الصفحة 358
ضالتهم والصواب وجهتهم ".

وعندها قال مازن:

ــ " إنّها كلمات حول الإجتهاد، فهل يمكنك أن تدلنا على كلمات حول التقليد؟ ".

فقلت:

ــ " أما الذين يحاولون الجمود ويلتزمون بالتقليد فإنّهم عجزوا عن الوصول إلى رتبة الاجتهاد واقتنعوا بعناية السلطان على ما هم فيه من النقص، فلا يروق لهم بلوغ أحد رتبة الاجتهاد، ونسبوا مدعيه إلى الجنون كما ذهب إليه الشيخ داوود النقشبندي في كتابه أشد الجهاد حيث يرى أن مدعي الاجتهاد ضال مبتدع ".

استبشر مازن، وانقلبت سيماء وجهه إلى ضياء.. بينما استروح نبيل ما قلته حتّى ودعتهما يستمعان إلى الثانية، وأنا أقول:

ــ " ويقول الشيخ أحمد بن عبد الرحيم في تقسيم طبقات المجتهدين: الطبقة الثالثة: من نشأ من المسلمين من رأس المئة الرابعة ويجب على العامي تقليد المجتهد المنتسب لا غير، أي لأحد المذاهب الأربعة لامتناع وجود المستقل من هذا التاريخ حتّى اليوم، ثُمّ أورد على نفسه وأجاب، وأهم شيء يعتمد عليه في أدلته، قوله: إنّه اجتمعت الأمة على أن يعتمدوا على السلف في معرفة الشريعة فلا بدّ لنا من الرجوع إليهم، ولا يرجع إلاّ إلى المروي عن السلف بسند صحيح مدون في الكتب المشهورة، مع بيان الأرجح من دلالتها، وتخصيص عمومها أو تقييدها والجمع بين مختلفاتها، ولا توجد هذه الخصوصيات إلاّ في المذاهب الأربعة، وليس مذهب بهذه الصفة إلاّ الإمامية،

الصفحة 359
والزيدية وهم أهل البدعة ".

فقال نبيل:

ــ " من تكلم أو فاه بهذا؟ ".

فقلت له:

ــ " قلت لك إنّه الشيخ احمد بن عبد الرحيم ".

ــ " أقصد، أين وردت مقالته هذه، في أي كتاب جاء ذكرها؟ ".

ــ " في رسالة الإنصاف للدهلوي، ص 7 ".

وعندها طلعتُ عليهم بما شعرت بضرورة اتحافهما به، فقلت لهما:

ــ " إنه لا يجوز الاعتماد على أقاويل هذين ".

ــ " ولماذا؟ ".

نطق كلاهما بهذه الكلمة معاً.. وفي وقت واحد، لم أصدق ما رأيت، حتّى تابعت كلامي وأنا استشعر أن المسألة قد أصبحت مسألة عناد لا أكثر والتحمس للجانب مهما بلغ عليه من خطأ.. والتسليم لأي مدافع ومهما كانت هويته، لأ نّه كان قد أنضم إليهما للدفاع عما يعتقدان به، لا أكثر! في حين رجعت اليهما، فقلت لهما، وذلك من بعد أن رأيتهما قد اعتصما بالهدوء وبالرغم منهما، وذلك بعد أن لم يلقيا أيّما أُذن صاغية من عندي، أو من بعد أن تَعِبا ولم يلفيا مني أيّما ردود فعل تثير اهتمامهما:

ــ " هذا أهم ما عند الأخوة من أهل السنة من الأدلة. وذهب بعضهم الى القول بعصمة الأئمة الأربعة، مستدلاً بعصمة النّبي، وهم ورثته! فهم معصومون من الخطأ، وإذا كانوا كذلك فيجب الرجوع اليهم وحسب! ".

ــ "؟! ".


الصفحة 360
ــ " ولا حاجة بنا إلى اطالة نقل أقوال المانعين لملكة الاجتهاد لعلماء الأُمّة بعد المذاهب الأربعة، لأ نّها حجج لقضية تبتنى على عدم لياقة أي أحد بعدهم لهذه الرتبة، وإن مدعيها ضالّ مضل ".

ــ " مدعي ماذا؟ ".

قال مازن، أجبته:

ــ " مدعي ملكة الاجتهاد (وحسب ما يدعون):.. وإن مدعيها ضالّ مضل بل ممن يريد في الأرض الفساد، ويجب إقامة الحد عليه، ومن أدعى من الأُمّة تلك المنزلة أو كانت له لياقة استنباط الأحكام الشرعية شنعوا عليه، ورموه بالنكير. فهذا العلامة جلال الدين السيوطي أدعى رتبة الاجتهاد المطلق قام عليه علماء عصره فرموه بالنكير، ووقعوا فيه، وكذلك أنكروا على كُلّ من أدعى ذلك ".

ــ "؟! ".

ــ " والواقع أن في القرون المتأخرة رجالاً برهنوا بمؤلفاتهم على تلك الملكة التي أدعي استحالتها عليهم، حتّى فضلوا بعضهم على رؤساء المذاهب. فهذا أبو حامد أحمد بن محمّد الاسفراييني فضّلوه على الشافعي ".

قاطعني نبيل متسائلاً وبدهش مريب:

ــ " فضّلوه على الشافعي؟ ".

ــ " أجل! وكثير منهم كانوا بمنزلة من العلم لا يستبعد اتصافهم بتلك الملكة ".

ــ " مثل من؟ ".

سألني مازن، فقلت له:


الصفحة 361
ــ " كالشيخ عبد العزيز بن سلام المتوفى سنة 578 هـ، والشيخ عبد الكريم بن محمّد بن عبد الكريم بن الفضل بن الحسن القزويني المتوفي سنة 623 هـ، واسماعيل بن عبد الرحمن الصابوني المتوفى سنة 449 هـ، ومحمّد بن اسحاق صدرالدين القوني المتوفى سنة 673 هـ وإبراهيم بن محمّد بن إبراهيم الاسفراييني المتوفى سنة 418 هـ ".

في حين استطردت في حديثي، وأنا أقول:

ــ " وناهيك ما للقفال، وإمام الحرمين الجويني، والصيدلاني، والسبخي السرخسي، والجصاص، من منزلة في العلم وموهبة في استنباط الأحكام ".

ــ " ولماذا لم تصلنا فتاواهم مثلما وصلت الينا فتاوى الأئمة الأربعة؟ ".

لأ نّهم كانوا قد أُلجموا من قبل العامة الذين رأوا ادعاء الاجتهاد ضلالة، بل يتلبس مدعيها بتهمة التشيع لأنهم يقولون بذلك ".

فسأل مازن:

ــ " أقول: أين عثرت على كُلّ هذه الأخبار؟ ".

ــ " إنها في كتاب: أشد الجهاد لمدعي الاجتهاد، ص 25 ".

واستدركت الكلام، وأنا أقول:

ــ " وكان أبو الحسن الداركي أحد المجتهدين في عصره إذا سئل عن فتوى يجيب بعد تفكر، فربما كانت فتواه مخالفة لمذهب الشافعي وأبي حنيفة فينكرون عليه ذلك، فيقول: ويلكم روى فلان عن فلان عن رسول اللّه كذا وكذا، فالأخذ به أولى من الأخذ بمذهب الشافعي ومخالفتهما أسهل من مخالفة الحديث ".


الصفحة 362
ــ "؟! ".

ــ " ولقد لقي بقي بن مخلد من الأذى وشدة الانكار لدعوى الاجتهاد ما جعله مهجور الفناء، مهتضم الجانب، وكثير من أمثاله، كابن تيمية وابن قيم الجوزية وغيرهم ".

ــ "؟! ".

ــ " ولست أدري ما هذه الاستحالة وعدم الامكان من حصول درجة الاجتهاد والحكم على الرجال بالقصور والنقص وحصر الكمال في عدد معين بدون دليل؟ ونرى من الخير تعريف الاجتهاد والتقليد عندهم إجمالاً لنعرف مدى تحجير الأفكار ووقوف العقل عن إدراك ذلك ".

بينما قال مازن:

ــ " هل يمكنك أن تحدثنا عن الاجتهاد غير ما كنت قد حدثتنا به: ".

ــ " الاجتهاد لغة: هو بذل الوسع في ما فيه كلفة، مأخوذ ـ كما نقل ابن أبي زرعة عن الماوردي ـ من جهاد النفس وكدها في طلب المراد، وفي الاصطلاح على ما في جمع الجوامع: استفراغ الفقيه الوسع لتحصيل ظن بحكم ".

ــ " والفقيه والمجتهد؟ ".

سأل نبيل، فأجبته:

ــ " والفقيه والمجتهد لفظان مترادفان وهو البالغ العاقل، أي ذو ملكة يدرك بها العلوم وهذه الملكة العقل ".

فقال مازن:

ــ " هل يمكن أن تستشهد بالكلام؟ ".


الصفحة 363
ــ " قال أبو اسحاق: ومن كان موصوفاً بالبلادة والعجز عن التصرف فليس من أهل الاجتهاد، وفي انكاره للقياس خلاف، وأن يكون عارفاً بالدليل العقلي وهو البراءة الأصلية، وأن يكون عارفاً بلغة العرب وبالعربية وعلم النحو اعراباً وتصريفاً، وبأصول الفقه ليقوى على معرفة الأدلة وكيفية الإستنباط وبالبلاغة ليتمكن من الإستنباط بحيث يميز العبارة الصحيحة من الفاسدة. وأن يكون عارفاً بالكتاب والسنة ولا يعتبر العلم بجميعها ولا حفظها ".

ــ " وغيره؟ ".

ــ " قال العلامة السبكي: المجتهد من هذه العلوم من له ملكة واحاطة بمعظم قواعد الشرع، ومارسها بحيث اكتسب قوة يفهم بها مقصود الشارع، ويعتبر على ما قيل كونه خبيراً بمواقع الاجتماع كيلا يحرفه، والناسخ والمنسوخ وأسباب النزول وشرط المتواتر والآحاد، والصحيح الضعيف، وحال المرويات وسير الصحابة، ولا يشترط فيه الكلام، وتفاريع الفقه، والذكورة والحرية، وكذا العدالة على الأصح ".

فعدت إلى كلامي وأنا أرى إلى كُلّ من مازن ونبيل، وقد سيطر عليهما الذهول من ضعف الاطلاع، وقلة الباع، وهزل البصيرة، وعدم العلم بما يبحثان عنه دقيقاً.. أو يعاندان من أجله، فقلت مستدركاً:

ــ " هذه هي شروط المجتهد عند أهل السنة، وأنتما لو نظرتما إلى الواقع، لم تجداه سبباً لمنعه من أجل قصور عن إدراكه لمن أراده، وكم من العلماء من عرفنا عنه تمام المعرفة لهذه العلوم وزيادة، ولكن المانع شيء آخر! ".

فقال نبيل:


الصفحة 364
ــ " والتقليد؟ ".

ــ " والتقليد: هو أخذ قول الغير من غير معرفة دليله، قال ابن أبي زرعة في شرح الجوامع: وقد اختلف العلماء في تقليد المفضول من المجتهدين مع التمكن من تقليد الفاضل على مذاهب، أحدها وهو المشهور: جوازه، وقد كانوا يسألون الصحابة مع وجود أفاضلهم ".

ــ " والثاني؟ ".

ــ " والثاني: منعه، وبه قال الإمام أحمد وابن سريح، وأختاره القاضي حسين وغيره، والثالث: يجوز لمن يعتقده فاضلاً، أو مساوياً لغيره فإنّ اعتقده دون غيره امتنع استفتاؤه ".

بينما مضيت بالقول:

ــ " وكذا اختلفوا في تجويز تقليد الميت على أقوال:.

ــ " أحدها ".

ــ " أما أحدها، فهو: جوازه ".

ــ " ومن قال به؟ ".

ــ " وبه قال الجمهور، وعبر عنه الشافعي بقوله: المذاهب لا تموت بموت أربابها ".

ــ " والثاني؟ ".

ــ " والثاني، هو: منعه، أي منع تقليد الميت مطلقاً ".

ــ " وإلى من عُزِي هذا القول؟ ".

ــ " عزاه الإمام الغزالي لاجماع الاصوليين واختاره الامام فخر الدين ــ" والثالث؟ ".


الصفحة 365
ــ " وهو الأخير: يجوز مع فقد حي ولا يجوز مع وجوده ".

ثُمّ اطنبت في الكلام، وقلت:

ــ " وقال الشيخ محيي الدين في الباب الثامن والثمانين من الفتوحات المكية: والتقليد في دين اللّه لا يجوز عندنا لا تقليد حي ولا ميت، انتهى. فتدبر. وقال ابن عابدين الشامي: إنّه يجوز تقليد المفضول مع وجود الأفضل وبه قالت الحنيفة والمالكية والشافعية وأكثر الحنابلة، وعن أحمد وطائفة كثيرة من الفقهاء: لا يجوز ".


الصفحة 366

الفصل السابع والعشرون
الخلفاء في الميزان: عدم التعبّد بالنصوص الصريحة


كنت أفكر: هذا هو الحق! وهو أتباع كُلّ ما ينصّ عليه الكتاب والسنة، ويؤكد عليه العقل والاجماع، ويدلل عليه العرف والفطرة ليس إلاّ، وتنسج فحوى براهينه أدلة ثابتة ليس هناك إلى إبطالها أيّما طريق.. والأكثر من هذا كله، فإنّي أنا الآخر صرت لا أدري ما أفعل، أجدني مرة كذلك استفز نفسي، وأجدني أُخرى أميل إلى أفكار الشيعة، لأ نّها كثيراً ما تناسب لون تفكيري وطبيعة تصوري عن الأشياء! وفي لحظات أُخرى، يصارعني الحنين إلى مذهبي وإلى تعاليمه، وإلى طبيعة مناسكه، وأتذكر وكأني وما زلت أذكر صلاة التراويح، وكلمة آمين: كيف يرددها الجمع في الصلاة، وغيرها كثير.. وهل يمكنني فراقها والتخلي عنها؟! حتّى كأ نّها أصبحت قطعة مني.. وفي لحظة أُخرى أردت فيها أن أصرخ بوجه كُلّ من مازن ونبيل، لا لشيء إلاّ لأنهما مازن ونبيل اللذين عرفتهما!

قال نبيل:

ــ " ما علينا إلاّ أن نذهب إلى مجموعة من علماء أهل السنة! ".

فقلت له:

ــ " ولو أخبرتك، إنك لو قابلت أحدهم، لساءك الحال، ولرجوت اللّه أ نّه لم يدعك تفكر بمثل هذه الأفكار، ولا للحظة واحدة من قبل ".


الصفحة 367
ــ " لماذا؟ إلى هذه الدرجة قد تغيرت، وبلغ بك وجه الاختلاف ".

ــ " لا.. ولكني أعرف جوابهم مسبقاً، فإنهم سيعارضون.. و.. وسيمنعوننا من التفكير أصلاً بمثل هذا الموضوع، وسيعملون على إرشادنا إلى التنائي عن النقاش، وأن ما لدينا هو الصحيح، وما علينا إلاّ الرجوع إلى ما لدينا من كتب، وما يكون بين يدي الشيعة فهو ليس إلاّ الضلال المبين. وما كان الأساس الشرعي في حكومة الأول إلاّ إجماع المسلمين ".

وعندها هتف مازن قائلاً:

ــ " صحيح.. الإجماع هو الأساس! ".

وقال نبيل:

ــ " إذا تم كُلّ ما قلتم من العهد والوصية، والنصوص الجلية، فماذا تصنع باجماع الأُمّة على بيعة الصديق؟ وإجماعها حجة قطعية لقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تجتمع أُمتي على الخطأ"، وقوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تجتمع على ضلال" فماذا تقول؟ ".

فقلت:

ــ " إن المراد من قوله (صلى الله عليه وآله وسلم): "لا تجتمع أمتي على الخطأ"، و"لا تجتمع على الضلال"، إنّما هو نفي الخطأ والضلال عن الأمر الذي اشتورت فيه الأُمّة فقررته باختيارها، واتفاق آرائها ".

ــ " وإذن، فهذا الذي هو وبنظرك يمكن أن يتبادر من السنن!؟ فكيف؟ ".

ــ " أجل، فهذا هو المتبادر من السنن لا غير! أما الأمر الذي يراه نفر من الأُمّة فينهضون به، ثُمّ يتسنى لهم إكراه أهل الحل والعقد عليه، فلا دليل على صوابه ".

ــ " ليس هناك من إكراه في أيّما أمر كان قد حصل ".


الصفحة 368
ــ " وبيعة السقيفة ماذا تقول عنها؟ إنها لم تكن عن مشورة، وإنما قام بها الخليفة الثاني، وأبو عبيدة ونفر معهما ".

ــ " أتقصد أنهم اجتهدوا؟ والشيعة؟ ألا يقولون بالاجتهاد، فلِمَ يحرمونه هنا ويحللونه لديهم ".

ــ " لأنّ اجتهاد الخليفة ومن معه كان خلاف النصّ؟ وهذا مرفوض قطعاً ".

ــ " أقول: إنّك تتكلم وكأنك شيعي ولست بسنّي ".

ــ " دعنا من هذا الكلام.. إن ما أقوله هو ما ظل وجعل يتلجلج في أعماقي، إنّي أبحث له عن جواب قانع، فلا أجد ما يبل جوفي ويسكّن فورة فؤادي ".

ــ " وبعد؟ ".

ــ ".. أجل، وإنما قام بها الخليفة الثاني، وأبو عبيدة ونفر معهما ".

ــ "؟! ".

ــ " ثُمّ فاجأوا بها أهل الحل والعقد، وساعدتهم تلك الظروف على ما أرادوا ".

فقال نبيل:

ــ " إنّي قد سمعت وقرأت أن بيعة السقيفة كانت قد حدثت عن مشورة وروية ".

فقلت له:

ــ " إنّ الخليفة والصحابي أبو بكر، هو بنفسه يصرح ويعلن أمام الملأ ويقول: بأن بيعته لم تكن عن مشورة ولا عن روية ".


الصفحة 369
ــ " أين؟ ".

ــ " وذلك حيث خطب الناس في أوائل خلافته معتذراً إليهم ".

ــ " وماذا قال؟ ".

ــ " لقد قال للناس: أن بيعتي كانت فلتة، وقى اللّه شرّها وخشيت الفتنة ".

ــ " من أخرج هذه الخطبة؟ ".

ــ " أخرجها أبو بكر أحمد بن عبد العزيز الجوهري، في كتاب السقيفة ونقلها ابن أبي الحديد ص 132 من المجلد الأول من شرح النهج. والصحابي عمر بن الخطاب نفسه، يشهد بذلك على رؤوس الأشهاد في خطبة خطبها على المنبر النبوي يوم الجمعة في أواخر خلافته، وقد طارت كُلّ مطير ".

ــ " وهذه الأُخرى من كان قد أخرجها؟ ".

ــ " لقد أخرجها البخاري في صحيحه ".

ــ " البخاري؟ ".

كان نبيل هو الذي يتداول الحديث معي، ومازن يصغي، فقلت لهما:

ــ " يمكنكما أن تراجعا من الصحيح باب رجم الحبلى من الزنا إذا أحصنت ـ وهو في ص 119 من جزئه الرابع. وأخرجها غير واحد من أصحاب السنن والأخبار كابن جرير الطبري في حوادث سنة 11 من تاريخه ونقلها ابن أبي الحديد ص 122 من المجلد الأول من شرح النهج ".

وعندها ابتدرني مازن، وهو يقول:

ــ " هل يمكن أن تنقل الي محل الشاهد؟ ".

ــ " وإليك محل الشاهد منها بعين لفظه، قال: ثُمّ إنّه بلغني أن قائلاً منكم يقول: واللّه لو مات عمر بايعت فلاناً فلا يغترن امرؤ أن يقول إنّما كانت بيعة

الصفحة 370
أبي بكر فلتة وتمت، ألا وإنها قد كانت كذلك ولكن اللّه وقى شرها (إلى ان قال): من بايع رجلاً من غير مشورة فلا يبايع هو ولا الذي بايعه تغرة أن يقتلا ".

ــ "؟! ".

ــ " أتدرون من كان هو القائل؟ ".

ــ " من كان؟ ".

قال ذلك نبيل، فقلت:

ــ " والقائل هو ابن الزبير ونصّ مقالته: واللّه لو مات عمر لبايعت عليا فإن بيعة أبي بكر إنما كانت فلتة وتمت، فغضب عمر غضبا شديداً وخطب هذه الخطبة ".

ــ " ومن صرح بهذا كُلّه؟ ".

ــ " صرح بهذا كثير من شرّاح البخاري ".

ــ "؟! ".

ــ " راجع تفسير هذا الحديث من شرح القسطلاني ص 352 من جزئه الحادي عشر، تجده ينقل ذلك عن البلاذري في الأنساب مصرحاً بصحة سنده على شرط الشيخين ".

بينما التفت اليّ نبيل، وهو يقول:

ــ " إن لدينا من المفسرين والمؤرخين ما بمستطاعهم أن يثبتوا أن بيعة السقيفة كانت قد وقعت عن مشورة وعن غير استبداد في الرأي! ".

ــ " مثل مَن؟ ".

ــ " مثل ابن الأثير! ".


الصفحة 371
وعندها ابتسمت وقلت له:

ــ " استمع إلى ما أقوله لك: قال ابن الأثير في تفسير هذا الحديث (الحديث الخاص بعمر) من نهايته، تغرة، مصدر غررته إذا ألقيته في الغرر، وهي من التغرير كالتعلة من التعليل، وفي الكلام مضاف محذوف تقديره خوف تغرة أن يقتلا، أي خوف وقوعهما في القتل، فحذف المضاف الذي هو الخوف، وأقام المضاف إليه الذي هو تغفرة مقامه، وانتصب على أ نّه مفعول له، ويجوز أن يكون قوله إن يقتلا بدلاً من تغرة، ويكون المضاف إليه محذوفاً كالأول، ومن أضاف تغرة إلى أن يقتلا فمعناه خوف تغرة قتلهما ".

ــ " ما معنى ما تقول؟ ".

ــ ".. (قال) ومعنى الحديث: إن البيعة حقها أن تقع صادرة عن المشورة والاتفاق، فإذا استبد رجلان دون الجماعة فبايع أحدهما الآخر، فذلك تظاهر منهما بشق العصا واطراح الجماعة، فإن عقد لأحد بيعة فلا يكون المعقود له واحداً منهما وليكونا معزولين من الطائفة التي تتفق على تمييز الإمام منها، لأ نّه إن عقد لواحد منهما وقد ارتكبا تلك الفعلة الشنيعة التي احفظت الجماعة من التهاون بهم والاستغناء عن رأيهم، لم يؤمن أن يقتلا ".

ــ "؟! ".

بينما عدت إليهما، وأنا أقول:

ــ " أما أنا فأقول: كان من مقتضيات العدل الذي وصف به عمر أن يحكم بهذا الحكم على نفسه وعلى صاحبه كما حكم به على الغير، وكان قد سبق منه ـ قبل قيامه بهذه الخطبة ـ أن قال: إن بيعة أبي بكر فلتة وقى اللّه شرها، فمن عاد إلى مثلها فأقتلوه، واشتهرت هذه الكلمة عنه أي اشتهار ونقلها عنه

الصفحة 372
حفظة الأخبار، كالعلامة ابن أبي الحديد في ص 123 من المجلد الأول من شرح النهج ".

ــ " عد إلى حديث ابن الأثير، وأخبرنا ماذا يقول؟ ".

ــ " (قال): وإنه قد كان من خبرنا حين توفى اللّه نبيه (صلى الله عليه وآله وسلم) أن الأنصار خالفونا، واجتمعوا بأسرهم في سقيفة بني ساعدة، وخالف عنا علي الزبير ومن معهما، ثُمّ استرسل في الإشارة إلى ما وقع في السقيفة من التنازع والاختلاف في الرأي وارتفاع أصواتهم بما يوجب الفرق على الإسلام، وان عمر بايع أبا بكر في تلك الحال ".

فقال نبيل:

ــ " ولقد تخلف علي بن أبي طالب واصحابه عن بيعة السقيفة، أليس كذلك؟ ".

ــ " ومن المعلوم بحكم الضرورة من إخبارهم أن أهل بيت النبوة، وموضع الرسالة لم يحضر البيعة أحد منهم قط، وقد تخلفوا عنها في بيت علي، معهم سلمان، وأبي ذر، والمقداد، وعمار، والزبير، وخزيمة بن ثابت وأبي بن كعب، وفروة بن عمرو بن ودقة الأنصاري، والبراء بن عازب، وخالد بن سعيد بن العاص الأموي، وغير واحد من أمثالهم: فكيف يتم الاجماع مع تخلف هؤلاء كُلّهم، وفيهم آل محمّد كافة وهم من الأُمّة بمنزلة الرأس من الجسد، والعينين من الوجه، ثقل رسول اللّه وعيبته، وأعدال كتاب اللّه سفرته ".

ــ " ثانية وثالثة أنّا نقول إنك تتحدث بلسان يفرط أكثر مما يفرطه لسان شيعي؟ ".