل الذي ها هنا هو منه ، لذاك أبى القوم تشييعه ونفوا نعشَهُ
    وظنّوا بأنَّ ثراه يضيع.
    وما علموا أن بُردته ستكون ( البقيعْ )
    وما علموا أنّه توشك الأرض تنشق عن مثلِهِ
    ألف جيل ويأتي يصلّي على قبره جبرئيلْ
    لأنّ التراب ارتوى عبق الوحي منه،
    وفي كل شبر من الأرض كل التراب يحدِّث عنه
    فيا قومنا : حطّموا المئذنهْ ، أزيلوا القبابْ
    فلا تستطيعون محو التراب ولا تقدرون بأن تخرسوا ألسُنَهْ
    لكيلا يكون الحسن :
    عليكم بان تذبحوا كل فنٍّ ، وأن تحرقوا كلّ وجه جميلْ
    عليكم بأن تنحروا الفجر كي يتمزّق وجه الأصيل
    أن تقطعوا سعفات النخيل ، أن تطفئوا الشمس حتى يموت النهار
    أن تصنعوا من وجوهِ اُميّة اشرعةً مشوّهةً تصادر لون البحارْ
    لكيلا يكون الحسنْ


    (177)

    عليكم بأن توقفوا عجلات الزّمنْ ، لئلاّ يجيء الربيع
    فتبدو على كلّ زهرة روض سمات البقيع ووجه الحسنْ
    أيا وهجاً من عيون البتول ، ويا لونَ بسمتها والضحيّة
    ويا لحن إيقاعها حين تخطو تحاكي الرسول
    ويا عرفها إذ تدير الرّحى ، ويا رجع أنغامها والصدى
    منحتَ السحابَ الندى ، فعاش على راحتيك الربيع
    فهل يا ترى يحتويك البقيع؟!
    مساكينُ أعداؤك الواهمون
    إنّك بين الزوايا بلاك الكفن
    وما علموا أنّ في كل شبر صداكَ ، وفي كلّ ذرّة رمل وطنْ
    فإن أوصدوا باب أرض البقيعْ
    فما أوصدوا بابَ روح الحسنْ


    (178)

  • الشيخ قاسم آل قاسم :

  • يدخلنا الشيخ قاسم آل قاسم إلى نصّه عبر بوابة التشريط المرتبط بالمشيئة أو هو المحاصر لها ، هذه المشيئة شخصيّة فرديّة يخاطبها الشاعر ليكشف لها وينير لها عتمات الوصول ، فنلاحظ الخطاب من الشاعر إلى هذه الذات المخاطبة يأتي ناصحاً واعظاً :
    إذا شئت أن تقرأ الوحي أن تكتب الوحي أو أن تقولْ
    هنا يسائل الشاعر مشيئة الإنسان إذا أرادت أو شاءت الاقتران بالوحي عبر طريقين متتابعين هما قراءة الوحي وكتابته ، ويسائل هذه المشيئة مخيّراً اياها بـ ( أو ) أن تقول ، على وجه يفهم منه أنّ التشريط بـ ( إذا ) جاء ليحصر ثلاث ظواهر لغوية بالأساس ( القراءة ، الكتابة ، القول ).
    فلا بدّ أن تستشف هنا مطالبة مؤكّدة بالبحث والتقصّي والاستزادة ، وعموماً هي استحضار حالة وعي عميق وإدراك متوقّد الاستشفاف والشفافية في التعامل مع الظواهر اللغوية الثلاث.
    لتصبح وحياً
    وتصبح بعض معاني الرسول
    إنّ الشاعر يكشف للمخاطب شروط الالتحام بما هو إلهي ومقدّس ، ويكشف له قوانين صيرورة الإنسان قريباً من الله تعالى ومن الرسول الأكرم صلى الله عليه وآله عبر التعامل مع النصّ الألهي أو النصّ النبوي ، أو لنقل النص المقدّس حاملاً وعيه وإدراكه وعلمه لبلوغ ما يأمل.
    لكننّا نكتشف انّ المخاطب انسان نوعي هو عموم الفنّان شاعراً كان أو كاتباً أو غيره ، لذا نرى التشريط الثاني يستخدم ألفاظاً متخصّصة مثل ( ترسم ، تنحت ) وهو يطالب هنا :


    (179)

    إذا شئت أن ترسم النور أو تنحت النور
    فارحل إلى الشمس لا تنتظر أن تضيق دائرة الاُفق
    فكم ألّم العاشقين الاُفول
    مطالبة بالرحيل إلى الأصل والمنبع الحقيقي بدون انتظار ، وواضح أنّ النور وما يقابله وهو الاُفول جاءا رمزين متقابلين للحقيقة المطلقة واللاّحقيقة.
    وقد تعاطف الشاعر في خطابه هنا مع هموم الفنّانين ، ووصفهم بالعاشقين الذين يتألّمون أكثر من غيرهم لعدم بلوغ الغاية.
    ويؤكّد الشاعر ثانية اختلاف الطرق الجمالية الفنية عن الطرق الاُخرى ، أو هو يوصي ويُطالب الفنان ـ كإنسان نوعي ـ بمخالفة الأساليب السائدة لأنّ الفنان عنده هو حامل شعلة الإبداع فلا بدّ له من المغايرة ، ففي حين يطرق الناس أبواب السماء يطالب آل قاسم الشاعر بالتحليق إلى الأرض لكنّها ليست أيّة أرض كانت ، بل هي أرض نوعية خاصة ، بقعة سماوية مقدّسة هي البقيع ليقف الشاعر خاشعاً يطرق باب البقيع وإن شاء جثا أيضاً ليحقّق شروط الالتحام المطلوب.
    وينتهي إلى استعارة شيء من زغب الملائك الطائرة ليصنع منها ريشة ملائمة لرسم وجه الإمام الحسن عليه السلام.
    ويسترسل الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم بعد ذلك استرسالاً مطوّلاً يقول فيه : بعدم كفاءة الوسط والنشاطات الإنسانية في التعامل مع ما هو مقدّس ، وعلى وجه الخصوص والحصر قضية الإمام الحسن عليه السلام وهي موضوع القصيدة ، لأنّ النشاط الإنساني ومنه الفن محصور بملازمات عالم الإمكان مكاناً وزماناً ، فلن يصل إلى التطابق مع ما هو إلهي :
    لأنّ الحسن..
    فوق ضيق المسافات فوق الزمن..


    (180)

    وعلى الرغم من سعة الفن وإنسانيته فالشاعر ـ مثلاً ـ يسجنه بقلمه ويرى فيه رأيه الخاص المحدود ليؤكّد عدم الاستطاعة في التعبير عن ما هو سام ، ويضيف آل قاسم في تأكيده لعدم استطاعة الوصول :
    وحتى لو أنّ رؤاك خيال السماوات لن تستطيع
    لأنّ الذي دونه حسن والذي تبتغيه الحسن
    ويبدأ بعدها آل قاسم في عرض إلتحام الأرض بكلّ مفرداتها وتفاصيلها بقضيّة الإمام الحسن عليه السلام :
    لأنّ التراب ارتوى عبق الوحي منهُ
    وفي كلّ شبر من الأرض كلّ التراب يُحدِّثُ عنه
    وينتهي حواره مع ظالمي الإمام الحسن عليه السلام هكذا :
    لكيلا يكون الحسن
    عليكم بان تذبحوا كلّ فن
    وأن تحرقوا كلّ وجه جميل
    في طرح شعري يرسخ ارتباط ما هو جميل بما هو حقيقي ، لأنّ الجمال عند آل قاسم ينشد ما هو حقّ وما هو خير ، وإزالة الحقّ تعني إزالة الجمال أوّلاً وآخراً ، وهذه إلتفاتة ونظر فلسفي ألبسه الشاعر حلّة الشعر وأدخله دوائر الفن عبر التفاف على تقريرية ومباشرة اللغة النثرية.
    ويسترسل الشاعر بعدها ليعبّر عن إلتحام المفردات الطبيعية بالإمام المعصوم عموماً ، وتخصيصاً الإمام الحسن عليه السلام ، فالفجر المنحور ووجه الأصيل الممزّق وسعفات النخيل المقطوعة والشمس المطفأة والنهار الميت ولون البحار المُصادَر ، كلّ هذه المفردات الحياتية هي المعادلات الوجدانية الشعرية لمظلومية الإمام الحسن عليه السلام التي تراها وجوه اُميّة المشوّهة.


    (181)

    هذا التناول لمفردات الطبيعة كمواد تعبيرية ، أضفى عليه الطابع الفكري لمسات واقعية إيمائية أبعدت عنه النَفَس الرومانسي الحالم المتأوّه لكي يقفل بالإشارة المكرّرة ( كيلا يكون الحسن ) منبّهاً على استحالة عدم كينونته ووقوف القوانين الطبيعية والسنن الكونية ضد هذا ، فلن تقف عجلات الزمن ويبقى الربيع يأتي :
    فتبدو على كلّ زهرة روض سمات البقيع
    ووجه الحسن
    تبدأ بعد ذلك قطعة ختامية يخاطب فيها الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم الإمام الحسن عليه السلام مباشرة ، وهي نفثة روحية حرّة امتزج فيها تمكّن الشاعر من النظم العمودي مع محاولته لكتابة شعر حرّ لا يتقاطع مع تجارب شعراء هذا النمط ، بل ينفرد عنهم بسبب بروز الدوافع الأخلاقية السلوكية الضاغطة على تجربة آل قاسم الشعرية.
    فقصيدته وعظية تنجح في إخفاء ما تريد تحت أجنحة المعالجة الفنية الجمالية ، وتنجح أيضاً في استقلال شخصيتها ومُزاوجتها بين متطلبات الشكل وشروط المضمون ، لتجعلنا نقول أنّ تجربته الشعرية بوتقة مختبرية تصهر الأخلاق والسلوك مع الجمالية والحقائق التاريخية في نسيج فنّي يستخدم من الرومانسية مفرداتها الرقيقة ، ومن الواقعية حبكاتها المتداخلة ، ليحقّق نصّاً هو بدايته المتمكّنة التي نتوقّع لها أكثر من ذلك حينما تتواشج وتتقاطع مع تجارب الآخرين الشعرية عِبر مسارات الشعر المعاصر.
    وعلى مستوى التجريب الواعي فإنّ الشاعر الشيخ قاسم آل قاسم قطع مسافة شاسعة نحو الإبداع والتجدّد.


    (182)


    (183)

    كبد وجراحك الخضراء


    الاستاذ معروف عبد المجيد

    لا تقترب يا نجمُ ، وابق هناك محجوباً بأسداف الزمن
    لا تحرق الدنيا بطلعتكَ الوضيئةِ حين تولَدُ..
    فالظلام يلوك فاكهة الخلودِ
    وألفُ عاصفة تهبُّ وتكسر الأمواج والقمر المعلّق في الصواري المائساتِ
    وتستبيح البسمة الحسناءَ في ثغر السُفنْ
    لا تدنُ من أرض يلذُّ لها الهجوعُ ، وتستكين ذليلةً..
    فوق التواريخ الكسيحةِ والمرايا السودِ والحمّى.. وأكتاف المحنْ..!
    وانظر إلى هذا الوجودِ تجده قفراً ، لا تداعبه النسائم والخزامى..
    والرياحين الطريّةُ والبحيرات العِذاب ، ومهرجان الطير والروضُ الأغنّْ..!
    واربأ بهامتك الكريمة عن عوالمنا الذميمة.. إذْ هَوَتْ مزقاً محرّقةً بأخدود الفتنْ..
    واعبر مدارات الحياةِ
    فكأس ( جعدة ) دائرٌ يسقي الحماماتِ النبيلةَ والأحبّةَ.. والوطنْ..


    (184)

    وارحم ثكالى الخلق.. والأمل المذهّب في بطون الاُمّهاتِ
    وهدأةَ الرّيف الملفّع بالطفولةِ واشتعال الشيب في رأس المُدن.
    فالأرض أضعف طاقةً من أن تراك تجود بالنفس الزكيّة مرّة اُخرى
    وتقتل يا حسن!!
    إرفق بنا..!
    فعيوننا لم تكتحل بالنور دهراً..
    وتعوّدت أجفانُنا برموشها السوداءِ أن تغفو..
    وتحلمَ أنّ أشواكَ الظلامِ غدت نجيمات.. وزهرا
    حتى مآقينا.. ترجّح أن تشبّ الاُمنيات الزغْبُ.. في أرحامها البتراءِ جمرا
    فإذا صحت.. ورأتك واقعها المضيءَ تحيَّرت..!
    وهي التي لم تحتضن أهدابُها من قبل.. لألاءً.. وبدراً
    حتى المآذن.. والسواقي.. والفصول الخضرُ ما عادت تؤذّنُ
    أو ترشُّ على التلال ندىً وتكبيراً.. وغزلاناً وزغردة وعطرا
    حتى المواسمُ.. والمواكبُ والكواكبُ
    لم تعد تُضفي على الأعشاشِ.. والأعشاب والليل الحزينِ بشاشةً سكرى..
    وإشراقاً.. وسحراً..
    حتى الليالي لم تعد تنأى ليلتمس الحيارى البائسون هدىً وأسحاراً.. وفجراً.
    حتى المحافلُ.. والرحيلُ الحلوُ في زهو الذُّرى والاُمسياتُ ودهشةُ الشُعراءِ
    ما عادت تفيض على السهول وهودج العشاقِ وحياً.. وارتعاشاتٍ وشعراً
    فإذا أتى الميلادُ يحمل للحزانى فرحةً.. ونبوءة تشدو.. وبشرى
    وتفجّرت آفاق هذا الشرق نوراً
    وهجُهُ :


    (185)

    طه ، وحيدرةٌ ، وزهرا..
    فلتبتهج يا عمرنا الخالي من الفرحِ المجنَّحِ فهي ذكرى.. أيُّ ذكرى..!!
    وتجيء تسبح في الدّماءِ وفي رؤاك الطفُّ ، والعطش الرهيبُ
    وشهقةُ الأطفال ، والشفق النحيلْ..
    وأخوك ممدودٌ على وجه الثَّرى كالكون. أضجعه الزمان على الرمال
    فبدؤهُ : قِدَمُ الخليقةِ
    والنهاية.. في امتداد المستحيل
    وأخوك شعشعةُ النجوم على الممالكِ واشتعالاتُ التجلّي واقتدارُ الضوء..
    والمشكاة.. والقنديلْ
    وأخواك جمهرةٌ من الأفلاكِ ترفض أن تحطّ على الترابِ
    وأن تذوب مع انطفاءات الأصيلْ
    وأخوك جلجلة الفوارسِ والتماعات السيوفِ
    تضنّ أن تهوي.. فيسكتها الردى
    وتدوسها ضعة السنابك وانتكاساتُ الخيولْ..!
    وأخوك زلزلةُ الملاحمِ وازدهاراتُ الفتوحِ وثورةُ البركان.. والغزواتُ
    والفَرَسُ الأصيلْ
    وأخوك خامس خمسةٍ تحت الكساءِ ، الله سادسهم.. وجبرائيلْ
    وأخوك جوهرةُ الإمامةِ وانفجارُ الوحي.. والقولُ الثقيلْ..
    وأخوك أسفار البشارةِ و( المؤيّدُ ) للمسيح وصرخةُ الشهداء في التنزيلْ
    وأخوك هدهدةُ الولايةِ بين أحضان النبيِّ ومعجزات المرسلين وفلكُ نوحٍ
    والأساطيرُ المجيدة ، والشرائعُ ، والنقوشُ..
    وآية الرهبان في ديرٍ على بَرَدى وأسرارُ النبوءات الخبيئة في ضفاف النيلْ


    (186)

    وأخوك أحزانُ الفراتِ وولولاتُ البدو في غسق الخيام
    وأنّة الأنسام في سعف النخيلْ
    وأخوك أوصال النهارِ تناثرت فوق المدائن وانشطار الشمس والخطب الجليلْ
    وأخوك حُرقتنا.. وآهتنا وقصّتنا التي اختزلت بها الدنيا حكاياها العجيبةَ..
    فهي تقصرُ.. كي تطول..!
    فأخوك عاشوراءُ والقتل المحرّمُ والدم المطلولُ والدمع الهطولُ
    وأخوك راسٌ ناشرٌ حُمْرَ الجدائلِ
    واختضاب الجرح في وجع الضفائر
    والتهاب البوح في هلع الذهولْ
    وأخوك أنفاسٌ.. وأوردةٌ
    تمزّقها الضغائن.. والنصولُ
    وأخوك عزفٌ.. كالعواصف في متاهات المدى
    وأخوك نزفٌ.. كالسيول
    وأخوك تقدمةٌ.. وأضحيةٌ ومذبحةٌ.. تجولْ!
    وأخوك زينبُ.. والسبايا والرسالة.. والرسولْ
    وأخوك مأتَمُنا الموشّح بالسوادِ تنوح فيه الحور من أزلٍ
    وتندبُ فيه حواءٌ ، وآمنةٌ ومريمُ ، والبتولُ
    وأخوك قبتنا الذبيحة في جنائز كربلاء
    تمدُّ كفّيها المخضبتين بالدم للسماء
    وتشتكي لله أحفاد المغولْ
    وأخوك سامرّاءُ.. والأملُ المغيّبُ في الضمائر والمشاعر والعقولُ
    وأخوك نكبتنا.. ومحنتنا الحبيسةُ في ذراري النسلِ جيلاً بعد جيلْ


    (187)

    وأخوك : أنت.. وأنتما : أنتمْ..
    وأنتم كلكم حيٌّ كدفق النبض في قلب الحياة
    وكلّنا.. نحن القتيلْ..!
    يالي.. ويا لربابتي الرعناءِ كيف تميتني صمتاً
    لتعزف ما تمنّت أن تقولْ..!!
    قد كنت أرجو أن أصوغ قصيدةَ الميلادِ
    في هذا المساءِ الطلقِ لكنَّ الحسين..
    جراحُهُ سكنت فمي
    فتحوّلت فيه الأغاريد البهيجة نوحةً
    وتحوّل النّغم الطروبُ إلى عويل..!!
    يا كلَّ آياتِ النبوّةِ والأناشيد النديّةِ في شفاه المصطفى..
    يا سبطه المسمومَ.. قامَ ومزّق الأكفانَ وهو يطوف حول البيت.. متّئداً
    ويسعى بين مروةَ.. والصفا
    قعدوا.. ولم تقعد..!
    ولكنّ الخيانةَ في ( النّخيْلةِ )
    وانكفاءات القبائلِ حمّلتك من الشدائد ما كفى..!
    خذلوك ، وانتهبوا المصلّى والمتاعَ ونازعوك بساطك النبويَّ
    ثم تأمّلوا أن يُسلموك إلى ابن هندٍ حيلةً.. وتزلّفاً..!
    غصصٌ.. على غُصصٍ..!!
    وهم من جرّعوا أضعافها ـ يوماً ـ أباكَ.. فما احتفيت.. وما احتفى..!
    طعنتكَ شرذمةُ النّفاقِ
    ولو تخيّرت القتالَ


    (188)

    بدا من الغدر المُبيّتِ.. ما خفى!
    يا عزَّ هذا الدين
    كم ذُلّتْ رقابٌ خالفتكَ
    وكم من الفرسان حين البأسِ صار مخالفاً..!
    صلحٌ.. به حُقنت دماءٌ لو جرت.. لأتوا على الثقلين
    موجدةً.. وحقداً تالداً.. وتعسفاً
    عهدٌ.. به بيّضت وجه المسلمين
    فبئس مَن جافى.. وعزّك في الخطاب وأرجفا..!
    لو لم يكن نصراً.. فكيف بغى معاوية عليك وما وفى..؟!
    مهَّدْتَ للثوار دربَهمُ الطَّويلَ فحمحمت خيل الحسين
    وأدرك التاريخ أن النخل حين يموت من ظمأٍ يظل على الدوام مرفرفاً..
    ومعانقاً هامَ السماءِ وواقفاً.
    يا أيّها المظلومُ.. أمنحك الفؤادَ مفتّتَ الرئتينِ يخفقُ.. نازِفاً
    اُهديك في الميلاد تاريخاً ، وشمساً لا تغيبُ ومُصْحَفا.


    (189)

  • الاستاذ معروف عبد المجيد :

  • قصيدة معروف عبد المجيد سياحة عريضة في أصقاع الوقائع ، وانتقالة واسعة الخطى في مساحات الحقائق ، وهذه السياحة أو الانتقالة لا يحلو لها الإقامة في مكان ولا يحلولها التعشيش على غصن معيّن ، فهيسفر متواصل يعوّل على وحدات المعنى وسعة المضامين أكثر من اطمئنانه في الإخلاص للقول الشعري.
    والشاعر بمقارباته النظمية لتفاصيل الحقائق ووثاقتها ، يحاول أن يردم فجوة عميقة قائمة بين الواقعة التاريخية ـ وهي البعد الغائر والمستتر من الوقائع ـ وبين عملية الإبداع الشعري.
    وبسبب إخلاص الشاعر للجوانب والمستويات المعنوية والمضمونية والفكرية نرى في شعره مسحة منطقية مستحكمة ، فألفاظه مثلاً لا تنحرف كثيراً عن وظيفتها لتسلك مسالك الإيحاء أو الإيماء أو الترميز ، فهي مهتمة بنقل الحقيقة المنطقية عبر نظام توصيل يصوغ التعبيرات صياغة إخبارية ، فلو نظرنا إلى مقاطع القصيدة لرأينا أنّ كلّ مقطع قائم على وحدات منطقية منظّمة تنظيماً يتجاوز الجمال لصالح الحقيقة ، ففي كل مقطع وحدة مضمونية مسؤولة عن نقل التعبير إلى المتلقّي بحبكة منطقية محكمة ، أو هناك سرد محبوك بدراية منطقية واضحة. فمعروف عبد المجيد يهتمّ بنقل التعبير ليوصله للمتلقّي عبر أدوات لا تؤكّد هويتها الشعرية ، ويكفي أنّه ينقل التعبير ولا يعبّر ، وبالنتيجة فهو ميّال إلى البرهنة على قضاياه بالأدوات الشعرية وهذه الطريقة أو الاُسلوب ـ أي استخدام الشعر لتنفيذ وظائف اُخرى ربّما يقتل الشاعرية أو يخنق ما هو شعري في تجربة معروف عبد المجيد المعرفية الواسعة.
    إنّ معالجة الشاعر لقصيدته لا تكتفي بوجودها أو حضورها المتطلّع إلى


    (190)

    آفاق الجمال والفن ، فهو يشحنها ـ بتفان ـ بآفاق معرفية يعرض من خلالها أفكاره وتوجّهاته ووعيه التاريخي بشكل مباشر ، فهو لا يميل إلى الكشوفات الإيحائية التي يجب أن تصبغ الفنون بصبغاتها الحدسية ، بل يميل إلى إخضاع التجربة الجمالية لرغبات ذهنية عقلية تقول : إنّ الحقيقة هي الجمال ، والجمال هو الحقيقة فهو مع قول أحدهم :

    وكم يبدو الجمال أشدّ حسناً*بمـا تهب الحقيقة من جمال

    ومع وجع الحقيقة انعكست رؤى الشاعر مأساوية الظلال ، فجائعية الإشعاع لتبعد الفرح عن مسار القصيدة وسياقها منذ الخطوة الاُولى التي عانقت ( لا ) الناهية بكل حدّة ليقول :
    لا تقترب يا نجم..
    ليلحق هذه الحدّة عبر فعل الأمر ( ابق ) ليواصل التحذير :
    وابق هناك محجوباً بأسداف الزمن
    ويطغى الألم على التصوّر ليجعل النور محرقاً فيخاطبه ناهياً أيضاً :
    لا تحرق الدنيا بطلعتك الوضيئة
    وعبر مشاعر الخوف والخشية والرهبة من تكرّر المأساة يستمر خطاب الشاعر للإمام الحسن عليه السلام بالعرض والتوسّل والطلب والرجاء وتعود ( لا ) الناهية مرّة اُخرى لترجو وتتوسّل :
    لا تدن من أرض يلذ لها الهجوع
    ويستسلم الشاعر لسوداويّة مطلقة ، فهو يؤبّد الظلام ويجعله خالداً بتصوّر اُسطوري واضح الدلالة :
    فالظلام يلوك فاكهة الخلود
    ويشحن الجو المأساوي العام بتفاصيل الكارثة فهناك :


    (191)

    الف عاصفة تهبّ
    وهناك أيضاً :
    التواريخ الكسيحة والمرايا السود والحمّى
    ويعود الشاعر ليتوكّأ على طلباته وتوسُّلاته بعدم الحضور ، فيواصل رحلته مع أفعال الأمر ( انظر ، اربأ ، اعبر ، ارحم ) ليعلن إعلاناً هو إلى خيال الأماني أقرب من الحقيقة التاريخية ليقول : إنّ الأرض لا يمكنها استقبال الإمام عليه السلام إذا أراد أن يجود بدمائه مرّة اُخرى.
    في المقطع الثاني يحدث بعض الانفراج من ضغط الأحزان والواقع المأساوي المحاصِر لرؤى الشاعر ، فيبتدىء من فعل الأمر المتوسِّل بالإمام الحسن عليه السلام.
    ارفق بنا.. فعيوننا لم تكتحل بالنور دهراً
    لنصل بعد رحلة سرديّة بتفاصيل الأوجاع عبر تداعيات متواصلة ومتداخلة إلى منطقة صغيرة يعالج الشاعر بدايتها بــ( لام الأمر ) ليقول :
    فلتبتهج يا عمرنا الخالي من الفرح المجنّح فهي ذكرى.. أي ذكرى
    ويدخلنا الشاعر إلى مقطع قصيدته الثالث باستهلال فاجع عن الإمام الحسن عليه السلام :
    وتجيء تسبح في الدِّما
    وهذا الاستهلال قابل لقراءتين؛ الاُولى تبدو فيها الولادة والمجيء سابحتين في الدماء ، أمّا الثانية فيمكننا أن نتصوّر فيها مجيء ذكرى الولادة لا الولادة نفسها ، على أنّ الشاعر أراد ان يتخلّص إلى موضوع مركزي يتحدّث فيه ويسهب عن الإمام الحسين عليه السلام فأكمل شطره هكذا :
    في رؤاك الطف والعطش الرهيب وشهقة الأطفال والشفق النحيل
    ليبدأ التخلّص في الشطر الثاني :


    (192)

    وأخوك ممدود على وجه الثرى
    ليعرض الشاعر في أطول مقاطع القصيدة مأساة الحسين عليه السلام في صور تقرّر تفاصيل المأساة وتنقل استنساخاً مقارباً لذاك الحدث التاريخي ، ومع تكرار لفظة ( أخوك ) 24 مرّة تنثال التداعيات المجاورة للوقائع لتخبرنا وتحقّق وظيفة الإبلاغ ونقل التعبير المُصاحِب للمعلومات ولدقائق الاُفق المعرفي الذي يريدنا الشاعر ان نطّلع عليه داخل حلّته الشعرية.
    ونظراً لهذا الإخلاص في استخدام الأداة الشعرية لإنجاز وظائف حياتية اُخرى ، أفلتت بعض المتطلّبات الأساسية المرادة في الجانب الإجرائي التنفيذي لعملية بناء القصيدة.
    فمع تدفّق القصيدة بتفعيلات بحر الكامل عانت بعض الخلل الإيقاعي الذي جاء به الشاعر بتجوّز واضح ، فبعد انتظام المقطع الأوّل مع صحيح الكامل ، والمقطع الثاني مع الكامل المرفّل ، ابتدأ الشاعر مقطعه الثالث مع الكامل المذيّل ، أي انّه كان يضيف حرفاً ساكناً إلى تفعيلات نهايات الأشطر في ( النحيل ، المستحيل ) إلاّ انّه أورد ( القنديل ) وهو معالج عروضياً بزحاف وعلّتين ، فالزحاف هو الإضمار حين سكّن الحرف الثاني المتحرّك من تفعيلة بحر الكامل ( مُتَفاعلن ) فتحوّلت إلى ( مُتْفاعلن أو مستفعلن ) ، ثمّ عالج الناتج بعلّة الحذف عندما حذف الوتد المجموع من ( مستفعلن ) فبقي ( مستف ) وهذا الناتج يقابل تفعلية الخبب ( فعلن ) ، ثم ذيّل هذه التفعيلة عندما أضاف حرفاً ساكناً إليها فأصبحت ( فعلان ) وهي وزن ( قنديل ) وهذه المعالجة لا تقابل ما قبلها إيقاعياً مع كون القافية متّحدة ، وتكرّر هذه الكسر الإيقاعي في مواقع اُخرى ( جبرائيل ، التنزيل ، النيل ).
    ويصل الشاعر إلى مقطع قصيدته الرابع ، ليبرّر لنا ما يمكن تسميته بضغط


    (193)

    الحزن على رؤاه وأبعاد تصوّراته الشعرية :
    قد كنت أرجو أن أصوغ قصيدة الميلاد
    في هذا المساء الطلق
    لكن الحسين.. جراحه سكنت فمي
    وبعد التبرير المختصر بشطرين يمثّلان مقطعاً كاملاً يعود الشاعر في مقطع قصيدته الأخير للسرد التاريخي الذي يعمّق المأساة والحزن والألم ثانية ، فيذكر النبي الأكرم صلى الله عليه وآله ، وأمير المؤمنين عليه السلام ، وخيانة النخيلة وخذلان القبائل وصلح الإمام الحسن عليه السلام. بحيث تغلب اللغة النثرية التقريرية الإبلاغية الإخبارية على أشطر المقطع الذي لم يوفّق الشاعر فيه إلى اكتشاف أرضية جمالية ، أو انّنا نقول انّه رأى أن يسمّي الأشياء والمفاهيم والأفكار بمسمياتها المباشرة بدون أن يعطي للتأمّل الشعري فرصة لطرح ما يعادل الأفكار شعرياً فنقرأ :
    بيَّضت وجه المسلمين
    أو :
    لو لم يكن نصراً فكيف بغى معاوية عليك وما وفى؟
    ووصل المستوى التعبيري إلى حدّ المفارقة في استخدامه للفظة ( الفؤاد ) وهي لفظة يتبادر معناها إلى ذهن المتلقّي انّه ( القلب ) فكيف استخدمت بهذا الشكل المنافي لمعناها في :
    يا أيّها المظلوم أمنحك الفؤاد مفتّت الرئتين
    فالقلب هنا له رئتان مفتّتان وهذا خلل واضح على المستوى الدلالي ، يضاف إلى خلل في نظام التقفية عندما استخدم الشاعر القوافي التالية ( مخالفاً ، ما كفى ، ما خفى ، ما وفى ، واقفاً ، نازفاً ) وهذا من عيوب القافية الذي يسمّى بـ ( سناد التأسيس ).