.. الفصل العاشر عقائد معاوية ..

  

           عقائد معاوية :

 

1- عقيدة مُعاويَة في الإسراء والمعراج:

قال ابن كثير [1]: وقد حكى ابن إسحاق فقال حدّثني بعض آل أبي بكر عن عائشة أمّ المؤمنين أنها كانت تقول:ما فُقد جسدُ النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم ولكنّ الله أسرى

بروحه.قال:وحدّثني يعقوب بن عتبة : أنّ مُعاويَة كان إذا سُئل عن مسرى النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم قال:كانت رُؤيا من الله صادقة.قال ابن إسحاق:فلم يُنكَر ذلك من قولهما لقول الحسن إن هذه الآية نزلت في ذلك(وما جعلنا الرؤيا التي أريناك إلا فتنة للناس)وكما قال إبراهيم عليه السلام:( يا بنيّ إنّي أرى في المنام أنّي أذبحك) وفي الحديث:" تنام عيناي وقلبي يقظان " قال ابن إسحاق:فالله أعلم أيّ ذلك كان قد جاءه،وعاين فيه ما عاين ، من أمر الله تعالى،على أيّ حالة كان نائماً أو يقظان كل ذلك حقّ وصدق.قلت:وقد توقّف ابن إسحاق في ذلك وجوّز كلاًّ من الأمرين من حديث الجملة،ولكنّ الذي لا يشكّ فيه ولا يتمارى أنّه كان يقظان لا محالة لما تقدّم وليس مقتضى كلام عائشة رضي الله عنها أنّ جسده صلّى اللّه عليْه وسلّم ما فُقد وإنّما كان الإسراء بروحه أن يكون مناماً كما فهمه ابن إسحاق،بل قد يكون وقع الإسراء بروحه حقيقةً وهو يقظان لا نائم وركب البراق وجاء بيت المقدس وصعد السماوات وعاين ما عاين حقيقةً ويقظة لا مناما.لعلّ هذا مراد عائشة أمّ المؤمنين رضي الله عنها،ومراد من تابعها على ذلك.لا ما فهمه ابنُ إسحاق من أنّهم أرادوا بذلك المنام والله أعلم .اهـ

وقد ذكر ابن كثير بعد ذلك أقوال من أرادوا الجمع بين الرّوايات المختلفة التي لا تُناسب ما جاء في الآية الشريفة.كل ذلك ليصوّب كلام مُعاويَة كما هي عادتُه وعادةُ غيره من الشاميّين أمثال أستاذه ابن تَيْميَة ونظيره ابن قيّم الجوزية والذّهبيّ وابن حجر وغيرهم.على أنّ القرآن الكريم يذكر عبارة عبْده ويقصد بها العبد لا روح العبد كما يدعي معاوية،فمن ذلك قولُه تعالى في سورة الكهف:" فوجدا عبدا من عبادنا..." فإنّهما وجدا العبدَ لحماً ودماً وعظماً ولم يَجدا روحَه في المنام! ومنه أيضاً قوله تعالى: " وإنّه لمّا قام عبد الله يدعوه كادوا يكونون عليه لبدا..." فقد قام بتمام نفسه روحاً وبَدَناً يدعو الله تعالى ولم يكن ذلك في المنام!

وأورد القُرْطبيّ أيضا ذلك في تفْسيره ج10 ص209 وقال بعده:" وقد اعترض قول عائشة ومُعاويَة إنّما أسري بنفس النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم بأنّها كانت صغيرة لم تشهدْ ولاحدّثت عن النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم. وأما مُعاويَة فكان كافراً في ذلك غير مستشهد للحال ولم يحدّث عن النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم ومن أراد الزّيادة على ما ذكرنا فليقف على كتاب الشّفاء للقاضي عياض يجد من ذلك الشّفاء. اهـ

وقال الطّبريّ في تفْسيره (ج15 ص 16): وقال آخرون بل أسري بروحه ولم يُسر بجسده.ذكر من قال ذلك حدّثنا ابن حميد [..]أنّ مُعاويَة بن أبي سُفْيان كان إذا سُئل عن مَسْرى النّبيّ قال كانت رؤيا من الله صادقة.اهـ

وجمهور المسلمين على أنّ الإسراء كان بالجسد والرّوح لا كما يدّعي معاوية[2]، وبَعيدٌ أن يكون معاوية قال برأيه هذا في حياةالإمام عليّ عليه السلام

والسابقين من المهاجرين والأنصار،وإنّما يكون قاله في زمن دولته بعد استبعاد الصالحين وتقريب الوضّاعين.

***

2- عقيدة معاوية في النّبيّ (صلى الله عليه و آله):

قال ابن أبي الحديد[3]:وروى الزّبير بن بكّار في" الموفّقيّات " ـ وهو غير متّهَم على مُعاويَة،ولا منسُوب إلى اعتقاد الشّيعة،لما هو معلوم من حاله من مجانبة

عليّ عليه السلام،والانحراف عنه- :قال المطرف بن المغيرة بن شعبة دخلتُ مع أبي على مُعاويَة،فكان أبي يأتيه،فيتحدّث معه،ثمّ ينصرف إليّ فيذكر معاوية وعقله،ويعجب بما يرى منه،إذ جاء ذاتَ ليلة فأمسك عن العشاء،ورأيتُه مغتمّاً فانتظرتُه ساعةً،وظننت أنّه لأمْرٍحدثَ فينا،فقلتُ:مالى أراك مغتمّاً منْذ الليْلة ؟ فقال:يا بنىّ،جئتُ من عنْد أكْفرالنّاس وأخبثهم،قلتُ وما ذاك ؟ قال:قلتُ له وقد خلوْتُ به:إنّك قد بلغتَ سنّاً يا أمير المؤمنين،فلوْ أظهرتَ عدلاً،وبسطتَ خيراً فإنّك قد كبرتَ،ولوْ نظرتَ إلى إخْوتك من بنى هاشم،فوصلتَ أرحامَهم فوالله ما عندَهم اليومَ شيءٌ تخافُه،وإنّ ذلك ممّا يبقى لك ذكْرُه وثوابُه، فقال:هيهات هيهات!أيّ ذكْر أرجُو بقاءَه!مَلَكَ أخو تيْم فعدَلَ وفعلَ ما فعلَ،فما عدا أن هلكَ حتّى هلك ذكْرُه،إلاّ أن يقولَ قائل:أبوبكْر،ثمّ ملَكَ أخُوعَديّ،فاجتهدَ وشمّرَ عشْرسنين،فما عدا أن هلك حتى هلك ذكْرُه،إلاّ أن يقولَ قائل:عُُمَر،وإنّ ابنَ أبى كبشة ليُصاحُ به كلَّ يوْم خمسَ مرّات:(أشهد أنّ محمّداً رسول الله)،فأيّ عمل يبقى،وأيّ ذكر يدوم بعد هذا لا أبا لك!لا والله إلاّ دفْناً دفْناً(اهـ).

***

3- مُعاويَة و التبرك:

في طبقات فحول الشعراء ج1ص 103:...فكساه النّبيّ [ أي كسا الشاعر كعبَ بن زهير] بردةً اشتراها مُعاويَة من آل كعب بن زهير بمال كثير قد سُمّي فهي البُردة التى تلبسها الخلفاء فى العيدين .زعَم ذلك أبَان.

وفي تاريخ دمشق [4]: كان[أي مُعاويَة] يقول رحم الله عبداً دعا لي بالعافية وقد رميتُ في أحْسني وما يبدو منّي ولولا هواي في يزيد لأبصرت رشدي.ولما

اعتلّ قال وددتُ أنّي لا أعمّر فوق ثلاث فقيل إلى رحمة الله ومغفرته فقال إلى ما شاء وقضى قد علم أنّي لم آلُ وما كره الله غيّر.وكان عنده قميص النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم وإزاره ورداؤه وشعره فأوصاهم عند موته فقال كفّنوني في قميصه وأدرجُوني في ردائه وآزروني بإزاره واحشُوا منخريّ وشدْقيّ بشَعره وخلّوا بيني وبين رحمة أرحم الرّاحمين.كان حليماً وقُورا وليَ العمالةَ من قبَل الخلفاء عشرين سنةً واستولى على الإمارة بعد قتل عليّ عشرين سنة فكانت الجماعة عليه عشرين سنةً من سنة أربعين إلى سنة ستّين فلمّا نزل به الموْتُ قال ليتني كنتُ رجلاً من قُريْش بذي طوى وأنّي لم أل من هذا الأمر شيئاً !اهـ

أين هذه الكلمة من قول عليّ بن أبي طالب عليه السلام " فزت وربّ الكعبة ".

***

4 ـ مُعاويَة وشهداء أحد:

قال محمد بن سعد[5]:أخبرنا شهاب بن عباد العبديّ قال أخبرنا عبد الجبّار بن ورد عن الزّبير عن جابر بن عبدالله قال لمّا أراد مُعاويَة أن يُجري عينه التي

بأُحُد كتبُوا إليه إنّا لا نستطيع أن نجريَها إلاّ على قبور الشّهداء قال فكتب انْبشُوهُم! قال فرأيتُهم يُحملُون على أعناق الرّجال كأنّهم قوم نيَامٌ وأصابت المسحاةُ طرفَ رجْل حمْزة بن عبد المطلب فانْبعثتْ دماً...

وقال أيضا[6]: لما أجرى مُعاويَة كظامه نادى مُناديه بالمدينة من كان له قتيل بأُحُد فليشهدْ فخرج النّاس إلى قتلاهم فوجدُوهم رطاباً يتثنّوْن وكان قبْر سعد بن

الرّبيع وخارجة بن زيد معتزلاً فتُرك وسُوّي عليه التّراب.اهـ

  أقول:المعلُوم أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله هو الذي صلّى على حمزةَ ودَفَنَه،فلو كانت الأرضُ ملْكاً لآل أبي سفيان أوغيْرهم لمادفَنَه فيها.والمعلومُ أيضاً أنّ للمدفون على ما دُفن عليه حمزة سيّد الشّهداء حُرمةٌ فلا يُنْبَشُ قبرُه.ومسألة حُرمة نبش القبر محلُّ إجْماع عند الإماميّة،وأمّا ما استُثني فلا يدْخُل فيه ما أقدم عليه مُعاوية.هذا على فرض أن يكون حمزةُ واحداً من عوامّ المسلمين أما وهو شهيدٌ قُتل في سبيل الله تعالى بين يدي النّبيّ صلى الله عليه و آله فالأمرمختلفٌ؛ يقول السيّد الكلبايكاني (من علماء الإماميّة)[7]:يَحْرُمُ نبْشُ قَبْرِ الميْت المُسْلم،وإن كان طفلاً أو مجنوناً،إلاّ إذا عُلم أنّ بدَنَه قد بَليَ وصار تُراباً.وقبورُ الشّهداء والعُلماء وأبناء الأئمة والصّلحاء

يحرُم نبْشُها مُطلقاً وإنْ طال عليها الزّمن(اهـ).

نعم،لاحُرمةَ لشُهدَاء أُحُد إذا تعلّق الأمْربعيْن يُجريها مُعاويَة،مع أنّه بإمكانه أن يجري العيون في غيرأُحُد؛ولا ندْري إن صحّت القصّة كيف أُعيد دفْنُ الشّهداء،ُوهل أعيدُوا إلى أماكنهم أم تغيّر مكان دفنهم.ولئن كانت هند(أمّ معاوية) قد بقرتْ بطنَ حمزة ولاكت كبده ثم لفظتها،فإنّ معاوية قد سارعلى دربها،واستخرجه من قبره الشريف،ظلماً وعلوّاً،وأسال الدم من جسده الشريف؛ولا ندري بالضبط ما الذي حدث بعد ذلك.

***

5- مُعاويَة و هجاء الأنصار:

قال ابن سلام الجمحي[8]:قال أبو يحيى أرسل إليه يزيد [أي إلى الأخطل]أن اهْجُهُم فقال كيف أصنع بمكانهم أخافهم على نفسي قال لك ذمّة أميرالمؤمنين وذمّتي

فذلك حين يقول:ذهبت قُريْش بالسّماحة والنّدى.. واللؤمُ تحْت عمائم الأنصار.فجاء النّعمان بن بشير الأنصاريّ إلى مُعاويَة فقال يا أمير المؤمنين بلغ منّا أمرٌ ما بلغ منّا مثْلُه في جاهليّة ولا إسْلام قال مَن بلغ ذاك منْكم قال غلامٌ نصرانيّ من بني تغلب قال ما حاجتك فيه؟ قال لسانُه قال ذاك لك.وكان النّعمان ذا منزلة من مُعاويَة[!] وكان مُعاويَة يقول يا معشرالأنصار تستبطئونني وما صحبني منكم إلاّ النّعمان بن بَشيروقد رأيتُم ما صنعتُ به وكان ولاّه الكوفة وأكرمه فأُخْبرَالأخْطلُ فصارَإلى يزيد فدخل يزيد إلى أبيه فقال يا أمير المؤمنين هجَوْني وذكَرُوك فجعلتُ له ذمّتك وذمّتي على أن ردّ عنّي فقال مُعاويَة للنّعمان:لا سبيل إلى ذمّة أبي خالد.

وفي البيان والتّبيين[9]:قال أبو عبيدة قال أبو الوجيه حدّثني الفرزدق قال كنّا في ضيافة مُعاويَة بن أبي سُفْيان ومعنا كعب بن جعيل التّغلبي فقال له يزيد إنّ ابن

حسان يريد عبد الرحمن قد فَضَحَنا فاهْجُ الأنصار قال أرادّي أنتَ إلى الإشراك بعد الإسْلام؟ لا أهجو قوماً نصروا رسول الله ولكنّي أدلّك على غُلام منّا نصرانيّ كأنّ لسانه لسان ثور يعني الأخطل!

قلتُ:هذا مبلغُهم من العلم، يمتنعُ كعْبُ بن جعيل من هجاء الأنصار لكنّه يدلّ يزيد بن معاوية على من يهجوهم وينسى أنّ الدّالّ على الشّرّ كفاعله.وربّ عذر أقبح من ذنب.

 و فيه (ج1ص158):لمّا اجتمع الناس وقامت الخطباء لبيعة يزيد وأظهر قومٌ الكراهةَ قام رجلٌ يُقالُ لهُ يزيدُ بن المقنع فاخترط من سيفه شبْراً ثمّ قال هذا أمير المؤمنين وأشار بيده الى مُعاويَة فإن مات فهذا وأشار بيده إلى يزيد، فمن أبي فهذا وأشار بيده إلى سيفه فقال مُعاويَة أنت سيّد الخطباء.اهـ

وفيه أيضاً[10]:ووفد ابن أبي محجن على مُعاويَة فقام خطيباً فأحسن فحسدَه مُعاويَة وأراد أن يُوقعَه فقال له أنت الذي أوصاك أبوك بقوله:

   إذا متّ فادفنّي إلى جنب كرْمة تروّى عظامي بعد موتي عروقُها

   ولا تدفننّي في الفلاة فإنّني أخاف     إذا ما متّ أن لا أذوقُها

 قال بل أنا الذي يقول أبي :

 لا تسأل النّاس ما مالي وكثرتُه    وسائل النّاسَ ما جُودي وما خُلُقي

 أعطي الحسامَ غداةَ الرّوع حصّتَه    وعامل الرّمح أرويه من العلق

  وأطعنُ الطّعنة النّجلاء عن عرض     وأكتم السرّ فيه ضربةُ العُنق

  ويعلمُ النّاسُ أنّي من سرَاتهم        إذا سما بصرُ الرّعْديد بالفَرَق

  فقال له مُعاويَة أحسنتَ والله يا ابنَ أبي محْجن وأمر له بصلَة وجائزَة(اهـ).

وفي البيان والتّبيين ج1ص131 :نظر مُعاويَة الى النخّار بن أوس العذريّ الخطيب النّاسب في عباءة في ناحية من مجلسه فأنكَره وأنكرَ مكانَه زرايةً منْه عليْه فقال مَن هذا فقال النّخار يا أمير المؤمنين إنّ العَباءَة لا تُكلّمك إنّما يُكلّمك مَن فيها.  

 وفي روضة العقلاء لابن حبّان ج1ص19:أخبرنا عمرو بن محمّد الأنصاريّ حدّثنا محمّد بن عبيد الله الجشمى حدّثنا المداينى قال قال  مُعاويَة بن أبي سُفْيان لرجل من العرب عُمّر دهراً أخبرْني بأحسن شيء رأيتَه قال عقْلٌ طُلب به مروءة مع تقوى الله وطلب الآخرة(اهـ).

ولا شكّ أنّ مُعاويَة فهمَ فحوى الخطاب، فإنّ العقل شيء والشّيطَنة شيء آخر.

***         

6 ـ مُعاويَة وإبطال الحدود:

قال ابن كثير[11]:وقال القاضي الماورديّ في الأحكام السّلطانيّة:وحُكي أنّ مُعاويَة أُتي بلصوص فقطعَهم حتّى بقي واحد من بينهم،فقال :

   يميني أميرَ المؤمنين أُعيذُها   * بعفْوك أن تلْقى مكانا يَشينُها

   يدي كانت الحسناءَ لو تمّ سترُها * ولا تعدمُ الحسناءُ عيباً يشيبُها

   فلا خير في الدّنْيا وكانت حبيبةً *  إذا ما شمالي فارقتها يمينُها

فقال مُعاويَة: كيف أصنع بك ؟ قد قطعنا أصحابَك ؟ فقالت أمّ السارق : يا أمير المؤمنين ! اجعلْها في ذُنُوبك التي تتوب منها . فخلّى سبيلَه ، فكان أوّلَ حدّ تُرك في الإسْلام.اهـ

أقولُ:وما جاء في آخر كلام القاضي الماوردي ليس محلَّ تسْليم،فإنّ حدوداً أخرى تُركَتْ قبْل ذلك على عهْد أبي بكر وعمر وعثمان،فقد تركَ أبوبكْرإقامة الحدّ على خالد بن الوليد في قضيّة مالك بن نويرة بعد أن قال عمر لخالد ما قال،وتركَ عُمرإقامة الحدّ على المغيرة بن شعبة،وترك عثمان إقامة الحدّ على عبيد الله بن عمربن الخطاب.قال ابن سعد[12]:أخبرنا محمّد بن عمر قال حدّثني محمّد بن عبد الله عن الزُّهْريّ قال لمّا اسْتُخْلفَ عُثمان دعا المهاجرين والأنصار فقال أشيروا

في قتل هذا الذي فتق في الدّين ما فتق فأجمعَ رأيُ المُهاجرين والأنْصارعلى كلمة واحدة يشجّعون عثمان على قتله وقال جلّ النّاس أبعدَ الله الهرمزان وجُفَيْنة يُريدون يُتبعون عبيد الله أباه فكثُر ذلك القول فقال عمروبن العاص يا أمير المؤمنين إنّ هذا الأمرَقدْ كانَ قبلَ أنْ يكونَ لكَ سلطانٌ على النّاس فأعْرضْ عنه فتفرّق النّاسُ عن كلام عمروبن العاص.أخبرنا محمّد بن عُمرقال فحدّثني ابن جريج أنّ عُثمان استشار المسلمين فأجمعوا على ديَتهما ولا يُقتل بهما عبيد الله بن عمر،وكانا قد أسلما وفرض لهُما عُمر وكان عليّ بن أبي طالب لما بُويع له أراد قتلَ عبيد الله بن عمر فهرب منه إلى مُعاويَة بن أبي سُفْيان فلم يزل معه فقتل بصفّين (اهـ).

وهذه القصّة قد تضمّنتْ ما تضمّنتْ إذا تجرّد المُطّلعُ عليها من التّعصّب،فإنّه يذكرُ فيها أنّ المسلمين أجمعوا على ديتهما وألا يُقتل بهما عبيد الله بن عمر فهل دخلَ عليّ بن أبي طالب في هذا الإجماع؟! أم أنّهم لا يعدّونه من المسلمين؟! وكيف يكون ذلك وابن سعد نفسه يذكر في طبقاته ما يلي[13]: أخبرنا محمّد بن عمر

قال حدّثني كثير بن زيد عن المطّلب بن عبد الله بن حنطب قال قال عليّ لعُبَيْد الله بن عُمَر ما ذَنْبُ بنْت أبي لُؤْلُؤَةَ حين قتلْتَهَا قال فكان رأيُ عليّ حين استشاره عُثمانُ ورأيُ الأكابر من أصحاب النّبيّ على قتْلُه لكنّ عمرو بن العاص كلّم عثمانَ حتى تَركَهُ فكانَ عليّ يقول لو قدرتُ على عُبيد الله بن عُمَرَ وَلِي سُلطانٌ لاقتصصْتُ منه(اهـ). قلتُ:القضيّة تتعلقّ بحدّ من حدود الله وعُبيد الله بن عُمَر قد قَتَل على الظّنّ لا أكثر،وإنّ الظّنّ لا يُغني من الحقّ شيئاً!وقد رَجَحَ رأيُ عمْروبْن العاص عند عثمان على مَوْقف الأكَابرمن الصّحابة لأنّ المهمَّ عنْدَه أنْ يفتتحَ عهْدَ حُكمه بعافيَةٍ ولَوْعلى حساب الحُدود الشّرعيّة.وقد أنزل اللهُ حُكمَ القصاص واختلقَ عمْرُوبن العاص حُكماً من عنده،فاتّبعَهُ عثمانُ وترَكَ حكمَ الله تعالى،ومَنْ لمْ يحكمْ بما أنزل الله فأولئك هُم الفاسقون.ولا يصحُّ اجتهادٌ في حدود الله،وحتّى على فرْض شيْء من ذلك فليس عمْرُوبْنُ العاص من أهل الاجتهاد. والعجيب أنّ ابن سعد يذكر في الصّفحة التي قبلها[14] يذكر ما يلي:أخبرنا محمّد بن عمر [..] عن أبي

وجزة عن أبيه قال رأيت عبيد الله يومئذ وإنّه لَيُناصي عثمان وإنّ عثمان لَيقول قاتلك الله قتلت رجلاً يصلّي وصبيّةً صغيرة وآخر من ذمّة النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم ما في الحقّ ترْكُك قال فعجبت لعثمان حين وليَ كيف تَرَكَه ولكن عرفت أنّ عمرو بن العاص كان دخل في ذلك فلَفَتَه عن رأيه.

***

7ـ مُعاويَة والصلاة:

قال الشّوكانيّ[15]:روى الشافعيّ بإسناده عن أنس بن مالك قال:صلّى مُعاويَة بالنّاس بالمدينة صلاةً جهَرَ فيها بالقراءة فلمْ يقرأْ بسم الله الرّحمن الرّحيم ولم يُكبّرْ

في الخفْض والرّفْع،فلمّا فرغ ناداه المُهاجرون والأنصارُ:يا مُعاويَة نقصت الصلاة أين بسم الله الرحمن الرحيم؟وأين التكبيرإذا خفضْت ورفعْت؟ فكان إذا صلّى بهم بعدَ ذلك قرأ بسم الله الرحمن الرحيم وكبّر(اهـ).[16]

أقول:رواية الشافعيّ في كتاب المسند بإسنادين،وهُما كما يلي[17]:(1)أخبرنا إبراهيم بن محمد حدّثنى عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسماعيل بن عبيد بن

رفاعة عن أبيه أنّ معاوية قدمَ المدينةَ فصلّى بهمْ ولم يقرأْ بسم الله الرّحمن الرّحيم ولم يُكبّرإذا خفضَ وإذا رفعَ فناداهُ المهاجرُون حينَ سلّم والأنْصارُ أي معاوية سرقت صلاتك أين بسم الله الرحمن الرحيم وأين التّكبيرإذا حفضْت وإذا رفعْت ؟ فصلّى بهم صلاة أخرى فقال ذلك فيها الذى عابوا عليه.(2)أخبرنا يحيى بن سليم عن عبد الله بن عثمان بن خثيم عن إسمعيل بن عبيد بن رفاعة عن أبيه عن معاوية والمهاجرين والأنصار مثله أو مثل معناه لا يخالفه وأحسب هذا الإسناد أحفظ من الإسناد الأوّل.

قال الشّوكانيّ [18]:وروى الطّبريّ عن أبي هُرَيْرَة أنّ أوّل مَن ترك التّكبير مُعاويَة ، وروى أبوعبيد أنّ أوّل من تركه زياد وهذه الرّوايات غير متنافية ، لأنّ

زياداً تركه بترْك مُعاويَة ، وكان مُعاويَة تركَه بترْك عُثمان ، وقد حمل ذلك جماعةٌ من أهل العلم على الإخفاء ،وحكى الطّحاويّ أنّ بني أُميّة كانوا يتركون التّكبير في الخفْض دون الرّفع وما هذه بأوّل سُنّة تركوها . اهـ

قال:[باب"جهر الإمام بالتكبيرليسْمع مَن خلْفه وتبْليغ الغيْرلَه عند الحاجة][19]: عن سعيد بن الحرث قال : صلّى بنا أبُوسَعيد فجَهرَ بالتّكْبير حينَ رفعَ رأسَه من

السّجود،وحين سجد،وحين رفَعَ،وحينَ قامَ من الرّكْعتين وقال:هكذا رأيت رسول الله صلى الله عليه وآله وسلم.رواه البخاريّ وهو لأحمد بلفظ أبسط من هذا.الحديثُ يدلّ على مشروعيّة الجهْر بالتّكبير للانتقال،وقد كان مَرْوان وسائر بني أُميّة يسرّون به[!]،ولهذا اختلف النّاس لمّا صلّى أبو سعيد هذه الصّلاة فقام على المنبر فقال:إنّي والله ما أُبالي اختلفتْ صلاتُكم أمْ لمْ تختلفْ إنّي رأيت النّبيّ صلى الله عليه وآله وسلّم هكذا يصلّي.وقد عرفتَ ممّا سلف أنّ أوّل من ترك تكبيرالنّقْل أي الجهْر به عثمانُ،ثمّ مُعاويَة،ثمّ زياد،ثمّ سائربني أُميّة (اهـ).

 قال الشّوكانيّ[20]:وقد ثبت في صحيح مسلم من رواية طارق بن شهاب عن أبي سعيد قال:أوّلُ مَن بدأَ بالخُطبة يوْم العيد قبْل الصّلاة مَرْوانُ.وقيل:أوّلُ مَن

فعلَ ذلكَ مُعاويَةُ،حَكاهُ القاضي عياضُ وأخرجَهُ الشّافعيُّ عن ابن عبّاس بلفظ "حتى قدم مُعاويَة فقدم الخطبة ".ورواهُ عبدُ الرّزّاق عن الزُّهْريّ بلفظ   " أوّلُ مَن أحدثَ الخُطبةَ قبلَ الصّلاة في العيد مُعاويَةُ ".وقيل:أوّلُ مَن فعلَ ذلك زيادُ بالبصْرة في خلافة مُعاويَة،حكاه القاضي عياض أيضاً.وروى ابن المُنذرعن ابْن سيرين أنّ أوّلَ مَن فعلَ ذلك زيادُ بالبصرة قال:ولا مخالفة بين هذين الأثرين وأَثَرَيْ مَرْوان،لأنّ كلاًّ من مَرْوانَ وزياد كانَ عاملاً لمُعاويَة،فيُحمَل على أنّه ابتدأَ ذلك وتبعَهُ عُمّالُه.قال العراقيّ:الصّوابُ أنّ أوّلَ مَن فعَلَهُ مَرْوانُ بالمدينة في خلافة مُعاويَة،كَما ثبتَ ذلك في الصّحيحين عن أبي سعيد الخدْريّ.قال:ولم يصحّ فعلُه عن أحد من الصّحابة،لا عُمَرولا عثْمان ولا مُعاويَة ولا ابن الزّبير(انتهى).وقد عرفتَ صحّة َبعض ذلك فالمصيرُ إلى الجمْع أوْلى.وقد اختُلف في صحّة صلاة العيدين مع تقدّم الخُطبة،ففي مُختصرالمزَنيّ عن الشافعيّ ما يدلّ على عدم الاعتداد بها.وكذا قال النوويُّ في شرح المهذّب إنّ ظاهرَ نصّ الشافعيّ أنّه لا يعتدُّ بها قال وهو الصّواب(اهـ).

و في التاريخ الكبير[21]:[..]عن محمّد بن يوسف مولى عثمان بن عفّان قال سمعت أبى أنّ مُعاويَة صلّى بهم فقامَ في الرّكعتين فسبّح النّاس فأبى أن يجلسَ

حتى جلسَ للتّسْليم فسجَد سجْدتيْن ثُمّ قال رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم فعَلَ هذا،وقال لي ابنُ أبى مرْيم أخبَرَنا يحيى بنُ أيّوب أخبرنا ابنُ عجلان سمع محمّد بن يوسف مولى عثمان عن أبيه - بهذا،وقال ابن جريج اخبرني محمّد بن يوسف عن أبيه - بهذا (اهـ). وفيه أيضاً [22]: [..] عن إياس بن ابى رملة الشامي قال

سمعت مُعاويَة يسأل زيد بن أرقم:هل شهدت العيد مع النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم والجمعة ؟قال نعم - صلّى العيد ثمّ أتى الجمعة (اهـ).

قال الشّوكانيّ في نيل الأوطار ج 2 ص 266 : وروى الطّبريّ عن أبي هُرَيْرَة أنّ أوّل من ترك التّكبير مُعاويَة ، وروى أبو عبيد أنّ أول من تركه زياد وهذه الرّوايات غير متنافية ، لأنّ زيادا تركه بترك مُعاويَة ، وكان مُعاويَة تركه بترك عثمان ، وقد حمل ذلك جماعة من أهل العلم على الإخفاء،وحكى الطّحاويّ أنّ بني أُميّة كانوا يتركون التّكبير في الخفض دون الرّفع ، وما هذه بأول سُنّة تركوها .

أقول : وعُثمان تَرَكَهُ بتَرْك مَن؟!

وفي اعلام الموقعين ج3ص147 :

 الوجه الخمسون أنّه نهى أن توصل صلاة بصلاة الجمعة حتّى يتكلّم أو يخرج لئلا يتّخذ ذريعة إلى تغيير الفرض وأن يُزاد فيه ما ليس منه. قال السّائب بن يزيد صلّيت الجمعة في المقصورة فلما سلّم الإمام قمتُ في مقامي فصلّيت فلمّا دخل مُعاويَة أرسلَ إليّ فقال لاتعُدْ لمَا فعلتَ إذا صلّيت الجُمعة فلا تَصلْها بصلاة حتّى تتكّلم أو تخرج فإن النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم أمر بذلك ألاّ تُوصل الصّلاة حتى يتكلّم أو يخرج.اهـ

أقول:إذا كان لا يجوز وَصْلُ الجمعة بصلاة أخرى قبل الخروج من المسجد، ومُعاويَة نفسه يروي ذلك، فكيف سمح لنفسه هو أن يقدّمَ الجمعةَ ويصلّيَها يومَ الأربعاء والقرآن الكريم يقول "إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة " ؟!         

  ***

8 ـ موقف مُعاويَة من السّنّة:

قال ابن قيّم الجوزيّة [23]:روى ابن وهب أخبرني سُفْيان بن عيينة عن عمر بن سعيد أخي سُفْيان بن سعيد الثوري عن أبيه عن عباية قال ابن الأشرف عند

مُعاويَة فقال ابن يامين كان قتلُه غدراً فقال محمّد بن مسلمة يا مُعاويَة: أيُغَدَّرُ عندك رسول الله صلّى اللّه عليْه وسلّم ولا تُنْكر،والله لا يُظلّني وإيّاك سقْفُ بيْت أبداً ولا يخْلُو لي دمُ هذا إلاّ قتلته(أهـ).

وقال ابن عقيل[24]: أخرج ابن عساكر والحسن بن سُفْيان وابن مُنْدة عن محمّد بن كعب القرظيّ قال : غزا عبدالرّحمن بن سهل الأنصاريّ في زمن عثمان

ومُعاويَة أمير على الشّام فمرّت به روايا خمْر ـ لمَنْ هي؟ لمُعاويَة كما يدلّ عليه السّياق وصرّح به البعض ـ تُحمل فقام إليها عبدالرّحمن برُمْحه فبقر كلّ راوية منها فناوشَه غلمانُه حتّى بلغَ شأنُه مُعاويَةَ فقال دَعُوهُ فإنّه شيخٌ قدْ ذهبَ عقلُه فقال كذب والله ما ذهب عقلي ولكنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله نهانا أن ندخلَه بطونَنا وأسقيتَنا وأحلفُ بالله لئنْ بقيتُ حتّى أرى في مُعاويَة ما سمعت من النّبيّ صلى الله عليه وآله لأبقرنَّ بطنَه أولأمُوتَنَّ دُونَه(اهـ)[25].

 أقول:إنّ أعجبَ ما في هذا هُوأنّ مُعاويَةَ نفسَه يَرْوي في الخمْر.قال ابن القيّم [26]: في سُنن ابن ماجه أيضا عن يعلى بن شدّاد بن أوس قال: سمعت مُعاويَة

يقول سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم يقولُ كلُّ مُسْكر حَرام على كلّ مؤمن قال ابن ماجه وهذا حديث العراقيّين .

 وقال الأبشيهي[27]:ذَكَر السّلاميّ أنّ النّبيّ كان يتختّم في يمينه والخلفاء بعده فنقله مُعاويَة رضي الله تعالى عنه إلى اليسار وأخذ الأمويّة بذلك.اهـ

وفي صحيح البخاري[28]:حدّثنا أبو اليمان أخبرنا شعيب عن الزّهري قال كان محمّد بن جبير بن مطعم يحدّث أنّه بلغ معاوية وهوعنده في وفْد من قريْش أنّ

عبد الله بن عمْرو بْن العاص يحدّث أنّه سيكون مَلكٌ من قَحطَان فغَضب معاوية فقام فأثْنى على الله بما هو أهْله ثمّ قال أمّا بعْد فإنّه بلغني أنّ رجالاً منْكم يتحدّثون أحاديث ليستْ في كتاب الله تعالى ولا تُؤثَر عن رسول الله صلّى الله عليه وسلم فأولئك جُهّالُكم فإيّاكم والأماني التي تُضلّ أهلها فإني سمعْتُ رسول الله صلى الله عليه وآله يقول إنّ هذا الأمر في قريش لا يُعاديهم أحدٌ إلا كبّه الله على وجهه ما أقاموا الدين(اهـ).ولايخفى ما في هذا من تهمة معاوية للصّحابة بوضْع الأحاديث،لأنّها إذا لم تكن في كتاب الله ولا تُؤثرُ عَن رسول الله صلى الله عليه وآله فمن أين جاءت؟أ  

وعن يعلي بن أُميّة[29]: طُفتُ مع عُمر فلمّا بلغنا الرّكن الغربيّ الذي يلي الأسود جررت بيده ليستلم فقال ما شأنك فقلت ألا تستلم فقال ألم تطُف مع النّبيّ صلّى اللّه

عليْه وسلّم فقلت بلى قال أفرأيته يستلم هذين الركنين الغربيّين قال لا قال أليس لك فيه أسوة حسنة قلت بلى قال فانفذ عنك قال وجعل مُعاويَة يستلم الأركان كلّها فقال له ابن عبّاس لمَ تستلمُ هذين الرّكنين ولم يكن النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم يستلمهما فقال مُعاويَة  ليس شيء من البيت مهجورا فقال ابن عبّاس لقد كان لكم في رسول الله أسوة حسنة فقال مُعاويَة صدقت. 

وفي موطإ مالك ج 2 ص 861 :

حدّثني يحيى عن مالك ، عن يحيى بن سعيد ، أنّه سمع سعيد بن المسيّب يقول:قضى عُمر بن الخطّاب في الأضراس ببعير بعير.وقضى مُعاويَة بن أبى سُفْيان في الأضراس بخمسة أبعرة ، خمسة أبعرة . قال سعيد بن المسيّب: فالدّية تنقص في قضاء عُمر بن الخطاب وتزيد في قضاء مُعاويَة. فلو كنتُ أنا لجعلت في الأضراس بعيرين بعيرين. فتلك الدّية سواء وكلّ مجتهد مأجور! ( اهـ).

***

9 ـ استلحاق زياد:

ومن أعمَال مُعاويةَ التي خالفَ بها القرآنَ والسّنّةَ علانيةً،ما أقدم عليه في شأن زياد بن عُبَيد،ومات ولم يتراجع عن ذلك ولا ندم عنه. قال ابن خَلْدُون[30]: ثمّ

استعمل عليّ زياداً على فارس فضبطَها وكتب إليه مُعاويَة يتهدّده ويعرّض له بولادة أبى سُفْيان إيّاه فقام في النّاس فقال عجباً لمُعاويَة يخوّفني دين ابن عمّ الرّسول في المهاجرين والأنصار وكتب إليه عليّ إنّي ولّيتك وأنا أراك أهلاً وقد كان من أبي سُفْيان فلتةٌ من آمال الباطل وكذب النّفس لا توجبُ ميراثاً ولا نسباً ومُعاويَة يأتي الإنسان من بين يديه ومن خلفه وعن يمينه وعن شماله فاحذر ثمّ احذر والسّلام (اهـ).

ولا يختلفُ اثنان في أنّ سورة الأحزاب أبْطلَت التبنّيَ،وأنّ النّبيَّ صلى الله عليه وآله قال بصريح العبارة بما لا يحتملُ التّأويل " الولد للفراش و للعاهر الحجر"، ووردتْ عنه صلى الله عليه وآله أحاديثُ بخصوص هذا الباب تقطع الطّريقَ على كل مُتأوّل مُتنطّع،فمن ذلك ما في سُنن ابن ماجه[31]:حدّثنا أبو بشر

[..]عن سعيد بن جبير،عن ابن عبّاس، قال:قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم " من انتسب إلى غير أبيه،أو تولىّ غير مَوَالِيه، فعليه لعنةُ الله والملائكة والنّاس أجمعين " (اهـ). وفيه أيْضا [32]: حدّثنا أبو بكر بن أبى شيبة حدثنا يزيد بن هرون أنبأنا سعيد بن أبي عروبة عن قتادة ،عن شهْر بن حوْشب،عن عبد الرّحمن بن غنم ،

عن عمرو بن خارجة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم خطبهم وهو على راحلته.وإنّ راحلتَه لتقْصعُ بجرّتِها وإنّ لغَامَها ليسيلُ بيْن كتفيَّ ، قال " إنّ الله قسمَ لكلّ وارثٍ نصيبَه مِن الميراث،فلا يجوزُ لوارثٍ وصيّة.الولدُ للفراش وللعاهرِ الحجرُ . ومَن ادّعى إلى غيرِ أبِيه،أوْ تَوَلّى غيرَ مَواليه،فعليْه لعنةُ الله والملائكة والنّاس أجمعين.لا يُقبل منه صرْفٌ ولا عدْلٌ " (أو قال:عدل ولا صرف) (انتهى).

ولا يخفى أنّ ذيلَ هذا الحديث ينطبِقُ على زياد بن أبيه،وإنّما حمَلَه على ذلك معاوية فهُو شريكُه في اللّعْن،وهذا أمرٌ يتحاشاه المحدثون وكتّاب التّراجم والسّيَر ويتجنّبُون التّطرّقَ إليه لما يلزَمهم من ترْتيب الآثار َوالحُكم على معاوية بمايستحقّ.

وفي سنن أبي داود [33]:

حدّثنا محمّد بن كثير،أخبرنا سفيان،عن الأعمش،عن إبراهيم التّيميّ ،عن أبيه عن عليّ رضي الله عنه قال:ما كتبنا عن النّبيّ صلّى الله عليه وسلم إلاّ القرآن ، وما في هذه الصّحيفة ، قال:قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم : " المدينة حرمٌ ما بين عائر إلى ثور،فمن أحدث حدثاَ أوآوى مُحْدِثاً فعليهِ لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين،لا يُقبل منه عدْل ولا صرْفٌ،وذمّةُ المسلمين واحدةٌ يسعى بها أدْناهُم فمن أخْفرَ مُسلماً فعليهِ لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين لا يُقبلُ منْه عدلٌ ولا صرْفٌ،ومن والَى قوماً بغيْرِ إذنِ مَوالِيه فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين لا يُقبلُ منه عدل ولا صرف "(اهـ).

وفيه سنن أبي داوود أيضاً [34]: عن أنس بن مالك،قال:سمعتُ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم يقول:(من ادّعى إلى غيرِ أبيه أوانتَمى إلى غيْر مَواليه فعليه لعنة الله المتتابعةُ

إلى يوم القيامة) (انتهى).

 وفي سنن الترمذي[35]: ...التّيمي عن أبيه قال خطبنا عليّ فقال : من زعم أنّ عندنا شيئا نقرؤه إلاّ كتاب الله وهذه الصحيفة فيها أسنان الإبل وأشياء من

الجراحات فقد كذب،وقال فيها:(قال النّبيّ صلّى الله عليه وسلم:المدينةٌ حرمٌ ما بينَ عير إلى ثوْر،فمَن أحدثَ فيها حدثاً أو آوى مُحدِثاً فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين ،لا يَقبلُ اللهُ مِنْه يومَِ القيامة صرفا ولاعدْلاً ،ومن ادّعى إلى غير أبيه أو تَولّى غيرَ مواليه فعليه لعنة الله والملائكة والنّاس أجمعين،لا يُقبل منه صرف ولا عدل ، وذمّة المسلمين واحدة يسْعى بها أدْناهُم)(انتهى).

وبعدَ هذا فَهلْ كانَ للقُرآن الكريم والحديث النّبويّ الشّريف حُرْمَةٌ عند مُعاويَة؟!

إنّ معاوية يتحدّى حكماً شرعيّاً معلوماً بالضّرورة نزل بخُصوصه قرآن يُتلى، ولا خلاف في كُفْر مَن أنْكر حُكماً معلوما بالضّرورة طائعاً غير مُكْرَه، لكن حينما يتعلّق الأمر برجُل كان الآمِرَ النّاهيَ في زمانه، تنْفتح أبوابُ التّأويل والمعاذير ويصبح مُنكرالمعلُوم من الدين بالضرورة من الذين رضي الله عنهم ورضوا عنه!

قال ابن خَلْدُون [ج 3 ص 8 ]:

 وكان عبد الله بن عامر يبغض زياداً وقال يوماً لبعض أصحابه من عبد القيس:ابن سميّة يقبّح آثاري ويعترض عمّالي لقد هممت بقسامة من قُريْش أنّ أبا سُفْيان لم يَرَ سميّة فأُخبر زيادُ بذلك فأَخبرَ به مُعاويَة فأمر حاجبه أن يردّه من أقْصى الأبْواب وشكا ذلك إلى يزيد فركب معه فأدخله على مُعاويَة فلما رآه قام من مجلسه ودخل إلى بيْته فقال يزيد نقعد في انتظاره فلم يزالا حتى عدا ابن عامر فيما كان منه من القول وقال إنّي لا أتكثّر بزياد من قلّة ولا أتعزّز به من ذلّة ولكن عرفت حقّ الله فوضعتُه موضعَه فخرج ابن عامر وترضّى زياداً ورضي له مُعاويَة!!اهـ

وهذا شيء يهتزّ له ابن خَلْدُون طرباً، غير عابئ بما وراءه من انتهاك لحرمة الشّريعة واستخفاف بمبلّغها الذي لعن من ادّعى لغير أبيه.على أنّ عبد الله بن عامر ليس أوّل من ساء زياداً في نسبه المُفترَى، فإنّ يزيد بن معاوية نفسَه كان يحطّ من شأنه ويُذكّره شؤمه بمحضر أبيه ؛ فقد ذَكَر الزّمخشريّ في ربيع الأبرار أنّ زياداً قَدِمَ على معاوية بهدايا فيها سقط جوهر، فأُعجب به معاوية، فقال زياد: دوّخت لك العراق، جبيتُ لك برّها، ووجّهت إليك بحرها؛ فقال يزيد: إنْ تفعل ذلك يازياد فإنّا نقلناك من ثقيف إلى قُريش،ومن القَلَم إلى المنابر،ومن عُبيد إلى حرب بن أميّة. فقال معاوية: حسبك فداك أبوك(اهـ). قلتُ : هذا جزاءُ مَن ادّعى إلى غيْر أبيه،بلْ هذا أوّلُ آثاراللعن وإنّ الحُرّ الأبيَّ شريفَ النّفس ليُفضّل الموتَ على أن يسمعَ مثلَ ما سمع زيادُ من يزيد بمحْضَر معاوية. وما قيمةُ حرب بن أميّة حتى يفخرَ به يزيدُ وأبُوه؟إنْ هُو إلاّ أحدُ فُرُوع الشّجرة الملعُونة في القرآن لو كان زياد ممّن يفقه في الدين أو ألقى السمع وهو شهيد.

وفي الموطإ أيضاً (ج 2 ص 872 ):

حدثنى يحيى عن مالك ،أنّه بلغه أنّ مَرْوان بن الحكم كتب إلى مُعاويَة بن أبى سُفْيان يذكر أنّه أُتي بسكران قد قَتل رجلاً.فكتب إليه مُعاويَة : أن اقْتلْه به (اهـ).

أقولُ:لماذا يسألُ مَرْوان مُعاويَةَ وعندَه في المدينة سيّدا شباب أهْل الجنّة أو أحدُهما إنْ كانت الواقعة بعد سنة50، وعبد الله بن عبّاس حبر الأمّة الفقيه في الدّين ؟!

قال الشّوكانيّ في نيل الأوطار ج 2ص 118 :

وعن مُعاويَة قال: قُلت لأم حبيبة : هل كان يصلّي رسول الله صلى الله عليه وسلم في الثّوب الذي يجامع فيه ؟ قالت : نعم إذا لم يكن فيه أذى. رواه الخمسة إلاّ التّرمذي (اهـ).

قلتُ : لقد كان بإمْكان مُعاويَة أن يكلّفَ غيرَه ليسألَ هذا السّؤال، فإنّ الحياء يمنع الرّجلَ أن يتطرّق إلى مثل هذه العبارات مع أخْته ـ التي هي في نفس الوقت أمّه إن كان من المؤمنين ـ .لكن يبدو أنّه ليس لآل أُميّة نصيب من الحياء،والحياء من الإيمان.ولايُقال ههُنا إنّه لا حياءَ في المسائل الشرعيّة فإنّ المقصود من ذلك هو ألاّ يمنع الحياءُ الرّجل أو المرأة من السؤال لا أن يهتك ما بينه وبين أقاربه من الأدب الحشمة، والعُرف والوجدان يشهدان بذلك.

***      

 

10 ـ مُعاويَة والحديث النّبويّ:

    لمُعاويَة مع الحديث النّبويّ قصّةٌ يجهلُها كثيرٌ من أبناء المسلمين وخصوصاً منهم الذين لم يلتحقوا بالمدارس لأسباب الاستعماروغيرها.وقد ساعد على استمرار خفائها كوْنُ أئمّة المساجد لا يتطرّقون إلى ذلك من قريب أوبعيد.وقد حاولتُ هُنا أن أُثيرَ النّقطة لدى من يبحث عن الحقيقة،وعليه أن يطلبَ التّفصيل في مظانّه،وبالله التّوفيق.والأمرُ يدورُ بين اتّجاهين مُهمّيْن تفرّعتْ عنهُما كثيرٌ من المصائب التي اسْتعْصتْ على علماء الحديث والرّجال،ولا زالت آثار ذلك إلى يومنا يستغلّها المستشرقون والمُغرضُون والعلْمانيّون ومن جمَعَهم الحقدُ على الإسْلام وإن اختلفت أهواؤهم ومبانيهم.يتجلّى الاتّجاه الأول في تبنّي الدّولة منْعَ رواية أحاديث فضائل أهل البيت عليهم السّلام كما يتجلّى الثاني في تشجيع اختلاق أحاديث فضائل لكلّ من عادى أهل البيت النبويّ وخالفهم وأساء إليهم .قال ابن أبي الحديد [36]:وذكر شيخنا أبو جعفر الإسكافيّ رحمه الله تعالى - وكان من المتحقّقين بمُوالاة عليّ عليه السلام،والمبالغين في تفضيله،وإن كان القول بالتّفضيل عامّاً شائعاً في

البغداديّين من أصحابنا كافّة،إلاّ أنّ أبا جعفر أشدُّهم في ذلك قولاً،وأخلصُهم فيه اعتقاداً - أنّ معاوية وضعَ قوماً من الصّحابة وقوماً من التّابعين على رواية أخبار قبيحة في عليّ عليه السلام،تقتضي الطّعن فيه والبراءةَ منه،وجعل لهم على ذلك جعْلاً يُرغب في مثْله، فاختلقوا ما أرضاه،منهم أبوهُريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة ، ومن التّابعين عروة بن الزّبير(اهـ).

 وبعدَ أنْ أحكمَ معاويةُ ما يُريد، وضمنَ أحاديثَ من رُواتها أبوهريرة وعمرو بن العاص والمغيرة بن شعبة،راح يَحُوط إنجازَه بما يُوحي للبُسطاء بتشدُّده في مسألة الحديث ، ويُصوّرُه بمنْزلة الحَريص على حديث النّبيّ صلى الله عليه و آله من الزيادة والنقصان! أورد الذّهبيّ ما يلي[37]:[..] ابن علية عن رجاء بن أبي سلمة

قال بلغني أنّ مُعاويَة كان يقول عليكم من الحديث بما كان في عهد عُمر فإنّه كان قد أخاف النّاس في الحديث عن النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم (اهـ).

ولوأنّ معاويةَ قال"عليكم من الحديث بما كان في عهد النبيّ صلى الله عليه و آله" لصدّقه كل من يبلغُ سمعَه هذا الكلامُ،لكنْ قد صرّح عُمَر نفسُه في حديث المتْعتيْن أنّ عهدَه غيرُ عهد النّبيّ صلى الله عليه وآله ،فقد قال "متعتان كانتا على عهد رسول الله صلى الله عليه وآله وأنا أنهى عنهما وأعاقبُ عليْهما "[38]،فإمّا أن تكون الأحاديث زادتْ

عمّا كانت عليه زمان النّبيّ صلى الله عليه وآله وإمّا أن تكون قد نقصتْ وفي كلْتَا الحالتيْن بلاءٌ عظيمٌ.أمّا القول أنّها لم تزدْ ولمْ تنقُصْ فمدفوعٌ بأحاديثَ صحيحة ووقائعَ تاريخيّة لا يدفعها إلاّ مكابر. والمقصودُ في هذا البحْث المخْتَصَرِ الإشارةُ إلى ذلك لا التّفصيلُ فيه.فإذا كان الصّحابة جميعُهم عُدولاً فلماذا يخصُّ عهْد عُمر دُون غيره؟![39] وكيف صار عهد عُمر مُقدّماً على عهد النبيّ صلى الله عليه وآله ؟!

 

***

11- مُعاويَة والغدر:

 قال محمد بن الحسن الشيباني في كتاب السّير[40]: ودلّ على هذا قولُه تعالى { وإن أحد من المشركين استجارك فأجره حتّى يسمع كلام الله ثمّ أبلغه مأمنه }.

واستُدلّ عليه بحديث مُعاويَة ، فإنّه كان بينه وبين الرّوم عهد فكان يُشيرنحْوَ بلادهم كأنّه يقول:حتّى نفيَ بالعهْد ثُمّ نغيرُعليهم.يعنى أنّ العهد كان إلى مدّة،ففي آخرالمُدّة سارَ إليهم ليَقرُبَ منْهم حتّى يُغيرَ عليهم مع انْقضاء المُدّة.قال: وإذا شيخٌ يقول:الله أكبر! وَفَاء لا غدْر، وفاء لا غدْر . وكان هذا الشّيخ عَمرو بن عنبسة السّلَميّ.تبيّن له بما قال أنّ في صنعه معنى الغدْر،لأنّهم لا يعلمون أنّه يدْنو منْهم يُريد غارتهم وإنّما يظنّون أنّه يدْنو منهم للأمان.فقال مُعاويَة:ما قولك وفاء لا غدْر؟ قال سمعتُ النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم يقول:أيُّما رجُل بيْنه وبيْن قوْم عهْد فلا يحلّنّ عقْدة ولا يشدّها حتّى يمْضي أمَدها وينْبذ إليهم على سواء (اهـ).

قال الشّيبانىّ [41]: وقد حُكيَ أنّ مثلَ هذه الحادثة وقعَ في زمن مُعاويَة.وكان الذي يسعى في طلب الأمان للجماعة قد آذى المسلمين. فقال مُعاويَة رضي الله عنه:اللّهمّ

أغفلْه عن نفْسه.فطلب الأمانَ لقوْمه وأهْله ولم يذكر نفسه بشيء.فأُخذ وقُتل.ثمّ الإنسان في مثْل هذه الحالة قد يسْعى في استنْقاذ أهْله منْ غيْر أن يقصُدَ نفسَه بذلك[!] إمّا لانقطَاع طمَعه بأنّه لا يؤمن إن طلبَ ذلك لنفسه،أو لأنّه ملَّ من نفسه لفرْط الضّجَر. فباعتبار المقصود الدّليلُ مشترك،وباعتبار اللّفظ لا ذكْرَ لهُ (اهـ).هذا كلامُ الفقيهِ الكبيرِ صاحبِ أبي حنيفةَ،وقد كنتُ أودُّ ألاّ أعلّقَ هُنا بشيْء وأنْ أدعَ الأمرَ للقارئ يحكُمُ بما يراهُ فالقضيّةُ فقهيّةٌ بالدّرجة الأُولى،ومذاهبُ الفقهِ مُتشعّبة؛لكنّ ضميري لم يُطاوعْني في غضّ الطرْف عن الحيلَة التي يمارسُها الشّيْبانيّ وأضرابُه باسْم الإسْلام مِنْ أجْل تبْريرعمَل مُعاويةَ وأمثاله؛ فهل يُعقَل أنْ يَسْعَى رَجُلٌ في فَكَاكِ أهْلِهِ وَقَوْمِهِ وَلاَ يَعْنِي بذلك نفْسَهُ مَعَهُمْ؟ونَحْنُ نَرَى في زَمَاننا هذا مُفَوَّضين وسُفَرَاء ومُمَثّلين يَدْخُلُون في مُفَاوضات تخُصُّ شُعوبَهم وَلَوْ ذكَّرَ أحدُهُم بُوُجوب دُخُوله في ما يَتَفَاوَضُون في شأْنه لاسْتَهْجَنَه العُقلاءُ ونَسَبُوهُ إلى الحَمَاقَة. فهل كان النّبيّ صلى الله عليه وآله يُمضي قولَ الشّيبانيّ هذا يُصوّبُ ما أقدمَ عليْه مُعاويةُ؟ أيسوغُ في عقْل مَن يَخافُ اللهَ تعالى أنْ يُبنَى الفقْهُ على الحيلَة والمكْر ليتلقّفَ المُستشرقُون والعلْمانيُّونَ نتائج ذلك ويحتجُّوا بها على المسلمين؟!

نعمْ،حينما يحكُم الطُّلَقَاء باسْم الأنبياء تُستباحُ الدّماءُ المعصُومةُ وتُنتهَكُ الحُرُماتُ وتُضيَّعُ الحقوقُ،وليسَ الرّوميُّ السّاعي في الأمان لقوْمه في القصّة السّابقة أعظمَ حُرمةً منْ حجْر بْن عديّ وعمْرو بْن الحمق ومحمّد بن أبي بكْر ومحمّد بن أبي حذيفة، وقد غدَرَ بهم معاويةُ جميعاً ولمْ يَرقُبْ فيهم إلاًّ ولا ذمّةً.إنّ مثل هذه الأعمال تؤكّد ـ في نظري ـ صحّة ما ذهب إليه الحمانيّ الكُوفيّ يحْي بنُ عبْد الحميد منْ أنّ مُعاوية " ماتَ على غيْر ملّة الإسلام ".  

وقال ابن حجر العسقلاني[42]:

 ثمّ كان من مسير مُعاويَة بن أبي سُفْيان إلى مصْر لّما أراد المسير إلى صفّين فرأى ألاّ يتركَ أهْلَ مصْر مع ابن أبي حُذيفة خلفَه فسارَ إليهم في عسْكر كثيف فخرجَ إليهم ابنُ أبي حُذيفة في أهل مصْر فمنعُوه منْ دُخول الفُسطاط فأرْسل إليهم إنّا لا نُريدُ قتالَ أَحَد وإنّما نطلبُ قَتَلَةَ عُثمان فدار الكلامُ بينهم في المُوادعَة واستخلفَ ابنُ أبي حُذيفة على مصْر الحَكَم بنَ الصّلت بن مخرمة بن المطلب بن عبد مناف وخرجَ مع جماعَة منهم عبدُ الرّحمن بن عديس[43]وكنانَة بن بشْر وأبو

شمربن أبرهة بن الصّباح فلمّا بلغوا به غدر بهم عسكرُ مُعاويَة وسجَنُوهُم إلى أن قُتلوا بعد ذلك(اهـ). قال بعده: قال أبوأحمد الحاكم خدعَ مُعاويَة محمّدَ بن أبي حذيفة حتى خرج إلى العريش في ثلاثين نفسا فحاصره ونصب عليه المنجنيق حتى نزل على صُلح فحُبس ثمّ قُتل(اهـ).

قلتُ:يدخُلُ في الغدْرنكْثُ العُهود وجُحودُها،وقد ثبت أنّ معاوية قال في الكوفة بعد صلح الحسن "كلّ شرْط شرطتُه للحَسن فتحْتَ قَدَميّ هاتين".وقد قال النبي صلى الله عليه وآله [44]:"من خرج من الطّاعة وفارق الجماعة فمات مَاتَ ميتةً جاهليّةً ومن قاتلَ تحتَ راية عمية يغضب لعصبة أويدْعو إلى عصبة أو ينصرعصبة فقُتل

فقتْلةٌ جاهليلة،ومن خرج على أمّتى يضرب برَّها وفاجرَها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذى عهْد عهدَه فليْس منّى ولستُ منْه "(اهـ).وقد فعلَها معاويةُ جميعاً، فقاتلَ بغير حقّ إمامَ الأُمّة وغدرَبكَثيرٍ من الصّحابة والتابعين،وأثارالعصبيّة بين العدنانية والقحطانية وأشعل نيران الفتنة بشتّى الوسائل لا يستثني من ذلك شعرَ الشّعراء ووضعَ الأحاديث.فينطبق عليه قوله صلى الله عليه و آله " فليس منّي ولست منه ".


 

[1] البداية والنهاية ابن كثير ج3 ص 141

[2] قال القنوجي في " قطف الثمر في بيان عقيدة أهل الأثر " ج1ص114 : وأجمع القائلون بالأخبار والمؤمنون بالآثار أن النّبيّ أسري به ليلا من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى بنص القرآن ثم عرج به إلى السماء واحدا بعد واحد حتى إلى فوق السموات السبع وإلى سدرة المنتهى بجسده وروحه جميعا ثم عاد إلى السماء إلى مكة قبل الصبح  وفيه أيضا دليل على علو الرب تعالى وكونه فوق العرش مستويا عليه كما قال سبحانه في مواضع من كتابه الرحمن على العرش استوى  فمن قال إنّ الاسراء في ليلة والمعراج في أخرى فقد غلط ومن قال إنه منام وأنه لم يسر بعبده فقد كفر. اهـ وقريب منه ما جاء في شرح العقيدة الطحاوية ج1ص249 .

[3] شرح نهج البلاغة ج 5 ص 129

[4] تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر ج 59 ص 61

[5] الطبقات الكبرى ـ محمّد بن سعد ـ ج 3 ص 11 

[6] الطبقات الكبرى محمد بن سعد ج 3 ص 524

[7] مختصرالأحكام- السيد الگلپايگاني ص 44 ،وانظر تحرير الوسيلة للسيد الخميني ج1ص93 وكتاب الطهارة للسيد الخوئي ج 9 ص239 والعروة الوثقى للسيد اليزدي ج1ص449 ومستدرك العروة للسيد الحكيم ج4ص267 وهداية العباد للطف الله الصافي ج1ص76 .

[8] طبقات فحول الشعراء ج2 ص 463

[9] البيان والتّبيين للجاحظ ج1ص103

[10] المستطرف في كلّ فن مستظرف ج1ص131

[11] البداية والنهاية ـ ابن كثيرـ ج 8 ص 145

[12] الطبقات الكبرى ـ محمد بن سعد ج 5 ص17

[13] الطبقات الكبرى ـ محمد بن سعد ج5ص 16

[14] الطبقات الكبرى ج5 ص 16

[15] نيل الأوطارـ الشوكاني ـ ج 2 ص217

[16] وأخرجه الحاكم في المُستَدرك وقال : صحيح على شرط مسلم .

[17] كتاب المسند الإمام الشافعي ص 37 دار الكتب العلمية بيروت

[18] نيل الأوطارج 2ص 266

[19] نيل الأوطارـ الشّوكانيّ ـ ج 2ص 269

[20] نيل الأوطار ج3 ص 363

[21] التاريخ الكبير ـ البخاري ـ ج1ص263

[22] التاريخ الكبير ـ البخاري ـ ج 1ص 438

[23] أحكام أهل الذّمّة ـ ابن قيم الجوزية ـ ج3ص1448

[24] النّصائح الكافية- محمّد بن عقيل الشّافعيّ ـ ص 123

[25] الحديث موجود أيضاً في الإصابة ـ ابن حجر ـ ج4ص313

[26] حاشية ابن القيّم ـ ج10 ص86

[27] المستطرف ج2ص62

[28] صحيح البخاري ج3ص1289 الحديث رقم ( 3309) دار ابن كثير بيروت  1409 تحقيق د.مصطفى ديب البغا

[29] اعلام الموقّعين ـ ابن قيّم الجوزيّة ـ ج2ص293

[30] تاريخ ابن خَلْدُون ج3 ص7

 [31]سنن ابن ماجة ج 2 ص 870 الحديث رقم2609 :

[32] سنن ابن ماجة ج 2 ص 905 الحديث رقم 2712

    [33] سنن أبي داود السجستاني ج 1ص 451و452

[34]     سنن أبي داوود أيْضا ج 2 ص 502

 [35] سنن الترمذي ج 3ص 297

[36] شرح نهج البلاغة - ابن أبي الحديد ـ ج 4 ص 63

 

[37] تذكرة الحفاظ ـ الذهبي ـ ج 1 ص7

[38] الحديث في السنن الكبرى للبيهقي ج7ص206 ومسند أحمد ج1ص52وعلل الدارقطني ج2ص156 وميزان الاعتدال ج3ص552.

[39] قال جابر فيما رواه مسلم في صحيحه ج 4  ص 38: تمتعنا مع النّبيّ صلى الله عليه وسلم فلما قام عمر قال ان الله كان يحل لرسوله ما شاء بما شاء وان القرآن قد نزل منازله فأتموا الحج والعمرة لله كما امركم الله وابتوا نكاح هذه النساء فلن أوتي برجل نكح امرأة إلى اجل الا رجمته بالحجارة *والعبارة المسطّر تحتها تتضمن أمراً خطيرا، لأنها تعارض حديث " حلال محمد حلال إلىيوم القيامة.." ولأنّ الله تعالى كان يحلّ لرسوله ولمن يأتمّ به.

[40] السيَر الكبير محمد بن الحسن ج 1ص 265

[41] السير الكبيرـ محمد بن الحسن الشيباني ج 1 ص 326

[42] الإصابة ـ ابن حجرالعسقلاني ـ ج 6 ص 10

[43] عبد الرحمن بن عديس البلوي صحابي ممن بايع تحت الشجرة.

[44] صحيح مسلم - ج 6 ص 20/21 حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا جرير ( يعنى ابن حازم ) حدثنا غيلان ابن جرير عن ابى قيس بن رياح عن ابى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال : من خرج....الحديث

 

.. قبل ..        .. الرئيسية ..         .. بعد ..