الفصل الثامن
الأخبار النبويّة تعلن عن خلافة علي ومن دون منازع
وبعد مضي ثلاثة أو أربعة أيام كان قد تعرض فيها طلال إلى نزلة برد، لم يستطع في خلالها مغادرة الفراش، وكنت أنا أعوده وأزوره بين الفينة والأُخرى، واتفقد حاله حتّى إذا ما تماثل إلى الشفاء عدنا ومن جديد إلى مناظراتنا العقائدية.. ولقد كان هو متلهفاً إليها أكثر مني.. بينما جعل يقول لي:
ــ " إنّي أحس تجاهك وتجاه سائر إخواني بواجبات شرعية، وذلك حينما يطالبونني هم بعقد مثل هذه الجلسات العلمية. بيد أن مثل هذا ما كان ليمنع فكري من أن يبحر عبر المسافات، فيجتاز بأفكار الآخرين، ويسابق الموج لديهم من دون أن يثير أيّما زوبعة أو مد وجزر اصطناعيين بحيث يضايق أذواقهم، ويصادر حرياتهم، أو يعمل على تفتيت روح تحركاتهم الفردية، وبالتالي يناكد سياحات اختياراتهم العقائدية.. إذ إنّ لكُلّ فرد تلك الحرية الخاصّة، وذلك النبوغ الفني المعتد به، والذي من خلاله يمكن أن ينتقي لنفسه طريقاً يعتبره ومن خلال تمتعه بكامل شرائط ومقومات الانتخاب الذاتي منهجه العقائدي وإنتماءه العلمي ليس إلاّ. ومن بعد ذلك فكُلّ منّا سيكون مسؤولاً عن مقالته! ".
وإذا ما كنا قد انتخبنا هذه المرة مكاناً يحاط بمجموعة لا بأس بها من الكتب والمجلدات، فإنّا كنّا قد غدونا حينها على كامل الاستعداد لكي نبدأ
ــ " ألا ترى إلى رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كيف أبى أن تكون أسماء بني علي إلاّ كأسماء بني هارون، فسماهم حسناً وحسيناً ومحسناً. وقال: "إنّما سمّيتهم بأسماء ولد هارون شبر وشبير ومشبر" حتّى أراد بهذا تأكيد المشابهة بين الهارونين وتعميم الشبه بينهما في جميع المنازل وسائر الشؤون "(1).
مع كُلّ هذا شعرت بأنّ عليَّ أن أواصل مجال هذه المناظرات، ووفقاً لكامل ما تنطبق عليه شروط عقد مثل هذه الجلسات العلمية حتّى ولو كانت على مستوى شابين من الشباب، يحدوهما الأمل للوصول إلى نتائج مشرّفة ترضي كلا الطرفين.. ليكون الاطلاع على فصولها وفي المستقبل حائزاً على الرسمية، وعنواناً لكُلّ مصداقية لها أن تحمل قالب القانونية وتتزيا بثوب وحلة الصيغة الأكاديمية أو النظرية.. بعيداً عن أيّما تعصب يمكن أن تثيره الاجواء، وبمنأىً عن أيّما حساسيات ليس لها أن تغني أو تسمن من جوع، بل إنها كانت في جو يسوده الحب الإلهي ويملؤه الود الكريم حتّى كنا نتمنى لو كان كُلّ أفراد العالم يلجأون إلى حل مشكلاتهم العلمية والعقائدية والسياسية بنفس الطريقة التي كنا قد انتخبناها وعولنا عليها كُلّ نجاح وآخر.. فضلاً عن التزامنا بصور كافة الطموحات التي لا تنزع إلاّ إلى بلوغ شواطئ الاطمئنان وضفاف الهدأة من كُلّ عناء.. فما كانت تلك الأبحاث لتحيلنا إلى إنزال كُلّ غيظ ولعنة على الطرف الآخر، أو تربص أيّما حالة نكوص أو ضعف من قبل
____________
1- المستدرك 3: 168، 265 وصححه على شرط الشيخين، مسند أحمد 1: 98، الصواعق المحرقة: 115.
قال، وهو يحاول أن ينفحني بما استودع به ذاكرته:
ــ " فيما أخرجه المحدّثون بطرقهم الصحيحة عن رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم)ودونك: ص 265 و 168 من الجزء 3 من المستدرك، تجد الحديث صريحاً في ذلك، صحيحاً على شرط الشيخين. وقد أخرجه الإمام أحمد أيضاً من حديث علي في ص 98 من الجزء الأوّل من مسنده. وأخرجه ابن عبد البر في ترجمة الحسن السبط من الاستيعاب، وأخرجه حتّى الذهبي في تلخيصه مسلماً بصحته مع قبح تعصبه وظهور انحرافه عن هارون هذه الأُمة وعن شبّرها وشبيرها. وأخرج البغوي في معجمع وعبد الغني في الإيضاح، كما في ص115 من الصواعق المحرقة المحرقة، عن سلمان نحوه، وكذلك ابن عساكر".
ومن بعد أن راجعت بعض المصادر وأوكلت بعضها إلى ما بعد انتهاء المجالسة، فلقد اكتفيت بتلك التي وجدتها مطابقة للواقع الذي ذكره.. بينما عدت إليه أسائله:
ــ " أنت ذكرت أن رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) كان قد أراد بهذا تأكيد المشابهة بين الهارونين وتعمى الشبهة بينهما في جميع المنازل وسائر الشؤون؟ فهل أ نّه لهذه الغاية نفسها كان قد اتخذ علياً أخاه؟ ".
فقال لي:
ــ " وأكثر من هذا، فإنّ كان قد آثره بذلك على من سواه، تحقيقاً لعموم الشبه بين منازل الهارونين من أخويهما، وحرص على أن لا يكون ثمة من فارق
ولقد كان قد أخذ برقبة علي وهو يقول: "إنّ هذا أخي ووصيي وخليفتي فيكم، فاسمعوا له وأطيعوا "(2).
بينما تابع حديثه وآيات التعجب مرسومة في قسمات وجهي الذي صار يترجم كُلّ لحظات الصدق التي صرت أحتسي معانيها في هذا الوقت حتّى صار يقول:
ــ " وخرج (صلى الله عليه وآله وسلم) على أصحابه يوماً ووجهه مشرق، فسأله عبد الرحمن بن عوف، فقال: "بشارة أتتني من ربي في أخي وابن عمي وابنتي بأنّ اللّه زوج علياً من فاطمة.." ولقد أخرج الحديث أبو بكر الخوارزمي، كما في الصفحة: 103
____________
1- المستدرك 3: 14 وصححه ووافقه الذهبي، الصواعق المحرقة: 72.
2- أخرجه كثير من الحفاظ كابن اسحاق، والطبري 2: 217، وابن أبي حاتم، وابن مردويه، وأبو نعيم، والبيهقي في سننه وفي دلائله، وأبو الفداء 1: 116، وشرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 263 وفي شرح الخطبة القاصعة 3: 218، والسيرة الحلبية 1: 381، كما نقله بعض المستشرقين كالانجليزي جرجس، وتوماس كادليل في كتاب (الأبطال).
ــ " وهل له إشارات إليه غير التي ذكرت؟ ".
ــ " وكيف لا؟! فكم أشار إليه، فقال: "هذا أخي وابن عمي وصهري وأبو ولدي"(2).
وخاطبه يوماً في قضية كانت بينه وبين أخيه جعفر وزيد بن حارثة، فقال له: "وأما أنت يا علي فأخي وأبو ولدي ومنّي وإليّ"(3).
وقد عهد إليه يوماً، فقال له: "أنت أخي ووزيري تقضي ديني وتنجز موعدي وتبرئ ذمتي.. "(4).
ولما حضرته(صلى الله عليه وآله) الوفاة، قال: "ادعوا لي أخي.. "(5).
وكان علي يقول: "أنا عبد اللّه وأخو رسوله، وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كاذب ".
عندها وقفت عيناي كأ نّهما ثبتتا في محجريهما وتسمّرتا، بينما رجعت إليه وعلى وجه السرعة، وأنا أقذف إليه بالكلام وعلى مطلق الاسترسال:
____________
1- المستدرك 3: 159 وصححه ووافقه الذهبي في التلخيص، الصواعق المحرقة الباب الحادي عشر.
2- كنز العمال 6: 402 ح 6105.
3- المستدرك 3: 217.
4- منتخب الكنز 5: 32 عن الطبراني في معجمه الكبير.
5- الطبقات الكبرى 2: 51، كنز العمال 4: 55.
قال:
ــ " قال:.. وأنا الصديق الأكبر لا يقولها بعدي إلاّ كاذب "(1).
بدت على وجهي علامات الدهشة، لم أستطع أن أكبح تلك الافرازات التعبيرية التي جعلت ترتسم وببساطة فوق محياي، لم يكن بوسعي أن أتلافى نظراته، كان يحسن الالتفات إلي ومراقبتي بحذر، بيد أ نّه ما كان بميسوره الاستمرار بذلك، كأ نّه ما كان يحب التطفل على غلبة مشاعري وحرب عواطفي مع قوى العقل التي جعلت تطحن وبشراسة كُلّ مقاليد الأُمور لتنسحب بعد أن تخلف في القلب كُلّ شاغر من الأماكن التي له أن يحتلها فيما بعد وبكُلّ بطولة وحماسة! قد شعرت بأن كياني كلّه كان يأخذ بالركوع، بالسجود لكُلّ هذه القيم والمبادئ، بل لكُلّ هذه المعلومات والأخبار، إنّها شرسة بقدر ما كانت وفي الوقت نفسه عظيمة، رائعة، باردة كبرودة أيام الربيع الطيبة، ودافئة كدفء أوائل أيام الشتاء! إلاّ أ نّي كنت أرتب أوراقي على عدم الانسحاب من جولات الصراع الفكري هذا، إلاّ وأنا راضي الوجدان، مرتاح الضمير والبال، هادئ الأعصاب، ساكن الخلائج حتّى أركن إلى نقطة أُخرى فأنطلق من عندها بعدما يتيح لي الوقت متسعاً كافياً كيما أختزن ما وجدته هذه المرة! ولقد شعر بضرورة متابعة الحديث، فعمد إلى المواصلة، وقال:
ــ ".. وقال كذلك: واللّه إنّي لأخوه ووليّه، وابن عمّه ووارث علمه، فمن
____________
1- الخصائص العلوية للنسائي، المستدرك 3: 112، منتخب كنز العمال بهامش مسند أحمد 5: 40.
وقال يوم الشورى لعثمان وعبد الرحمن وسعد والزبير: "أنشدكم اللّه فيكم أحد آخى رسول اللّه(صلى الله عليه وآله وسلم) بينه وبينه، إذ آخى بين المسلمين غيري؟ قالوا: اللهم لا "! أخرجه ابن عبد البر في ترجمة علي من الاستيعاب. وغير واحد من الاثبات.
ولما كان قد برز للوليد يوم بدر، كان قد قال له الوليد: من أنت؟ قال علي: "أنا عبد اللّه وأخو رسوله"(2).
كما وسأل عليٌّ عمرَ أيام خلافته، فقال له: أرأيت لو جاءك قوم من بني اسرائيل، فقال لك أحدهم: أنا ابن عمّ موسى، أكانت له عندك إثرة على أصحابه؟ قال: نعم. قال، فأنا واللّه أخو رسول اللّه وابن عمه، فنزع عمر رداءه فبسطه، وقال: واللّه لا يكون لك مجلس غيره حتّى نتفرق، فلم يزل جالساً عليه، وعمر بين يديه حتّى تفرقوا، بخوعاً لأخي رسول اللّه وابن عمه!(3).
كما أمر (صلى الله عليه وآله وسلم) بسدّ أبواب الصحابة من المسجد تنزيهاً له عن الجنب والجنابة، لكنه أبقى باب علي، وأباح له عن اللّه تعالى أن يجنب في المسجد، كما كان هذا مباحاً لهارون، مما يدل ذلك على عموم المشابهة بين الهارونين(عليهما السلام)، قال ابن عباس: وسدّ رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، أبواب المسجد غير باب علي، فكان يدخل المسجد جنباً وهو طريقه، ليس له طريق غيره ".
____________
1- المستدرك 3: 126.
2- الطبقات الكبرى 2: 15 من القسم الأول.
3- أخرجه الدارقطني في المقصد الخامس من مقاصد آية المودة في القربى والهيتمي في صواعقه: 117.
ــ " هذا الحديث طويل، فيه عشرة من خصائص علي.. آمل أن تتعرف عليه كاملاً ذات يوم.. ".
بينما كان له أن يسهب في الحديث هذه المرة، فجعل يقول وهو يردف الكلام تلو الآخر:
ــ " وقال عمر بن الخطاب من حديث صحيح ورواه عن كُلّ من عمر وابنه عبد اللّه غير واحد من الإثبات بأسانيد مختلفة. حيث جاء فيه قوله، أعني قول الخليفة عمر بن الخطاب: لقد أُعطي علي بن أبي طالب ثلاثاً، لأن تكون لي واحدة منها أحبّ إليّ من حمر النعم: زوجته فاطمة بنت رسول اللّه، وسكناه
فعل رسول اللّه ذلك ولم يعترض عليه أحد من أصحابه؟.
وكيف لا؟ وهم ما كان لهم أن يؤمنوا برسول اللّه إيمان المذعن، والمسلّم لقوله وفعله وتقريره على أ نّها سماوية لدنّية وبشكل مطلق! فلقد ذكر سعد بن مالك بعض خصائص علي، في حديث صحيح أيضاً، فقال: وأخرج رسول اللّه عمّه العباس وغيره من المسجد، فقال له العباس: تخرجنا وتسكن علياً؟ فقال: "ما أنا أخرجتكم وأسكنته، ولكن اللّه أخرجكم وأسكنه "(2).
كان يتحدث وينظر إليّ بامعان وحدة، وكأ نّه كان يفهم قصدي، وذلك بعد أن سألته قائلاً:
ــ " وهل تكلّم الناس في ذلك، أعني أ نّه هل اعترض عليه آخرون؟ ".
فقال لي:
ــ " نعم! قال زيد بن أرقم: كان لنفر من أصحاب رسول اللّه أبواب شارعة في المسجد، فقال رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم): سدّوا هذه الأبواب إلاّ باب علي، فتكلّم الناس في ذلك! فقام رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم)، فحمد اللّه وأثنى عليه، ثُمّ قال: "أما بعد، فإنّي أُمِرت بسدّ هذه الأبواب إلاّ باب علي، فقال فيه قائلكم (وهنا كنت المح في عينيه نظرات ساكنة، يمكن أن تفي بألف مغزى ومعنى!) وإنّي ما سددت شيئاً ولا فتحته، ولكني أُمِرت بشيء فاتبعته "(3).
وكأني أشعرته بأ نّي ما زلت أطالبه بالمزيد من الأخبار عن هذا الحدث،
____________
1- المستدرك 3: 125، الصواعق المحرقة: 76، مسند أحمد 2: 26.
2- المستدرك 3: 17.
3- مسند أحمد 4: 369.