سيرة الإمام الحسن (ع)

الصفحة السابقة الصفحة التالية

سيرة الإمام الحسن (ع)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب

ص 91

والموت يطلبك. واعلم أن الدنيا في حلالها حساب، وفي حرامها عقاب، وفي الشبهات عتاب (1). وقال (عليه السلام): اعمل لدنياك كأنك تعيش أبدا، واعمل لآخرتك كأنك تموت غدا. وقال (عليه السلام): من أراد عزا بلا عشيرة، وهيبة بلا سلطان، فليخرج من ذل معصية الرحمن إلى عز طاعته. من كلام لعلي (عليه السلام) إلى ولده الإمام الحسن (عليه السلام) يا بني سمعت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يقول: لا فقر أشد من الجهل، ولا مال أعود من العقل، ولا وحدة أوحش من العجب، ولا مظاهرة أوثق من المشاورة، ولا عقل كالتدبير، ولا حسب كحسن الخلق، ولا ورع كالكف،

(هامش)

(1) ويروي هذا القول لأمير المؤمنين (عليه السلام) خاصة الذي بين القوسين. (*)

ص 92

ولا عبادة كالتفكر، ولا إيمان كالحياء والصبر وآفة الحديث الكذب، وآفة العلم النسيان، وآفة الحلم السفه، وآفة العبادة الفترة، وآفة الظرف الصلف (1) وآفة الشجاعة البغي، وآفة السماحة المن، وآفة الجمال الخيلاء، وآفة الحسب الفخر. يا بني لا تستخفن برجل تراه أبدا فإن كان أكبر منك فعد أنه أبوك، وإن كان مثلك فهو أخوك، وإن كان أصغر منك فاحسبه أنه ابنك. ثم النجدة: الذب عن الجار، والمحاماة في الكريمة، والصبر عند الشدائد (2). سئل الإمام الحسن (عليه السلام) عن الصمت فقال: هو ستر العي، وزين العرض، وفاعله في راحة، وجليسه

(هامش)

(1) هو مدح الشخص نفسه بما ليس فيه إعجاب وتكبر، التكلم بما يكره. (2) تاريخ اليعقوبي 2 / 215. (*)

ص 93

آمن (1). كان الإمام الحسن يجلس في مسجد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ويجتمع الناس حوله، فجاء رجل فوجد شخصا يحدث عن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والناس حوله مجتمعون، فجاء إليه الرجل فقال: أخبرني عن شاهد ومشهود؟. فقال: نعم، أما الشاهد فيوم الجمعة، وأما المشهود فيوم عرفة. فتجاوزه إلى آخر يحدث في المسجد فسأله عن شاهد ومشهود كذلك. فقال: أما الشاهد فيوم الجمعة وأما المشهود فيوم النحر. ثم تجاوزهما إلى ثالث فسأله عن شاهد ومشهود أيضا فقال: الشاهد رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) والمشهود يوم القيامة، أما

(هامش)

(1) مطالب السؤول 69. (*)

ص 94

سمعته عز وجل يقول: *(يا أيها النبي إنا أرسلناك شاهدا ومبشرا ونذيرا)* وقال تعالى: *(ذلك يوم مجموع له الناس وذلك يوم مشهود)* فسأل عن الأول فقالوا ابن عباس، وسأل عن الثاني فقالوا: ابن عمر، وسأل عن الثالث فقالوا: الحسن بن علي بن أبي طالب رضي الله عنهما (1). كان (عليه السلام) يطوف في بيت الله الحرام فسأله رجل عن معنى الجواد. فقال له: إن لكلامك وجهين: إن كنت تسأل عن المخلوق فإن الجواد الذي يؤدي ما افترض عليه، والبخيل الذي يبخل بما اقترض عليه، وإن كنت تسأل عن الخالق: فهو الجواد إن أعطى وإن منع، لأنه إن أعطى عبدا أعطاه ما ليس له، وإن منع منع ما ليس له (2).

(هامش)

(1) نور الأبصار: 173. (2) حياة الإمام الحسن بن علي القرشي 1 / 144. (*)

ص 95

شعره: وقال (عليه السلام) في التذكير بالموت: قل للمقيم بغير دار إقامة * حان الرحيل فودع الأحبابا إن الذين لقيتهم وصحبتهم * صاروا جميعا في القبور ترابا وقال (عليه السلام) في التذكير: يا أهل لذات دنيا لا بقاء لها * إن المقام بظل زائل حمق (1) وقال (عليه السلام) في الزهد في الدنيا: لكسرة من خسيس الخبز تشبعني * وشربة من قراح الماء تكفيني

(هامش)

(1) بحار الأنوار 10 / 94. (*)

ص 96

وطمرة من رقيق الثوب تسترني * حيا وإن مت تكفيني لتكفيني (1) وله (عليه السلام) في السخاء: إن السخاء على العباد فريضة * لله يقرأ في كتاب محكم وعد العباد الأسخياء جنانه * وأعد للبخلاء نار جهنم من كان لا تندى يداه بنائل * للراغبين فليس ذاك بمسلم (2)

  تقريض العظماء والعلماء

 كلمات العلماء والعظماء فيه (عليه السلام): قال عبد الله بن الزبير لمن كان يتحدث عن أشبه الناس برسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): أنا أحدثكم بأشبه أهله به

(هامش)

(1) أعيان الشيعة: 4 ق 1. (2) بحار الأنوار 10 / 95. (*)

ص 97

وأحبهم إليه، الحسن بن علي، رأيته يجئ وهو ساجد فيركب رقبته، فما ينزله حتى يكون هو الذي ينزل... (1). وقال: والله ما قامت النساء عن مثل الحسن بن علي. (2) كتب إليه الحسن البصري: أما بعد: فإنكم معشر بني هاشم الفلك الجارية، واللجج الغامرة، والأعلام النيرة الشاهرة، أو كسفينة نوح (عليه السلام)، التي نزلها المؤمنون، ونجا فيها المسلمون... (3). قال واصل بن عطاء: كان الحسن بن علي (عليه السلام) عليه سيماء الأنبياء، وبهاء الملوك. (4) قال محمد بن طلحة الشافعي [في الإمام الحسن بن

(هامش)

(1) الإصابة: 1 / 329. (2) البداية والنهاية: 8 / 37. (3) تحف العقول: 166. (4) المناقب: 2 / 170. (*)

ص 98

علي (عليه السلام)]: كان الله عز وجل قد رزقه الفطرة الثاقبة في إيضاح مراشد ما يعانيه، ومنحه النظرة الصائبة لإصلاح قواعد الدين ومبانيه، وخصه بالجلبة التي درت لها أخلاق مادتها بصور العلم ومعانيه. (1) قال شمس الدين يوسف بن قزاغلي الحنفي - سبط ابن الجوزي - في الإمام الحسن (عليه السلام): كان من كبار الأجواد، وله الخاطر الوقاد، وكان رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يحبه حبا شديدا. (2) قال شيخ الإسلام شهاب الدين بن حجر: الحسن بن علي بن أبي طالب بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف الهاشمي، سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانة أمير المؤمنين، أبو محمد، ولد في نصف شهر

(هامش)

(1) مطالب السؤول: 65. (2) تذكرة الخواص: 111. (*)

ص 99

رمضان.... (1) قال شمس الدين محمد بن طولون: وثانيهم: وهو الحسن بن علي بن أبي طالب القرشي الهاشمي المدني، أبو محمد سبط رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وريحانته، وابن فاطمة بنت رسول الله سيدة نساء العالمين رضي الله عنها . وقال: وكان الحسن (رضي الله عنه) شبيها بالنبي (صلى الله عليه وآله وسلم) سماه النبي (صلى الله عليه وآله وسلم)، وعق عنه يوم سابعه، وحلق شعره وأمر أن يتصدق بزنة شعره فضة، وهو [رابع] خامس أهل الكساء. (2) وقال: ابن الأثير مثله. قال خير الدين الزركلي: كان عاقلا حليما محبا للخير فصيحا، من أحسن الناس منطقا وبديهة، كان معاوية يوصي أصحابه باجتناب محاورة رجلين: هما

(هامش)

(1) الإصابة: 1 / 328. (2) الأئمة الاثنا عشر: 63. (*)

ص 100

الحسن بن علي، وعبد الله بن عباس، لقوة بداهتهما. بايعه أهل العراق بالخلافة بعد مقتل أبيه سنة 40... (1). قال محمد رضا المصري: هو سيد شباب أهل الجنة، وريحانة النبي وشبيهه... (2). دور الإمام في الحياة العامة قال عبد القادر أحمد اليوسف: ولتكن للقارئ فكرة مبدئية على أن الحسن بن علي وابن بنت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وما تلاه من الأئمة المعصومين، يعتبرون أنفسهم أحق من غيرهم، لا بل هم المكلفون بعد الرسول (صلى الله عليه وآله وسلم) بنشر الإسلام والمحافظة على السنن والشرائع المحمدية، لما لهم من وشائج القربى، ونقاوة النفس وتفهم التنزيل. (3)

(هامش)

(1) الأعلام: 1 / 230. (2) الحسن والحسين سبطا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) تأليف محمد رضا المصري: 8. (3) الحسن بن علي تأليف عبد القادر أحمد اليوسف: 42. (*)

ص 101

 دور الإمام في الحياة العامة:

 فقد قام الإمام الحسن (عليه السلام) بتحمل عب ء الإمامة وقيادة الأمة منذ اللحظة التي رجع فيها من دفن أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) بكل قدرة وكفاءة، وحكمة وبصيرة، قل نظيرها وعز مثيلها، والمتتبع لسيرة الإمام السبط (عليه السلام) يدرك ذلك جيدا ويقدر الظروف التي واجهته. ويهمني في هذا المقام أن أستعرض بعض جوانب ممارساته الجهادية، على مرحلتين في حياة أبيه وبعده (عليه السلام). أولا: لقد تميز دور الإمام السبط (عليه السلام) في عهد أبيه (عليه السلام)، وفي أيام خلافته على وجه التحقيق، بالخضوع التام لأوامر أبيه وقدوة وإماما، وقد كان يتلقى أوامره لا كابن بار فحسب، وإنما كجندي فدائي مطيع، بكل ما في كلمة الجندي من مظامين الطاعة والانضباط،

ص 102

الواعية المدركة لمسؤولياتها. مناظراته (عليه السلام) مع معاوية وأصحابه قال ابن أبي الحديد: روى الزبير بن بكار في كتاب المفاخرات قال: اجتمع عند معاوية عمرو بن العاص، والوليد بن عقبة بن أبي معيط، وعتبة بن أبي سفيان بن حرب، والمغيرة بن شعبة، وقد كان بلغهم عن الحسن بن علي (عليه السلام) قوارص، وبلغه عنهم مثل ذلك، فقالوا: يا أمير المؤمنين، إن الحسن قد أحيا أباه وذكره، وقال فصدق، وأمر فأطيع، وخفقت له النعال، وإن ذلك لرافعه إلى ما هو من أعظم منه، ولا يزال يبلغنا عنه ما يسوؤنا. قال معاوية: فما تريدون؟ مناظراته مع معاوية وحزبه قالوا: إبعث عليه فليحضر لنسبه، ونسب أباه ونعيره ونوبخه، ونخبره أن أباه قتل عثمان ونقرره بذلك، ولا يستطيع أن يغير علينا شيئا من ذلك.

ص 103

قال معاوية: إني لا أرى ذلك ولا أفعله. قالوا: عزمنا عليك يا أمير المؤمنين لتفعلن. فقال: ويحكم لا تفعلوا، فوالله ما رأيته قط جالسا عندي إلا خفت مقامه، وعيبه لي. قالوا: ابعث إليه على كل حال. قال: إن بعثت إليه لانصفنه منكم. فقال عمرو بن العاص: أتخشى أن يأتي باطله على حقنا، أو يربو قوله على قولنا؟!. قال معاوية: أما إني إن أبعث إليه لآمرنه أن يتكلم بلسانه كله. قالوا: مره بذلك. قال: أما إذا عصيتموني وبعثتم إليه، وأبيتم إلا ذلك، فلا تمرضوا له في القول، واعلموا أنهم أهل بيت لا يعيبهم العائب، ولا يلصق بهم العار، ولكن اقذفوه بحجره، تقولون له: إن أباك قتل عثمان، وكره خلافة

ص 104

الخلفاء من قبله. فبعث إليه معاوية فجاءه رسوله فقال: إن أمير المؤمنين يدعوك. قال: من عنده؟ فسماهم. فقال الحسن (عليه السلام): ما لهم خر عليهم السقف من فوقهم وأتاهم العذاب من حيث لا يشعرون، ثم قال: يا جارية ابغيني ثيابي، اللهم إني أعوذ بك من شرورهم، وأدرأ بك في نحورهم، وأستعين بك عليهم، فاكفنيهم كيف شئت، وأنى شئت بحول منك وقوة يا أرحم الراحمين. ثم قام فدخل على معاوية فأعظمه وأكرمه، وأجلسه إلى جانبه، وقد ارتاد القوم وخطروا خطران الفحول، بغيا في أنفسهم وعلوا، ثم قال: يا أبا محمد إن هؤلاء بعثوا إليك وعصوني. فقال الحسن (عليه السلام): سبحان الله الدار دارك، والإذن فيها إليك، والله إن كنت أجبتهم إلى ما أرادوا وما في أنفسهم

ص 105

إني لأستحي لك من الفحش، وإن كانوا غلبوك على رأيك إني لأستحي لك من الضعف، فأيهما تقر، وأيهما تنكر، أما إني لو علمت بمكانهم جئت معي بمثلهم من بني عبد المطلب (1) وما لي أن أكون مستوحشا منك ولا منهم إن وليي الله وهو يتولى الصالحين. فقال معاوية: يا هذا إني كرهت أن أدعوك، ولكن هؤلاء حملوني على ذلك من كراهتي له، وإن لك منهم النصف، ومني وإنما دعوناك لنقررك أن عثمان قتل مظلوما، وأن أباك قتله، فاستمع منهم، ثم أجبهم، ولا تمنعك وحدتك واجتماعهم أن تتكلم بكل لسانك. فتكلم عمرو بن العاص: فحمد الله، وصلى على رسوله، ثم ذكر عليا (عليه السلام)، فلم يترك شيئا يعيبه به إلا قاله، وقال: إنه شتم أبا بكر وكره خلافته، وامتنع من بيعته، ثم

(هامش)

(1) يريد (عليه السلام) إنك لو أعلمتني بمكان هؤلاء واجتماعهم عندك. (*)

ص 106

بايعه مكرها، وشرك في دم عمر، وقتل عثمان ظلما، وادعى من الخلافة ما ليس له، ثم ذكر الفتنة يعيره بها، وأضاف إليه مساوئ وقال: إنكم يا بني عبد المطلب لم يكن لله ليعطيكم الملك على قتالكم الخلفاء، واستحلالكم ما حرم الله من الدماء، وحرصكم على الملك، وإتيانكم ما لا يحل، ثم إنك يا حسن تحدث نفسك أن الخلافة صائرة إليك، وليس عندك عقل ذلك ولا لبه، كيف ترى الله سبحانه سلبك عقلك، وتركك أحمق قريش، يسخر منك ويهزأ بك، وذلك لسوء عمل أبيك، وإنما دعوناك لنسبك وأباك، فأما أبوك فقد تفرد الله به، وكفانا أمره، وأما أنت فإنك في أيدينا نختار فيك الخصال، ولو قتلناك ما كان علينا إثم من الله، ولا عيب من الناس، فهل تستطيع أن ترد علينا وتكذبنا؟ فإن كنت ترى أنا كذبنا في شيء فاردده علينا فيما قلنا، وإلا فاعلم أنك وأباك ظالمان.

ص 107

ثم تكلم الوليد بن عقبة بن أبي معيط فقال: يا بني هاشم إنكم كنتم أخوال عثمان فنعم الولد كان لكم، فعرف حقكم، وكنتم أصهاره فنعم الصهر كان لكم يكرمكم، فكنتم أول من حسده، فقتله أبوك ظلما، لا عذر له ولا حجة، فكيف ترون الله طلب بدمه، وأنزلكم منزلتكم، والله إن بني أمية خير لبني هاشم من بني هاشم لبني أمية، وإن معاوية خير لك من نفسك. ثم تكلم عتبة بن أبي سفيان فقال: يا حسن كان أبوك شر قريش لسفكه لدمائها، وقطعه لأرحامها، طويل السيف واللسان، يقتل الحي، ويعيب الميت، وإنك ممن قتل عثمان ونحن قاتلوك به، وأما رجاؤك الخلافة فلست في زندها قادحا، ولا في ميراثها راجحا، وإنكم يا بني هاشم قتلتم عثمان، وإن من الحق أن نقتلك وأخاك به، فأما أبوك فقد كفانا الله أمره، وأقاد منه، وأما أنت فوالله ما علينا لو قتلناك بعثمان إثم ولا عدوان.

ص 108

ثم تكلم المغيرة بن شعبة فشتم عليا وقال: ما أعيبه في قضية يخون، ولا في حكم يميل ولكنه قتل عثمان. ثم سكتوا، فتكلم الحسن بن علي (عليه السلام): فحمد الله وأثنى عليه، وصلى على رسوله وآله، ثم قال: أما بعد يا معاوية فما هؤلاء شتموني ولكنك شتمتني، فحشا ألفته، وسوء رأي عرفت به، وخلقا سيئا ثبت عليه، وبغيا علينا، وعداوة منك لمحمد وأهله، ولكن اسمع يا معاوية واسمعوا، فلأقولن فيك وفيهم ما هو دون ما فيكم: أنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن الذي شتمتموه منذ اليوم صلى القبلتين كليهما وأنت يا معاوية بهما كافر تراها ضلالة، وتعبد اللات والعزى غواية. وأنشدكم الله هل تعلمون أنه بايع البيعتين كليهما: بيعة الفتح، وبيعة الرضوان، وأنت يا معاوية بأحدهما كافر، وبالأخرى ناكث، وأنشدكم الله هل تعلمون أنه أول الناس إيمانا، وأنك يا معاوية وأباك من المؤلفة قلوبهم:

ص 109

تسرون الكفر، وتظهرون الإسلام، وتستمالون بالأموال. وأنشدكم الله ألستم تعلمون أنه كان صاحب راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) يوم بدر، وأن راية المشركين كانت مع معاوية ومع أبيه، ثم لقيكم يوم أحد ويوم الأحزاب ومعه راية رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، ومعك ومع أبيك راية الشرك، وفي كل ذلك يفتح الله له، ويفلج حجته، وينصر دعوته، ويصدق حديثه، ورسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في تلك المواطن كلها عنه راض، وعليك وعلى أبيك ساخط. وأنشدك الله يا معاوية أتذكر يوم جاء أبوك على جمل أحمر وأنت تسوقه، وأخوك عتبة هذا يقوده، فرآكم رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقال: اللهم العن الراكب والقائد والسائق. أتنسى يا معاوية الشعر الذي كتبته إلى أبيك لما هم أن يسلم، تنهاه عن ذلك:

ص 110

يا صخر لا تسلمن يوما فتفضحنا * بعد الذين ببدر أصبحوا مزقا خالي وعمي وعم الأم ثالثهم * وحنظل الخير قد أهدى لنا الأرقا لا تركنن إلى أمر تكلفنا * والراقصات به في مكة الخرقا فالموت أهون من قول العداة لقد * حاد ابن حرب عن العزى إذا فرقا والله لما أخفيت من أمرك أكبر مما أبديت، وأنشدكم الله أيها الرهط أتعلمون أن عليا حرم الشهوات على نفسه بين أصحاب رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فأنزل فيه: *(يا أيها الذين آمنوا لا تحرموا طيبات ما أحل الله لكم)* وأن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بعث أكابر أصحابه إلى بني قريظة فنزلوا من حصنهم فهزموا، فبعث عليا بالراية فاستنزلهم على حكم الله وحكم رسوله، وفعل في خيبر مثلها.

ص 111

ثم قال: يا معاوية أظنك لا تعلم أني أعلم ما دعا به عليك رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لما أراد أن يكتب كتابا إلى بني خزيمة، فبعث إليك ونهمك إلى أن تموت. وأنتم أيها الرهط نشدتكم الله ألا تعلمون أن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) لعن أبا سفيان في سبعة مواطن لا تستطيعون ردها: أولها: يوم لقي رسول (صلى الله عليه وآله وسلم) خارجا من مكة إلى الطائف يدعو ثقيفا إلى الدين، فوقع به، وسبه وسفهه وشتمه وكذبه وتوعده، وهم أن يبطش به، فلعنه الله ورسوله وصرف عنه. والثانية: يوم العير إذ عرض لها رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وهي راجعة من الشام، فطردها أبو سفيان وساحل بها، فلم يظفر المسلمون بها، ولعنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ودعا عليه، فكانت وقعة بدر لأجلها. والثالثة: يوم أحد حيث وقف تحت الجبل، ورسول

ص 112

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في أعلاه، وهو ينادي: أعل هبل، مرارا، فلعنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عشر مرات، ولعنه المسلمون. والرابعة: يوم جاء بالأحزاب وغطفان واليهود، فلعنه رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) وابتهل. والخامسة: يوم جاء أبو سفيان في قريش فصدوا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) عن المسجد الحرام والهدي معكوفا أن يبلغ محله، وذلك يوم الحديبية، فلعن رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) أبا سفيان، ولعن القادة والأتباع وقال: ملعونون كلهم، وليس فيهم من يؤمن. فقيل: يا رسول الله، أفما يرجى الإسلام لأحد منهم فكيف باللعنة؟ فقال: لا تصيب اللعنة أحدا من الأتباع، وأما القادة فلا يفلح منهم أحد. والسادسة: يوم الجمل الأحمر. والسابعة: يوم وقفوا لرسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في العقبة

ص 113

ليستنفروا ناقته، وكانوا اثني عشر رجلا، منهم أبو سفيان، فهذا لك يا معاوية. وأما أنت يا ابن العاص فإن أمرك مشترك، وضعتك أمك مجهولا من عهر وسفاح، فتحاكم فيك أربعة من قريش، فغلب عليك جزارها، ألأمهم حسبا، وأخبثهم منصبا، ثم قام أبوك فقال: أنا شاني محمد الأبتر، فأنزل الله فيه ما أنزل *(إن شانئك هو الأبتر)*، قاتلت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) في جميع المشاهد، وهجوته وآذيته بمكة، وكدته كيدك كله وكنت من أشد الناس له تكذيبا وعداوة، ثم خرجت تريد النجاشي مع أصحاب السفينة لتأتي بجعفر وأصحابه إلى أهل مكة، فلما أخطاك ما رجوت، ورجعك الله خائبا، وأكذبك واشيا، جعلت حدك على صاحبك عمارة ابن الوليد، فوشيت به إلى النجاشي حسدا لما ارتكب من حليلتك، ففضحك الله وفضح صاحبك، فأنت عدو بني هاشم في الجاهلية

ص 114

والإسلام ثم إنك تعلم وكل هذا الرهط يعلمون، أنك هجوت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) بسبعين بيتا من الشعر، فقال رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم): اللهم إني لا أقول الشعر، ولا ينبغي لي، اللهم العنه بكل حرف ألف لعنة، فعليك إذا من الله ما لا يحصى من اللعن. وأما ما ذكرت من أمر عثمان، فأنت سعرت عليه الدنيا نارا، ثم لحقت بفلسطين، فلما أتاك قتله قلت: أنا أبو عبد الله إذا نكأت قرحة أدميتها، ثم حبست نفسك إلى معاوية وبعت دينك بدنياه، فلسنا نلومك على بغض ولا نعاتبك على ود، وبالله ما نصرت عثمان حيا ولا غضبت له مقتولا. ويحك يا ابن العاص، ألست القائل في بني هاشم لما خرجت من مكة إلى النجاشي: تقول ابنتي أين هذا الرحيل * وما السير مني بمستنكر

ص 115

فقلت ذريني فإني امرؤ * أريد النجاشي في جعفر لأكويه عنده كية * أقيم بها نخوة الأصعر وشاني أحمد من بينهم * وأقولهم فيه بالمنكر وأجري إلى عتبة جاهدا * ولو كان كالذهب الأحمر ولا أنثني عن بني هاشم * وما استطعت في الغيب والمحضر فإن قيل العتب مني له * وإلا لويت له مشفري فهذا جوابك هل سمعته؟ وأما أنت يا وليد فوالله ما ألومك على بغض علي وقد جلدك ثمانين في الخمر، وقتل أباك بين يدي رسول

ص 116

الله (صلى الله عليه وآله وسلم) صبرا، وأنت الذي سماه الله الفاسق، وسمى عليا المؤمن حيث تفاخرتما فقلت له: اسكت يا علي فأنا أشجع منك جنانا، وأطول منك لسانا، فقال لك علي: اسكت يا وليد فأنا مؤمن وأنت فاسق، فأنزل الله في موافقة قوله *(أفمن كان مؤمنا كمن كان فاسقا لا يستوون)* ثم أنزل فيك على موافقة قوله أيضا: *(إن جاءكم فاسق بنبأ فتبينوا)* ويحك يا وليد مهما نسيت فلا تنس قول الشاعر فيك وفيه: أنزل الله والكتاب عزيز * في علي وفي الوليد قرانا فتبوأ الوليد إذ ذاك فسقا * وعلي مبوأ إيمانا ليس من كان مؤمنا - عمرك الله - * كمن كان فاسقا خوانا

ص 117

سوف يدعي الوليد بعد قليل * وعلي إلى الحساب عيانا فعلي يجزي بذاك جنانا * ووليد يجري بذاك هوانا رب لعقبةجد بن أبان * لابس في بلادنا تبانا وما أنت بقريش، إنما أنت علج من أهل صفورية، وأقسم بالله لأنت أكبر في الميلاد، وأسن مما تدعي إليه عقبة بن أبي معيط. وأما أنت يا عتبة فوالله ما أنت بحصيف فأجيبك، ولا عاقل فأحاورك وأعاتبك، وما عندك خير يرجى، ولا شر يتقى، وما عقلك وعقل أمتك إلا سواء، وما يضر عليا لو سببته على رؤوس الأشهاد، وأما وعيدك إياي بالقتل فهلا قتلت اللحياني إذ وجدته على فراشك، أما تستحي من قول نصر بن حجاج فيك:

ص 118

يا للرجال وحادث الأزمان * ولسبة تخزي أبا سفيان نبئت عتبة خانه في عرسه * جنس لئيم الأصل من لحيان وبعد هذا ما أربأ بنفسي عن ذكره لفحشة، فكيف يخاف أحد سيفك ولم تقتل فاضحك؟ وكيف ألومك على بغض علي وقد قتل خالك الوليد مبارزة يوم بدر، وشرك حمزة في قتل جدك عتبة، وأوحدك من أخيك حنظلة في مقام واحد؟ وأما أنت يا مغيرة فلم تكن بخليق أن تقع في هذا وشبهه، وإنما مثلك مثل البعوضة إذ قالت للنخلة: استمسكي فإني طائرة عنك، فقالت النخلة: وهل علمت بك واقعة علي فأعلم بك طائرة عني، والله ما نشعر بعداوتك إيانا، ولا اغتممنا إذ علمنا بها، ولا يشق علينا كلامك، وإن حد الله في الزنا لثابت عليك، ولقد درأ عمر

ص 119

عنك حقا الله سائله عنه، ولقد سألت رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) هل ينظر الرجل إلى المرأة يريد أن يتزوجها؟ فقال: لا بأس بذلك يا مغيرة ما لم ينو الزنا، لعلمه بأنك زان. وأما فخركم علينا بالإمارة فإن الله تعالى يقول: *(وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحق عليها القول فدمرناها تدميرا)*. ثم قام الحسن فنفض ثوبه فانصرف، فتعلق عمرو بن العاص بثوبه وقال: يا أمير المؤمنين قد شهدت قوله وقذفه أمي بالزنا، وأنا مطالب له بحد القذف. فقال معاوية: خل عنه لا جزاك الله خيرا، فتركه، فقال معاوية: قد أنبأتكم أنه ممن لا تطلق عارضته، ونهيتكم أن تسبوه فعصيتموني، والله ما قام حتى أظلم علي البيت، قوموا عني فلقد فضحكم الله وأخزاكم بترككم الحزم وعدولكم عن رأي الناصح المشفق، والله

ص 120

المستعان (1). روي في المحاسن والأضداد ص 90 أذكرها بصيغةملخصا أخرى: كان معاوية، وعمر بن العاص، ومروان بن الحكم، وزياد بن أبيه الذي ادعاه معاوية إلى أبي سفيان، زورا وبهتانا، كانوا يتحاورون في قديم مجدهم، إذ قال معاوية: قد أكثرتم الفخر، ولو حضركم الحسن بن علي، وعبد الله بن العباس لقصروا من أعنتكم، فقال زياد وقال مروان اعتراضا على معاوية. فدخل الإمام الحسن (عليه السلام) وقد سبقه إلى المجلس عبد الله بن العباس فلما استقر الإمام في مجلسه بدأ معاوية وقال: إني أجلكما وأرفع قدركما لا سيما أنت يا أبا محمد فإنك ابن رسول الله وسيد شباب أهل الجنة.

(هامش)

(1) شرح نهج البلاغة: 2 / 104. (*)

 

الصفحة السابقة الصفحة التالية

سيرة الإمام الحسن (ع)

فهرسة الكتاب

فهرس الكتب