ص 181
وقد بعث معاوية برسائلهم إلى الإمام ليطلع فيها على خيانة جيشه ورؤساء أجناده،
وعندما عرضت عليه تلك الرسائل وعرف تواقيعهم أيقن بفسادهم، وتخاذلهم وسوء نياتهم.
(1)
عودة إلى موقف الإمام: وهكذا: أخذت الأنباء تتوارد على الإمام في المدائن بفرار
الخاصة من قواده، والزعماء، وأهل الشرف، والبيوتات من أصحابه، كما تسميها بعض
المصادر، وقد تبع انهزام هؤلاء فرار كثير من الجند، حيث كان انهزامهم سببا لحدوث
تمرد شامل في الجيش. وقد ارتفعت أرقام الفارين إلى معاوية بعد فرار عبيد الله بن
العباس وخاصته إلى ثمانية آلاف، كما يذكر
(هامش)
(1) جنات الخلود الفصل التاسع منه، كشف الغمة 2 / 154. (*)
ص 182
اليعقوبي في تاريخه يقول: وحقا إنها صدمة رهيبة، ومحنة شاقة وحادة تتداعى أمامها
القوى وينهار بها ميزان الموقف. وتكشرت بها أنياب الكارثة عن مأساة مرعبة يتحمل
ثقلها ومسؤولياتها، عبيد الله بن العباس أمام الله والتاريخ. ويقف الإمام موقف
المتحير يبحث عن مخرج لهذا المأزق الحرج، الذي تداعت به معنويات جيشه في مسكن
وتزلزلت منه قوى جيشه في المدائن. ووازن بين جيشه وجيش عدوه.. كان جيشه يتألف من
عشرين ألفا فقط، كما أجمعت عليه المصادر التاريخية في مقابل ستين ألفا يتألف منها
جيش معاوية، وبعد إسقاط الثمانية آلاف التي فرت من مسكن بعد فرار القائد عبيد الله،
تكون نسبة جيش الإمام إلى جيش معاوية نسبة الخمس. وينهار الميزان بينهما في
الحسابات العسكرية..
ص 183
ومما زاد في تهالك الموقف حرب الإشاعات الكاذبة التي ابتدعها معاوية كسلاح ينفذ منه
للقضاء على البقية الباقية من معنويات الجيش في مسكن والمدائن، وسنذكر هنا لقطات من
تلك الشائعات ومدى تأثيرها على المعنويات العامة في جيش الإمام الحسن (عليه السلام)
بشقيه في المدائن ومسكن. وقد قذف معاوية كل ما في دخيلته من خبث ومكر وتلون في نسج
خدعة وأباطيله وقد ضمن له كل ما أراد من الوقيعة بالجيش الكوفي وتفتيت قواه. وكان
اختياره للأكاذيب يتم عن خبرة دقيقة في حبكها وانتقائها فأرسل من يدس في معسكر
المدائن: ... بأن قيس بن سعد وهو قائد مسكن بعد فرار ابن عباس قد صالح معاوية وصار
معه.. (1)
(هامش)
(1) اليعقوبي ج 2 ص 191، البداية والنهاية ج 8 / ص 14. (*)
ص 184
ويوجه إلى عسكر قيس في مسكن من يتحدث أن الحسن قد صالح معاوية وأجابه.. (1) فلما
أصبح أراد أن يمتحن أصحابه ويستبرئ أحوالهم في الطاعة، ليتميز بذلك أولياؤه من
أعدائه، ويكون على بصيرة من لقاء معاوية وأهل الشام، فأمر أن ينادى الصلاة جامعة،
فاجتمعوا، فصعد المنبر فخطبهم فقال: الحمد لله كلما حمد حامد، وأشهد أن لا إله إلا
الله كلما شهد له شاهد، وأشهد أن محمدا عبده ورسوله، أرسله بالحق وائتمنه على الوحي
(صلى الله عليه وآله وسلم)، أما بعد، فإني والله لأرجو أن أكون قد أصبحت بحمد الله
ومنه وأنا أنصح خلق الله لخلقه، وما أصبحت محتملا على مسلم ضغينة، ولا مريدا له
بسوء ولا غائلة، ألا وإن ما تكرهون في الجماعة خير لكم مما تحبون في الفرقة،
(هامش)
(1) اليعقوبي ج 2 ص 191، البداية والنهاية ج 8 / ص 14. (*)
ص 185
ألا وإني ناظر لكم خير من نظركم لأنفسكم، فلا تخالفوا أمري ولا تردوا علي رأيي، غفر
الله لي ولكم وأرشدني وإياكم لما فيه المحبة والرضا. فنظر الناس [من الخوارج
المحكمة] بعضهم إلى بعض وقالوا: ما ترونه يريد بما قال؟ قالوا: نظنه والله يريد أن
يصالح معاوية ويسلم الأمر إليه. فقالوا: كفر والله الرجل، ثم شدوا على فسطاطه
وانتهبوه حتى أخذوا مصلاه من تحته، ثم شد عليه عبد الرحمن بن عبد الله بن جعال
الأزدي فنزع مطرفه عن عاتقه فبقي جالسا متقلدا السيف بغير رداء، ثم دعا بفرسه
فركبه، وأحدق به طوائف من خاصته وشيعته، ومنعوا منه من أراده فقال: ادعوا لي ربيعة
وهمدان، فدعوا فأحاطوا به ودفعوا الناس عنه، وسار ومعه شوب من غيرهم، فلما مر في
مظلم ساباط بدر إليه الجراح بن سنان الأسدي، فأخذ بلجام بغلته وبيده مغول وهو سيف
دقيق يكون
ص 186
غمده كالسوط، وقال: الله أكبر، أشركت يا حسن كما أشرك أبوك من قبل، ثم طعنه في فخذه
فشقه حتى بلغ العظم، وضربه الحسن (عليه السلام) واعتنقه وخرا جميعا إلى الأرض، فوثب
إليه رجل من شيعة الحسن (عليه السلام) يقال له عبد الله بن خطل الطائي فنزع المغول
من يده وخضخض به جوفه، وأكب عليه آخر يقال له ظبيان بن عمارة فقطع أنفه فهلك من
ذلك، وأخذ آخر كان معه فشدخوا وجهه ورأسه حتى قتلوه. وحمل الحسن (عليه السلام) على
سرير إلى المدائن فأنزل بها على سعد بن مسعود الثقفي، وكان عامل أمير المؤمنين
(عليه السلام) بها فأقره الحسن (عليه السلام)، واشتغل الحسن (عليه السلام) بنفسه
يعالج جرحه وجاءه سعد بن مسعود بطبيب فقام عليه حتى برئ. هكذا ذكر المفيد وأبو
الفرج، والذي ذكره الطبري وابن الأثير وسبط ابن الجوزي ناقلا له عن الشعبي، أنه
ص 187
لما نزل الحسن (عليه السلام) المدائن نادى مناد في العسكر: ألا إن قيس بن سعد قد
قتل فانفروا، فنفروا إلى سرادق الحسن (عليه السلام) فنهبوا متاعه حتى نازعوه بساطا
كان تحته، فازداد لهم بغضا ومنهم ذعرا. قال المفيد: وكتب جماعة من رؤساء القبائل
إلى معاوية بالسمع والطاعة في السر، واستحثوه على المسير نحوهم، وضمنوا له تسليم
الحسن إليه عند دنوهم من عسكره أو الفتك به. وجاء الوفد الشامي المؤلف من المغيرة
بن شعبة، وعبد الله بن كريز، وعبد الرحمن بن الحكم وهو يحمل كتب أهل العراق ليطلع
الإمام الحسن عليها وليعرف ما انطوت عليه دخيلة أصحابه ممن أضمروا السوء وتطوعوا في
صفوف جيشه لإذكاء نار الفتنة عندما يحين موعدها المرتقب. وتنشر الكتب بين يدي
الإمام الحسن ولم تكن لتزيده
ص 188
يقينا على ما يعرف من أصحابه من دخيلة السوء وحب الفتنة وكانت خطوطهم وتواقيعهم
واضحة وصريحة لدى الإمام (عليه السلام). وعرض الصلح على الإمام بالشروط التي يراها
مناسبة ولكن الإمام لم يشأ أن يعطيهم من نفسه ما يرضي به طموح معاوية وكان دقيقا في
جوابه، بحيث لم يشعرهم فيه بقبول الصلح أو ما يشير إلى ذلك، بل اندفع يعظهم ويدعوهم
إلى الله عز وجل وما فيه نصح لهم وللأمة ويذكرهم بما هم مسؤولون به أمام الله
ورسوله في حقه. ولكن المغيرة ورفاقه ممن طبع الشيطان على قلوبهم وعلى أبصارهم غشاوة
أنى تنفع معهم العظة أو يعيدهم عن غيهم تذكير أو ترهيب، ولقد كان معاوية دقيقا في
اختياره لهم لينفذوا له هذا الجانب من الخطة البارعة وليحبكوا له هذه الخدعة
الرهيبة في سلسلة خدعه
ص 189
والتي كانت بداية النهاية لفصول المأساة التي انتهت بتوقيع عقد الهدنة بينه وبين
الإمام. وحين رأى المغيرة ورفاقه أن الدور الأول من التمثيلية دبجها خبث معاوية
معهم ومكره قد فشلت في إقناع الإمام بالصلح بل بقي في موقفه صامدا أمام هذه
المؤثرات القوية الصاعقة انتقلوا لتمثيل الدور الثاني الذي إن لم يكن مضمون النتائج
فورا.. فلا أقل من أنه سيترك أثرا سيئا يزيد موقف الإمام حراجة وضعفا. وغادر الوفد
مقصورة الإمام مستعرضا مضارب الجيش الذي كان يترقب نتائج مفاوضات الوفد وما توصل
إليه من اتفاق على الصلح أو المضي على درب المعركة.. وتشوف الجيش إلى الوفد وهو
يغادر الإمام وباهتمام بالغ لعله يسمع منه كلمة تدل على نتائج المفاوضات ويرفع أحد
أفراده صوته ليسمع الناس:
ص 190
إن الله قد حقن بابن رسول الله الدماء وسكن الفتنة وأجاب الصلح... (1) وهكذا:
مثلوا دورهم هنا أخبث تمثيل، وخلقوا جوا لاهبا من المأساة تدهور على أثرها الموقف.
وتفجرت كوامن الفتنة واضطراب تماسك الجيش ولاحت في الأفق بوادر المحنة، فأي غائلة
هذه التي ألهب نارها المغيرة ورفاقه؟ وثارت المحكمة أي الخوارج ومن يرى رأيهم ..
حيث مست كلمة الثالوث الشامي الخبيث الوتر الحساس فيها، فقد كانت هذه الفئة تطالب
بالحرب بإصرار، فهي ما انضوت تحت لواء الإمام الحسن إلا لتحارب معاوية ولتقضي عليه،
وفي تصورها الساذج أن انضمام جيش المدائن إلى من تبقى في مسكن من
(هامش)
(1) انظر تاريخ اليعقوبي، ج 2 ص 191. (*)
ص 191
الجيش يكفي لمواجهة العدو، غير آخذة في اعتبارها التفوق العددي له مقرونة بالمكر
والخداع.. ولعل الموقف الطبيعي في المرحلة الدقيقة من المحنة، إلتزم جانب الحكمة،
والتفكير طويلا قبل اتخاذ أي موقف نهائي لحسم المشكلة، فهناك في الجيش من يرى الحرب
هو الحل الحاسم، الذي لا يمكن تخطيه لأي سبب كان.. وهناك من يرى السلم والموادعة،
إيثارا لعافية، وهروبا من حرج القتال. وإذا أخذنا باعتبارنا ما خلفته الشائعات
الشامية بين عناصر الجيش من الاضطراب والتفكك، وانهيار المعنويات العسكرية، التي هي
قوام الحركة للجيش عند الالتحام مع قطعات العدو أثناء القتال. وإذا أخذنا باعتبارنا
أيضا، إنفصال جناحي الجيش الكوفي في مسكن والمدائن بمسافات كبيرة، بحيث يكون اتخاذ
الموقف المتسرع من جانب الإمام
ص 192
بالحرب، وإعلام عدوه بذلك، مدعاة لحسم الموقف لصالح معاوية إذ لم يتبق في مسكن من
أفراد الجيش إلا أربعة آلاف، بعد فرار ثمانية آلاف منه، وفيهم الوجوه والزعماء،
وأصحاب البيوتات كما ذكرنا آنفا.. وهنا يسهل على معاوية ضرب جناح مسكن، وتصفيته قبل
أن يصله أي مدد من المدائن، وكيف يمكن توفر الصمود لأربعة آلاف في مواجهة ستين ألفا
مهما فرض لهم من القوة والصمود.. لو رجعنا للحسابات العسكرية. وتبقى المدائن وأمرها
سهل، فلا تزال جيوب الخيانة معشعشة في أطرافها، وهي لن تعاني كثيرا في سبيل إنهاء
الوضع لصالح معاوية بأساليبها الرهيبة، مع ما عليه الجيش من انهيار وارتباك. إذا
أخذنا في اعتبارنا كل هذا، فليس من اللباقة العسكرية والحكمة القتالية، إعتماد موقف
الحرب،
ص 193
والدخول في معركة خاسرة مع الخصم، فإن النهاية ستكون لصالحه لا محالة، ولا أقل على
الأكثر، بنحو تكون نسبة النصر في جانب الإمام ضئيلة جدا. ولكن الإمام لم يتخذ أي
موقف في هذه اللحظات من المحنة، ولم يشأ أن يتخذ موقفا منفصلا عن رأي عامة الجيش،
ولذا نرى أن جوابه للوفد الشامي كان بدعوته إلى الله سبحانه، ونصرة الحق، مهملا
الإجابة على رسالته الأساسية، وهي الدعوة للصلح بنفي أو إثبات. وخرج الوفد.. ليمزق
ما كان قد تبقى من تماسك ووحدة بين عناصر جيش الإمام، بتلك الكلمات الخبيثة
الكاذبة، وكانت عملية اختبار ناجحة، لخطة مرعبة، نفذها معاوية بلؤمه ومكره. إلى هنا
لم يتخذ الإمام الحسن (عليه السلام) موقفا جديدا بعد، فهو لا يزال يتمسك بموقف
استمرارا لموقفه السابق، ولم تظهر منه أي بادرة تشير إلى التراجع عنه.
ص 194
ولكن الإمام وهو البصير بالمرحلة، لا بد وأنه استعرض بنفسه تطورات الوضع، من حين
خروجه من الكوفة إلى اللحظات الدقيقة التي يعيشها في المدائن، ولا بد أنه لاحظ ما
آل إليه أمر الجيش من التمزق وانهيار المعنويات العسكرية، خصوصا بعد خروج الوفد من
عنده. إذن.. ما هو الموقف الذي يفترض أن يتخذه الإمام (عليه السلام) في هذه المرحلة
الخانقة من الصراع..؟ الحرب..؟ الهدنة..؟ أو أي شيء آخر؟ ولكن الإمام لم يحدد لنفسه
موقفا معينا قبل أن يختبر جنده ليتأكد له إلى أي مدى سيصمد معه جيشه في لحظات
العنف، ولينكشف له صريحا واقع جيشه المكفهر الغامض.
ص 195
فخرج وخطب الناس خطبة قال فيها: بعد الحمد لله والثناء عليه، والصلاة على رسوله
وآله، إنا والله ما ثنانا عن أهل الشام شك ولا ندم، وإنما كنا نقاتل أهل الشام
بالسلامة والصبر، فشيبت السلامة بالعداوة، والصبر بالجزع، وكنتم في مسيركم إلى صفين
ودينكم أمام دنياكم، وأصبحتم اليوم دنياكم أما دينكم، إلا وقد أصبحتم بين قتيلين:
قتيل بصفين تبكون له، وقتيل بالنهروان تطلبون بثأره، أما الباقي فخاذل، وأما الباكي
فثائر. ألا وإن معاوية دعانا لأمر ليس فيه عز ولا نصفة، فإن أردتم الموت رددناه
عليه، وحاكمناه إلى الله عز وجل بظبا السيوف، وإن أردتم الحياة قبلنا، وأخذنا لكن
الرضا.. فناداه الناس من كل جانب: البقية البقية، وأمض الصلح.. (1)
(هامش)
(1) ابن الأثير، الكامل ج 3 ص 204 ورواها الطبري، وابن خلدون وغيرهم من المؤرخين.
(*)
ص 196
وهنا انكشف للإمام واقع النهاية، فالجيش مجتمعا، أو الأكثر منه تواق للسلامة ومؤثر
للعافية، فهو يطلب البقيا وإمضاء الصلح. وتنطفئ آخر ومضة من الأمل في نفس الإمام
(عليه السلام )، الجيش قد أمضى الصلح بهذه السرعة الهائلة، ولم يذكر المؤرخون أي
معارضة قد تكون صدرت من بعض الفئات المفروض فيها ذلك، كالمحكمة مثلا.. ولعلها وجدت
أن المرحلة لا تحتمل الدخول في معركة خاسرة حتما مع الخصم، وأدركت سر الموقف
المتدهور آنذاك، وأيا كان فلم يبق أمام الإمام الحسن (عليه السلام) خيار غير
الهدنة
ولننقل حديثنا إلى مسكن، وقائدها قيس بن عبادة
المؤمن الصامد، فقد بلغت أنباء الهدنة مسكن في رسالة
ص 197
أرسلها الإمام الحسن لقيس، يطلب فيها منه الدخول في الجماعة، وموافاته بمن معه من
الجيش. لم يتحمل قيس هذه النهاية، فأراد اختبار أصحابه والتعرف على دخائل نفوسهم،
إزاء هذا الموقف المأساوي، فقام خطيبا فيهم وقال: .. أيها الناس: اختاروا الدخول
في طاعة إمام ضلالة - أي معاوية -، أو القتال من غير إمام هدى.. فقال بعضهم: بل
نختار الدخول في طاعة إمام ضلالة، فبايعوا معاوية، وانصرف قيس فيمن تبعه (1)
محنة
الإمام (عليه السلام):
لم يعن مؤرخو حياة الإمام الحسن (عليه السلام) بأكثر من
الإشارة إلى الظروف المتأزمة التي كان من طبيعتها أن
(هامش)
(1) الكامل لابن الأثير ج 3 ص 204. (*)
ص 198
تشفع لدى الإمام الحسن (عليه السلام) بقبول الهدنة أو تضطره إليه، فمن مذعن ساكت لا
يبدي رأيا، ومن مصوب عاذر يتزيد الحجج ويعدد المعاذير، ومن ناقد جاهل خفي عليه سر
الموقف فراح يكشف عن سر نفسه من التعصب الوقح والتحامل المرير. فيرى أحدهم أن
الذي طلب الهدنة هو الإمام الحسن (عليه السلام) ويرى الآخر أنه معاوية، ويرى بعضهم
أن سبب طلبه الصلح أو قبوله إياه هو فتن الشام في المعسكرين [مسكن والمدائن]، ثم
يختلفون في نوع الفتنة. بينما يرى البعض الآخر أن سبب قبول الصلح من جانب الإمام
الحسن (عليه السلام) هو تفرق الناس عنه بعد إصابته ومرضه. ويرى ثالث منهم أن السبب
هو نكول الناس عن القتال معه كما يدل عليه جوابهم على خطبته بالبقية البقية
وقولهم له صريحا وأمض الصلح . ويرى الرابع، إن فرار قائده وخيانة أصحابه
واستحلال
ص 199
بعضهم دمه وعدم كفاية الباقين للقتل، هو السبب لقبوله الهدنة. ولم يكن فيما دار
عليه كل من الأصدقاء والناقمين في استعراضهم التاريخي للمآزق التي تعرض لها الإمام
الحسن (عليه السلام)، ما يحول بنسقه دون النقد الجارح (أو قل) ما يجيب بأسلوبه على
السؤال المتأدب، في عزوف الإمام الحسن (عليه السلام) عن (الشهادة) التي كانت ولا شك
أفضل النهايتين، وأجدرهما بالإمام الخالد. إذا، فلماذا لم يفعل الحسن أولا، ما فعله
الحسين أخيرا؟ ألجبن - وأستغفر الله - وما كان الحسين بأشجع من الحسن جنانا، ولا
أمضى منه سيفا، ولا أكثر منه تعرضا لمهاب الأهوال. وهما الشقيقان بكل مزاياهما
العظيمة، خلقا، ودينا، وتضحية في الدين، وشجاعة في الميادين، وابنا أشجع العرب،
فأين مكان الجبن منه
ص 200
يا ترى؟ أم لطمع بالحياة، وحاشا الإمام الروحي المعطر التاريخ، أن يؤثر الحياة
الدنيا، على ما ادخره الله له من الكرامة والملك العظيم، في الجنان التي هو سيد
شبابها الكريم، والطليعة من ملوكها المتوجين، وما قيمة الحياة حتى تكون مطمعا
للنفوس العظيمة التي شبت مع الجهاد، وترعرعت على التضحيات؟ أم لأنه رضي معاوية
لرياسة الإسلام، فسالمه وسلم له، وليس مثل الحسن بالذي يرضى مثل معاوية، وهذه
كلماته التي أثرت عنه في شأن معاوية، وكلها صريحة في نسبة البغي إليه وفي وجوب
قتاله، وفي عدم الشك في أمره، وفي كفره أخيرا. فيقول فيما كتبه إليه أيام البيعة في
الكوفة: ودع البغي واحقن دماء المسلمين، فوالله مالك خير في أن تلقى الله من
دمائهم بأكثر مما أنت لاقيه به (1) .
(هامش)
(1) شرح نهج البلاغة ج 4 ص 12. (*)
ص 201
ويقول وهو يجيب أحد أصحابه العاتبين عليه بالصلح: (والله لو وجدت أنصارا لقاتلت
معاوية ليلي ونهاري) (1). ويقول في خطابه التاريخي في المدائن إنا والله ما
يثنينا عن أهل الشام شك ولا ندم... . ويقول لأبي سعيد: علة مصالحتي لمعاوية علة
مصالحة رسول الله لبني ضمرة وبني أشجع ولأهل مكة، حين انصرف من الحديبية، أولئك
كفار بالتنزيل، ومعاوية وأصحابه كفار بالتأويل. إذا، فما سالم معاوية رضا به،
ولا ترك القتال جبنا عن القتال، ولا تجافي عن الشهادة طمعا بالحياة، ولكنه صالح حين
لم يبق في ظرفه احتمال لغير الصلح، وبذلك ينفرد الحسن عن الحسين، وما كان الإمام
الحسن (عليه السلام)
(هامش)
(1) احتجاج الطبرسي ص 151. (*)
ص 202
في عظمته بذلك الرجل الذي تستثار حوله الشبه، ولا بالزعيم الذي يسهل على ناقده أن
يجد المنفذ إلى نقده والمأخذ عليه سبيل. سئل (1) الشهيد السعيد السيد محمد باقر
الصدر (قدس سره) لماذا صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية بن أبي سفيان بينما
ثار أخوه الإمام الحسين (عليه السلام) على يزيد بن معاوية؟ فأجابه السيد الشهيد
(قدس سره): تصاب المجتمعات بعدة أمراض كما يصاب الأفراد، ومن الأمراض التي أصيب بها
المجتمع الإسلامي أبان إمامة الإمام الحسن (عليه السلام) هو مرض الشك في القيادة
، وهذا الداء ظهر في أواخر حياة أمير المؤمنين علي بن أبي طالب (عليه السلام)، حيث
واجه أيام خلافته عدة حروب ذهب ضحيتها عشرات الآلاف
(هامش)
(1) تفضل سماحة الشيخ هادي الخزرجي مشكورا بهذه الدراسة القيمة التي دارت بينه وبين
السيد الشهيد (قدس سره). (*)
ص 203
من أبناء الأمة، فأخذ الناس يشكون هل أن المعارك تخاض التي معارك رسالية أم أنها
معارك قبلية أو شخصية؟ وقد عبر أمير المؤمنين (عليه السلام) عن ظهور هذا الداء
الاجتماعي في عدة مرات منها في خطبته المعروفة بخطبة الجهاد التي ألقاها على جنوده
المنهزمين في مدينة الأنبار حيث قال لهم والألم يعصر قلبه: .. ألا وأني قد دعوتكم
إلى قتال هؤلاء القوم ليلا ونهارا، وسرا وإعلانا، وقلت لكم اغزوهم قبل أن يغزوكم،
فوالله ما غزي قوم في عقر دارهم إلا ذلوا، فتواكلتم وتخاذلتم حتى شنت الغارات
عليكم، وملكت عليكم الأوطان... . إن هذا الداء داء التواكل والتخاذل والتقاعس عن
نصرة الحق وإيثار العافية والسلامة أو داء الشك في القيادة الذي ظهر في أواخر
حياة الإمام علي (عليه السلام) استفحل واشتد في حياة الإمام الحسن (عليه السلام):
فلم يكن
ص 204
باستطاعته في مثل هذه الظروف والمجتمع المصاب بهذا الداء أن يخوض معركة مصيرية
تنتهي بالنصر على خصمه المتربص به، فإذا أضفنا إلى هذا شخصية الخصم معاوية الذي كان
بإمكانه أن يبدو أمام الناس بمظهر الحاكم الملتزم بالدين، وكذلك تعدد انتماءات
المقاتلين مع الإمام الحسن (عليه السلام) حتى أبدى بعضهم استعداده لمعاوية أن يسلم
له الإمام (عليه السلام) حيا، وطعنه بعضهم طعنة غادرة إذا جمعنا هذا وغيره من
الظروف عرفنا لماذا صالح الإمام الحسن (عليه السلام) معاوية السبب باختصار هو الشك
في قيادته وعدم وجود الأنصار المخلصين... أما في عهد إمامة الإمام الحسين (عليه
السلام) فإن الأمة قد شفيت من مرض الشك بعد الممارسات الإجرامية الوحشية التي
ارتكبها معاوية بحق الخصوص والعموم من الناس على مستوى الأموال والنفوس والأضاليل،
وتيقنت الأمة الفارق بين القيادتين قيادة أهل البيت (عليهم السلام) وقيادة
ص 205
خصومهم، إلا أنها أصيبت بمرض آخر هو (مرض فقدان الإرادة) المرض الذي عبر عنه الشاعر
الفرزدق أصدق تعبير حينما التقاه الإمام الحسين (عليه السلام) في الطريق وهو عائد
من العراق، حيث سأله الإمام الحسين (عليه السلام) كيف وجدت الناس؟ أجاب الفرزدق:
قلوبهم معك وسيوفهم عليك إنهم يحبون الحسين قلبيا، ولكن لم تكن عندهم الإرادة
الكافية لتجسيد هذا الحب تضحية على الأرض تقف إلى جنب الحسين (عليه السلام) لسياسة
الترهيب والترغيب التي استخدمها الحاكم معهم، إضافة إلى مطالبة الناس للإمام
بالثورة بعد أن اتضحت لهم تماما حقائق الأوضاع، وشخصية يزيد تختلف عن شخصية أبيه
فهو مفضوح بأعماله وممارساته أللا أخلاقية، ومن هنا كان قرار الثورة مستخلصا من
مجموع الظروف النفسية والاجتماعية لإعادة الإرادة إلى الأمة لإيجاد الانسجام
والتناغم بين القلوب
ص 206
والسيوف فلا تكون القلوب إلى جهة والسيوف إلى جهة مضادة... لقد كان العلاج لداء
فقدان الإرادة، هو الشهادة والتضحية، وهذا ما أشار إليه أبو عبد الله (عليه السلام)
حينما قال: إن كان دين محمد لم يستقم * إلا بقتلي فيا سيوف خذيني أتسائل متعجبا!!
من هم الذين هجموا على الإمام (عليه السلام) وطعنوه ومن هم الذين احترز منهم ولبس
لامة حربه ودرعه تحت ثيابه حذرا من غدرهم؟؟!!. أليس هم أصحابه، وجنده الذين خرج بهم
ليدافع بهم عن شريعة السماء وليقاتلوا بين يديه أعداء الله من الجيش الأموي؟ إذا
كان جيشه الذي يحارب بهم والقوة التي يضرب بها واليد التي يبطش بها شلاء، فكيف
يستطيع أن يقف أمام ذلك الجيش العاتي والقوة الغاشمة من جيش معاوية من أهل الشام؟
أليس هذا كله دليلا قاطعا،
ص 207
وبرهانا ساطعا ومبررا على قبوله (عليه السلام) المهادنة والمصالحة؟ والذي أصبح به
مهددا على حياته وحياة أهل بيته وأصحابه المخلصين من جيشه وحماته فضلا عن جيش عدوه
وغدره. وأعجب من ذلك أولئك المتفلسفين الذين يعيشون في عافية، وفي وضع مستقر آمن
وهادئ يلقون باللائمة على الإمام الحسن (عليه السلام) لماذا هادن أو صالح ولم
يتصوروا الموقف الحرج الذي امتحن به الإمام، وهذا لا يصدر إلا عن حالتين إما عن جهل
مطبق أو حقد أسود أعمى، فإنا لله وإنا إليه راجعون. ثم حمل الإمام الحسن (عليه
السلام) (1) بعد طعنه إلى المدائن وقد أخذ النزف منه مأخذا شديدا واشتدت به العلة،
فأنزل في دار سعد بن مسعود الثقفي، وكان عامله
(هامش)
(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 214، 215. (*)
ص 208
وعامل أبيه أمير المؤمنين (عليه السلام) من قبل على المدائن وبقي في دار الثقفي مدة
للمعالجة، وفي خلال ذلك علم الإمام بأن بعض رؤساء القبائل وقواد جيشه الذين لا
يملكون الورع والوازع الديني ولا الأخلاقي، كاتبوا معاوية سرا، وأبدوا استعدادهم
لتنفيذ رغبته إن شاء قتلوه، أو شاء أسلموه مكتوفا إذا اقترب الجيشان (1)، وقد بعث
معاوية من خبثه ودهائه بتلك الرسائل نفسها إلى الإمام ليطلعه على دخيلة نفسيات بعض
قواده ورؤساء العشائر من أصحابه، وطلب منه الصلح وعرضها عليه وتعهد له قبول كل شرط
يشترطه الإمام عليه. وكان الإمام يعاني من شدة الطعنة وقد تفرق معظم أصحابه وجيشه
عنه كل إلى جهة، وذلك لعدم توحد جنوده وقواده في الهدف والمبدأ كما أسلفنا، وكل
واحد
(هامش)
(1) تاريخ اليعقوبي ج 2 ص 215. (*)
ص 209
منهم كان يسلك طريقا خاصا به ليضمن مصالحه لا سيما المرتزقة والغوغائية منهم. عند
ذلك رأى الإمام الحسن (عليه السلام) بثاقب رأيه وتسديد السماء له، إن الوقوف بوجه
جيش الشام لم يكن من صالح الإسلام ولا من صالحه أو صالح أهل بيته ويعته ش، وإن
الخوض معارك خاسرة واضحة المعالم مسبقا، ضرب من عدم حنكة القيادة وعدم التدبير،
ولئن انتصر معاوية في حربه هذه رسميا، لاستطاع أن يزيل الإسلام من أساسه ويقضي على
الدين وعلى جميع المؤمنين الحقيقين من شيعة علي (عليه السلام) تماما، واستأصالهم من
الوجود، ولم يبق من الإسلام إلا إسمه، ولا من القرآن إلا رسمه.
ص 210
الفصل السادس
خلاصة الأحداث 
ومجمل ما تقدم من الفتن السوداء، والخيانة المفضوحة
التي منيت بها المقدمة التي تعتبر أقوى فصائل الجيش أمور: خلاصة الأحداث
1 - تسلل
ذوي الوجاهة والنفوذ من ذوي البيوتات الشريفة والأسر البارزة إلى معاوية.
2 - غدر
القائد العام عبيد الله بن العباس وخيانته لسبط النبي وريحانته ولابن عمه. ومن قبله
غدر قائدان، الكندي، والمرادي.
3 - خيانة ثمانية آلاف من الجيش، والتحاقهم بمعسكر
معاوية، وناهيك بالضعف والاحتلال الذي منيت به المقدمة بعد انسحاب هذا العدد الخطير
من
|