ص 121
وعلم عمرو بن العاص أن الحوار إذا بدأ فستقع الحدة به، فقال في نفسه لا بد أن أتكلم
فإن قهرت فسبيل ذلك وإن قهرت أكون قد ابتدأت، فقال: يا حسن إنا قد تفاوضنا فقلنا:
إن رجال بني أمية أصبر على اللقاء، وأمضى في الوغاء، وأوفى عهدا وأكرم ضيما وأمنع
لما وراء ظهورهم من بني عبد المطلب. ثم تكلم مروان بن الحكم فقال: كيف لا يكون ذلك؟
وقد قارعناهم فغلبناهم، وحاربناهم فملكناهم فإن شئنا عفونا وإن شئنا بطشنا. ثم تكلم
زياد فقال ما ينبغين لهم أن ينكروا الفضل لأهله، ويجحدوا الخير في مظانه، نحن
الحملة في الحروب، ولنا الفضل على سائر الناس قديما وحديثا. فتكلم الإمام الحسن
(رضي الله عنه) فقال: ليس من الحزم - أي الجزع - أن يصمت الرجل عند إيراد الحجة،
ولكن من الإفك أن ينطق الرجل بالخنا، ويصور الكذب في صورة
ص 122
الحق. يا عمرو افتخارا بالكذب وجرأة على الإفك؟ ما زلت أعرف مقالبك الخبيثة أبديها
مرة بعد مرة - أبديها مرة وأمسك عنها أخرى - أتذكر مصابيح الدجى، وأعلام الهدى،
وفرسان الطراد، وحتوف الأقران، وأبناء الطعان، وربيع الضيفان، ومعدن العلم، ومهبط
الوحي والنبوة. وزعمتم أنكم أحمى لما وراء ظهوركم وقد تبين ذلك يوم بدر حين نكصت
الأبطال:... ثم قال: أما أنت يا مروان، فما أنت والإكثار في قريش وأنت ابن طليق
وأبوك طريد تنقلب في خزاية إلى سوءة، وقد أتي بك إلى أمير المؤمنين يوم الجمل فلما
رأيت الضرغام قد رميت براثنه واشتبكت أنيابه كنت كما قال الأول: (بصبصن ثم رمين
بالأبصار) فلما من عليك بالعفو...
ص 123
ثم التفت إلى زياد وقال: وما أنت يا زياد وقريش ما أعرف لك فيها أديما صحيحا ولا
فرعا ثابتا ولا منبتا كريما، كانت أمك بغيا يتداولها رجالات قريش وفجار العرب. فلما
ولدت لم تعرف لك العرب والدا فادعاك هذا يعني معاوية، فمالك والافتخار تكفيك سمية،
ويكفينا رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم)، وأبي سيد المؤمنين الذي لم يرتد على
عقبيه وأعمامي حمزة سيد الشهداء، وجعفر الطيار في الجنة. ثم التفت إلى ابن عباس
فقال: إنما هي بغاث الطير انقض عليها البازي، فأراد ابن عباس أن يتكلم فأقسم عليه
معاوية أن يكف، فكف ثم خرجا. فقال معاوية: أجاد عمرو الكلام لولا أن حجته دحضت، وقد
تكلم مروان لولا أنه نكص، ثم التفت إلى زياد فقال ما دعاك إلى هذه المحاورة ماكن
إلا كالحجل في كف عقاب.
ص 124
فقال عمرو: أفلا رميت من ورائنا؟ قال معاوية: إذا كنت شريككم في الجهل أفأفاخر رجلا
رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) جده، وسيد من مضى ومن بقي، وأمه فاطمة الزهراء
سيدة نساء العالمين، ثم قال لهم: والله لئن سمع أهل الشام ذلك أنه للسوءة
السواء،... فخلا ابن عباس بالحسن (عليه السلام) فقبل بين عينيه، وقال: أفديك يا ابن
عمي، والله ما زال بحرك يزخر وأنت تصول حتى شفيتني من أولاد البغايا. الكوفة
ص 125
الفصل الرابع
الكوفة 
تأسست الكوفة في سنة 17 سبعة عشر هجرية أيام الفتح الإسلامي في
زمن عمر بن الخطاب، لتكون معسكرا ثابتا للجيش الإسلامي، فكان المقاتلون يفدون إليها
من أرجاء الجزيرة العربية، فيقيمون في المعسكرات كجنود مدربين على القتال وعلى أهبة
الاستعداد، لخوض المعارك عندما يداهم البلاد الإسلامية عدو، فكانت تضم أكبر عدد
وأقوى جند للحرب، وهم ينتظرون صدور الأوامر بالخروج لخوض المعارك أو إمداد الجيوش
الإسلامية في مختلف الأرجاء. قبل أن أدخل في صلب هذا البحث عن خلافة الإمام
ص 126
الحسن (عليه السلام) ومحنته مع معاوية وأخيرا اضطراره لعقد الهدنة والصلح حقنا
للدماء، وحفاظا على أرواح البقية الباقية من إخوانه وأهل بيته وأصحابه الأوفياء
المخلصين، لا بد لي أن أمهد مقدمة للبحث وبيان التركيبة المعقدة لمجتمع الكوفة.
التنوع القبلي
إمتازت الكوفة في أول تخطيطها بتقسيم خاص، فاستوطنت القبائل - بشكل
مقصود - وفق تقسيم سباعي، يضم كل سبع قبيلة - أو أكثر - مع حلفائها وذلك لحشر
مقاتلة القبائل وفقا للقيادات وللتعبئة عند النفير والخروج للجهاد، ولم يكن التقسيم
بحسب المحلات من الكوفة، بل قطعات قبلية بالنسبة إلى النسب أو الحلف، وهي كالتالي:
1 - قبيلة كنانة وحلفاؤها من الأحابيش وغيرهم،
ص 127
كانوا يوالون السلطة. 2 - قضاعة وغسان، وبجيلة وخثعم، وكندة وحضرموت والأزد. 3 -
مذحج، وحمير، وهمدان وحلفاؤهم، وهم يعارضون السلطة. 4 - تميم، والرباب وحلفاؤهم. 5
- أسد، غطفان، ضبيعة، تغلب، النمر ومحارب. 6 - أياد، عبد شمس، وعك، أهل هجر
والحمراء. 7 - طي اليمانية، اتخذت لنفسها الرقعة السابعة من التقسيم... إن لهذا
التركيب القبلي أثر ملموس في موازين العمل السياسي، سيما أن القبائل متباينة الميول
حيال الحكومة المحلية والسلطة المركزية، علما أن نفوذ الوالي على أغلب زعماء
القبائل ملحوظ، كما أن تزلف بعض الزعماء لخدمة الولاة على حساب الدين والمسلمين
توفيرا لضروريات الدنيا الزائلة شهد به
ص 128
التأريخ. كان هذا التقسيم أيام الفتح. التفاوت الطبقي نشير فيما يلي إلى أهم طبقات
المجتمع الكوفي التي ساهمت في التأثير عليه عبر التاريخ، أكثر مما لوحظ في طبقات
الأقاليم والأمصار الأخرى: 1 - طبقة الأشراف والأعيان والوجهاء، وهم - عدا القليل -
متواطئون مع الوالي، أو مع القوة التي يحتمل أن تمسك بزمام الأمور في الكوفة، كابن
الأشعث ورفاقه الذين راسلوا الإمام الحسين (عليه السلام) لظنهم بحتمية التغيير
المرتقب، وسنذكرهم لاحقا... أكثرهم رؤساء عشائر وزعماء قبائل، يتحكمون بقوى
قبائلهم. التفاوت الطبقي 2 - طبقة الموظفين التابعين مباشرة لقصر الأمير، كالشرطة
والجلاوزة، والمناكب والنقباء والعرفاء، ممن بيدهم إحصائيات الناس حسب محلات
سكناهم،
ص 129
وقوائم أسمائهم، يراقبونهم أو يلقون القبض عليهم، وهي طبقة مسخرة للسهر على أمن
السلطة والسلطان، تحصي أنفاس الناس وحركات الإنسان. 3 - طبقة الكادحين والكسبة من
ذوي الأعمال الحرة والمهن المستقلة، وأصحاب الدكاكين في الأسواق، الذين طالما يسوء
حالهم لفساد الموظف الرسمي الخاص بالسوق، فيرشحون أحدهم ليشكوا حالهم أمام الوالي،
وسبق للمجاهد العظيم الشهيد ميثم التمار أن مثلهم لهذا الغرض. 4 - العبيد والموالي،
الطبقة المسحوقة الواقعة تحت طائلة التحقير والاستغلال، كما قضت بذلك الشريعة
الأموية على سنة معاوية. 5 - المرتزقة، طبقة جمهور الجند الذين تصرف لهم العطاءات
من بيت المال لانصرافهم إلى الغزو والقتال، طبق أوامر الولاة والحكام بلا
معارضة أو نقاش
ص 130
حتى لو أمروهم بقتال المسلمين واستباحة المحرمات أو قتال الرسول في ولده، تحت طائلة
التجويع والإعدام مع استباحة عائلة المرتزق. وهناك القضاة، رجال الدين الأثرياء،
كطبقة مترفة - إن صح اعتبارهم طبقة، لقلة عددهم - أبرزهم شريح القاضي ممن كانوا
يبيعون الفتوى بثمن بخس دراهم معدودة، تسويغا شرعيا لبشاعة جرائم آل أبي
سفيان في أوامرهم التي يبرأ منها الإسلام.
المجتمع الكوفي 
عندما
تولى الإمام علي (عليه السلام) مسؤولية الحكم في الدولة الإسلامية، وجد نفسه مسؤولا
بشكل مباشر عن إزاحة آثار الانحراف، وتصفية التبعات التي خلفتها العهود الغابرة،
والانشقاقات التي تبرعمت بعدها. وقد استطاع الإمام (عليه السلام) تصفية التمرد
الأول الذي قام
ص 131
به أصحاب الجمل، بزعامة عائشة، وطلحة، والزبير وبني أمية، ثم اتجه لتصفية التمرد
الذي قام به وأوجده خط بني أمية بقيادة معاوية بن أبي سفيان، وتولوا السلطة من
الذين تنطبق عليهم صفة الطلقاء وأبنائهم، وممن وقفوا من الإسلام موقف خصومة وعداء،
من أول يوم قام به الرسول الأعظم (صلى الله عليه وآله وسلم) في تبليغ رسالته حتى
اضطروا إلى إعلان إسلامهم تقية ونفاقا، بعد فتح مكة (1)، واستطاع يزيد بن أبي سفيان
ومن بعده أخوه معاوية تسخير
الشاميين والسيطرة عليهم في محاربة الإمام علي ومن بعده ولديه الحسن والحسين (عليهم
السلام) باسم الإسلام. إن تاريخ الإمام الحسن (عليه السلام) ومواقفه الإيجابية تدين
كل من يتهمه بالضعف والتنازل عن حقه راضيا، أو أنه
(هامش)
(1) اليمين واليسار في الإسلام، أحمد عباس صالح ص 90. (*)
ص 132
سلم الحكم إلى معاوية دون أن يتصدى لتصفيته ومحاربته. ونحن نؤكد موقف الإمام (عليه
السلام) الايجابي متحديا الانحراف واستعداده لمحاربة معاوية عندما قال (عليه
السلام): بلغني أن معاوية بلغه أن كنا أزمعنا على المسير إليه. فتحرك لذلك،
أخرجوا رحمكم الله إلى معسكركم بالنخيلة حتى ننظر وتنظرون ونرى وترون . وفي مجال
آخر يشير الإمام (عليه السلام) إلى استحالة خوض معركة منتصرة، في هذا الجو من الشك
وقلة الأعوان المخلصين، والله إني ما سلمت الأمر إلا لأني لم أجد أنصارا، ولو
وجدت أنصارا لقاتلته ليلي ونهاري حتى يحكم الله بيني وبينه. ومن هنا جاءت قرارات
الإمام (عليه السلام) الصائبة، بأن يهادن مؤقتا ويقبل الصلح، ويفسح المجال لمعاوية
لكي يكشف واقعه المزيف وواقع أطروحته الجاهلية ولكي
ص 133
يعرف هؤلاء المسلمين البسطاء، والذين لم يكونوا يعرفون إلا ما يرون بأعينهم
وحواسهم، من هو معاوية وما هو واقعه وواقع حكمه، ومن كان علي بن أبي طالب وماذا
كانت أطروحته. ونجحت خطوة الإمام الحسن (عليه السلام) وبدأ معاوية يساهم إلى درجة
كبيرة بكشف نفسه وواقعه المنحرف، ولم ينتظر الوقائع والظروف لتساهم في كشف حقيقته،
بل أعلن منذ اليوم الأول عن مضمون أطروحته، وأخذ يواصل الإعلان عنها، وفي مختلف
المجالات السياسية والله إني ما قاتلتكم لتصلوا ولتصوموا ولتحجوا ولا لتزكوا،
ولكني قاتلتكم لأتأمر عليكم، وقد أعطاني الله ذلك وأنتم لها كارهون، ألا وإني كنت
منيت الحسن بن علي وأعطيته أشياء وجميعها تحت قدمي لا أفي بشيء منها . وبهذا
الإعلان، أخذ المسلمون يشعرون شعورا
ص 134
واضحا بأن أطروحة معاوية ما هي إلا امتداد للجاهلية، التي تريد هدم الإسلام، وإن
الإمام علي (عليه السلام) هو الممثل الحقيقي لأطروحة الإسلام حتى إن تجربته القصيرة
في الحكم بقيت أملا وحلما في نظر الجماهير الإسلامية وهم في خضم بؤسهم الذي كانوا
يعيشون فيه. هذه الأعوام العشرون التي حكمها معاوية قد تكون من أخزى وأحرج الفترات
التأريخية التي مرت على الأمة الإسلامية، أصبح خلالها الإنسان المسلم يحس إحساسا
مدمرا بأنه مظلوم وأمته أصبحت مهددة بخطر الفناء، وأن أحكام الشريعة يتلاعب بها،
وأصبح الفيء والسواد بستانا لقريش والخلافة كرة يتلاعب بها صبيان بني أمية كما أطلق
هذا الشعار أبو سفيان لما صارت الخلافة أموية وانتخب عثمان بن عفان بأمر دبر بليل
وبتخطيط مسبق ومبرم. ويستدل من كثير من الأعمال الدبلوماسية التي قام
ص 135
بها معاوية في عهده الطويل الأمد، أنه كان قد قرر على شن حملة واسعة النطاق لتحطيم
المبادئ العلوية، أو قل لتحطيم جوهرية الإسلام متمثلة في دعوة علي وأولاده المطهرين
(عليهم السلام). ويظهر أنه كان ثمة أربعة أهداف تكمن وراء هذه الحملة: 1 - شل
الكتلة الشيعية - وهي الكتلة الحرة - والقضاء تدريجيا على كل منتم إلى التشيع
وتمزيق جامعتهم. 2 - خلق الاضطرابات المقصودة في المناطق المنتمية لأهل البيت
والمعروفة بتشيعها لهم، ثم التنكيل بهؤلاء الآمنين بحجة تسبيب الشغب. 3 - عزل أهل
البيت عن العالم الإسلامي، وفرض نسيانهم على المسلمين إلا بالذكر السيئ، والحؤول -
بكل الوسائل - دون تيسر النفوذ لهم، ثم العمل على إبادتهم عن طريق الغيلة.
ص 136
4 - تشديد حرب الأعصاب. وإن من شذوذ أحوال المجتمع، أنه سريع التأثر بالدعاوات
الجارفة القوية - مهما كان لونها - ولا سيما إذا كانت مشفوعة بالدليلين من مطامع
المال ومطامع الجاه. وما يدرينا بم رضي الناس من معاوية، فلعنوا معه عليا وحسنا
وحسينا (عليهم السلام)؟ وما يدرينا بماذا نقم الناس على أهل البيت فنالوا منهم كما
شاء معاوية أن ينالوا؟! حتى أصبح سب علي وأولاده سنة معاوية هي الأصل التاريخي
لتكوين هذه الكلمة تكوينا اصطلاحيا آخر، تناسل مع الأجيال، وتنوسيت معه مناسباته
السياسية الأولى. التركيبة الدينية التركيب الديني إستوطنت الطوائف الدينية
المتعددة في الكوفة بشكل واسع، وقد اختلفت طرق وصولهم وكيفية
ص 137
مجيئهم، منهم من جاء بمحض اختيارهم... ومنهم من وصل بصفة أسرى حرب... ومنهم من جاءت
بهم التجارة... ومنهم من أجلاهم عمر بن الخطاب من المدينة والحجاز. ومن عناصر هذا
التركيب:
1 - اليهود: سيما يهود المدينة والحجاز الذين أجلاهم عمر بن الخطاب، علما
بأن تخطيط الكوفة وتمصيرها كان في عهده، وبانتقال اليهود إلى الكوفة نقلوا معهم
موروثات نفوسهم الخبيثة طبعا، ولم يعظهم الجلاء.
2 - النصارى: يقسمون إلى طائفتين:
النساطرة، واليعاقبة، لكل منهما أسقف خاص بالكوفة، وهم نصارى تغلب الذين استوطنوا
أثناء تخطيط الكوفة، ونصارى نجران، استقاموا بمحلة سميت باسمهم محلة النجرانية
... ولهم آثار سيئة في أيام الولاة المنحرفين،
ص 138
كالوليد بن عقبة المعروف ب الفاسق بنص القرآن الكريم والي عثمان على الكوفة
الذي كان يشرب الخمر ويسقها للنصارى (1) ويوفر لهم الخنزير، وقد اتخذ أحد النصارى
موظفا لإدارة شؤون مسجد الكوفة!! وجعل نصرانيا آخر مديرا للسجن! حتى إن أبا موسى
الأشعري - الذي جاء بعد الوليد - اتخذ له كاتبا نصرانيا! دون وازع شرعي أو أدنى
شعور ديني يوحي بضرورة إسلام النصراني قبل توظيفه، وقد نهى عن ذلك حتى عمر (2).
3 - الصابئة: وقد سكنوا الكوفة وكان لهم وجود فيها.
4 - المجوس:
وبعض الديانات القادمة مع أسرى
(هامش)
(1) انظر أنساب الأشراف: 5 / 32 - 65 ط مصر. (2) انظر عيون الأخبار لابن قتيبة
الدينوري: 1 / 43 ط مصر. (*)
ص 139
الحروب: كالزرادشتية والمانوية والمزدكية التي كان يعتقد بها البعض أو يعتنقها ولها
أنصارها ومؤيدوها، ولا ريب أن وجود هؤلاء في مجتمع مسلم يؤثر على جميع شؤونه سيما
إذا كان المجتمع بحاجة إلى تركيز فكر دينه وأصول عقيدته، فكيف - والحالة هذه - أن
التحقيقات والدراسات التاريخية تكشف لنا عن كون الولاة - عمال الخليفة عثمان - هم
بأنفسهم يشجعون وجودهم ويطلقون لهم عنان الأعمال المتعددة، ابتداء من عمال عثمان.
التباين المذهبي
نظرا لعدم التزام الموازين المبدئية، وتجاوزا لامتداد النبوة،
وخرقا لآل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) فقد تشتت الأمة ومجتمع الكوفة
بتأثير التفرقة المذهبية التابعة من التباين المفاهيمي والتحزب السياسي الذي أقلق
الواقع
ص 140
العام للمجتمع المسلم فضلا عن واقع التركيب الديني في مردوده السلبي داخل الكوفة...
وأبرز هذه الاتجاهات هي:
1 - الخوارج: الذين تنامى عددهم - بعد النهروان - واتخذوا
الكوفة قاعدة لهم، سيما أنهم انبثقوا منها، وهم مستعدون - إذا ما رجحت كفة الأمويين
- أن يعاضدوا الباطل، ليناهضوا الحق بمحاربة آل الرسول وأشياعهم، فالخوارج كانوا
أشد على الرحمن عتيا.
2 - النواصب: الذين كانوا ينصبون العداء للإمام علي (عليه
السلام) وآل رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم).
3 - الأمويون: التكتل الذي زاد
ثقله أيام معاوية، وباشر نشاطه في عهد عثمان بن عفان، وهو تكتل يكرس السلطة والحكم
للأمويين وحدهم.
4 - الشيعة: الذين تعاظم شأنهم بعد اختيار الإمام أمير المؤمنين
الكوفة عاصمة له، إذ لمس الناس منه
ص 141
العدالة واللطف والمساواة، فتزايد عددهم كثيرا قياسا للاتجاهات المذهبية الأخرى في
نفس المدينة، التي أصبحت شيعية الطابع والعاطفة... الأمر الذي جعل معاوية - فيما
بعد - يفكر في تصفية هذا الاتجاه بشتى الأشكال الانتقامية، كالاعتقالات الواسعة
والقتل الذريع الفردي والجماعي، والقمع بالغارات العسكرية المباغتة على السكان
الآمنين... كما قام بتبعيد أكثر من خمسين ألف من شيعة الكوفة إلى خراسان (1) في
أوسع محاولة لتفريغ الإقليم من خصوم الأمويين وكسر شوكة أتباع آل محمد (صلى الله
عليه وآله وسلم).
5 - وتوجد اتجاهات أخرى محدودة النطاق ذات التأثير الملحوظ في
المجتمع، كالجبرية والقدرية
(هامش)
(1) تاريخ الشعوب الإسلامية لكارل بروكلمان: 1 / 147 ط 3، 1960 م. (*)
ص 142
والمرجئة والمفوضة، فضلا عن الغلاة الذين غالوا بالإمام علي حتى قطع دابرهم بيده
بعد ما أبوا الخضوع للموعظة... فالميول السائدة في الكوفة - رغم اختلافها كما ونوعا
- قد أفقدت المجتمع وحدة الرأي وقوة الموقف. الاختلاف القومي وأما الحمراء فكانوا
حلفاء عبد القيس وهم أربعة آلاف جندي من أصل فارسي يرأسهم رجل منهم يسمى ديلم،
ولهذا عرفوا بحمر الديلم، وهم الذين التجاؤا إلى سعد بن أبي وقاص بعد معركة
القادسية من بقية جيش الفرس، وتحالفهم مع عبد القيس بعد المعركة، ولقد لعب هذا
الفيلق دورا رئيسيا، وكان هو الجيش المقدم في عهد زياد وابنه عبيد الله (1). أضيف
إليهم أولاد سبايا القادسية من جنود سعد بن
(هامش)
(1) مع نهضة الحسين (عليه السلام) أسد حيدر ص 130. (*)
ص 143
أبي وقاص. الاختلاف القومي وبناء على الموقع العسكري للكوفة، فقد كانت محطة للجيوش
ومنطلقا لها، وبالتالي فهي مأوى جميع الأسرى، فتكاثر عدد غير العرب بتكرار المعارك
والحروب، فامتلأت بهم أسواق النخاسة، كما لم يعاملوا المعاملة الإسلامية المقررة في
الشريعة السمحاء، إذ أن من يسلم منهم يبقى إنسانا أدنى من العربي الذي يسلم، يشهد
بذلك عصر معاوية الذي بلغ ذروة التعامل التعسفي معهم، مما أثار النعرات القومية
لتكون معول هدم للإسلام الحنيف، إذ فرض معاوية الجزية على كل من يسلم، فأصبح بهذه
السياسة وأمثالها يستحق عنوان الدهاء من قبل محبيه. وأبرز القوميات المتواجدة
هي:
ص 144
1 - الأتراك: وكان لهم وجود في الكوفة. 2 - الأكراد: وكانوا من ضمن المجتمع الكوفي.
3 - الفرس: وهم أعلى نسبة بين القوميات، ورد عنهم: أنهم كانوا أكثر من نصف السكان،
مما دفع بزياد ابن أبيه أن يوزع منهم في البصرة والشام. 4 - الروم: ويشكلون النسبة
العددية الثانية بعد الفرس. 5 - السريانيون: جاؤوا من نصيبين وجنديسابور وحران،
وذلك قبل الفتح الإسلامي للعراق. وسكن الكوفة الأشوريون والأرمن، وأقليات قومية
أخرى ممن لها صفات خلقية خاصة بها، جاءت معها عاداتها وتقاليدها ومعتقداتها ومجمل
مردوداتها النفسية والسلوكية. ومن الجدير ذكره أن أقف هنا وقفة متأمل وباحث عن
طبيعة الصراع الدائر والظروف التي أولدتها المحنة
ص 145
إليك ملخصها.
1 - المجتمع الكوفي المعقد - المتكون من:
أ التركيبة القبلية -
والانقياد الأعمى إلى زعمائها. ب - التباين المذهبي - والعقائدي. ج - أصحاب الأطماع
السياسية. د - التفاوت الطبقي - والاختلاف القومي. ه - بقايا حرب القادسية -
وأولادهم - جيش الحمر. ز - بقايا الخوارج وأولادهم - والمنتمين إليهم.
2 - طغيان
معاوية - واستبداده.
أ - دسائسه ومؤامراته. ب - دهائه وعدم تورعه. ج - وعود معاوية
رؤساء القبائل وزعمائهم بالأموال والمناصب إن هم قتلوا الإمام الحسن (عليه السلام).
3 - تخاذل جيش الإمام - وتفكك قياداته.
ص 146
أ - الأشعث بن قيس رأس التمرد في صفين - والقبائل المنقادة له. ب - شبث بن ربعي
وحجار بن أبجر، وعمرو بن حريث. ج - خيانة ابن عمه عبيد الله بن العباس والتحاقه
بمعاوية. كل هذه وغيرها مجتمعة أدت إلى قبول الإمام الحسن (عليه السلام) الهدنة على
أن يعمل معاوية بالشروط التي أمليت عليه التي سبق ذكرها... وإليك تفصيله في الفصل
الخامس... تولي الإمام (عليه السلام) الخلافة
ص 147
الفصل الخامس
الإمام الحسن بن علي (عليه السلام) والخلافة 
تولى الإمام الحسن (عليه
السلام) مسؤولية الخلافة في مناخ قلق غير مستقر وفي ظروف التعقيد والصراع، والتي
برزت وتأزمت في أواخر حياة أبيه الإمام علي (عليه السلام). ومن هذه الظروف المعقدة
القاسية نذكر ما يلي:
1 - بدأ الإمام الحسن (عليه السلام) حكمه، مع جماهير لا تؤمن
إيمانا واضحا كاملا برسالية المعركة وبأهدافها، ولا تتجاوب دينيا وإسلاميا مع
متطلبات هذه المعركة، وكانت قد توزعت في تلك الفترة على أحزاب أربعة هي:
أ - الحزب
الأموي: ويضم عناصر قوية تتمتع بنفوذ وكثرة في الأتباع وهؤلاء عملوا على نصرة
معاوية في
ص 148
أوساط شيعة الحسن (عليه السلام) وكانوا بمثابة جواسيس وعيون على تحرك الإمام (عليه
السلام).
ب - الخوارج: وكانوا أكثر أهل الكوفة لجاجة على الحرب حتى أنهم اشترطوا
على الحسن (عليه السلام) عند بيعتهم له حرب الحالين الضالين فرفض، فأتوا إلى الحسين
مبايعين فقال لهم: معاذ الله أن أبايعكم ما دام الحسن حيا عندئذ لم يجدوا بدا من
مبايعة الحسن (عليه السلام) وهؤلاء تعاونوا مع الحزب الأموي على حياكة المؤامرات
الخطيرة والمناهضة لخطة الإمام الحسن (عليه السلام).
ج - الشكاكون: وهم المتأثرون
بدعوة الخوارج من دون أن يكونوا منهم، فهم المذبذبون لا إلى هؤلاء ولا إلى هؤلاء.
ويغلب على طبعهم الانهزام. وهم ينعقون مع كل ناعق بما تدر عليهم مصالحهم. د -
الحمراء: وهم شرطة زياد طابعهم العام أنهم جنود المنتصر وسيوف المتغلب، بلغ من
استفحال
ص 149
أمرهم آنذاك أن نسبوا الكوفة إليهم فقالوا كوفة الحمراء . وبمواجهة هؤلاء جميعا
كان أتباع الحسن (عليه السلام) الذين هرعوا إلى مبايعته بعد وفاة أبيه علي
(عليه السلام)، وكانوا هم الأكثر عددا في الكوفة ولكن دسائس الآخرين وفتنتهم كانت
تعمل دائما لإحباط أي تحرك صادر عنهم.
2 الفارق- التاريخي بين شخصية الإمام الحسن
(عليه السلام) وشخصية أبيه الإمام علي (عليه السلام) ونعني بالفارق التاريخي: رصيد
كل واحد منهما في أذهان الناس، إذ ليس هناك فارق بينهما في حساب الله عز وجل فإن كل
واحد منهما أمام معصوم، ولكن المقصود هو أن المسلمين آنذاك لم يكونوا يؤمنون بفكرة
النص على إمامة الإمام سوى القلة القليلة منهم، ولذلك لم يعاملوا الإمام الحسن
(عليه السلام) كإمام مفترض الطاعة، منصوص عليه، وإنما عاملوه
ص 150
على أن إمامته إمامة عامة وامتداد لخط السقيفة ومفهومها للخلافة. والذي يؤكده هنا
أن رصيد الإمام علي (عليه السلام) التأريخي في نفوس الناس لم يمتلك نظيره الإمام
الحسن (عليه السلام).
3 - تسلم الإمام الحسن (عليه السلام) الحكم بعد استشهاد أبيه
مباشرة مما قوى موجة الشك في رسالية المعركة التي يخوضها الإمام الحسن (عليه
السلام) حتى أن الإيحاء كان لديهم قويا بأن المعركة هي معركة بيت مع بيت، أمويين مع
هاشميين، وهي بالتالي ليست معركة رسالية. كل هذه الأسباب والملابسات، عقدت موقف
الإمام (عليه السلام) من مسألة الحكم وبات الإمام أمام خيارات أربع لا خامس لها:
الخيار الأول: وهو إغراء الزعامات وأصحاب النفوذ بإعطائهم الأموال ووعدهم بمناصب،
لاستمالتهم إلى جانبه، وهذا الخيار اقترحه البعض على الإمام الحسن