ص 151
لكنه رفضه بقوله أتريدون أن أطلب النصر بالجور فوالله ما كان ذلك أبدا . الخيار
الثاني: وهو أن يتجه الإمام إلى الصلح من أول الأمر ما دامت الأمة قد أنست بحياة
الدعة وما دامت زعاماتها قد بدأت تتصل بمعاوية. استبعد الإمام الحسن (عليه السلام)
العمل بأحد هذين الخيارين نهائيا لعدم جدواهما. الخيار الثالث: أن يخوض معركة يائسة
يستشهد فيها هو وجماعته. الخيار الرابع: أن يصالح بعد أن يستنفذ أطول وقت ممكن
ليسجل المواقف وليبين للناس من يثبت ممن ينحرف وهانحن نسأل بدورنا: هل خوض معركة
يائسة كانت تؤدي إلى مفعول أو إلى تغيير الواقع الإسلامي آنذاك؟
ص 152
والإجابة: كلا، لم تكن تلك المعركة اليائسة لتؤدي إلى أي مفعول، ما دامت سوف تتم في
ظل شك الجماهير بهذه المعركة. ومن هنا جاء لوم كثير من المؤرخين للإمام الحسن (عليه
السلام) منددين بتكاسله وضعفه وتنازله عن حقه، حسما للفتنة وقبوله لحياة الدعة
والراحة. وجوابا على هذا الافتراء يمكن القول: أن خوض الإمام (عليه السلام) ودخوله
في معركة يائسة سلفا يجعل معركته في نظر كثير من المسلمين بمستوى المعركة التي
خاضها عبد الله بن الزبير، حتى قتل وقتل معه كل أصحابه الخواص. ونسأل، هل فكر أحد
من المسلمين بابن الزبير؟ وهل أن معركته التي خاضها حققت مكسبا حقيقيا للإسلام أو
قدمت زخما جديدا للعمل؟ فالجواب، كلا، لم يفكر فيه أحد، لأن الناس كانوا
ص 153
يعيشون مفهوما واضحا تجاه عبد الله بن الزبير، فهو في نظرهم، خاض المعركة لزعامته
الشخصية ضد عبد الملك بن مروان، ولم تكن من أجل إنقاذ الرسالة أو حماية الإسلام أو
تعديل الحكم المنحرف. فنفس هذا الشك، بل بدرجة أقوى قد وجد عند الجماهير التي عاشت
مع الإمام الحسن (عليه السلام). وهناك أرقام تأريخية كثيرة، تؤكد لنا أن الإمام
(عليه السلام) كان مدركا لموقفه وعارفا أن معركته مع معاوية مستحيلة الانتصار مع
وجود ظاهرة الشك في الجماهير. والإمام (عليه السلام) ببياناته التأريخية، يرسم لنا
أبعاد سياسته بوضوح في معالجته الواعية لأزمة الوضع مع أصحابه، وفي مقارعته
لأعدائه، في بيان سياسي مؤثر، نلحظ فيه عمق المرارة وبليغ الرفض، ليؤكد من خلال كل
كلمة من كلماته الحق الذي اطمأن إليه. ونحن نعطي دور الإيضاح والبيان للإمام (عليه
السلام) ليكلمنا
ص 154
بكل شيء عن مجتمعه وموقفه من مشاكل زمانه، وعن الحلول التي خرج بها لحسم المشكلة،
قال (عليه السلام): عرفت أهل الكوفة وبلوتهم، ولا يصلح لي منهم ما كان فاسدا،
إنهم لا وفاء لهم ولا ذمة في قول ولا فعل إنهم لمختلفون ويقولون إن قلوبهم معنا وإن
سيوفهم لمشهورة علينا . غررتموني، كما غررتم من كان قبلي مع أي إمام تقاتلون
بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لا يؤمن بالله ولا برسوله قط . أما والله ما ثنانا
عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن نقاتلهم بالسلامة والصبر، نشيب السلامة
بالعداوة والصبر والجزع، وكنتم تتوجهون معنا. ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن،
ودنياكم أمام دينكم وكنتم لنا، وقد صرتم علينا . ثم خنقته العبرة، فبكى وبكى الناس
معه.
ص 155
ومن أجل أن لا تنحرف الإمامة عن مسارها الصحيح الأصيل، أضاف بعد ذلك: أنا ابن
البشير، أنا ابن النذير، أنا ابن الداعي إلى الله بإذنه أنا ابن السراج المنير، أنا
من أهل بيت أذهب الله عنهم الرجز وطهرهم تطهيرا، أنا من أهل بيت فرض الله مودتهم في
كتابه فقال تعالى *(قل لا أسألكم عليه أجرا إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة
نزد له فيها حسنا)*(1)، فالحسنة مودتنا أهل البيت. فلما بلغ معاوية بن أبي سفيان
شهادة أمير المؤمنين (عليه السلام) وبيعة الناس ابنه الحسن (عليه السلام) دس رجلا
من حمير إلى الكوفة ورجلا من بني القين إلى البصرة، ليكتبا إليه بالأخبار، ويفسدا
على الحسن (عليه السلام) الأمور. فعرف ذلك الحسن (عليه السلام) فأمر باستخراج
الحميري من
(هامش)
(1) سورة الشورى، آية 23. (*)
ص 156
عند لحام بالكوفة فأخرج وأمر بضرب عنقه، وكتب إلى البصرة باستخراج القيني من بني
سليم فأخرج وضربت عنقه، وكتب الحسن (عليه السلام) إلى معاوية: أما بعد: فإنك دسست
الرجال للاحتيال والاغتيال وأرصدت العيون كأنك تحب اللقاء، وما أوشك ذلك، فتوقعه،
إن شاء الله تعالى . فاجتمعت العساكر إلى معاوية وسار قاصدا إلى العراق، وقد عبأ
هؤلاء، استعدادا لمحاربة الإمام الحسن (عليه السلام). وبدأ الإمام الحسن (عليه
السلام) يستنهض أهل الكوفة للجهاد، وأمر حجر بن عدي الكندي، أن يهيئ القادة والناس
لمواجهة معاوية بعد أن بلغه توجه معاوية بجيشه نحو العراق. أخذ المنادي يدور في
أزقة الكوفة يهتف الصلاة جماعة ، فاندفع الناس إلى المسجد، ثم ارتقى
ص 157
الإمام (عليه السلام) المنبر فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد، فإن الله كتب
الجهاد على خلقه وسماه كرها، ثم قال لأهل الجهاد من المؤمنين *(واصبروا إن الله مع
الصابرين)* فلستم أيها الناس نائلين ما تحبون إلا بالصبر على ما تكرهون، إنه بلغني
أن معاوية بلغه إنا كنا أزمعنا على المسير إليه فتحرك لذلك، أخرجوا رحمكم الله إلى
معسكركم بالنخيلة... فسكت الجميع. ونهض عدي بن حاتم الطائي حين رأى سكوت الناس
فقال: أنا ابن حاتم، سبحان الله، ما أقبح هذا المقام، ألا تجيبون إمامكم وابن بنت
نبيكم... أما تخافون مقت الله ولا عيبها ولا عارها. ثم استقبل الإمام الحسن فقال:
أصاب الله بك المراشد، وجنبك المكاره، ووفقك لما تحمد ورده وصدره، وقد سمعنا
مقالتك، وانتهينا إلى أمرك، وسمعنا لك وأطعناك فيما قلت ورأيت.
ص 158
ثم قال: وهذا وجهي إلى معسكرنا، فمن أحب أن يوافي فليواف . ثم خرج من المسجد،
ودابته بالباب، فركبها ومضى إلى النخيلة، وأمر غلامه أن يلحقه بما يصلحه. وكان
المثل الأول للمجاهد المطيع، وهو إذ ذاك أول الناس عسكرا (1). وفي طئ ألف مقاتل لا
يعصون لعدي أمرا (2). وقام قيس بن سعد بن معاذ، ومعقل بن قيس، وزيادة ابن صعصعة،
فأنبوا الناس ولاموهم وحرضوهم، وخرج الناس فعسكروا ونشطوا للخروج (3). وصف الجيش
ونزعاته ونشط - بعدهم - خطباء آخرون، فكلموا الحسن بمثل كلام عدي ابن حاتم، فقال
لهم الحسن (عليه السلام):
(هامش)
(1) شرح النهج (ج 4 ص 14). (2) تاريخ اليعقوبي (ج 2 ص 171). (3) شرح نهج البلاغة
لابن أبي الحديد، ج 16 ص 37 - 40. (*)
ص 159
رحمكم الله ما زلت أعرفكم بصدق النية، والوفاء، والمودة، فجزاكم الله خيرا . وصف
الجيش: لا أن شك الجيش هو العماد الذي يقوم عليه عرش الدولة، ويبنى عليه كيانها،
وهو السياج الواقعي للحكومة والشعب من الاعتداء، وعليه المعول في حفظ النظام وسيادة
الأمن، - كما وصفه الإمام أمير المؤمنين (عليه السلام) في عهده إلى مالك الأشتر لما
ولاه مصر - في الجيش فيما إذا كان مخلصا في دفاعه ومؤمنا بحكومته. وكان الجيش الذي
زحف مع الإمام لمحاربة معاوية قد ركس في الفتنة وماج في الشقاء فكان خطره على
الدولة أعظم من خطر معاوية. وما أحسن ما وصفه الشيخ المفيد (قدس سره)، حيث قسمه
ص 160
إلى عدة عناصر وقد أجاد في وصفه وأبدع في تقسيمه، وأستنصر الناس للجهاد فتثاقلوا
عنه، ثم خفوا وخف معه أخلاط من الناس بعضهم شيعة له ولأبيه، وبعضهم محكمة يؤثرون
قتال معاوية بكل حيلة (ووسيلة)، وبعضهم أصحاب عصبية اتبعوا رؤساء قبائلهم لا يرجعون
إلى دين . (1) وأعرب الشيخ المفيد (طيب الله مثواه) في كلامه - أولا - عن كراهة
الجيش لحرب وإيثاره العافية ورغبته في السلم، وأفاد - ثانيا - في تقسيمه أن الجيش
ينقسم إلى عناصر متباينة في أفكارها، مختلفة في عقائدها واتجاهاتها، وهي كما يلي:
(هامش)
(1) الإرشاد ص 169، وذكر ابن الصباغ المالكي في الفصول المهمة ص 143، والأربلي في
كشف الغمة ص 161، والمجلسي في البحار ج 10 ص 110. (*)
ص 161
أ - الشيعة: والشيعة فيما يظهر كان عددهم أقل من الغوغائية والمنافقين وأصحاب
المطامع في الجيش، ولو كان عددهم أكثر والغلبة لهم، لما استطاع الأشعث بن قيس، ومن
ورائه أصحاب الجباه السود الخوارج من إجبار أمير المؤمنين (عليه السلام) على
التحكيم في واقعة صفين، ولا اضطر الإمام الحسن (عليه السلام) إلى مصالحة معاوية بعد
أن شاهد الدسائس والمؤامرات والتخاذل في صفوف جيشه. وهذا العنصر من الشيعة يخالف
بقية العناصر في تفكيره وشعوره وإيمانه فهو يرى أن الخلافة من حق أهل البيت وأنهم
أوصياء النبي وحضنة الإسلام وحماته، وطاعتهم مفروضة على جميع المسلمين.
ص 162
ب - المحكمة: وهم الخوارج الذين ضمهم جيش الإمام وهم أساس الفتنة والانقلاب وفشل
جيش الإمام في صفين ومن ثم مع الإمام الحسن (عليه السلام) وكانوا يرون قتال معاوية
بكل حيلة ووسيلة لا إيمانا منهم بقضية الحسن وباطل معاوية، بل كانوا يرون الحسن
ومعاوية في صعيد واحد. ج - أصحاب المطامع: وهم فصيلة من الجند لا تؤمن بالقيم
الروحية ولا تقدس العدل ولا تفقه الحق، وإنما كانت تنشد مصالحها وأطماعها، وكانت
ترقب عن كثب أي الجهتين قد كتب لها النصر والظفر حتى تلتحق بها - كما حدث -. د -
الشكاكون: وأكبر الظن أن الشكاكين هم الذين أثرت عليهم دعوة
ص 163
الخوارج ودعاية الأمويين حتى شككوا في مبدأ أهل البيت (عليهم السلام) وفي رسالتهم
الإصلاحية وهؤلاء لو اندلعت نيران الحرب لما ساعدوا الإمام بشيء، لأنهم لم يكونوا
مدفوعين بدافع عقائدي في نصرة أهل البيت (عليهم السلام). ه - أتباع الرؤساء: وهم
أكثر العناصر عددا، وأعظمهم خطرا فهم يتبعون زعماءهم ورؤساءهم اتباعا أعمى، لا
إرادة لهم ولا تفكير ولا شعور بالواجب، وهم المعبر عنهم بالهمج الرعاع، وكان أغلب
سواد العراق ممن ينتمي إلى أحد الزعماء وأكثر زعماء هذه العشائر كانوا ممن كاتب
معاوية بالطاعة والانقياد، كقيس بن الأشعث، وعمرو ابن الحجاج الزبيدي، وحجار بن
أبجر، وشبث بن ربعي، وأضرابهم من الخوارج والمنافقين والانتهازيين الذين اشتركوا في
أعظم مأساة سجلها التاريخ وهي قتل
ص 164
سيد شباب أهل الجنة الحسين بن علي (عليهما السلام) في كربلاء يوم عاشوراء بعد أن
كاتبوه وبذلوا له نصرتهم. هذه العناصر التي تكون منها جيش الإمام، بل جميع أبناء
الشعب العراقي من نفر منهم إلى الحرب ومن لم ينفر، كان ينضم إلى أحد هذه الطوائف
التي ذكرها الشيخ المفيد (رحمه الله) في كلامه القيم، وأكثر هؤلاء كانوا لا يؤمن من
شرهم في السلم فضلا عن الحرب. واستخلف الإمام الحسن (عليه السلام) على الكوفة - ابن
عمه - المغيرة بن نوفل بن الحارث بن عبد المطلب، وأمره باستحثاث الناس للشخوص إليه
في النخيلة. وخرج هو بمن معه، وكان خروجه لأول يوم من إعلانه الجهاد أبلغ حجة على
الناس في سبيل استنفارهم. وانتظمت كتائب النخيلة خيار الأصحاب من شيعته وشيعة أبيه
وآخرين من غيرهم. ونشط المغيرة بن نوفل
ص 165
لاستحثاث الناس إلى الجهاد وكان المنتظر للعهد الجديد، أن لا يتأخر أحد بالكوفة عن
النشاط المتحمس لإجابة دعوة الإمام. ولكن شيئا من ذلك لم يقع!. وحتى السرايا
الجاهزة التي كان أمير المؤمنين (عليه السلام) قد أعدها للكرة على جنود الشام قبيل
شهادته - وكانت تعد أربعين ألف مقاتل - قد انفرط عقدها وتمرد أكثرها، وتثاقل معها
أكثر حملة السلاح في الكوفة عن الانصياع للأمر. وكان المذبذبون من رؤساء الكوفة،
أشدهم تثاقلا في اللحظة الدقيقة التي أزفت فيها ساعة الجد. قالت النصوص التاريخية
فيما ترفعه إلى الحارث الهمداني كشاهد عيان: وركب معه - أي مع الحسن - من أراد
الخروج وتخلف عنه خلق كثير لم يفوا بما قالوا وبما وعدوا، وغروه كما غروا أمير
المؤمنين من قبله.. وعسكر في النخيلة عشرة أيام فلم يحضره إلا أربعة
ص 166
آلاف. فرجع إلى الكوفة، ليستنفر الناس، وخطب خطبته التي يقول فيها: غررتموني، كما
غررتم من كان قبلي، مع أي إمام تقاتلون بعدي؟ مع الكافر الظالم الذي لا يؤمن بالله
ولا برسوله قط . أما والله ما ثنانا عن قتال أهل الشام ذلة ولا قلة، ولكن
نقاتلهم بالسلامة والصبر، نشيب السلامة بالعداوة والصبر والجزع، وكنتم تتوجهون
معنا. ودينكم أمام دنياكم، وقد أصبحتم الآن، ودنياكم أمام دينكم وكنتم لنا، وقد
صرتم علينا . أقول: ثم لا ندري على التحقيق عدد من انضوى إليه - بعد ذلك - ولكنا
علمنا أنه سار من الكوفة في عسكر عظيم على حد تعبير ابن أبي الحديد في شرح
النهج. وغادر النخيلة وبلغ دير عبد الرحمن فأقام ثلاثا، والتحق به عند هذا
الموضع مجاهدون آخرون لا نعلم
ص 167
عددهم. وكان دير عبد الرحمن هذا مفرق الطريق بين معسكري الإمام في المدائن. ومسكن.
كما ذكرنا أن جيش الإمام الحسن (عليه السلام) تألف من زهاء عشرين ألفا، أو يزيد
قليلا، ولكنا لم نعلم بالتفصيل الطريقة التي اتخذت لتأليف هذا الجيش، وهي الطريقة
التي لا تشترط لقبول الجندي أو لقبول المجاهد أي قابليات شخصية، أو عمرا معينا، ولا
تنزع في مناهج تجنيدها إلى الإجبار بمعناه المعروف اليوم. وللمسلم القادر على حمل
السلاح وازعه الديني حين يسمع داعي الله بالجهاد فإما أن يبعث فيه هذا الوازع،
الشعور بالواجب فيتطوع بدمه في سبيل الله، وإما أن يكون المغلوب على أمره بدوافع
الدنيا والغنائم. ونجحت دعوة اتباع أهل البيت إلى حد ما، في اكتساب العدد الأكبر من
المتحمسين للحرب، رغم
ص 168
المواقف اللئيمة التي وقفها يومئذ المعارضون الذين سبق ذكرهم في الكوفة، ونشط الناس
للخروج إلى معسكرهم (1) .
قيادة جيش الإمام (عليه السلام) وبداية الفتنة:
قيادة
الجيش وبداية الفتنة روى الشيخ المجلسي في البحار: في بادئ الأمر أرسل الإمام الحسن
(عليه السلام) قائدا في أربعة آلاف، وكان من كنده، وأمره أن يعسكر بالأنبار (2)،
ولا يحدث شيئا حتى يأتيه أمره. فلما توجه إلى الأنبار، ونزل بها، وعلم معاوية بذلك،
بعث إليه رسلا، وكتب إليه معهم: إنك إن أقبلت إلي، أولك بعض كور الشام والجزيرة،
غير منفس
(هامش)
(1) نص عبارة ابن أبي الحديد في الموضوع (ج 4 ص 14). (2) مدينة كانت على الفرات
(غربي بغداد) تبعد عنها عشرة فراسخ سميت بذلك لأنها كانت تجمع بها أنابير الحنطة
والشعير منذ أيام الفرس، وهي منطقة اليوم قرب الرمادي. (*)
ص 169
عليك. وأرسل إليه بخمسمائة ألف درهم. فقبض الكندي المال، وغدر بالإمام الحسن (عليه
السلام) وصار إلى معاوية في مائتي رجل من خاصته وأهل بيته. فبلغ ذلك الإمام الحسن
(عليه السلام) فقام خطيبا وقال: هذا الكندي توجه إلى معاوية، وغدر بي وبكم، وقد
أخبرتكم مرة بعد مرة، أنه لا وفاء لكم، أنتم عبيد الدنيا، وأنا موجه رجلا آخر
مكانه، وإني أعلم أنه سيفعل بي وبكم ما فعل صاحبكم، ولا يراقب الله في ولا فيكم.
فبعث إليه رجلا من مراد في أربعة آلاف، وتقدم إليه بمشهد من الناس وتوكد عليه،
وأخبره أنه سيغدر كما غدر الكندي. فحلف له بالأيمان التي لا تقوم لها الجبال أنه لا
يفعل. فقال الإمام الحسن (عليه السلام): أنه سيغدر. فلما توجه إلى الأنبار، أرسل
إليه معاوية رسلا وكتب إليه بمثل ما كتب إلى صاحبه وبعث إليه بخمسة آلاف (ولعله
يريد خمسمائة ألف) درهم، ومناه أي ولاية أحب من
ص 170
كور الشام والجزيرة، ففعل كصاحبه، وأخذ طريقه إلى معاوية، ولم يحفظ ما أخذ عليه من
عهود... . ثم ذكر بعد هذا العرض، اتخاذ الحسن النخيلة معسكرا له، ثم خروجه إليها.
نظر الإمام الحسن (عليه السلام) عن يمينه وعن شماله، وتصفح - مليا - الوجوه التي
كانت تدور حوله من زعماء شيعته ومن سراة أهل بيته، ليختار منهم قائد مقدمته
التي صمم على إرسالها إلى مسكن، فلم ير في بقية السيوف من كرام العشيرة وخلاصة
الأنصار، أكثر اندفاعا للنصرة ولا أشد تظاهرا بالإخلاص للموقف من ابن عمه ( عبيد
الله بن عباس بن عبد المطلب) (1) و(قيس بن سعد
(هامش)
(1) لما استوثق الأمر لمعاوية بعد أيام التحكيم أنفذ بسر بن أرطاة إلى اليمن في طلب
شيعة علي أمير المؤمنين وتتبع آثارهم وكان عليها عبيد الله بن العباس، فطلبه فلم
يقدر عليه [فهرب] فأخبر = ابن أرطاة أن له ولدين صبيين فبحث عنهما فوجدهما فأخذهما
وأخرجهما من الموضع الذي كانا فيه، وهما صغيران فذبحهما، فبلغ أمهما الخبر فكادت
نفسها تخرج [وجنت] ثم أنشأت تقول: ها من أحس بابني الذين هما * كالدرتين تشظا عنها
الصدف ها من أحس بابني الذين هما * سمعي وعيني فقلبي اليوم مختلف نبئت بسرا وما
صدقت ما زعموا * من قولهم ومن إفك والذين اقترفوا أضحيت على ودجي طفلي مرهقة *
مستحوذة وكذاك الظلم والسرف من ذل والهة عبراء مفجع * على صبيين فاتا إذ مضى السلف
(*)
ص 171
بن عبادة الأنصاري) و(سعيد بن قيس الهمداني) - رئيس اليمانية في الكوفة - فعهد إلى
هؤلاء الثلاثة بالقيادة مرتين.
ص 172
وكان عبيد الله بن عباس أحد سراة الهاشميين، ومثكول بقتل ولديه في اليمن من قبل
الجيش الأموي بأمر قائده بسر بن أرطاة، وقديما قيل... ليست الثكلى كالمستأجرة
ثم هو كان أسبق الناس دعوة إلى بيعة الإمام الحسن (عليه السلام) يوم بايعه الناس
بعد أبيه. وكان المفروض أن يكون حريا بهذه الثقة الغالية التي وضعها الإمام (عليه
السلام) في ابن عمه. ودعاه، فعهد إليه عهده الذي لم يرو لنا بتمامه، وإنما حملت بعض
المصادر صورة مختزلة منه. قال فيه: يا ابن عم! إني باعث معك اثني عشر ألفا من
فرسان العرب وقراء المصر، الرجل منهم يزيد الكتيبة، فسر بهم، وألن لهم جانبك، وابسط
لهم وجهك، وافرش لهم جناحك، وأدنهم من مجلسك، فإنهم بقية ثقات أمير المؤمنين وسر
بهم على شط الفرات، ثم امض، حتى تستقبل بهم معاوية، فإن أنت لقيته، فاحتبسه حتى
ص 173
آتيك، فإني على أثرك وشيكا. وليكن خبرك عندي كل يوم، وشاور هذين - يعني قيس بن سعد،
وسعيد بن قيس -. وإذا لقيت معاوية فلا تقاتله حتى يقاتلك، فإن فعل، فقاتله. وأن
أصبت، فقيس بن سعد على الناس، فإن أصيب فسعيد بن قيس على الناس . وتوالت الأحداث
والدعايات المغرضة الهادفة من العدو لزعزعة معنويات جيش الإمام، خاصة المرتزقة
منهم. وحدثته نفسه أن يرجع إلى المدائن، ويستقيل من منصبه كقائد لقوات الإمام (عليه
السلام) لكنه تذكر الأيادي البيضاء التي أسبغها عليه ابن عمه الطاهرين، والاعتراف
الصريح بالعجز وهو القائد الملهم. أما أن يتنازل من شموخه كقائد في معسكر إمام،
فيساوم رسل معاوية على أجر الهزيمة، فلا ولا كرامة!!!؟
ص 174
وكانت رسالة معاوية إليه، تضرب على وتر الحساس من ناحية حبه للتعاظم وتطلعه إلى
السبق، فيقول له فيها: إن الحسن سيضطر (1) إلى الصلح، وخير لك أن تكون متبوعا ولا
تكون تابعا (2)... . وجعل له فيها ألف ألف درهم (3). وكان معاوية أقدر من غيره على
استغلال مأزق أعدائه. وهكذا صرع الشعور بالخيبة، والاستسلام للطمع، الفتى الأصيل.
فإذا هو أبشع صور الخيانة المفضوحة والضعف المخذول. فلا الدين، ولا الوتر، ولا
العنعنات القبلية، ولا الرحم
(هامش)
(1) أقول: وهذا النص صريح بتكذيب الشائعة التي اجتاحت معسكر مسكن بأن الحسن
كاتب معاوية على الصلح . (2) ابن أبي الحديد (ج 4 ص 15). (3) اليعقوبي (ج 2 ص 191)
وشرح النهج أيضا (ج 4 ص 15). (*)
ص 175
الماسة من رسول الله (صلى الله عليه وآله وسلم) ومن قائده الأعلى، ولا الميثاق الذي
واثق الله عليه في البيعة منذ كان أول من دعا الناس إلى بيعة الحسن في مسجد الكوفة،
ولا الخوف من حديث الناس ونقمة التاريخ بالذي منعه عن الانحدار إلى هذا المنحدر
السحيق. ودخل حمى معاوية ليلا، دخول المنهزم المخذول الذي يعلم في نفسه أي أثم عظيم
أتاه. ثم شاح عنه التاريخ بوجهه، فلم يذكره إلا في قائمته السوداء. وكان ذلك جزاء
الخائنين، الذين يحفرون أجداثهم بأيديهم، ثم يموتون عامدين، قبل أن يموتوا مرغمين.
وخلقت هزيمة عبيد الله بن عباس في مسكن جوا من التشاؤم الذريع، لم يقتصر أثره
على مسكن، ولكنه تجاوزها إلى المدائن أيضا. فكانت النكبة الفاقرة بكل معانيها،
وللمسؤوليات الهائلة التي تدرج
ص 176
إليها الموقف بعد هذه النكبة، ما يحمله عبيد الله أمام الله وأمام التاريخ. وتسلم
قيادة المقدمة بعد فرار قائدها الأول، صاحبها الشرعي الذي سبق للإمام تعيينه
للقيادة بعد عبيد الله، وهو (قيس بن سعد بن عبادة الأنصاري) العقيدة المصهورة،
والدهاء المعترف به في تاريخ العرب، والشخصية الممتازة من بقايا أصحاب الإمام علي
(عليه السلام)، شب مع الجهاد، واستمر على الدرب اللاحب. وأنكر على الآخرين ضعفهم
حين ضعفوا، ونقم عليهم استجابتهم للمغريات وعزوفهم عن الواجب. وما أن دان له
المعسكر في مسكن حتى وقف بين صفوفه المتباقية فصلى بهم قيس بن سعد بن عبادة وتولى
القيادة بعد أن قام فيهم خطيبا بتلك الخطبة الحماسية الملهبة، محاولا الحفاظ على
البقية الباقية من جيشه والمعنويات المنهارة فقال:
ص 177
أيها الناس: لا يهولنكم ولا يعظمن عليكم ما صنع هذا الرجل الموله، إن هذا وأباه
وأخاه لم يأتوا بيوم خيرا قط، إن أباه العباس عم رسول الله (صلى الله عليه وآله
وسلم) خرج يقاتله ببدر فأسره أبو اليسر كعب بن عمرو الأنصاري، فأتى به النبي (صلى
الله عليه وآله وسلم) فأخذ فداءه فقسمه بين المسلمين. وإن أخاه ولاه على البصرة
فسرق ماله ومال المسلمين فاشترى به الجواري وزعم أن ذلك له حلال، وإن هذا ولاه على
اليمن فهرب من بسر بن أرطاة وترك ولديه حتى قتلا، وصنع الآن الذي صنع. وهكذا اندفع
القائد الجديد الصامد قيس في موقفه المؤمن بهدفه، يودع سلفه بهذه الكلمات الساخرة
اللاذعة التي تكشف عن ماض هزيل ونفسية ساقطة. ثم أرسل إلى الإمام (عليه السلام)
بكتاب ينبئه بما حدث، وتصل أنباء استسلام عبيد الله ومن معه لعدوه معاوية، ويشيع جو
من المحنة والحيرة في النفوس، ويشعر
ص 178
الإمام بالطعنة في الصميم تأتيه من أقرب الناس إليه وأخصهم به، وتتسرب الأنباء عن
مكاتبة بعض رؤساء الأجناد والقواد لمعاوية، وطلبهم الأمان لأنفسهم وعشائرهم،
ومكاتبة معاوية لبعضهم بالأمان والموادعة (1). ومن جهة أخرى دس معاوية إلى عمرو بن
حريث، والأشعث بن قيس، وحجار بن أبجر وشبث بن ربعي (2)، وغيرهم من الزعماء ورؤساء
القبائل في الكوفة، دسيسا أفرد كل واحد منهم بعين من عيونه، إنك إذا قتلت الحسن فلك
مائة ألف درهم وجند من أجناد الشام وأزوجك بنتا من بناتي. فبلغ ذلك الإمام الحسن
(عليه السلام) فأخذ الحيطة والحذر،
(هامش)
(1) أعيان الشيعة ج 4 ف 1 ص 22 عن المفيد. (2) هؤلاء الأربعة خاصة كانوا قواد جيش
ابن زياد لمحاربة الحسين يوم الطف. (*)
ص 179
ممن؟ من قواد جيشه ورؤساء أنصاره!! ولبس اللامة والدرع تحت ثيابه، وكان يحترز ولا
يتقدم للصلاة إلا دارعا، فرماه أحدهم بسهم وهو في صلاته فلم ينبت فيه لما عليه من
اللامة والدرع. (1) ثم وجه معاوية إلى قيس بن سعد بن عبادة بألف ألف درهم على أن
يصير معه أو ينصرف عنه. فأرجع إليه المال، وقال تخدعني عن ديني (2). وحين فشلت
أساليب معاوية الخادعة وإغراءاته في قيس بن سعد الأنصاري في مسكن أرسل معاوية
جواسيس ليندسوا في صفوف جيش الإمام الذي في المدائن ليشيعوا كذبا وزورا، نبأ مصالحة
قيس مع معاوية، وجماعة أخرى من الجواسيس اندسوا في
(هامش)
(1) أعيان الشيعة ج 4 ف 1 ص 22 عن المفيد. (2) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 214. (*)
ص 180
صفوف جيش الإمام بمسكن الذي هو بقيادة قيس بن سعد، بأن الإمام الحسن (عليه السلام)
صالح معاوية، وبهذه الطريقة، إنطلت الخدعة على الخوارج ومن يرى رأيهم وفعلت فعلها
كما سنبين ذلك لاحقا.
تأثير الرشوة:
واستجابت النفوس المريضة التي لم يهذبها الدين
إلى دعوى معاوية، وانجرفت بدنياه الحلوة، وانخدعت بوعوده المعسولة، فأخذت تتهاوى
على أعتابه بتلبية طلباته، وممتثلة لأمره، فراسله جمع من الأشراف والوجوه البارزين
من جيش الإمام برسائل متعددة أعربوا فيها عن استعدادهم إلى الفتك بالإمام متى ما
طلب منهم ذلك وأراد، وهي ذات مضمونين: موقف الإمام الحرج 1 - تسليم الحسن له سرا أو
جهرا. 2 - إغتياله وقتله متى ما أراد ذلك.
|