طريقتهم لتعصب ما ومضادة مع الحكومات القائمة على مرّ الدهور والأعصار؟ ".
ــ " إن تمسك الشيعة بمذهب أهل البيت، لا لتحزب أو تعصب، ولا لطعن في مذاهب المسلمين أو حط من كرامة أحد من أئمة المذاهب، ولكن الأدلة الشرعية أخذت بأعناقهم، لوجوب الأخذ بمذهب أهل البيت لحكم الأدلة القاطعة وتعبداً بسنّة سيد النبيّين (صلى الله عليه وآله وسلم). ولو وجدوا طريقاً للأخذ عن غيرهم لاتبعوه، ولم يتحملوا المحن في سبيل اتباعهم، ولكن لا طريق إلى ذلك بل وجدوا الحق معهم والحق أحق أن يتبع، ولأ نّهم(عليهم السلام) كانوا يمثلون الرسول في خلقه وهديه وورعه وزهده، فهم عدل القرآن متكاتفين معه يمتثلون أوامره ويسارعون إلى تنفيذه، واطلعوا على أسرار أحكامه، ودقائق أطواره والقرآن قد أشاد بفضلهم كثيراً ".
ــ " وكيف كان وقع نشاطات أئمة الشيعة النفسي بين الناس؟ ".
ــ " لقد بذلوا جهدهم في هداية الناس، كما بذلوا لهم النصح ليرشدوهم إلى طرق السعادة، وقد نشروا العلم والعدل، وقاوموا الجهل والظلم، وليس هذا مجرد فرض وانما هو أمر واقع وحقيقة ظاهرة لا يمكن إنكارها، ووجد الناس فيهم أئمة هدى: (لا يخالفون الحق، ولا يختلفون فيه، وهم دعائم الإسلام وولائج الاعتصام، بهم عاد الحق إلى نصابه، وانزاح الباطل عن مقامه، عقلوا الدين عقل وعاية ورعاية لا عقل سماع ورواية، فإنّ رواة العلم كثيرة ورعاته قليل) ".
ــ " وإذن، كان للامتداد الديني أسبابه في النهوض بمثل هذا التعلق الجماهيري؟ ".
ــ " أجل، بالتأكيد! فهم أهل بيت النبوة وموضع الرسالة ومهبط الوحي، لم تسمح الأدلة بمخالفتهم والأخد عن غيرهم. وهم عدل القرآن وسفينة نوح باتباع علم الهداية والرشاد. ولقد قال (صلى الله عليه وآله وسلم): "أنا دار الحكمة وعلي بابها"، وقال: "علي باب علمي، ومبين من بعدي لأمتي ما أرسلت به، حبه إيمان، وبغضه نفاق.." وقال كذلك في حديث زيد بى أبي أوفى: "وأنت أخي ووارثي، قال: وما أرث منك؟ قال (صلى الله عليه وآله وسلم): ما ورث الأنبياء من قبلي ". ونص (صلى الله عليه وآله وسلم)في حديث بريدة على أن وارثه علي بن أبي طالب. وحسبك حديث الدار يوم الانذار، وكان علي يقول في حياة رسول اللّه: "واللّه إنّي لأخوه، ووليه وابن عمه، ووارث علمه، فمن أحق به منّي؟! ".
ــ " هل هذه الكلمة بعين لفظها ثابتة عن علي بن أبي طالب؟ ".
ــ " أجل، إنّها ثابتة! ".
ــ " كيف تثبت إنّها كذلك؟ ".
ــ " أخرجها الحاكم في صفحة 125 من الجزء 3 من المستدرك بالسند الصحيح على شرط البخاري ومسلم، واعترف الذهبي في تلخيصه بذلك ".
ــ " حقاً! ".
ــ " وقيل له مرة: كيف ورثت ابن عمك دون عمك؟ فقال: جمع رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) بني عبد المطلب وهم رهط، كُلّهم يأكل الجذعة، ويشرب الفرق، فصنع لهم مدّاً من طعام، فأكلوا حتّى شبعوا، وبقي الطعام كما هو كأ نّه لم يمس، فقال (صلى الله عليه وآله وسلم): يا بني عبد المطلب إنّي بعثت إليكم خاصّة، وإلى الناس عامة، فأيكم يبايعني على أن يكون أخي، وصاحبي، ووارثي؟ فلم يقم إليه أحد، فقمت إليه وكنت من أصغر القوم. فقال لي: اجلس، ثُمّ قالها ثلاث مرات
كُلّ ذلك أقوم إليه فيقول لي: اجلس حتّى كان في الثالثة، ضرب بيده على يدي، فلذلك ورثت ابن عمي دون عمي "(1).
ــ " وإذن، فكذلك كان قد ورث عليٌّ رسولَ اللّه؟ ".
ــ " استمع إلى هذا، لقد سئل قثم بن العباس فقيل له: كيف ورث عليٌّ رسولَ اللّه دونكم، فقال: لأ نّه كان أولنا به لحوقاً وأشدنا به لزوقاً. قلت: كان الناس يعلمون أنّ وارث رسول اللّه (صلى الله عليه وآله وسلم) إنّما هو علي، دون عمه العباس وغيره من بني هاشم، وكانوا يرسلون ذلك إرسال المسلمات كما ترى، وإنّما كانوا يجهلون السبب في حصر ذلك التراث بعلي وهو ابن عم النبيّ دون العباس، وهو عمه، ودون غيره من بني أعمامه وسائر أرحامه (صلى الله عليه وآله وسلم)، ولذلك سألوا علياً تارة، وقثماً أُخرى، فأجابهم بما سمعت ".
ــ " وعليه فثمة جواب آخر، أو إجابات أُخرى غير هذه؟! ".
ــ " ولقد كان ذلك كُلّه غاية ما تصل إليه مدارك أولئك السائلين، وإلاّ فالجواب: إن اللّه عزّ وجلّ اطلع إلى أهل الأرض فاختار منهم محمّداً فجعله نبياً، ثُمّ اطلع ثانية فاختار علياً فأوحى إلى نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم): أن يتّخذه وارثاً ووصياً، قال الحاكم(2) ـ بعد أن أخرج عن قثم ما سمعته ـ: حدثني قاضي القضاة أبو الحسن محمّد بن صالح الهاشمي قال: سمعت أبا عمر القاضي، يقول: سمعت إسماعيل بن إسحاق القاضي يقول: وقد ذكر له قول قثم هذا ".
____________
1- الضياء المقدسي في المختارة، وابن جرير في تهذيب الآثار، كنزل العمال 6: 408 ح6155، الخصائص للنسائي: 18، شرح نهج البلاغة لابن أبي الحديد 3: 255، مسند أحمد 1: 159.
2- المستدرك 3: 125.
ــ " فما الذي قاله؟! ".
ــ ".. فقال: إنّما يرث الوارث بالنسب، أو بالولاء، ولا خلاف بين أهل العلم أنّ ابن العم لا يرث مع العم (قال) فقد ظهر بهذا الاجماع أن علياً ورث العلم من النبيّ دونهم ".
ــ "؟! ".
ــ " والأخبار في هذا متواترة، ولا سيما من طريق العترة الطاهرة، وحسبك الوصية ونصوصها الجلية! ".
الفصل التاسع عشر
أئمة المذاهب ما بين المرجعية والخلافة
كنت أذكر كافة أفراد عائلتي وأصدقائي ومن معي ومن غاب عني.. وكافة أقاربي.. ومن كان معي في الجامعة.. لقد ابتغيت الولوج إلى ساحة التحدي واتخاذ القرار، لكن الخوف صارعني، ومالأتني أيامه النكدة حتّى جعلت أنواع التحديات لا تألف سوى مناهضتي والالتحام في صفوف غريبة ورهيبة كيما تقفو أثاري وتمنعني من أيّما تحرك أخاله مثبتاً لأ نّها خالته غير ذلك.. فصارت ألوان احداق كُلّ من أعرفهم تناشدني كُلّ مراحل التأمل وعدم التسرع، وهم الذين صاروا يتفرسون في مطالع رؤياي، وكأنما جعلت تنبئهم بأصوات هلعة، ومستقبل خارق للعادة مع أ نّه لم أكن لأشعر أنا بأي من هذا، وأنا الذي صرت أحس بكُلّ ما يزيدني هماً وخوفاً من اتخاذ أيّما خطوة أو الإقدام على أيّما حركة دون تحسب بأسبابها، أو تحرٍّ لمجرياتها وتنقيب من آثارها المستقبلية، فلا استشيع وأعود بعدها إلى مذهبي، ولا اظل هكذا متسنناً، وأنا لا ارتضي بمذهبي قلما يتسلط على وقع نبضاتي راصداً شطآن دخائلي، كيف يغدو عليها الموج بمده وجزره ويروح.. إنّما كنت أريد وبنفسي أن أفحص الأُمور، وانقّب عن الذهب والفضة، واكشف جزائر اللؤلؤ والمرجان، كيما لا أكون بآلاء ربي كاذباً حتّى يسائلني: فبأي الاء ربك تكذب يا هذا، كما أردت أن أطوي كشحاً عن التفكير بأي عالم من علماء
مذهبي الذين لا أتشرف بلقياهم الآن البتة، طلبت من اللّه النصرة، وعزمت على أن اقرأ لوحدي وبنفسي، فأنا العالم وأنا القارئ، وأنا الباحث، دون الحاجة إلى إرشاد الآخرين. فلا أنتظر الموت يأتيني تزورني رحائله، وأنا لم أرس بسنين، ولم ألق بمرساتها إلى ضفاف السواحل المغرقة بالنعاس والمثقلة بأحلام البحارة القدماء.. مبرراً مثل هذا، ومعللا أنفاسي باعذار هي أوهن من خاتمتها وهي أ نّه يجب أن القى علماء مذهبي وأسألهم لأنّ اللّه أمرني: {فاسألوا أهل الذكر ان كنتم لا تعلمون}.. فمع أنّ هذا الحال هو لا يعدو الأمر الإلهي إلاّ أن لكُلّ حالة شرط وشروط، ولكُلّ مقام مقال.
فما كان هذا كُلّه، إلاّ ليستاق رحى أيامي نحو قطر سام، كيما أغرزه في وقعة تبيح لي أن استرق الفرص الغنيمة، كيما أسأل أهل الذكر من فوهات عيون الكتب وأُمهات المجلدات والمعاجم، لاصير بعدها إلى سؤال القلب الأمُ الذي وضعه اللّه إماماً على سائر جوارحي.. حيث ما زالت عالقة في بالي هذه الرواية التي ظللت أتأمل عندها عشرات المرات، وأنا أسائل الفؤاد علّني أبصر ما لا يبصره ملايين الناس من هؤلاء البشر.. فما كان لينتابني أيّما ذعر لاستشياع الآخرين من أصحابي أو بقاء العديدين على مذهبهم. إذ خلت أن المجد لا يزحزح طود نصبه، ولا يهزهز عروش أركانه إلاّ فيحاء الرقيّاء وميساء الافاحي والعوذات التي لا يختلس مهلة النهوض بها إلاّ قلب شرح اللّه صدره للإسلام. فما يضير بالمرء أن يتعرف على ما لدى الشيعة، ويدرس ما يجده عندهم،، ويطلع على عقائدهم وتعاليمهم. وبذلك سيتم له أن يدرس قواعد وأُسس دينه هو الآخر، كالذي جعل يحيط عربته التي تقلّه بكُلّ مراقبات النظر والفحص بعجلاتها وماكنتها ومحركها، وتفقد زيتها ونفطها
وماءها وأقسام دائرتها الكهربائية، كيما يطمئن إلى أ نّه ليصل دائماً ومن دون أن تعترضه أيّما عوائق، أو أخطار يمكن أن يسبّبها له عدم اذعانه لمثل هذه التفاصيل من نوبات أعمال الادامة.. أو كمن جعل يتفقد حال بنائه الجديد، أو حال عمارته القديمة، ليكون على اطلاع بكُلّ أسباب دوامها وتلافي حصول ايما انهيار يأتي على أدوارها وطبقاتها.. أو كحال ربِّ العائلة الذي عمد الى تفقد أحوال أفراد أُسرته من الصغير إلى الكبير، ويسبر غور تطلعاتهم، وما يحتاجون إليه، ومع من يختلطون؟ وأيٌّ هو الذي يعاشرون، أو يستقبلون في منزله، إبّان غيابه، وفي أثناء عدم وجوده، وهكذا.
أو كحال أيّما رجل أعمال في أيّما ظرف جعل يراجع جداول أعماله واوراقه الحسابية والمصرفية، أو طالب علم جعل يتحسس مستوياته العلمية، وكتبه ومناهجه حتّى طفق يراجع مواد دروسه، ويعد لاجتياز امتحاناته النهائية وغيرها.. فلم لا أفعل مثل ذلك، وقد تاق الزمان إلى أن يكحل عيناي برضاه، علّني أوفق إلى كسب نياشين النصر على نفسي، كيفما أتفق اليّ حال الدنيا وأمر الزمان.. ذلك انّي قد أدّيت الذي كان علي واجباً أداؤه، فلو ساءلني أحد الملكين في عالم البرزخ، من إمامك؟ وما دليلك عليه؟ كان لي. بعدها أن أخبره إلى ما توصل إليه عقلي، وسعى إليه فكري الإيماني، واسترسل معه بالحديث حتّى أقضي به إلى طرائق أبحاثي، وضروب معالجاتي لكُلّ من هذه المشكلات العقلية والآفات الذهنية، واطلعه على كيفية تحليقاتي المتينة، وكيف كان لي أن أنشب مخالب نزعاتي الذهبية لأكلّلها بغرزاتها الفضية، وهي تستكشف ظلم الأيام، وتستنكف عن المضي دون رفع الهام، كمن مد بعنقه إلى ما تحت سحائب من أعناق أغصان تبلدت
فوق رأسه.. فايّنما أدار رأسه، اضطرته إلى أن ينكس برأسه، ويجنح بعنقه نحو الاذعان، ويخضع دونما أن يتبين في أثيث هذه الأجنحة المورقة أيّما طريق، ليس ذلك يعنون بسبب افتقاده لمثله، إنّما افتقاده لقدرته على التصميم، واتخاذ القرار باحتفار المجهول، واخترام البعيد من زوايا الرؤيا، كيما ينبجس له ضياء، يعكس له سبلى ظليلة! وليست عسوفة أو خفيضة حتّى يروم لها طريقاً، كيما يمتحن اقصاءها، ويرجو ضفاف تخومها حتّى ولو ما كان لنجمه أن يورق بأيما لوح بشارة يمكن ان يغرقه بظلال تسابيح مشرقة، يؤمله أن يغذو السير في اتجاهه، ويغريه بالنفوذ إلى باحة سلطانه، كيما يلتمس الامساك بحبات العنقود والتطاول على معدنه في عليائه.. فإنّه ليس للإنسان إلاّ ما سعى، وأن سعيه سوف يرى! ذلك أن الأمر كان قد صدر: { وَقُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ وَالْمُؤْمِنُونَ }، وما أبرئ أيّما نفس مذهب، القيام بمهام هذا الواجب، وهو الفحص عن حقيقة الدين، واستجلاء معالمه، والتحقق من صحة الاعتقاد الذي قوّم بنيانه عليه، كلٌّ من أبيه وأمه، فهوّدانه أو مجسّانه أو نصرّانه أو جعلاه مسلماً حنفياً، أو شيعياً، أو حتّى غيره.. فالكُلّ عليهم أن ينهضوا لملء جرابهم من غدير لا ينضب معينه أبداً، ولا يفيض ماء جبّه قط! ليسأل اللّه الصادقين عن صدقهم ويعدّ لهم جنّة عرضها السماوات والأرض أعدت للمتقين، ذلك أن الهدف هو اللّه، فمن ارتضاه اللّه، وجب على البشري الخليق به مثل هذه اللفحة أن يختاره، ولا يكتفي بما اختاره له أبوه وأُمه، وقع عليه اختيار الأُم، حتّى لو كثر أفرادها وتعددت فرقها، وهي تلهج بقول يتيم، وتعلن عن وحدة قولها. لأ نّي وجدت أن اللّه كان قد ذم الكثرة في مواطن في قرانه، ربما غدت بعدد المواطن الكثيرة التي نصر اللّه بها
الإسلام عبر معاركه.. حتّى غرّت المؤمنين كثرتهم، وجعلتهم يتراجعون القهقرى، ويفرون من لقاء الأعداء ومواجهة المشركين.. وما كان أكثرهم مؤمنين، وأن تطع أكثر مَن في الأرض يضلونك عن سبيل اللّه، وكم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة باذن اللّه.. هذا إن أبحنا لأنفسنا أن نفكر بمطلق العقل السليم وطلاقة سبيل الاعتقاد الحكيم، ولا تنظر إلى الشيعة على أ نّهم شرذمة قليلة، فلو القى عليهم أسورة من ذهب أو جاؤوا إلينا بالملائكة، فما كان الرسول إلاّ فرداً لم يكن لينصره، وفي بادئ دعوته الفئة القليلة. وما كان لنا أن نستهين بعقيدة أُخر حتّى تنجلي عبرة الخوف عن الانتماء إلى عقيدتنا نفسها التي لا نحمل عنها أيّما تصور حقيقي. إذ ما كان لنا أن ننظر إليها، ولا في يوم من الأيام بعين التمحيص، ولا كان لنا من الوقت ـ وحسب انشغالاتنا واعتقاداتنا الدنيوية ـ الذي نضيعه في بحث صحة اعتقاداتنا، ومراجعة كتب الصحاح، ومجلدات التاريخ والتفسير، وجمهرة الكتب المؤلفة والغور في أرجاء بطونها، وسبر ملامحها الأصلية وأعماقها الغئمة حتّى كأنه حرّم على أيما أحد منا أن يدخل في غمارها، ويدرس أحوال أوطانها، ويقتحم أقطارها، ويمشّط مناحيها. فلو فعل أحدنا مثل ذلك، لتوقع أن يوصل بالعار، ويحلق رأسه، ويُطاف به في الأسواق، ويعلن عنه كفرد ظل الطريق، وأساء القصد، وأراد الإقلاع عن دين المعبود، وتصحيح التاريخ، وسلب الزمان هويته، وانتهاك حرمة الصحابة.. ومن هم الصحابة والتابعين سوى أُناس مثلنا، فليسوا هم بالمعصومين.. كانوا قد تعرضوا إلى اختبار الإله، وفتنة إبليس أكثر منّا، لأ نّهم عاشروا الرسول، ورافقوا الأصحاب، وتابعوا المتأخرين منهم حتّى غدا أيّما خطأ أو تقصير يبدر منهم يحتمل الأكثر
والاعظم من العقاب والجزء من قبل الخالق القهار، ذلك أن الحجة كانت قد القيت عليهم بأعظم مما القيت علينا، ونحن الذين نأينا في عباب الزمان، وابتعدنا عن عقارب أيامه حتّى شطّت بنا المساحات، وصرنا نؤمن بالرسول والأئمة والأصحاب غيبياً، ومن دون أن نراهم ونقر بالدين ووجود الخالق حتّى آمنّا بالقرآن المنزل من دون أن نبصر للمعاجز مقالة وللوحي رسماً مع أن معجزة الواحد هي القادمة بين أيديناً، يتحفنا باريج عبيرها واوج عروجها، بين الفينة والأُخرى، إلاّ وهي جلالات القرآن وضياء كتابه الحكيم.
اعترتني غربة قاسية، غافلني سحابها، وهو لا يزال يتطاول فوق هضاب أنفاسي التي جعلت تعلو وتنخفض كُلّما استرسلت في التفكير بغربتي، وآلمني نبض الفراق والوحدة.. غير أنّي جعلت أعوّد النفس وأُعلل القلب بضرورة مباغتة الفرص نفسها، واستباقها واقتناص أيامها، ومن قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلال.. وما كنت لأطيق اقناع نفسي وبهذه السرعة، وأن أحاول ارغامها على الدخول مدخلا حسناً، وذلك أنّي كنت أدرك أن هذا التفكير المفرط والمرهف سوف لا يحمّلني سوى وباله الأليم، وسوف لا يجر عليّ سوى ارهاق تلو الارهاق، ولاكثر من ذي قبل حتّى ساصير أحتمل رزئه ومن دون أيّما طائل، وانوء تحت غيظ سيوفه ومن دون أيّما مبرر، إذ ريثما أهدأ إلى ليوث عريني القابعة في وجار نفسي وعتيق دخائلي، سيكون بمقدوري عندها أن أحرر النفس من عناق شبِق، طالما غشيتني به لواعجها الغنية بالبذخ والترف.. فأصبحت أغمرها بسيل من التطويقات رغماً عنها.. وكيفما حال الزمان بالمرء إلى اتجاه، عقل إنّه أنفس وارفع، لأنّ أفضل الأعمال كان هو ما اكرهت النفس عليه، وذلك حسب ما يعنيه قول سول العزة
محمّد بن عبد اللّه، مما له أن يندرج في سيل الطاعات، ولا ينجرف نحو مشارف المعاصي وحافات الهاوية.. حيث إن حالي جعل يصرح لي بعيون وجلة، كُلّ ما كان للوحي الروحي ان ينطق به ويقوله، ويحدث به،.. وأنا الذي ما زلت أُحاول تسلق جبل عاتي، لكيما يتسنى لي معرفة آمالي بحق، وحقيقة! أهو أبو بكر؟ أم علي؟ أم كلاهما! أم الخلفاء الراشدون أجمع؟ وهل أن الأصح هو اتباع أبي حنيفة، أو الشافعي أو ابن حنبل أو مالك، أم جعفر الصادق؟!.. وإن أخترت أحدهم، فما الذي سيصير إليه مصير تلك الأزمنة التي حكمتها البلاد، وفي عهود كلٌّ من حكام بني أمية وبني العباس؟! أيمكن أن يكونوا على حق؟ ولِمَ لم يأتِ أبو حنيفة في زمان أبي بكر، ولو فعل، ما كان ليقوله له أبو بكر نفسه؟ وهل كان الزمان الذي سبق وجود الأئمة خلواً من التقليد؟ ولو كان لأحدهم أن يعتريني بفصيح القول إن الخلفاء كانوا يعوضون عنهم، فهل أن معاوية بن أبي سفيان، كان قد أعرض عنهم حين حكمه هو الآخر، وهو الذي جعل حكومته قيصرية يورّثها أولاده بعد أن يغير على حدود العراق، ويقتل الاطفال، ويسبي النساء، ويهتك حرمات المسلمين.. ويغزو كما كان يغزو أبوه وأجداده من قبل في أيام الجاهلية، فيذر البقاع عاليها سافلها، ويدع المضارب بلقعاً قفراً من سكانها، هشيماً تذروه الرياح حتّى إذا ما استتب الحكم لولده يزيد، جعل الأخير يتمرن على كيفية حصاد الرؤوس البشرية، وفري الاوداج، وحز أعناق كُلّ فلذة وفلذة لكبد رسول اللّه التي ما ذلّ العالمين لحكمه إلاّ عن طريق إيمانهم بما جاء به!
ولما كان الزمان في عصور بني أمية، يخلو من أئمة المذاهب هؤلاء.. حتّى إذا ما أتى حكم العباسيين، جعل الدهر يفصح عن حاجته إلى أئمة.. ينشغل
الناس بتقليدهم.. فمن كانوا يقلدون هؤلاء ومِن قبل يا ترى؟.. وهل يعد تعبّد الناس الذين سبقت أزمنتهم أزمنة أئمة المذاهب الأربعة (فيما لو اعتقدنا بأنّ عدم تقليد أحد هؤلاء الأئمة غير جائز) لم يكن سليماً، أو لم يكن صحيحاً.. إن قلت لاصحابي إنّ الناس كانوا قد اكتفوا بمن كان موجوداً في عهد الخلفاء الراشدين، فهل كان لهم أن يعينوا لنا بمن اكتفوا.. وهل كان لهم ان يشخصوا لنا لِمَ لم يستمر مثل هذا الاكتفاء.. فإن انتفى فيما بعد، فما كان له إلاّ أن ينتفي فيما سبق.. لأنّ لمثل ذلك أن يطلق عليه قاعدة لا تقبل التوالي ولا التواصل.. غير أن الإسلام ما كان ليقبل إلاّالتواصل وعلى المدى وإلاّ لساخت الأرض بمن فيها.. لأ نّه لو خليت لقلبت! وهل كان للبشرية المسلمة أن تكتفي كذلك في عهد الأمويين..، وإن عبرنا عن ذلك بالاثبات، فمن كان هؤلاء الذين يكتفي بهم البشر آنذاك؟! كذلك، ما كان لينفي هذا الاثبات إلاّ كُلّ حادث كان له أن يحصل ويستجد في العصور العباسية مما له أن يمثل عدم الاكتفاء.. مع أن خطوط هذا الآخير وحسب ما يمكن أن يعنيها من يعتقد بها كان لها أن تتواصل،.. فلماذا يعرض عنها الخلفاء العباسيون وينشدون سياسة إحداث فقهاء جدد؟! وصناعة علماء لم يسمع بهم أحد من قبل؟ وإن عبرنا عن ضرورة احتياجات الناس الملحّة وذلك لتعاظم ظروف الزمان، واختلاط الدهور، وانبساط المستحدثات من المسائل وكثرة الفتوحات وحاجة الأمصار والأعمال الجديدة إلى تدوين لقوانين الشرع وأحوال الدين، كيما يتبصر بها ذوي النهى والحجى، ويعقلها أصحاب الأذهان، ويفهم ظاهرها عوام الناس وعموم البشر والعباد من خلق الرحمن.. فكان لي أن أتساءل عندها، فهل كان الناس ومن قبل يتعبدون ومن دون تقليد، وإن كانوا يقلدون
الرسول، فما كان الرسول إلاّ الحاكم الشرعي.. والخليفة العام المتسلط على شؤون الدولة الإسلامية، وإذا سلمنا بشرعية الخلافة الإسلامية، فما كان المرجع آنذاك إلاّ الخليفة.. لكنا نلحظ بأن الخليفة ما كان يمثل المرجعية آنذاك.. لأنّ الخليفة أبو بكر والخليفة الثاني عمر بن الخطاب ما كانا ليعبرا عن نفسيهما بذلك حتّى كان للآخير أن يعبر عن حاجته إلى مرجع.. وما كان هذا إلاّ علياً.. فقال: لولا علي لهلك عمر! إن هذه المسألة تحتاج إلى توقف عظيم، لأنّ الخليفة الحق يجب أن يلم بمسائل السياسة والدين جامعة.
ولي أن اتساءل ثانية: فهل كان الفتح العباسي يفرض صنع أئمة يتعبد الناس طبقاً لفتاويهم؟ وهل أن الفتح الأموي ما كان يستلزم صنع مثل هؤلاء؟! وهل كان الاختلاف يدعو إلى التعبد على فقه إمام من هؤلاء الأئمة الأربعة دون آخر؟ وكيف استدعى ظهور الشافعي وأبي حنيفة، وبروز المالكي والحنبلي دون غيرهم من أصحاب المذاهب؟ ولماذا كان ثمة اختلاف بين هؤلاء الأربعة، ان كان لهم أن ينهلوا من دين واحد؟ وإن رفع هذا الاختلاف، فما كان ثمة من داع يبرر الانتقال من مذهب إلى آخر، في داخل نطاق هؤلاء الأربعة.. وإن لم يرفع مثل هذا الاختلاف، فإنّه يمكن أن ينتزع نوع تبرير هو أصعب من كُلّ ما يمكن تصوره، وهو أ نّه ما كان مثل هؤلاء إلاّ مجتهدين.. وعليه، فلماذا لا ينضم اليهم جعفر الصادق، وهو الأولى، لأ نّه ابن رسول اللّه، وعليه، فما كان تقدمّه وتؤخره إلاّ السياسة، لأ نّه ما كان ليركن إلى أصحابها قط (حتّى ولو كان لأصحاب المذاهب من له أن لا يركن إلى السياسة في بعض الأحيان، فإنّهم لربما كانوا ورقة ممتازة أحسن العباسيون توظيفها ضد الشيعة والاستفادة منها لتمشية أُمورهم ودحر مناوئيهم) وليس للمعايير الكونية
والدينية دخل في ذلك.. وإلاّ لكان لجعفر الصادق أن يكون هو الآخر أولهم وليس خامسهم لأن أبا حنيفة كان تلميذه! ولم يتتلمذ جعفر على يدي أي منهم بل هم الذين تتلمذوا على يديه، وإن لم يتتلمذ الشافعي على يديه مباشرة، فقد تتلمذ على يدي أحد تلامذته! وإن كان الشافعي نفسه مثلاً، قد سار على نهج من سبقه من الفقهاء، فما كان لنا أن نعتبر له فقهاً مستقلاً، وإن خالفهم، فما هو وجه الخلاف؟ وإن رضينا بذلك، نعم لا نقبل بامتداد خطوط الفقه حتّى صرنا نقف عند حدود هؤلاء الفقهاء الأربعة، وإن تعذر على البعض اكتشاف ذلك حينما صار لا يكفّ الآخرون عن الاهتمام به، وهم لا يفتأون يلقمون فمه الاعذار تلو الأُخرى، وهي أ نّه قد ظهر فقهاء آخرون، ونبغ كثير غيرهم، سواء في أزمنة هؤلاء الفقهاء الأربعة أنفسهم، أو قبلهم أو حتّى بعدهم، إلاّ أ نّهم لم يلقوا أذناً صاغية بمثلما لقيها هؤلاء الأربعة.. وإذن، فان السؤال سوف يتهدد أعناق هؤلاء، فأيما أُذن صاغية لكان لهم أن يلقوها، وهم الذين ما كانت لتختلف انتماءاتهم أو مقادير علومهم، بل تباينت ألوان قدراتهم، وتناؤءت لديهم بعض النظرات العلمية وتصادمت بعض آرؤاهم الفقهية مع البعض الآخر؟! لذا، فهل كانت السلطات وراء ذلك، وهي التي ما كانت لتترجم سوى معاني الحنق العباسي، ومقادير الحذقة والدهاء اللذين كان ينغمس في اطارهما البلاط العباسي نفسه، ذلك أ نّه وجد نفسه في صراع عظيم مع فقه الشيعة حتّى جعل يكيل له الضربات تلو الأُخرى، حيث صرت إلى مطالعة ما وجدته ثابتاً في المصادر المعتبرة والموثقة لديّ كذلك.