.. الفصل الحادي عشر المدافعون عن معاوية ..

 

          المدافعون عن معاوية :

 

1- ابن خَلْدُون [1]   

قال ابن خَلْدُون في تاريخه[2]:

" فإيّاك أن تظنّ بمُعاويَة رضي الله عنه أنّه علمَ ذلك من يزيد فإنّه أعدلُ من ذلك وأفضلُ،بل كان يعذلُه أيّام حياته في سمَاع الغناء وينْهاهُ عنْه وهُو أقلّ من ذلك،وكانت مذاهبهم فيه مختلفة،ولمّا حدثَ في يزيد ما حدثَ من الفسْق اختلفَ الصّحابةُ حينئذ في شأْنه،فمنْهم من رأى الخروجَ عليْه ونقضَ بيْعَته منْ أجْل ذلك، كما فعل الحُسين وعبدُ الله بن الزّبيررضي الله عنهما ومن اتّبعهما في ذلك،ومنْهم مَن أباهُ لما فيه من إثارة الفتْنة وكثْرة القتْل معَ العجْزعن الوفَاء به،لأنَّ شوكةَ يزيد يومئذ هي عصابَة بني أُميّةَ وجمْهُورأهْل الحلّ والعقد من قُريْش وتتبع عصبيّة مضرأجْمَع،وهي أعظمُ منْ كلّ شوْكة ولا تُطاقُ مُقاومَتُهم،فأقصروا عن يزيد بسبَب ذلك وأقامُوا على الدُّعاء بهدايَته والرّاحة منْه،وهذا كان شأن جمْهُور المُسلمين.والكلّ مُجتهدون ولا يُنكَرعلى أحَد منَ الفريقيْن،فَمَقَاصدُهم في البرّ وتَحَرّي الحقّ معرُوفَة ،وفّقنا اللهُ للاقتداء بهم.(اهـ).

وقد استجيبتْ دعوةُ ابْن خَلْدُون ووُفّق للاقتداء بمُعاويَة ويزيد فماتَ يبْغضُ أهلَ البيت عليهم السّلام ويعظّمُ بني أُميّة ويترضّى عمّن لَعَنَهُ النّبيّ صلى الله عليه وآله ويبغضُ مَن يحبّه رسول الله صلى الله عليه وآله فهنيئاً لهُ مَا اخْتار! ويبدُو لي مُهمّاً أن تُقَدَّمَ نُبذةٌ عن حياة وشخصيّة ابْن خَلْدُون قبْل مُناقشَة كلامِهِ ومَوَاقِفِه حتّى لا يَكُونَ في الحديثِ عنْه غُبْنٌ لَهُ،وللقارئ الكريم أن يدقّق في التّناسب بين الشّخصيّة والمَواقف ليُحدّدَ مَدى توافُق ذلك أ استبعاده . قال الشّوكانيّ [3]:

 عبد الرّحمن بن محمّد بن محمّد بن محمّد بن الحسن بن محمّد بن جابر بن محمّد بن ابراهيم بن محمّد بن عبد الرحيم وليّ الدّين الإشبيليّ الأصل التّونسيّ ثُمّ القاهريّ المالكيّ المعروف بابن خَلْدُون.وُلد في أوّل رمضان سنة 732اثنتين وثلاثين وسبعمائة بتُونس وحفظَ القرآنَ والشاطبيّتيْن ومُختصرَ ابنِ الحاجِبِ الفرعيّ والتّسْهيل في النّحو وتفقّه بجماعَة من أهْل بَلَده وسمعَ الحديثَ هُنالك وقرأَ فى كثير من الفُنون ومهر فى جميع ذلك لاسيما الأدب وفنّ الكتابة .ثمّ توجّه فى سنة 753 إلى فاس فوقع بين يدي سلطانها ثمّ امتُحن واعتُقل نحو عامين ثمّ وليَ كتابة السّرّ وكذا النّظر فى المظالم ثمّ دخل الأندلسَ فقدمَ غرناطةَ فى أوائل ربيع الأوّل سنة764 وتلقّاه سُلطانُها ابنُ الأحمرعنْد قُدومه ونظمَه في أهْل مجْلسِه وكانَ رسولََه إلى عظيم الفرنْج بإشبيلية فقام بالأمر الذى نُدب إليه ثمّ توجّه في سنة766الى بجاية ففوّض إليه صاحبُها تدبيرَ مملكته مدّة ثمّ استأذن في الحجّ فأذن له فقدم الدّيار المصريّة فى ذي القعدة سنة784 فحجّ ثم عاد الى مصر فتلقّاه أهلُها وأكرمُوه وأكثرُوا من مُلازَمته والتودّد إليه وتصدّرَ للإقْراء في الجامع الأزْهر مُدّةً ثم قرّرهُ الظّاهر برقوق فى قضاء المالكيّة بالدّيار المصريّة في جمادى الآخرة سنة786 وفتكَ بكثير من الموقعين وصار يعزّر بالصّفْع ويُسمّيه الزّجّ فإذا غضب على إنسان قال زجّوه فيُصْفَع حتّى تحمرَّ رقبتُه! وعُزل ثُمّ أُعيد وتكرّرَ له ذلك حتّى مات قاضياًً فجأةً في يوم الأربعاء لأربع بقين من رمضان سنة808 ثمان وثمان مائة ودُفن بمقابر الصّوفية خارج باب النّصر. ودخل مع العسْكر في أيّام انفصاله عن القضاء لقتال تيمور فقُدّر اجتماعه به وخادعه وخلص منه بعد أن أكرمه وزوّده.قال بعض من ترجمه إنّه كان في بعض ولاياته يُكثر من سماع المُطْرِبَات ومُعاشَرة الأحداث[!] وقال آخر كان فصيحاً مفوّهاً جميل الصُّورة حسنَ العِشْرة إذا كان معزُولاً فأمّا إذا وليَ فلا يُعاشَر بل ينْبَغي أن لا يُرى؛وقال ابنُ الخطيب إنّه رجلٌ فاضلٌ جمُّ الفَضائل رفيعُ القدْر أصيلُ المَجْد وَقُورُ المجْلس عالى الهمَّة قويُّ الجأْش مُتقدّمٌ فى فنون عقْليّة ونقْليّة مُتعدّدُ المَزايا شديدُ البحْث كثيرُ الحفْظ صحيحُ التَّصوُّر بارعُ الخطّ حسنُ العِشْرة وأثْنى عليه المَقْريزيّ وكان الحافظُ أبو الحسن الهيثميُّ يُبالغُ فى الغَضّ منْه قال الحافظُ ابنُ حَجر فلمَّا سألتُه عن سبَب ذلك ذكرَ لي أنّه بلغَه أنّه قال فى الحسين السّبط رضي الله عنه إنّه قُتلَ بسيْف جدّه ثُمّ أردفَ ذلكَ بلعْن ابْن خَلْدُون وسبّه وهُو يبْكي. قال ابنُ حجَر لمْ تُوجَد هذه الكلمةُ فى التّاريخ الموجُود الآن وكأنّه كان ذكَرها في النّسْخة التى رجعَ عنْها قال والعجبُ أنّ صاحبَنا المقريزيَّ كان يُفرطُ فى تعْظيم ابْن خَلْدُون لكوْنه كان يجْزمُ بصحّة نسَب بني عُبيد الذين كانوا خلفاءَ بمصْر ويُخالف غيرَهُ في ذلك ويدفعُ ما نُقلَ عن الأئمّة منَ الطّعْن في نَسَبهم ويقول إنّما كتبوا ذلك المحْضرَ مُراعاةً للخليفة العبّاسيّ وكان المقريزيُّ ينْتمي إلى الفاطميين كما سبق فأحبّ ابنَ خَلْدُون لكوْنه أثْبتَ نسبَهم وجهلَ مُرادَ ابْن خَلْدُون فإنّه كان لانْحرافِه عن العلويَّة يُثْبتُ نسبَة العُبيديّين إليهم لما اشْتهرَ منْ سُوء مُعتقَدهم وكوْن بعضهم نُسبَ إلى الزَّنْدقَة وادّعاء الإلهيّة كالحاكم فكأنّهُ أرادَ أنْ يجعلَ ذلك ذريعةً إلى الطّعْن ؛هكذا حكاهُ السّخاويّ عن ابن حجر والله أعلم بالحقيقة. واذا صحَّ صدُور تلك الكَلمَة عن صاحب التّرجمَة فهُوَ ممّن أضلّه الله على علْم وقدْ صنّف تاريخاً كبيراً في سبْع مجلّدات ضخمة أبانَ فيها عن فصاحَة وبراعَة وكانَ لا يتزيّى بزيّ القُضاة بل مُستمرّ على زيّ بلاده وله نظم حسن فمنه :أسرفن فى هجرى وفي تعذيبى** وأطلن موقف عبرتى ونحيبى  وأبين يوم البين وقفة ساعة ** لوداع مشغوف الفؤاد كئيب  وترجمه ابن عمّار أحدُ مَن أخَذ عنه فقال:الأُستاذُ المنوّهُ بلسانه سيفُ المُحاضرَة كانَ يسلُك فى إقرَائه للأُصول مسلَك الأقْدَمين كالغزاليّ والفخر الرّازيّ مع الإنكارعلى الطّريقة المتأخّرة التى أحدثَها طلبةُ العَجَم ومَنْ تَبعهم من التّوغُّل فى المُشاحّة اللّفظيّة والتّسلسل فى الحدّيّة والرّسميّة اللّتيْن أثارهُما العَضُدُ وأتباعُه في الحوَاشي عليه وينْهى النّاقلَ غُضون إقرَائه عن شيْء منْ هذه الكُتب مُستنداً إلى أنّ طريقةَ الأقْدمينَ من العرَب والعجَم وكتبهم فى هذا الفنّ على خلاف ذلك وأنّ اختصارَ الكُتب فى كلِّ فنٍّ والتقيُّدَ بالألْفاظ على طريقَة العضُد وغيْره منْ مُحدَثَات المُتأخّرين والعلمُ وراءَ ذلك كلّه .قال وله من المؤلّفات غير الانشاءات النّثْريّة والشّعْريّة التى هي كالسّحر التّاريخُ العظيمُ المترجَمُ بالعبَر في تاريخ المُلوك والأُمَم والبَربَر حَوَتْ مُقدّمتُه جميعَ العلُوم(انتهى).

ثمّ إنّه يكادُ ينفردُ بطريقَته في التّرضّي عن الصّحابة، وكأنّما يستكثرُ في آل النبيّصلى الله عليه وآلهالترضّيَ فضلاً عن الصّلاة، وأنا مُوردٌ هنا بعض ما يتجلّى فيه ذلك كي لا تغيبَ البيّنَة. قال ابن خَلْدُون في تاريخه [ ج 2 ص 328 ]:وبنو ربيعة بن عبد شمس منهم عتبة وشيبة ابنا ربيعة ومنْ عُتبةَ ابنُه الوليدُ وقُتل يومَ بدْر كافراً وأبو حُذيفة صحابيٌّ وهُوَ موْلى سالم قُتلَ يوْم اليمامة وهنْدُ بنتُ عتبةَ أمّ مُعاويَة رضي الله عنها(اهـ).فانظُرْ إلى قوْله عن أبي حذيفة " قُتلَ يوْم اليَمامَة "دونَ أن يترضّى عنْه،عِلْماً أنّ الذين قُتلوا يومَ اليمامَة شُهداءُ في ظاهر أمْرهم لأنّهمْ كانُوا يُحاربُون مُسيْلمةَ الكذّاب وجُنودَه ولا خلافَ بيْن المُسلمين في كُفر مُسيلمةَ وأنّ مُحارَبتَه جِهَِادٌ صحيحٌ.وانْظُرْ كيْفَ يَترضَّى عنْ آكلة الأكْباد صاحبَةِ الرّايةِ ذاتِ الأمْرالمشْهور،ويكْفي لتَحقُّق ذلك منْها مُطالعةُ أشْعار حسّان بْن ثابت التي كانَ يهْجُو بهَا المُشركينَ ذبّاً عن رسول الله صلى الله عليه وآله،فإنّها مشحونةٌ بالحَديث عن رُسُوخ هنْد بنْت عُتبةَ في الفُجُور؛ولوْ كانَ حسّانُ مُتّهماً لَها في ما ذَكَرلمَا أقرَّهُ النّبيّ صلى الله عليه وآله عليه؛ ثُمّ إنّه ساوَى بيْن سيّدة نساء العالمين سلام الله عليها وبيْن آكلة الأكْبَاد وهذا ممّا يُؤذي قلبَ النّبيّ صلى الله عليه وآله والذين يُؤذُون رسول الله لهم عذاب أليم.

 وقال في[ج2ص328]:" أبو العاصى بن الربيع بن عبد العزى صهر النّبيّ وكانت له منها أمامة تزوّجها عليّ بعد فاطمة رضي الله عنهما "(اهـ).وأنتَ تَرى أنّه ترضّى عن اثنين لا أكثر،فلم يترضَّ عنْ أُمامةَ ولا عنْ أبي العاص بن الرّبيع،وكان بإمْكَانه أن يضَعَ ميمَ الجَمْع فتَكُون(هُمْ) بَدَلَ(هُمَا)،ولكنْ يَبْدُو أنّ لابْن خَلْدُون هوىً في مَنْ يبغضُ عليّاً وآل بيت النبيّ صلى الله عليه و آله،ومنْ تتبَّع أسْلوبَه ونَسَقَ كَلامِه لمْ يخْفَ عليْه ما ذَكرْتُ فإنّهُ في تاريخه كثيرٌ.                      

ثمّ يقولُ في ذكْربني أُميّة الأكْبَرفي نفس الصّفحة: " وأبو سُفْيان بن حرب بن أُميّة وأبناؤه مُعاويَة أمير المؤمنين ويزيدُ وحنْظلةُ وعُتبةُ وأمُّ حبيبة أمّ المُؤمنين"(اهـ).فَهُوَ لا يشكُّ في أنّ مُعاويَة خليفةٌ شرعيٌّ وأميرٌللمُؤمنين،وموقفُ النّبيّ صلى الله عليه وآله مِنْ مُعاويَة معْلُومٌ،والأحاديثُ في ذلك لا تخْفَى على المُنْصفينَ،من بيْنها أنّ معاويةَ يَمُوتُ على غيْرملّة الإسلام[4]؛على أنّ ابْن خَلْدُون نَفسَه يذْكرُمُعاويَة بْن أبي سُفْيان فيما بعدُ في المؤلَّفَة قُلُوبهم،والمؤمنُ لا يَحتاجُ إلى ذلك،ولكنْ ما

يضُرُّ ابنَ خَلْدُون أن يَردَّ تلكَ الأحاديثَ ويحكمَ عليْها بالضّعْف تارةً وبالوضْع أُخْرى وَهُوَ الذي شكّكَ في حديث المهديّ عليه السلام الذي تسالم عليه أهل القبلة.

 لقد كانَ ابنُ خَلْدُون مُعجَباً ببني أُميّة، مُبالغاً في مديحهم بما ليس فيهم، ميّالاً إليهم،غالياً في تَمْجيدهم مع كلّ ما صدر منهم في حقّ أهل بيت النبيّ صلى الله عليه وآله ،وهذا كاف لتصْنيفه ضمْنَ النّواصب الكبار.وقدْ ثبت أنّ النّبيَّ صلى الله عليه وآله قال:إنّ أِشدَّ قوْمنا لَنَا بُغْضاً بنُو أُميّةَ وبَنُو مخْزُوم[5].ومع ذلك لا يتورّعُ ابنُ خَلْدُون عن

مَديحهم والمُبالغة فيه.ومنْ أمْثلَةِ ذلك قوله[6]: واستعمل يزيدَ بنَ أبى سُفْيان على الشّام وطال أمد ولايَته إلى أن هلك في طاعون عمواس سنة ثماني عشرة فولّى

مكانه أخاه مُعاويَة وأقرّه عثمانُ مِنْ بعْد عُمر فاتّصلتْ رياستُهم على قُريْش في الإسْلام برياستهم قُبيل الفتح التى لم تحلْ صبغتُها ولا يُنْسَى عهْدُها أيّامَ شُغِلَ بنُو هاشم بأمْر النّبوّة ونبذُوا الدّنْيا من أيْديهم بما اعْتاضُوا عنْها من مُباشرَة الوحْي وشَرَف القُرْب منَ الله برَسُوله وما زالَ النّاسُ يَعْرفُون ذلك لبنى أُميّة وانظُرْ مقالةَ حَنظلة بن زياد الكاتب لمُحمّد بن أبي بكر إنّ هذا الأمر إنْ صارَإلى التّغالُب غلبَك عليه بنو عبد مناف(اهـ).

ولكنّ هذا القول من ابن خَلْدُون يردّه قول علي بن أبي طالب عليه السلام في كتابه الى مُعاويَة كما في نهج البلاغةج3 ص11 تحت رقم10: " وَمَتَى كُنتمْ يا مُعاويَة ساسةَ الرّعيّة وولاةَ أمْر الأمّة ؟ بغيْرِ قَدَم سابق ولا شَرَف باسق ونَعوذُ بالله من لُزُوم سَوَابق الشّقاء وأُحَذِّرُكَ أنْ تكونَ مُتمادياً في غرّة الأُمْنيَة مختلفَ العلانيَة والسّريرَة (اهـ).

 ونحنُ مهْما اعتبرْنا ثقافةَ ابْن خَلْدُون ومنزلتَه العلميّةَ فإنّهُ ليْس بوُسْعنا أن نُقدّم كلامَه على كلام عليّ بن أبي طالب عليه السلام،لا منْ جهَة كون عليّ صحابيّاً مُشاهداً للأحْداث بنفسه معايناً لتَفَاصيلها فَحَسْب،بلْ لأنَّ بيْن أيْدينا أحاديثَ نبويّةً تُقْصي ابنَ خَلْدُون وتُثبتُ كلام عليّ عليه السلام منها حديثُ "عليّ مع الحقّ والحَقّ مع عَلِيّ يدُورُ معَه حيْثُ دار" وحديثُ " أنا مدينة العلم وعلي بابها"[7]، وأمثال هذه الأحاديث تجعل عليّاً عليه السلام حاكماً على أقوال الآخرين وأفْكَارهم مُصَحّحاً

لأخْطائهم.وعليْه تَكونُ دعْوى ابْن خَلْدُون باطلةً لا تصْلُح للاسْتدْلال.لكنّها تُساعدُ على بَيان ومعْرفة حَقيقة ابن خَلْدُون من جهَة ميْله إلى بني أُميّة وانْحرافِه عن أهل البيت عليهم السّلام.ومن حقّنا أن نعجب من كلام ابن خَلْدُون حين يقول: " وما زال النّاس يعرفون ذلك لبنى أُميّة "! فإن كان ابن خَلْدُون يقصد بالنّاس " الأُمَّة " و " الرَّعيَّة " فإنّ استفهام عليّ عليه السلام السّابقَ اسْتِنْكَارِيٌّ يُفيدُ النّفْيَ.ثُمّ إنّ ذلك لمْ يَخْرُجْ مِنْ بَني هاشم قبلَ السّقيفَة،توَارثُوه كابراً عن كابر[8].وإن كان يقْصدُ ما

بعد السّقيفة فإنّها ليستْ قيادةً شرْعيّةً لأنَّها لم تخلُ منَ المُؤامَرات والمَكْر،والوحيدُ الذي سعتْ إليه الخلافةُ ولمْ يسْعَ إليْها هُو عليُّ بنُ أبي طالب عليه السلام،فإنّ النّاس هجمُوا عليه في بيْته يُريدونَه للبيْعة،ولمْ يقبل بادئَ الأمْر،وحينَما أَصرُّوا عليْه أشارَ إلى المسْجد وقال قولتَه الشهيرة التي لا تزال تؤرّقُ أصحابَ الكواليس والسّقائف:"إنّ بيعة مثْلي لا تكُون سرّاً "! وقد تخلّفَ عن بيْعته مَنْ تخلّفَ من أهْل الأهْواء والمَطامع فلمْ يُكرهْ منهم أحداً ولا هدّدَ بتَحْريق البُيُوت عليْهم بالنّار.على أنّ المُتخلّفين عن بيْعَته نَدِمُوا في أوَاخر أيّام حيَاتهم ألاّ يكُونوا حارَبُوا مَعَه الفئةَ البَاغيةَ،وَلاتَ حينَ منْدَم.

ويُدافع ابنُ خَلْدُون عن مُعاويَة في كُلّ المَواقف، ويتّخذُ مِنْ تصْويب أقوَاله وأفعَاله ديناً يَدينُ به،وينْسبُ تخْميناتِه وما تُوَسْوِسُ به نفسُه إلى الإٍسلام، ومن ذلك قوله في المقدمة ج1ص203: " ولما لقي مُعاويَة عُمربْن الخطّاب رضي الله عنهما عنْد قُدومه إلى الشّام في أبّهة الملك وزيّه من العديد والعدّة استنكر ذلك وقال أكسرويّة يا مُعاويَة ! فقال يا أمير المؤمنين إنّا في ثغْر تجاه العدوّ وبنا إلى مباهاتهم بزينة الحرب والجهاد حاجة فسكت ولم يخطّئه لمّا احتجّ عليه بمقصد من مقاصد الحقّ والدّين.فلو كان القصدُ رفضَ المُلك من أصْله لم يُقنعْه الجوابُ في تلك الكسرويّة وانتحالها بل كان يحرّضُ على خروجه عنهُما بالجُمْلة وإنّما أراد عُمَر بالكسرويّة ما كان عليه أهلُ فارس في مُلْكهم من ارْتكَاب الباطل والظُّلْم والبغْي وسلوك سُبُله والغفْلة عن الله وأجابَهُ مُعاويَةُ بأنَّ القصدَ بذلك ليس كسرويّةَ فارس وباطلَهم وإنّما قصدُه بها وجْهُ الله فسكت " (اهـ).

زعم ابنُ خَلْدُون أنّ مُعاويَة أراد بالأبّهة وجهَ الله تعالى،وهذا كلام لا يقولُه من يعرفُ حُرْمَة وجْه الله تعالى، فإنّ الأبّهة غيرُ الزّينة ،وإنّما هي سيرةُ الفراعنَة والمُستكْبرين.والزّينةُ نفسُها منْها مَحمُودٌ ومنْها مذْمومٌ.وعلى فرْض صحّة ما رامَهُ ابنُ خَلْدُون،فإنّ الذي يُريد وجهَ الله تعالى يريدُه في كلّ الأحْوال،فهلْ تتّفقُ أعمالُ مُعاويَةَ وجرائمُه مع إرادة وجه الله تعالى؟ أم أنّ ابن خَلْدُون يذرّ الرّماد في العيون!وهل عزب عن ابن خَلْدُون أنّ مُعاويَة لعنه رسول الله صلى الله عليه وآله وقال: إذا رأيتم مُعاويَة على منبري فاقتلوه؟! وكيف يأمر النّبيّ صلى الله عليه وآله بقتْل رَجُل يريدُ وجه الله تعالى؟

على أنّ مُعاوية في كلامه هذا مُجَانبٌ للصواب،لأنّه فيما بعدُ صالَحَ ملكَ الرّوم ليتفرّغَ لحرْب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،فأين المباهاة التي ذكر لعُمَر؟ ؟ وهل يجوز في الإسلام مصالحة الكفّار للتّفرّغ لمحاربة المسلمين؟! وهل يكون من ابتغاء وجه الله تعالى أن يصالح الكفّار ليحارب المسلمين؟!

وقال في ج2 ص181 : وجاء الأشترُ فنزل على صاحب الخَراج بالقلْزَم فماتَ هنالك وقيلَ إنّ مُعاويَةَ بعث إلى صاحب القلْزَم فسمَّه على أنْ يُسقط عنهُ الخراجَ وهذا بعيد !(اهـ).

ولا أدري لم يكون هذا بعيدا بعد أن قتل مُعاويَة بالسمّ الحسنَ بن عليّ عليهما السّلام وسعدَ بن أبي وقّاص ؟ أيكون الأشتر أعزَّ منهُما أم أنّ مُعاويَة توقّف فجأة عن الاغتيال بالسّمّ؟

إنّ ابنَ خَلْدُون بقوْله هذا من دُون تقديم دليل يُؤكِّدُ أنّهُ من أرْباب التّحكُّم الذين لا يلتفتُون إلى أدلّة الخصْم ولا يُلقُون بالاً إلى ما يُخالفُ مَبانيَهم ، وما ذلك إلاّ نتيجَة هَوَى بني أُميّة .وينسى ابنُ خَلْدُون أويتَنَاسى أنّ معاوية نفسَه كان يقول "إنّ لله جنودا منها العسل "، وينْسى أو يَتَنَاسى المؤرّخين وأربابَ التّراجم الذين ذكروا أنّ معاوية سمَّ الأِشْتر على يد دهْقان من الدّهاقين وأظهر السرور حين بلغَه موتُه.ولوأنَّ ابنَ خلْدون ذكرَ سبب الاستبعاد حين قال " هذا بعيد " لكان في سعَةٍ منْ أمْره وَلَمَا وسعَ مُخالفَه إلاّ أن يعْذرَه في ما ذهب إليه،لأنّ الباحث يصيب ويخطئ،لكنّه رأى نفسَه فوْق تَقديم الدّليل وبيان وجْه الاستبعاد،ولوْ فُتحَ هذا البابُ لكلّ باحث لاسْتوَت الأنوار والظُّلَمُ.

قال ابن خَلْدُون في مقدمته ج1 ص205:

ولمّا وقعت الفتنة بين عليّ ومُعاويَة وهي مقتضى العصبيّة كان طريقُهم فيها الحقَّ والاجتهادَ ولم يكُونُوا في مُحاربَتهم لغَرَضٍ دُنْيَويّ أو لإيثار باطل أو لاستشعار حقْد كما قدْ يتوهّمُه مُتوهّمٌ وينْزعُ إليه مُلْحد[!] وإنّما اختلفَ اجتهادُهم في الحقّ وسفّه كلّ واحد نظرَ صاحبه باجتهاده في الحقّ فاقتتلوا عليه وإن كان المصيب عليّاً فلم يكن مُعاويَةُ قائماً فيها بقصْد الباطل إنّما قصدَ الحقّ وأخطأَ ،والكلُّ كانُوا في مقاصدهم على حقّ ثُمّ اقتضتْ طبيعةُ المُلْك الانفرادَ بالمجْد واستئثارالواحد به ولم يكن لمُعاويَة أنْ يدفع عن نفسه وقومه[[9]] فهو أمر طبيعيّ ساقتْهُ العصبيّةُ بطبيعَتها واستشعرتْه بنو أُميّة ومن لم يكن على طريقة مُعاويَة في اقتفاء الحقّ من اتباعهم

فاعصوصبوا عليه واستماتوا دونَه ولوْ حمَلَهُم مُعاويَة على غير تلك الطّريقة وخالفَهم في الانْفراد بالأمْر لَوَقعُوا في افتراق الكَلمة التي كان جمْعُها وتأليفُها أهمَّ عليه من أمر ليس وراءه كبير مُخالفَة .وقد كان عُمَر بن عبد العزيز رضي الله عنه يقول إذا رأى القاسمَ بن محمّد بن أبي بكر لو كان لي من الأمر شيءٌ لولّيتُه الخلافةَ ولو أرادَ أن يعهدَ إليه لفعلَ ولكنّه كان يخْشى من بني أُميّة أهْل الحلّ والعقْد لما ذكرناه فلا يَقْدرأن يُحَوّل الأمْرَ عنْهم لئلاّ تقعَ الفُرقة(اهـ).

 يزعمُ ابنُ خَلْدُون أنّ الذي يظنُّ من مُعاويَة وحزبه طلبَ الغرَض الدّنيويّ وإيثارَ الباطل ملحدٌ!وبيْن أيْدينا كَثير من كلمات الصّحابة تشْهَد على مُعاويَة أنّه نازَع عليّاً عليه السلام ظُلماً وعلوّاً واستكباراً بغيرالحقّ، مستغلاًّ كثرةَ أعْداء عليّ عليه السلام؛والنّبيّ صلى الله عليه وآله نفسُه شهدَ على مُعاويَةَ وجماعته أنّهُم الفئَةُ الباغيَةُ.بل إنّ مُعاويَةَ (الحفيد) بْن يَزيد بْن مُعاويَة بن أبي سُفْيان نفسَه يشهد على جدّه أنّه نازع الأمرَ أهْله بغيرحقّ.فهل يكون ابن خَلْدُون أشدّ سُفْيانية من حفيد مُعاويَة؟!وهل يَرضى ابنُ خَلْدُون أن يكونَ الصّحابة والتّابعون في عداد المَلاحدَة كَمَا هُوَ لازمُ كلامه؟!أوليس في محاولته نفْيَ صفة البغْي عن معاوية وجماعته تكذيبٌ صريح للنّبيّ صلى الله عليه وآله ؟!

وقد شهدَ عليُّ بنُ أبي طالب عليه السلام على مُعاويَة وأصحابه أنّهم ليسوا أهلَ دين ولا قرآن،وهُوالذي صحبَهم صغاراً وكباراً فكانُوا شرّ صغار وشرّ كبار مَا آمنوا مُذْ كفَرُوا،فهل يكذّب ابنُ خَلْدُون عليّاً عليه السلام وقد قال النّبيّ صلى الله عليه وآله " عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ يدور معه حيث دار"[10]؟ وكيف يطلب مُعاويَةُ

الحقَّ في مُخالفة عليّ عليه السلام والحقّ مع عليّ لا يُفارقه؟ وكيف يفارقُ عليّ الحقَّ وهُو مع القرآن والقرآنُ معَه ولنْ يفترقَا حتّى يَردَا على النبيّ صلى الله عليه وآله الحَوْض؟! ولِمَ لا يعتمدُ ابنُ خَلْدُون شهادة مُعاويَة على نفسه أنّه قاتلَ أهلَ العراق ليتأمّرعليهم لاغير، وزعم أنّ الله آتاه ذلك؛قال ابن كثير في البداية والنهاية [11]:وقال يعقوب بن سُفْيان : حدّثنا أبوبكر بن أبي شيبة وسعيد بن منصور قالا:حدّثنا أبو مُعاويَة حدّثنا الأعمش عن عمرو بن مرّة،عن سعيد بن سويد.قال:صلّى بنا

مُعاويَة بالنخيلة - يعني خارج الكوفة - الجُمعة في الضّحى ثمّ خطبنا فقال:ما قاتلتُكم لتصُوموا ولا لتُصلّوا ولا لتحجّوا ولا لتُزكّوا،قد عرفْتُ أنّكم تفْعلون ذلك ولكن إنّما قاتلْتُكم لأتأمّرعليكم،فقد أعطاني الله ذلك وأنْتم كارهُون "(اهـ).

فهذا معاويةُ يُقرُّ أنَّه حاربَ ليتأمّرَ،والعبارة واضحة وضوح الشمس،وابنُ خَلْدُون ينْفي ذلك ويدفعُه مُكابرةً،فهل يُعتبَرالذي يُقاتلُ المسلمين ليتأمّرَعليْهم مجتهداً ؟ وهلْ هُو منَ العقْل والدّين أنْ يُقدّمَ اجتهادُ ابن خَلْدُون بشأن مُعاويَة على إقرار مُعاويَة على نفسه؟!

يقول ابن خَلْدُون بعد ذلك:[ ثمّ اقتضت طبيعة المُلْك الانفرادَ بالمجد واستئثار الواحد به] ونحن نُسائل ابنََ خَلْدُون عن طبيعة المُلك كما يسمّيها فنقول له:هذه الطّبيعة التي ذكرتَها هل هي تخضعُ لمعاييرَ وقِيَم أخلاقيّة إسلاميّة أمْ أنّها فَوْضى وهَمجيّة لا يحكُمها إلا القوّة والعناد؟ فإن كانتْ طبيعة الملْك محكومةً بقيم إسلاميّة فأينَ هذه القيَم في سلُوك مُعاويَة؟ ولماذا بقي يلاحقُ عليّاً عليه السلام بالسّبّ واللّعن والشّتم بعد شهادته؟ ولماذا يفْخر بنقْضِه العهْدَ حين تلفّظ بتلك العبارة المشؤومة قائلاً: ألا وإنّ كلّ شرط شرطته للحسن تحت قدميّ هاتين؟ألم يقلْ النّبيّ صلى الله عليه وآله " المسلمون عند شروطهم " ؟ألم يقل القرآن الكريم " يا أيّها الذين آمنوا أوفوا بالعقود "؟ ألم يقل النّبيّ صلى الله عليه و آله فيما رواه مسلم عن أبى هريرة [12] " مَن خرج من الطّاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتةً جاهليّةً ومَنْ قاتل تحْت راية

عمية يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينْصرعصبَة فقُتل فقتْلةٌ جاهليّةٌ ومَنْ خرج على أمّتي يضرب برَّها وفاجرَها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهْد عهدَه فليس منّي ولست منه "؟وهذه الأوصاف كلّها تنطبق على معاوية، فالنّبيّ صلى الله عليه وآله يتبرّأ منه بمُقتَضَى قوْله " فليس منّي ولست منه ".ولماذا يتحدّث ابنُ خَلْدُون عن المُلْك في الإسْلام وقد علمَ أنّ النّبيّ صلى الله عليهوآله لم يكنْ مَلكاً بل ذمّ مُلوك بني أُميّة وسمّى حُكمَهم مُلكاً عَضوضاً؟ لا شكّ أنّ ابن خَلْدُون لا يُقيم لكلام النّبيّ صلى الله عليه وآله وزْناً إلاّ حين يُوافق هواهُ فكأنّه معنيّ بقول الله تعالى " أفي قلوبهم مرض أم ارتابوا أم يخافون أن يحيف الله عليهم ورسوله بل أوّلئك هم الظالمون " [13].ونحنُ إنّما نعتمدُ قوْل من يستند إلى ما صحّ عن النبيّ صلى الله عليه و آله في كلّ حال،لا في حال دون حال حسبما يقتضيه المزاج.

قال ابن خَلْدُون [ج1 ص206 ]: ولقد انفرد سليمان وأبوه داود صلوات الله عليهما بمُلك بني إسرائيل لما اقتضتْه طبيعةُ المُلك من الانفراد به وكانوا ما علمتَ من النبؤة والحقّ وكذلك عَهد مُعاويَة إلى يزيد خوفاً من افتراق الكلمة بما كانت بنو أُميّة لم يرضوا تسليم الأمر إلى مَن سواهم .فلو قد عَهدَ إلى غيره اختلفوا عليه مع أن ظنّهم كان به صالحاً ولا يرتاب أحد في ذلك، ولا يظنّ بمُعاويَة غيره فلم يكن ليعهد إليه وهو يعْتقد ما كان عليه من الفسْق ،حاشا الله لمُعاويَة من ذلك ؛وكذلك كان مَرْوانُ بن الحكم وابنُه وإن كانوا ملوكاً لم يكن مذهبُهم في المُلك مذهبَ أهل البطالة والبغْي،إنّما كانوا مُتَحَرّين لمقَاصد الحقّ جهدَهُم إلاّ في ضرورة تحملهم على بعضها مثل خشية افتراق الكلمة الذي هوأهمّ لديهم من كلّ مَقصد، يشهد لذلك ما كانوا عليه من الاتّباع والاقتداء وماعلم السّلّف من أحوالهم ومقاصدهم فقد احتجّ مالك في الموطإ بعَمَل عبد الملك.وأمّا مَرْوان فكان من الطبقة الأولى من التّابعين وعدالَتُهُم معرُوفة.ثمّ تدرّج الأمر في ولد عبد الملك وكانوا من الدّين بالمكان الذي كانوا عليه وتوسّطهم عمربن عبد العزيز فنزع إلى طريقة الخلفاء الأربعة والصّحابة جهده ولم يهمل(اهـ).

قلتُ: لا يتوَرّعُ ابنُ خَلْدُون أنْ يشبّه مُعاويَةَ بداوود عليه السلام ويزيدَ بنَ مُعاويَة بسليمانَ بن داوود عليهما السّلام،واللهُ سائلُه عن هذا التّشْبيه الذي تشمئزُّ لسمَاعه نفُوس المُؤمنين.وكيف يُشبَّه صاحبُ القُرود والفُهود شاربُ الخمْر المُعلنُ بذلك والمُجاهرُ بفُسوقه ـ كيفَ يُشَبَّهُ مَنْ هَذه حالُهُ ـ بسُلَيْمَانَ الشّكُور؟!

ويجعلُ ابنُ خَلْدُون من احتجاج مالك في الموطّإ بعمل عبد الملك بن مَرْوان دليلاً يتوقّع أن يتقبّلَه أولوالألباب،ومتَى نزلَ جبريلُ على مالك بن أنس حتّى تكون كُلُّ أقْوَاله وأفْعاله وتقْريرَاته محلَّ قَبول ؟ على أنّ لمُحمّد بن إسحاق صاحب السّيرة أقوالاً في مالك بن أنس،لكنّ ابنَ خَلْدُون مالكيٌّ ولذلك فهُوَ يتصرّفُ كمَا لو كان كلُّ مَنْ عليْها على مذهب مالك.ولمحمّد بن إسحاق صاحب السّيرة كلامٌ في مالك بن أَنَس وعلْمِه يَحسُنُ الاطّلاعُ عليه. 

على أنّ احتجاجَ مالك بعمل عبد الملك بن مَرْوان لا يُغني عن الأخير شيئاً ولا يرفَعُ لهُ هامةً،فقد غدَرَ عبدُ المَلك غدْرتَهُ المشْهُورةَ بعمرو بن سعيد الأشدق بعد أن أعطاه العُهُودَ والمَوَاثيقَ ثُمَّ ما لَبثَ أنْ ذَبَحَهُ بيَدِه .[14]

 قال ابن خَلْدُون [ج1ص 210] : " ...لاسيما إذا كانت هناك داعيةٌ تدعُوإليه من إيثار مَصْلحة أو توقُّع مَفْسدة فتنتَفي الظّنّة في ذلك رأساً كما وقع في عهد مُعاويَة لابْنه يزيد وإن كان فعْلُ مُعاويَة مع وفَاق النّاس له حُجّةً في الباب[!] والذي دعا مُعاويَة لإيثارابْنه يزيد بالعهْد دونَ مَن سواهُ إنّما هو مُراعاةُ المَصلحة في اجتماع النّاس واتّفاق أهوائهم باتّفاق أهل الحلّ والعقد عليه حينئذ من بني أُميّة إذ بنو أُميّة يومئذ لا يَرضَوْن سواهُم وهُم عصابة قُريْش وأهل الملّة أجمع وأهل الغلب منهم فآثره بذلك دون غيره ممن يظنّ أنّه أولى بها وعدل عن الفاضل إلى المفضول حرصاً على الاتّفاق واجتماع الأهواء الذي شأنه أهمّ عند الشارع وإن كان لا يظنّ بمُعاويَة غيرهذا فعَدَالتُه وصُحبتُه مانعةٌ مِنْ سوى ذلك وحضورُ أكابر الصّحابة لذلك وسكوتُهم عنْه دليلٌ على انْتفاء الرّيب فيه فليسوا ممّن يأخذهم في الحقّ هوادة وليس مُعاويَة ممّن تأخذه العزّةُ في قَبول الحقّ فإنّهم كلّهم أجلُّ من ذلك وعدالتُهم مانعةٌ منْه وفرارُ عبد الله بن عُمر من ذلك إنّما هو محمولٌ على تورُّعه من الدُّخُول في شيْء من الأُمُور مُباحاً كان أو محظوراً كما هو معروفٌ عنه. ولم يبْقَ في المُخالفة لهذا العهد الذي اتّفق عليه الجمهور إلاّ ابنُ الزّبير[!] وَنُدُور المُخالف معروفٌ. ثمُّ إنّه وقع مثل ذلك من بعد مُعاويَة من الخلفاء الذين كانوا يتحرّون الحقّ ويعملون به مثل عبد الملك وسليمان من بني أُميّة والسّفّاح والمنصور والمهديّ والرّشيد .

قلت: أوّلاً،لقد أساء ابنُ خلدون ودلّس حين حصَر خلاف يزيد بن معاوية في عبد الله بن الزبير،إذاً فَلماذا قُتِلَ الحُسَيْنُ بن عليّ عليهما السلام ولِمَ قُتِلَ أهلُ الحَرَّة بعْدَه؟!

ثُمَّ،لايعجب القارئُ لمثل هذه الأمور،فإنّ ابن خَلْدُون ينتمي إلى مدرسة تعمل بالمصالح المرسلة وسدّ الذرائع حتى مع توفّر النصّ الجليّ.وابن خَلْدُون بعباراته السابقة يتجاهل أحاديث النّبيّ صلى الله عليه وآله في ما يخصّ تولية الرّجال والقضيّة تتعلّق بشأن المسلمين جميعا لا بولاية مَدينة أو ناحيَة.والذي يتّفق مع ما يَميل إليه العقلاء على اختلاف ثقافاتهم وأديانهم هو أن يكون على رأس الدولة مَن هُو حَريصٌ على مصالحها وأمْنها وأمَانها وتيسير سُبل النّجاة لها.ولذلك تراهُم مَدحُوا منْ حسُنتْ سيرتُه في الرّعيّة وإنْ بعُدَ العهد وذمُّوا من أساءَ التّصرف والمعاملةَ ولوْ كانَ ابنَ شيخ العشيرة.وجَلَدَ عُمرُ بنُ عبد العزيز رجلاً قال بحَضْرَته عن يزيد بن معاوية " أمير المؤمنين ".وأوردَ الزّيعليّ في نصب الراية حديثاً في المعْنى رواه الحاكم وغيره[15].فإذا كانَ عُمَر بنُ عبد العزيز يرى أنّ تسميةَ يزيد بن معاوية

بأميرالمؤمنين تسْتوْجبُ التّعزيرَ،وهُوَ مِنْ قَبيلَته وقَريبُ العهْد به فينْبَغي على ابن خَلْدُون أن يُراعيَ ذلك وأمثالَه حين إصداره الأحْكام،وليسَ عُمَرُ بنُ عبْد العزيز ممّن يُتّهم عند أهل السنّة والجماعة في معتقده وسلوكه وآرائه.

ولعمر بن الخطاب أيضاً كلام في هذا المعنى رواه ابن عساكر قال[16]:أخبرنا أبو غالب بن البنا [..]عن عثمان بن مقسم قال قال المغيرةُ بن شُعبة لعُمَر أَدُلُّكَ

على القويّ الأمين قال بلى قال عبدُ الله بن عُمَر قال ما أردتَ بقولك هذا والله لأنْ يموتَ فاكفّنه بيديّ أحبُّ إليّ من أن أوليّه وأنا أعلم أنّ في النّاس من هو خير منه(اهـ).فعَلَى فرْض ضعْف الحديث الذي رواه الحاكم وغيرُه،فإنّ لقوْل عُمَرعنْدَ مَن يأتَمُّ به شأنٌ وأيُّ شأْن!وهوعنْد العامّة (أهل السّنّة والجماعة) قَطْعاً أفضلُ من مُعاوية بحيْثُ لا وجهَ للمُقايسة،وابنُه عبدُ الله بن عُمَرأيضاً أفضلُ منْ يزيد بن مُعاوية بحيثُ لا سبيلَ إلى المقايسة ومع ذلك لم يرْضَ عمرُ أن يولّيَ ابْنَه مع وجود من هوخيْرٌ منه؛ويلزم من هذا أن يُخطّئ ابن خَلْدُون الخليفةَ عُمرَ في فعله وموْقفه لأنّه صوّب فعلَ معاويةَ ورأيَه وهُوَ على نقيض ذلك تماماً.                         

قال ابن خَلْدُون [ج1 ص 211]: ولا يُعابُ عليهم إيثارُ أبنائهم وإخوانهم وخروجُهم عن سُنَن الخُلفاء الأربعة في ذلك فشأنُهم غيرُ شأن أولئك الخُلفاء فإنّهم كانوا على حين لم تحدثْ طبيعةُ المُلك وكان الوازعُ دينيّاً فعند كلّ أَحَدِ وازعٌ منْ نفْسه فعهدوا إلى من يَرتَضيه الدّينُ فقط وآثرُوه على غيره ووكَلُوا كلَّ مَن يسمُو إلى ذلك إلى وازعه.وأمّا مَنْ بعدَهم مِنْ لدُنْ مُعاويَةَ فكانت العصبيّةُ قد أشرفتْ على غايَتها من الملك والوازعُ الدّينيُّ قد ضعُفَ واحتيجَ إلى الوازع السُّلطانيِّ والعصبانيّ فلوعهد إلى غير من ترتضيه العصبيّة لردّتْ ذلك العهد وانتقض أمره(اهـ).

قلتُ:إنّ كلامَ ابن خَلْدُون ههُنا خالٍ من النَّفَس الدّينيّ مع أنّه يتحدّثُ عنْ أمْر دينيّ ما سُلّت السيوف لشيء مثل ما سُلّت له،فكأنَّك تستَمعُ إلى أحد المُسْتشْرقين الذين يحلّلون ويوجّهون بهواهُم غيرَ متقيّدين بأوامرَ ولانَوَاهيَ شرْعيّة؛ويكفي أن يُسأل ابنُ خَلْدُون عن هذه العصبيّة هلْ هيَ محْكُومَةٌ بالإسلام أم هيَ حاكمة عليه ؟ فإنْ كانتْ محكومةً بالإسلام فإنّه ليْسَ لها أنْ ترُدَّ ما يرتضيه الإسلامُ،ولييس لها أن تقدّم المزاجَ والانتماءَ القبليَّ على الانتماء الدّينيّ . ولوْ كَانَ ابن خَلْدُون يلتزمُ بكلام النبيّ صلى الله عليه وآله لَمَا خطّتْ يمينُه ما سبق،فقد جاء في صحيح مسلم وغيره[17]:" من خرج من الطّاعة وفارق الجماعة فمات مات ميتة جاهليّة ومن قاتل تحت

راية عميّة يغضب لعصبة أو يدعو إلى عصبة أو ينصر عصبة فقُتِلَ فقتْلَةٌ جاهليّةٌ ومن خرج على أمّتي يضرب برَّها وفاجرَها ولا يتحاش من مؤمنها ولا يفي لذي عهد عهده فليس منّي ولست منه " .وهذا الحديث صريح في نفي ما ذهب إليه ابن خَلْدُون في ترجيح ما ترتضيه العصبية، بل هو يجعلها من الجاهلية ومن مات في الدّفاع عنها مات ميتة جاهلية!

قال ابن خَلْدُون في تاريخه [ج1ص213]: * والأمر الثالث شأن الحروب الواقعة في الإسْلام بين الصحابة والتّابعين فاعلم أنّ اختلافهم إنّما يقع في الأمور الدّينيّة وينشأ عن الاجتهاد في الأدلّة الصّحيحة والمدارك المعتبرة والمجتهدون إذا اختلفوا فإن قلنا إنّ الحقّ في المسائل الاجتهادية واحدٌ من الطّرفين ومن لم يصادفْه فهُو مخطئ فإنّ جهته لاتتعيّن بإجماع فيبقى الكلّ على احْتمال الإصابة ولا يتعيّن المخطئُ منْها والتّاثيمُ مدفُوع عن الكلّ إجماعاً وإنْ قُلنا إنّ الكلَّ حقّ وإنّ كلّ مجتهد مصيب فأحْرى بنفْي الخطإ والتّاثيم وغايةُ الخلاف الذي بين الصّحابة والتّابعين أنّه خلافٌ اجتهاديٌّ في مسائل دينيّة ظنّيّة وهذا حكمه والذي وقع من ذلك في الإسْلام إنّما هو واقعة عليّ مع مُعاويَة ومع الزّبير وعائشة وطلحة وواقعة الحسين مع يزيد وواقعة ابن الزّبيرمَعَ عبد الملك فأمّا واقعة عليّ فإن النّاس كانوا عند مقْتل عثمان مفْتَرقين في الأمصار فلم يشهَدُوا بيْعةَ عليّ والذين شهدُوا فمنْهُم مَن بايعَ ومنْهم مَن توقّفَ حتّى يجتمعَ النّاس ويتّفقُوا على إمام كسعْد وسَعيد وابْن عُمَر وأُسامَة بْن زيْد والمُغيرة بن شُعبة وعبد الله بن سلام وقُدامة بن مَظعون وأبي سعيد الخدْريّ وكَعْب بن مالك والنُّعمَان بن بَشير وحسّان بن ثابت ومسلمة بن مخلد وفضالة بن عبيد وأمثالهم من أكابر الصّحابة والذين كانوا في الأمصار عدلوا عن بيعته أيضا إلى الطّلب بدم عثمان وتركوا الأمْر فوْضى حتى يكونَ شُورى بين المُسلمين لمن يُولُّونَه وظنّوا بعليّ هوادةً في السّكوت عن نصْر عُثمان من قاتله لا في المُمَالاة عليه فحاشا لله من ذلك.ولقد كان مُعاويَةُ إذا صرّحَ بمَلامَته إنّما يُوجّهُها عليه في سُكُوته فقط.ثمّ اختلفوا بعد ذلك فرأى عليّ أن بيعتَه قد انعقدتْ ولزمتْ مَن تأخّرَ عنها باجتماع من اجتمع عليها بالمدينة دارالنّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم ومَوْطن الصّحابة وأرجأَ الأمر في المطالبة بدم عثمان إلى اجتماع النّاس واتّفاق الكلمة فيتمكّن حينئذ من ذلك ورأى الآخرون أنّ بيعتَه لم تنعقدْ لافتراق الصّحابة أهل الحلّ والعقد بالآفاق ولم يحضر إلاّ قليل ولا تكون البيعة إلاّ باتّفاق أهل الحلّ والعقْد ولا تلزم بعقد من تولاّها من غيرهم أو من القليل منهم وإن المسلمين حينئذ فوضى فيطالبون أوّلاً بدم عثمان ثمّ يجتمعون على إمام وذهبَ إلى هذا مُعاويَةُ وعمرُو بنُ العاص وأمُّ المؤمنين عائشةُ والزّبيرُ وابنُه عبدُ الله وطلحةُ وابنُه محمّدُ وسعدُ وسعيدُ والنّعمانُ بنُ بشير ومُعاويَةُ بن خديج ومن كان على رأيهم من الصّحابة الذين تخلّفوا عن بيعة عليّ بالمدينة كما ذكرنا إلاّ أنّ أهل العصر الثّاني من بعدهم اتّفقوا على انعقاد بيعة عليّ ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رأيه فيما ذهب إليه وتعيين الخطإ من جهة مُعاويَة ومن كان على رأيه وخصوصاً طلحة والزّبير لانتقاضهما على عليّ بعد البيعة له فيما نُقل مع دفع التّأثيم عن كلّ من الفريقين كالشّأن في المجتهدين وصار ذلك إجماعاً من أهل العصر الثّاني على أحد قولي أهل العصر الأوّل كما هو معروف ولقد سُئل عليّ رضي الله عنه عن قتْلى الجمَل وصفّين فقال والذي نفسي بيده لا يموتنّ أحد من هؤلاء وقلبُه نقيّ إلاّ دخل الجنّة يشير إلى الفريقين نقله الطّبريّ وغيره. فلا يقعنّ عندك ريب في عدالة أحد منهم ولا قدح في شيء من ذلك فهُم مَن علمتَ وأقوالُهم وأفعالُهم إنّما هي عن المستندات وعدالتُهم مفروغٌ منها عند أهل السّنّة إلاّ قولاً للمعتزلة فيمن قاتل عليّاً لم يلتفت إليه أحدٌ من أهل الحقّ ولا عرّج عليه. وإذا نظرتَ بعين الإنصاف عذرتَ النّاس أجمعين في شأن الاختلاف في عُثمان واختلاف الصّحابة من بعد وعلمتَ أنّها كانت فتنة ابتلى الله بها الامة (اهـ).

أقول:هذا كلام يفتقد إلى الصّواب،وهو بالوعْظ أشبهُ منه بالتّحقيق التّاريخيّ وإلاّ فكيف يُقال إنّ الحقّ مُتعدّدٌ بعدَ أن قال الله تعالى في القرآن الكريم "وماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال"؟ وإذا كان أهلُ العصر الثّاني من بعدهم اتّفقوا على انْعقاد بيعة عليّ ولزومها للمسلمين أجمعين وتصويب رأيه فيما ذهب إليه وتعيين الخطإ من جهة مُعاويَة ومن كان على رأيه وخصوصاً طلحة والزّبير لانتقاضهما على عليّ بعد البيعة له فيما نقل ، فما بال ابن خَلْدُون يستمرّ في دفاعه عن مُعاويَة في كلّ صَغيرٍوَ كَبير من جرائمه؟!

والذي يتمعّن في كلام ابن خَلْدُون يخْطُربباله أنّ ربَّ الصّحابَة غيرُ ربّ بقيّة العالَمينَ،فالقتْلُ حرّمَهُ ربُّ العالمين،لكنْ حينما يُمارسُه الصّحابة تتغيّر حقيقته فجأةً ويصبحُ موضعَ اجتهَاد للقَاتل والمقْتُول!وبيْعةُ السّقيفَة تنْعَقدُ برجُلين اثنين أبي عبيدة بن الجراح وعمرَ بْن الخطّاب،وهُما لا يمْلكَان أيّ تفْويض أو وَكَالَة من طَرف الآخرين،أمّا بيعةُ عليّ عليه السلام التي اجتمع عليها المُهاجرُون والأنصارُ طائعينَ غيرَ مُكرَهين فيكفي أنْ يتخلّفَ عنها الطُّلقاءُ وأشبَاه الطلقاء حتى تفقد شرعيّتها وتُصبح محلّ نظر! ويقولُ ابن خَلْدُون عن الذين قاتلوا عليّاً عليه السلام "وعدالتُهم مفروغٌ منْها عند أهل السّنّة إلاّ قولاً للمُعتزلة فيمن قاتل عليّاً لم يلتفتْ إليه أحد ٌمن أهْل الحقّ ولا عرّج عليه" وهُو من أعلَم النّاس بالحديث الذي يقول فيه النّبيّ صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام.

" سلْمُكَ سلْمي وحَرْبُكَ حَرْبي "[18]، فهلْ يعْني ابنُ خَلْدُون أنّ قول النبيّ صلى الله عليه وآله لم يلتفتْ إليه أحدٌ منْ أهل الحقّ ولا عرّج عليه ؟!

قال ابن خَلْدُون [ج1ص217 ]: واعلم أنّه إنّما ينفذ من أعمال الفاسق ما كان مشروعاً،وقتال البغاة عندهم من شرطه أن يكون مع الإمام العادل وهو مفقود في مسئلتنا، فلا يجوز قتالُ الحسين مع يزيد ولا ليزيد بل هي من فعلاته المؤكّدة لفسْقه والحسين فيها شهيد مُثاب وهو على حقّ واجتهاد والصّحابة الذين كانوا مع يزيد على حقّ أيضا واجتهاد! وقد غلط القاضي أبو بكر بن العربيّ المالكي في هذا فقال في كتابه الذي سمّاه بالعواصم والقواصم ما معناه "إن الحسين قُتل بشرع جدّه " وهو غلط حملته عليه الغفلة عن اشتراط الإمام العادل ومَن أعدلُ من الحُسين في زمانه في إمامته وعدالته في قتال أهل الآراء .. اهـ

قلت:هذا الكلام محلّ نَظَربِلِحَاظ القائل لا بلحاظ المضْمُون، فقد ذكر الشوكانيّ في ترجمة ابن خَلْدُون ما يعارضه؛ قال الشوكاني [19] : وكان الحافظ أبو الحسن

الهيثميّ يبالغ فى الغضّ منه [ أي من ابن خَلْدُون ] قال الحافظ ابن حجر فلمّا سألته عن سبب ذلك ذكر لي أنّه بلغه أنّه قال فى الحسين السّبط رضي الله عنه إنّه قُتل بسيف جدّه ثم أردف ذلك بلعن ابن خَلْدُون وسبّه وهو يبكى قال ابن حجر لم توجد هذه الكلمة فى التّاريخ الموجود الآن وكأنّه كان ذكرها في النّسخة التى رجع عنها[!] قال: والعجب أنّ صاحبنا المقريزيّ كان يفرط فى تعظيم ابن خَلْدُون لكونه كان يجزم بصحّة نسب بنى عبيد الذين كانوا خلفاء يمصر ويخالف غيره في ذلك ويدفع ما نقل عن الأئمّة من الطّعن في نسبهم ويقول إنّما كتبوا ذلك المحضر مراعاة للخليفة العبّاسيّ وكان المقريزيّ ينتمى إلى الفاطميّين كما سبق فأحبّ ابن خَلْدُون لكونه أثبت نسبهم وجهلَ مرادَ ابن خَلْدُون فإنّه كان لانْحرافه عن العلويّة يثبت نسبة العبيديّين إليهم لما اشتهر من سوء معتقدهم وكون بعضهم نسب إلى الزّندقة وادّعاء الإلهيّة كالحاكم فكأنّه أراد أن يجعل ذلك ذريعة إلى الطّعن هكذا حكاه السّخاويّ عن ابن حجر والله أعلم بالحقيقة، واذا صحّ صدور تلك الكلمة عن صاحب التّرجمة فهو ممّن أضله الله على علم(اهـ).  

وبعيد ّأن يتّخذ الحافظ الهيثميّ هذا الموقف من ابن خَلْدُون دون تثبّت، فإنّه كان معاصراً له، وتوفّي قبله بسنَةٍ واحدة[20].والذي تلقّى كلام الهيثميّ مشافهةً هو

ابن حجر العسقلانيّ أحد تلاميذ ابن خَلْدُون،وهويشهد بوجود نسخة سابقة لابن خَلْدُون رجعَ عنْها؛ وهذه مشكلةٌ أخرى تنضمُّ إلى مشاكل تُراثنا الإسلاميّ ذي النُّسَخ المتعدّدة والمعدّلة.ويجدُر التأمّل في قول ابن حجر عن شيخه ابن خَلْدُون:" وجهلَ مرادَ ابن خَلْدُون فإنّه كان لانْحرافه عن العلويّة يثبت نسبة العبيديّين إليهم لما اشتهر من سوء معتقدهم وكون بعضهم نسب إلى الزّندقة وادّعاء الإلهيّة كالحاكم فكأنّه أراد أن يجعل ذلك ذريعة إلى الطّعن " فإنّ فيه إخباراً عن قلّة نَزاهة ابن خَلْدُون وبُعْده عن الأمانة العلميّة لأنّ الذي يُثبت نَسب الفاطميّين لا لصحّته ولكنْ للطّعن في العلويّة بعيدٌ عن الأمانة حقيقٌ أن يُشَكّ في كلّ ما يصدر عنه.وفي عبارة " انحرافه عن العلويّة " آية للمتوسّمين.

  قال ابن خَلْدُون [ج1ص218]: وعبد الملك صاحب ابن الزّبيرأعظم النّاس عدالةً وناهيك بعدالته احتجاجُ مالك بفعْله وعُدول ابن عبّاس وابن عمر إلى بيعته عن ابن الزّبير(اهـ).

 يقول ابن خَلْدُون عن عبد الملك بن مَرْوان إنّه أعظم النّاس عدالة، ومن حقّ من يسمع هذا الكلام أن يحقّق فيه إذ ليس هناك أحد فوق الحقّ لا مؤرّخ ولا فقيه ولا أصوليّ،وإنّما الكلام يدور مدارَ مطابقَة الواقع،فإنْ كان كذلك فهُو حقٌّ وإلاّ فهُوَ باطل مهْما هذّبنا العبارة وقلنا "اشتباهٌ" أو"خطأٌ" أو"غلطٌ" أو"وهمٌ " أو "غفلة".وقد سبق الكلام عن عبد الملك بن مروان أعظم النّاس عدالةً في نظر ابن خَلْدُون وكيف غَدَرَ بعمْرو بْن سعيد الأِشْدق بعد أن أعطاهُ الأمَانَ بالعُهُود والمَواثيق.هذا مع أنّ ابن خَلْدُون نفسه ينقل في الصفحة 207 من الجزء الأوّل من تاريخه عن المسعوديّ أنّ أبا جعفر المنصورالخليفة العبّاسيّ قال وقد حضرعمومتُه وذكروا بني أميّة: " أما عبد الملك فكان جبّاراً لا يبالي بما صنع وأمّا سليمان فكان همّه بطنَه وفرجَه وأمّا عُمر فكان أعورَ بيْن عُميَان وكان رجُلَ القوم هشامُ ".ولم يتعقّب ابن خَلْدُون قول المنصور بشيء.فكيف يكُون الجبّارالذي لا يبالي بما صنع أعظمَ النّاس عدالة؟!

  قال ابن خَلْدُون [ج1ص 218]: والكلّ مُجتهدون محمُولون على الحقّ في الظّاهر وإن لم يتعيّن في جهة منهُما والقتلُ الذي نزل به بعد تقرير ما قرّرناه يجيء على قواعد الفقه وقوانينه مع أنّه شهيدٌ مُثابٌ باعتبار قصْده وتحرّيه الحقّ. هذا هو الذي ينبغي أن تحْملَ عليه أفعال السّلف من الصّحابة والتّابعين فهم خيار الأمّة وإذا جعلناهم عُرضةً للقدْح فمن الذي يختصّ بالعدالة والنّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم يقول خيرُ النّاس قرني[21]ثمّ الذين يلونهم مرّتين أو ثلاثا ثمّ يفشو الكذب فجعل الخيرة وهي

العدالة مختصّة بالقرن الأوّل والذي يليه (أهـ).

ثم يقفز ابن خَلْدُون في نفس السّياق من سرد الوقائع التّاريخية ومحاولة بيان المخارج الشّرعيّة لها إلى الوعْظ والإرْشاد فيقول :" فإيّاك أن تعوّدَ نفسَك أو لسانَك التّعرّضَ لأحد منْهم ولا يشوّش قلبك بالرّيب في شيء ممّا وقع منهم والتمسْ لهم مذاهب الحقّ وطُرُقََه ما استطعتََ فهُم أولى النّاس بذلك وما اختلفوا إلاّ عن بيّنة وما قاتلوا أو قتلوا إلا في سبيل جهاد أو إظهار حقّ. واعتقدْ مع ذلك أنّ اختلافهم رحمة لمن بعدهم من الأمّة ليقتدي كلّ واحد بمن يختارُه منهم ويجعلَه إمامَه وهاديَه ودليلَه فافهمْ ذلك وتبيّن حكمة الله في خلقه وأكوانه واعلم أنّه على كلّ شيء قدير وإليه الملجأ والمصير والله تعالى أعلم(اهـ).

وهذا الأسلوبُ يرفضُه المنهجُ العلميّ،لأنّه وإن كان من حقّ ابن خَلْدُون أن يبدي رأيَه و يحبّذ و يشنّع فليس من حقّه أن يُلقّنَ القارئ ويَصرفَه عن عرْض المقدّمات والتّوالي والخُروج من ذلك بنتيجة اعتمدَ على نفسه في الوصول إليها.وهذا النّوع من الوصاية الفكريّة التي يمارسُها ابن خَلْدُون ومَن على شاكلته يُولّد التّعصّب والجمود وربّما أدّى إلى إنْكار الحقّ والتّنظير للباطل ، وهي أمور نهى عنها الإسْلام الحنيف وحذّرَ مِن مغبّتها دنيا وآخرة.وكان على ابن خَلْدُون أن يحترم القارئَ ويقرّر في ما بينه وبين ضميره أنّ الذي وهبه عقلاً يستدلّ به وهبَ الآخرين أيضاً عقولاً يستدلّون بها، فلمَ لا يطرح القضايا أمامهم ثمّ يترك لهم الحرّية في اختيار المواقف التي تمليها عليهم ضمائرُهم؟!  

ولا يكتفي ابن خَلْدُون بالدّفاع عن معاوية و بني أميّة، بل يرى فيه وفيهم رأياً مخالفاً تماماً لما صرّح به كثير من الصّحابة والتابعين ،ولا عجب في ذلك حين يصدُر من ابن خَلْدُون الذي يصرّح تلامذتُه بانحرافه عن ذرّية النّبيّ صلى الله عليه وآله ، فهَُويعتبرُ معاويةَ من الخلفاء الراشدين فيقول[22]:وقد كان ينبغى أن تُلحق دولةُ

معاوية وأخباره بدُول الخلفاء وأخبارهم فهو تاليهم في الفضل والعدالة والصّحبة ولا ينظر في ذلك إلى حديث الخلافة بعدى ثلاثون سنة فانّه لم يصحّ والحقّ أنّ معاوية في عداد الخلفاء )اهـ). ولا بدّ هُنا من كلمة بخصوص حديث الخلافة الذي ادّعى ابن خَلْدُون أنّه لا يصحُّ ،فقد قال الحافظ ابن حجربخُصوصه[23]:"أخرجه

أحمد وأصحاب السّنن وصحّحه ابن حبّان وغيرُه من حديث سفينة أنّ النّبيّ صلّى الله عليه وسلم قال الخلافة بعدي ثلاثون سنة ثمّ تصيرُمُلٍٍْكاً عضوضا".وقال[24]:

"المراد به خلافة النّبوّة وأمّا معاوية ومن بعده فكان أكثرهم على طريقة الملوك ولوسُمُّوا خلفاء والله أعلم". ورواه الطّبرانيّ في

المعجم الكبير ج1ص89 وج7ص84والهيثميّ في موارد الظّمآن ص369 .

قال ابن خَلْدُون [ج3ص4]: إلى أن ملك مُعاويَة وخلع الحسنُ نفسَه واتّفقت الجماعة على بيعة مُعاويَة في منتصف سنة إحدى وأربعين عند ما نسي النّاس شأن النّبوّة والخوارق ورجعوا إلى أمر العصبيّة والتّغالب[!] وتعيّن بنو أُميّة للغلب على مضر وسائر العرب ومُعاويَة يومئذ كبيرهم فلم تتعدّه الخلافة ولا ساهمه فيها غيره فاستوت قدمُه واستفحل شأنُه واستحكمتْ في أرض مصر رياستُه وتوثّق عقدُه وأقام في سلطانه وخلافته عشرين سنةً ينفق من بضاعة السّياسة التى لم يكن أحد من قومه أوفر فيها منه يداً من أهل التّرشيح من ولد فاطمة وبنى هاشم وآل الزّبير(اهـ).

وهذا صريح في أنّ ابن خَلْدُون يقدّم معاوية على الحَسنَيْن سيّديْ شباب أهل الجنّة و سعد بن أبي وقّاص الذي رشّحه عمر بن الخطاب للخلافة إذ جعله من السّتّة في قصّة الشّورى المعروفة.ولا شكّ أنّ عمل ابن خَلْدُون في سلك القضاء لدى الحكّام قد أثّر في نظْرته إلى السّياسة ومن يمارسُها؛ ولأنّها ميدان سرعان ما يتلوّث الرّاكض فيه ويغدو يسمّي المداهنةَ مداراةً والكذبَ دبلوماسيّةً وخلفَ الوعد استراتيجيّةً، فليس بعيداً أن تكون المفاهيم عند ابن خَلْدُون مطّاطيّة قابلةً للضّيق والسّعة حسب ما يقتضيه المقام من دفاع عن بني أميّة وتحامل على ذرّيّة النبيّ صلى الله عليه و آله.

وأكتفي بهذا القدر من مناقشة كلام ابن خَلْدُون،فإنّ في ما كتبه عن بني أميّة كلام كثي،لا يرتاب صاحبُ الضّمير الحيّ في مخالفته للقيَم التي جاء الإسلام لينشرها بين الناس.وقد كانت كلمة العقّاد بشأنه كافية وافية،وإشارات الشّوكانيّ والهيثميّ واضحة صافية،ولم يثبت أنّه تاب من نصْبه ومُعاداته لأهل البيت عليهم السّلام،وخصوصاً من كلمته الآثمة التي يتأذّى لها قلبُ النّبيّ صلى الله عليه وآله فإنّه قال[25]: "وشذّ أهل البيت بمذاهب ابتدعوها وفقه انفردوا به وبنوه على مذهبهم في تناول بعض

الصّحابة بالقدح وعلى قولهم بعصمة الأئمّة ورفع الخلاف عن أقوالهم وهي كلّها أصول واهية "(اهـ).وهو كلام يبدو فيه الاستخفاف بكتاب الله تعالى صريحاً،إذ لا يُعقل أن يُنسَب الشذود إلى المطهّرين بالنّصّ من طَرَف مُصدّق بما نزل به الروح الأمين،وقد قال الله تعالى في حقّ أهل البيت " إنّما يريد الله ليذهب عنكم الرّجس أهل البيت ويطهّركم تطهيرا ".ولو أنّ ابن خَلْدُون قال:" وشذّ شيعة أهل البيت.."لكان أوسعَ له،فإنّ النّواصب الذين كفّروا مُحبّي النّبيّ وأهل بيته عليهم السلام لم يخلُ منهم عصر،وفَتاوَاهم التّكفيريّة شاهدة تسوّد صحائفَهم من عهد بني أميّة،لكنّه قال:"وشذّ أهل البيت"فنَسَبَ الشّذُوذَ إلى من صرّح القرآن بطهارته،فكان بذلك رادّاً لكتاب الله تعالى منسلخاً من آياته فأتْبَعَهُ الشّيطانُ فكانَ من الغَاوين.وحقّ للشّوكانيّ أن يقول عنه "فهو ممّن أَضلّه الله على علم "[26] .

عقيدة ابن خَلْدُون في المهديّ عليه السلام :

 وقد لا حظتُ أثناء البحث في أقوال ابن خَلْدُون ما يكشفُ عن انْحرَاف فكريٍّ خَطيرٍ، كأنّما يردُّ فيه أحاديثَ النّبيّ صلى الله غليه وآله بخُصوص المهديّ (عليه السلام)؛ فهو يقول:فهذه جملةُ الأحاديث التي خرجها الأئمّةُ في شأْن المهديّ وخروجه آخر الزّمان وهي كما رأيت[!] لم يخلُصْ منْها منَ النّقد إلاّ القليل والأقلّ منه وربّما تمسّكَ المُنْكِرون لشأنه[27] بما رواه محمّد بن خالد الجنديّ عن أبان بن صالح بن أبي عياش عن الحسن البصري عن أنس بن مالك عن النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم أنه قال لا

مهديّ إلاّ عيسى بن مريم...(اهـ).      

 

***

2 ـ ابن عبد ربّه الأندلسي:

 قال المحقّق عزّالدّين عُمرموسى في مقدّمة كتاب"دررالسّمط في خبر السّبط "[28]: نظم ابن عبد ربّه أرجوزته التي أسْقط فيها خلافة عليّ واعتبر مُعاويَة

رابعَ الخلفاء،حتّى قيل إنّ تلك الأُرجوزةَ قد شقّت على المعزّ الفاطميّ إلى أن عارضَهَا شاعرُه الإياديّ التّونسيّ بأخرى . ولكنّ روح المحافظة السّنّيّة في المجتمع الأندلسيّ وإن تقبّلت الهجوم على الشّيعة سياسيّاً فلم ترض عن انتقاص عليّ كخليفة،وقد ردّ مُنذرالبلوطيّ قاضي الجماعة في قرطبة على ابن عبد ربّه ردّاً عنيفاً ولم يعرّض ذلك منذراً لسخط النّاصر، ممّا يؤكّد أنّ القضية كلّها كانت موجّهة ضدّ فاطميّ إفريقية.وحسبك أنّ ابن حزم الذي تشيّع " لأمراء بني أميّة ، ماضيهم وباقيهم بالمشرق والأندلس " اعتقد بإمامة عبد الله بن الزّبير ويرى أنّ مقتل الحسين من أكبر مصائب الإسْلام .اهـ

قلتُ:لو كان في الأرجوزة المذكُورة خيرٌ لبقي ينتفع به النّاس،" فأمّا الزّبد فيذهب جفاء و أمّا ما ينفع النا فيمكث في الأرض ".والرّد الذي ردّه القاضي مُنذرعلى ابن عبد ربّه ذكرَه المقرّيّ في نفح الطيب فقال في ترجمة خلف بن فتح الجبيريّ [29]: " وعليه نزلَ القاضي مُنذربْن سعيد بطرطوشة وهو يومئذ يتولى القضاء في

الثُّغُورالشّرقيّة قبل أن يليَ قضاء الجماعة بقُرطُبة فأنزله في بيته الذي كان يسكنه فكان إذا تفرّغ نظرَ في كتاب أبي على يديه كتاب فيه أرجوزة ابن عبد ربّه يذكر فيها الخلفاء ويجعل معاوية رابعهم ولم يذكر عليّاً فيهم ثمّ وصل ذلك بذكرالخُلفاء من بني مَروان إلى عبد الرّحمن بن محمّد فلما رأى ذلك منذر غضب وسبّ ابنَ عبد ربّه وكتب في حاشية الكتاب:

أَوَ مَا عَليٌّ ـ لا بَرحْتَ مُلَعّناً ـ   يا ابنَ الخَبيثَة عنْدكُم بإمَام

ربّ الكسَاء وخَيْرُ آل مُحَمّد      دَاني الولاء مُقَدَّمُ الإسْلام

 قال أبو عبيد والأبيات بخطّه في حاشية كتاب أبي إلى السّاعة.

قلتُ:وذكر كُتّابَ الوحْي في كتابه " العقد الفريد " فسمّى زيْدَ بن ثابت، ومُعاوية بن أبي سُفيان [!]، وحَنْظلة بن الرّبيع الأسديّ، وعبدُ اللّه بن سعْد بن أبي سرح الذي ارتدّ ولحق بمكّة مُشركاً،ولم يذكر عليّاً عليه السلام الذي لم يفارق النّبيّ صلى اله عليه وآله من قبل أن ينزل عليه الوحي إلى أن التحق بالرفيق الأعلى.ولم يثبت أنّ ابن عبد ربّه تراجع عن موقفه في مسألة الخلفاء[30]،ومع ذلك يقول عنه ابن كثير[31]:" كان من الفضلاء المكثرين والعلماء بأخبار الأوّلين والمتأخّرين،وكتابُه العقْد

يدلّ على فضائل جمّة،وعلوم كثيرة مهمّة،ويدلّ كثير من كلامه على تشيّع فيه،وميل إلى الحطّ على بني أميّة [!] وهذا عجيب منه،لأنّه أحد مواليهم وكان الأولى به أن يكون ممن يواليهم لا ممن يعاديهم . قال ابن خلكان : وله ديوان شعر حسن ، ثمّ أورد منه أشعارا في التغزّل في المردان والنّسوان أيضا(اهـ).

قلتُ: يبدوأنّ ابنَ كثيرلمْ يطّلع على كثير من مؤلّفات ابن عبد ربّه، وإلاّ لما شكّ في مدحه لبني أميّة،فإنّ بعض قصائده فيهم تقارب الغلوّ؛ والأدباء واللّغويون يستشهدون بأشعاره في هذا الباب ؛ بل إنّ له منظومة في أكثر من أربعمائة بيت يمدح فيها حاكم الأندلس في أيّامه!وكيف يكون شيعيّاً مَن يقول في العقد الفريد:" الرّافضة يهود هذه الأمّة يبغضون الإسلام كما يبغض اليهود النّصرانيّة " ؟![32]ولا يفوتُ التّذكيرُ هنا أنّ الذّهبيَّ،ترجمَ في سيَر أعلام النّبلاء في الجزء السادس

عشر للقاضي مُنْذر بْن سعيد البلوطيّ تحت رقم127[33]،وذكر تفاصيل عن حياته وكراماته،لكنّه تعمّد ترْكَ قصّته مع أبيات ابن عبد ربّه،وهذه واحدة أخرى

تنضمّ إلى سجلّ الذّهبي الذي يتحكّم فيه الهوى الأمويّ إلى درجة أن يمارس كتمان الحقيقة عمّن هوبحاجة إلى  معرفتها.            

***

 3 ـ ابن قيّم الجوزية:

 وأمّا ابن قيّم الجوزية فقد فاقهم جميعاً، وراح ينفي الأحاديث الواردة في ذمّ بني أُميّة، علماً أنّ المُفسّرين قد ذكروا أنّ قوله تعالى " والشّجرة الملعونة في القرآن " إنّما يقصد به بنو أُميّة " . قال ابن قيّم الجوزيّة في نقد المنقول ج1ص108 في فصل أحاديث المناقب والمثالب : 

 ومن ذلك الأحاديث في ذم مُعاويَة 

 وكلّ حديث في ذمّه فهو كذب 

 وكلّ حديث في ذمّ عمرو بن العاص فهو كذب 

 وكلّ حديث في ذم بني أُميّة فهو كذب 

  وكلّ حديث في مدح المنصور والسّفاح والرّشيد فهو كذب 

 وكلّ حديث فيه ذمّ يزيد بن مُعاويَة فكذب وكذلك أحاديث ذمّ الوليد وذمّ مَرْوان بن الحكم 

 وكذا كلّ حديث في مدح بغداد وذمّها والبصرة والكوفة ومرو وقزوين وعسقلان والاسكندرية ونصيبين وأنطاكية فهو كذب. 

 وكذا كلّ حديث في تحريم ولد العبّاس على النّار فهو كذب 

 وكلّ حديث في ذكر الخلافة في ولد العبّاس 

 وكذا كلّ حديث في مدح أهل خراسان الخارجين مع عبدالله وولد العبّاس فهو كذب. (انتهى) كلام ابن القيم .

والواقع أنّ حال معاوية ويزيد وعمرو بن العاص لا تحتاج إلى أحاديث، فإنّ أخبارهم في كتب الماضين مسطورة ، وأعمالهم في محاولات هدم الإسلام مشهورة، ولو لم يكن سوى ضرب الكعبة بالمنجنيق واستباحة المدينة المنوّرة حرم النّبيّ صلى الله عليه و آله وقتل آل النبيّ وأصحاب النّبيّ صلى الله عليه وآله لكفى؛ كيف وقد امتلأت الأرض في أيّامهم ظلماً حتى صار الصالحون من الأمّة بمنزلة العبيد،لا يستطيعون أمراً بمعروف ولا نهْياً عن منكر.ولكنّ ابن قيّم الجوزيّة شاميّ أمويّ الهوى،وهو تلميذ ابن تيمية الناصبيّ الذي ردّ الأحاديث الصحيحة انتصارا لمذهبه، ومن يشابه أبه فما ظلم.

***

4 ـ ابن تَيْميَة: 

لا يتورع ابن تَيْميَة عن إضفاء لقب الإمام على مُعاويَة بن أبي سُفْيان إذ يقول في منهاج السّنّة النّبويّة ج1ص537 : أضطرب النّاس في خلافة عليّ على أقوال ، فقالت طائفة إنّه إمام وإنّ مُعاويَة إمام وإنّه يجوز نصب إمامين في وقت إذا لم يمكن الاجتماع على إمام واحد وهذا يحكى عن الكراميّة وغيرهم (اهـ).

ثمّ راح يُفَنْقلُ ويُفَذْلكُ محاولاً الجمع بين المتناقضات، فقال في ج1ص538: وقالت طائفة ثالثة بل عليّ هو الإمام وهو مصيب في قتاله لمن قاتله وكذلك من قاتله من الصّحابة كطلحة والزّبير كلّهم مجتهدون مصيبون،وهذا قول من يقول كلّ مجتهد مصيب ، كقول البصريّين من المعتزلة أبي الهذيل وأبي عليّ وأبي هاشم ومن وافقهم من الأشعريّة كالقاضي أبي بكر وأبي حامد وهو المشهور عن أبي الحسن الأشعريّ. وهؤلاء أيضا يجعلون مُعاويَة مجتهدا مصيبا في قتاله كما أنّ عليّا مصيب وهذا قول طائفة من الفقهاء من أصحاب أحمد وغيرهم ذكره أبو عبد الله ابن حامد(اهـ) .

وقال[34]:وطائفة خامسة تقول إنّ عليّاً مع كونه كان خليفة هو أقرب إلى الحقّ من مُعاويَة (اهـ).

قلتُ:إنّه لَمِنْ عمَى البصيرة أن يُقال لمَن هُو مع الحقّ والحقّ معه يدُور معه حيث دار" إنّه أقربُ إلى الحقّ ".وكيف يكونُ أقربَ إليه وهو في قلبه!! فإنّها لا تعمى الأبصارُ ولكنْ تعْمَى القلوبُ التي في الصّدور.لكنّ ابن تَيْميَة تعوّدَ جحودَ الحقائق والتّنكّر للقيَم إذا لم يكنْ ذلك يَصبُّ في هوَاه.لذلك تراه في الجزء الخامس من منهاجه أنكرَ أن يكونَ حديثُ " عليّ مع الحقّ والحقّ مع عليّ " مرويّاً في كتب المُسلمين لا بإسناد صحيح ولا ضعيف.والحديثُ مرويٌّ بأسانيدَ صحيحةٍ وأُخْرى حَسَنة وأُخرى ضَعيفة،وتَحصّلَ بذلك كذبُ ابن تَيْميَة.ومنْ أبْغض الخلْق إلى الله تعالى شيْخ كذّابٌ.

قال ابن تيمية[35]:ومما يبيّن هذا أنّ الرّافضة تعجزُعنْ إثبات إيمان عليّ وعدالته مع كونهم على مذهب الرّافضة ولا يمكنهم ذلك إلاّ إذا صاروا من أهل السنّة

فإذا قالتْ لهمُ الخوارجُ وغيرُهم ممّن تكفّره أوتُفسّقُه لا نُسلّم أنّه كان مؤمناً بل كان كافراً أو ظالماً كما يقولُون هُم في أبي بَكْروعُمَرلمْ يكُنْ لهمْ دليلٌ على إيمانه وعدله[!]إلاّ وذلك الدّليل على إيمان أبي بَكْروعُمَروَعُثْمان أدلّ .فإن احتجُّوا بما تَواترَ من إسلامه وهجْرَته وجهاده فقد تواترَ ذلك عن هؤلاء بل تَوَاتَرَإِسْلامُ مُعاويَةَ ويَزيد وخلفاءِ بني أُميّة وبني العبّاس وصلاتهم وصيامهم وجهادهم للكفّار!فإن ادّعوْا في واحد من هؤلاء النّفاق أمكن الخارجيَّ أن يدَّعي النّفاق وإذا ذكروا شبهةً ذكرَ مَا هُو أعظمُ منها (اهـ).

أقول:هذا كلام يتأذّى منه رسول الله صلى الله عليه وآله ،والذين يُؤذون رسولَ الله لهم عذاب أليم.ولو كان ابنُ تيمية يُقيم لحديث النّبيّ صلى الله عليه وآله وزناً لما استشهد بالخوارج كلاب النّار، ولراعى معتقدَ أبناء طائفَتِه الذين يُقرُّون أنّ عليّا عليه السلام رابعُ الخلفاء،وخامسُ أصحاب الكساء.ولو كان ابن تيميةَ صادقاً في انتسابه إلى السنّة النبويّة التي عنونَ بها كتابَه لرعى حُرمة الله تعالى ورسوله في حبيبهما،فإنّه قد صحّ عن النّبيّ صلى الله عليه وآله قولُه في حقّ عليّ عليه السلام: " يحبُّ اللهَ ورسولَه ويحبُّه اللهُ و رسولُه "، وأين ما قدّمه ابنُ تيمية للإسلام بالنّسبة إلى قدّمه عليّ عليه السلام؟!وهؤلاء أبناء طائفته يشهدون عليه شهادات تجعلُه في عداد من لا قيمة لكلامه عند أولي الألباب.

ولا أُطيلُ في بيان ما يخُصّ ابنَ تيمية لأنّ القصدَ الإشارةُ لا التّفصيل،وفي كتاب الدُّرَرالكامنَة في أعيان المئة الثامنة(لابن حجرالعسْقلانيّ ) أخبارٌ حوْلَه لمن أراد أن يطّلع أكثر.    

***

5 ـ شمس الدين الذّهبيّ:   

   أما الذّهبيّ فإنّ طريقتَه تختلفُ عن طريقة ابن تَيْميَة وابن قيّم الجوزية وابن كثير،والرّجلُ قد عاصرَهُم وتابعَ أحوالَهم ورأى تعاملَ النّاس معهم،وردودَ الفعل الصّادرة من فضلاء ذلك العصر،فلجأ إلى طريقة لا يتّضح فيها النّصب إلاّ بعدَ التمعُّن وَلِمَنْ كان مُتحرّراً من التّعصّب المَقيت.وفي اعتقادي أنّ النّصبَ الذي انطوَى عليه باطنُ الذّهبيّ أضعافُ ما كان عليه ابن تَيْميَة،وإنّما اشتهر ابنُ تَيْميَةَ بذلك دونَه لكوْنه يُصرّحُ به ويسيءُ في التّعبير.أمّا الذّهبيّ فإنّه يتخيّرُالعبارات،وإذا أرادَ تسديدَ ضَرَباته هيّأَ لذلك ومهّدَ لهُ بقليل من المدْح لمَنْ يُريدُ ضَرْبَهُ حتّى يمُرَّ الأمرُ بسلام،ومثلُ هذا العمل لايصدُرإلاّ عن باطن غيرسليم،لأنّ فيه التّلاعب بمشاعر القُرّاء واستغْلال طيبَتهم وحُسْن طويّتهم؛وهوإضافة إلى أنّه أمر يرفضُه الشّرع،عملٌ سيّءٌ مُستهجَنٌ عند العقلاء في كلّ الثّقافات.والذّهبيُّ مع كلّ هذا يدّعي أنّه يتولّى عليَّ بن أبي طالب عليه السّلام كما في سيَرأعلام النبلاء ج3 ص39 إذ يقول:"وقد كان بيْن الطّائفتين من أهْل صفّين ما هو أبْلغُ من السّبّ السّيف،فإن صحّ شيءٌ فسبيلُنا الكفّ والاستغفارُ للصّحابة ولا نحبّ ما شجَرَ بيْنهم ونعوذُ بالله منْه ونتولّى أميرَ المؤمنين عليّاً ". لكنّ أعمالَ الذّهبيّ ومواقفَه من أَتْبَاع عليّ عليه السلام لا تنْسجمُ مع ذلك المُدّعَى،وله قبل ذلك موقف خطير يدلّ تعبّده بكتمان العلم[36]؛وأنا مُوردٌ ههنا مايدلّ على تحامله على أتباع أهل البيت بصورة جليّة بسيطة:

قال الذّهبيّ في تذكرة الحفّاظ :ج 4 ص 1448[وما بعدها ] في ترجمة ابن مسدى :

ابن مسدى الحافظ العلاّمة الرّحّال أبو بكر محمّد بن يوسف بن موسى بن يوسف بن مسدى الأزديّ المهلبيّ الأندلسيّ الغرناطيّ ،أحد من عُنى بهذا الشّأن،كتب عن خلْق بالأندلس في سنة نيف وعشر،وارتحلَ بعدَ العشرين ولحق بحَلَب أبا محمّد[ابن] علوان الأستاذ،وبدمشق أبا القاسم بن صصرى وبمصْرالفخْرالفارسيّ،وبالثّغرمُحمّد بن عباد،وبتونُس وتلمسان،وعمل مُعجماً في ثلاث مجلّدات كبار رأيْتُه وطالعْتُه وعلقت منه كراريس،وله تصانيفُ كثيرةٌ وتوسّعَ في العُلُوم وتفنّن،ولهُ اليدُ البيضاءُ في النّظم والنّثر ومعرفة بالفقه وغير ذلك وفيه تشيّع وبدعة.روى عنهُ الأميرُ علم الدّين الدّواداريّ ومجد الدّين عبد الله بن محمّد الطّبريّ وغيْرُ واحد وشيخُنا الدّمياطيّ في معجمه.حكى لي المحدّثُ عفيفُ الدّين ابن المطريّ أنّه سمع التّقيّ المعمريّ يقول سألتُ أبا عبد الله بن النّعمان المزاليّ عن ابن مسدى فقال:ما نقمنا إلاّ أنّه تكلّم في أمّ المؤمنين عائشة رضي الله عنها.ثمّ حدّثني العفيف أنّ ابن مسدى كان يُداخل الزّيديّة بمكّة فولّوهُ خطابةَ الحَرَم فكان يُنشئُ الخُطَبَ في الحال وأكثرُ كُتُبه عنْد الزّيديّة ثمّ أرانى عفيفُ الدّين له قصيدةً نحواً منْ ستّ مائة بيْت ينالُ فيها من مُعاويَة وذويه،ورأيتُ بعضَ الجماعة يضعّفونَه في الحديث وأنا قرأتُ لهُ أوهاماً قليلةً في مُعجمه،وقد خرج لابْن الحمْيَريّ فوَهمَ،خرج له من رابع المحامليات عن شهدة،وهذا خطأ.وممّن روى عنه أبو اليمن بن عساكروَعفيف الدّين[ابن] مزروع،وكان شيخُنا رضيّ الدّين بن إبراهيم إمامُ المقام ممّن يمنعُ الرّواية عنه.و" مَسْدى " بالفتح وياء ساكنة ومنهم من يضمه وينوّن.قُتِلَ ابنُ مسدى[بمكّة] غيلةً وطُلّ دَمُه في سنة ثلاث وستّين وستّ مائة عن نحْو من سبْعين سنة.كتب إلي الإمام عبد الله بن محمّد بن محمّد المكّيّ أنّه قرأ على أبي بكر ابن مسدى قصيدته هذه :

 يا ذا الذى لَمْ يَزَلْ في مُلْكِهِ أَزلا * ما ذا أقُولُ ولا أُحْصى الثَّنَاءَ وَلا

عَلَوْتَ قَدْراً فَمَا قَدْرُ العُقُولِ وَقَدْ ****عَقَلْتَهَا فيكَ عَنْ مَفْهُوم قَوْلِ عَلا

(انتهى) كلام الذّهبيّ .

قلتُ :أورد العلاّمة ابن عقيل الشّافعيّ في كتابه " العتب الجميل على أهل الجرح والتّعديل " كلامَ الذّهبيّ في حقّ ابْن مسْدى ثمّ قالَ:" وأقولُ أسْخَنَ اللهُ عُيُونَ النّوَاصب وصَبَّ عليْهم عذابَهُ الوَاصبَ؛ ما نَقَمُوا من ابْن مسْدى إلاّ قُربَه منَ الزّيديّة وحُبَّهُ العتْرةَ النّبويّةَ،ووجودَ كُتُبه عنْدهُم وذَمَّهُ لعدوِّ الله وعَدُوِّ الإسْلام مُعاويَة،ويرحمُ اللهُ الشّيخَ عبد الغنيّ النابلسيّ حيث يقول :

 إن كان في اليمن الفيحاء زيدية     فإن في شامنا هذا يزيدية

(انتهى) كلامُ ابن عقيل.

  والذي يَرْمي إليه الذّهبيُّ هُوَأنّ ابنَ مسْدى بذمّه لمُعاويَةَ يَسْقُطُ من الاعْتبَار،ولعلّه أراد ذلك بقَوْله في بدايَة كَلامه "وفيه تشيُّعٌ وبدْعةٌ ".وذَكرَبَعْدَ ذلك أنّه " طُلّ دمُه " ولم يعلّقْ عليْه بشيء بعْدَ أن ذكرَ من علْم الرّجُل ماذَكَرَ،والحالُ أنّ دماءَ أهْل القبْلة معْصُومَةٌ.ولوْ كانَ ابنُ مسْدى من الحَامدين لسيرَة مُعاويَةَ لألْبَسَهُ الذّهبيُّ لَقَبَ الشَّهيد وصبّ على قاتليه وابلاً من اللّعْن وبيلاً؛إنّما الرّجلُ يبغَضُ مُعاويَةَ بنَ أبي سُفْيان في الله وهذه عند الذّهبيّ جريمةٌ لا تُغتَفَرُ.يُضافُ إلى ذلك ما تضمّنتْهُ أبيات ابن مسدى السّابقة فإنّه يُخالفُ ما يذهب إليه الذّهبيُّ في مسألة العُلُوّ،وقد ألَّف الذّهبيُّ في العُلُوّ كتابَه المشهورَ " العلو للعليّ العالي".

وذكرالذّهبيّ في تذكرة الحفّاظ[37] قصّةَ النّسائيّ عن محمّد بن موسى المأمونيّ صاحب النّسائيّ وقال فيه:سمعتُ قوماً يُنكرُون على أبى عبد الرّحمن كتاب

الخصائص لعليّ رضي الله عنه وَتَرْكَهُ تصنيفَ فضائل الشّيخين فذَكرْتُ لهُ ذلك فقال:دخلتُ دمشْق والمُنحرفُ عن عليّ بها كثيرٌفَصنّفتُ كتابَ الخصائص رجوتُ أن يهديَهم الله،ثمّ إنّه صنّف بعد ذلك فضائل الصّحابة،فقيل له وأنا أسمَعُ:ألا تُخرجُ فضائلَ مُعاويَة؟ فقال أيّ شيء أُخرجُ؟ حديث:اللّهمّ لا تُشْبعْ بَطنَه؟ فسكتَ السّائلُ.قلت[38]:لعلّ هذه مَنْقَبَة مُعاويَة لقول النّبيّ صلى الله عليه وآله :اللّهمّ مَن لعنْتُه أو شتمْتُه فاجعلْ ذلك له زكاةً ورحمةً(اهـ).

  يقول الذّهبيّ عن حِرْمان مُعاويَة من الشّبع " لعلّ هذه منقبة " مُصادراً كلّ ما عليه النّاس،العوامّ منْهُم قبل الخواصّ،فإنّ ألمَ الجُوع يُعلَم بالغريزة.ثمَّ إنّ لهيبَ الجُوع مُضرٌّ بالبَدَن والعقْلِ إلاّ ما كان من الصّيام لأنّه تجويع اختياري بقصد العيادة،وليس جوعاً؛وفي وُسع الصّائم أن يشبع بعد الإفطار.ومُعاويَة نفسُه يتضجّرُويتذمّرُويُقسمُ أنّهُ لم يشبَعْ وإنمّا تَعبَ من المضْغ.ولم يشغلْ أهلَ النّارما هُم فيه من العذاب أنْ نادَوا أصحابَ الجَنَّة أنْ أَفيضُوا علينا من الماء أو ممّا رزقكم الله. بل إنّ منَ التّعذيب يومَ القيَامة ألاّ يشبعَ أهلُ النّارلأنَّ طعامَهم " لا يُسْمنُ ولا يُغْني منْ جُوع ".وبما أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله أطْلقَ في دُعائه على معاوية فإنّه لا مانعَ أنْ يشملَ الدّعاءُ الدّنيا والآخرةَ، فيكون معاوية من الذين لا يشبعُون في الآخرة،وهُم أهلُ النار.

ويحتجّ الذّهبيّ لكلامه بحديث مُفترىً على النّبيّ صلى الله عليه وآله لتَبْييض وُجُوه سوّدها الله فيقول " لقول النّبيّ صلى الله عليه وآله اللهمّ مَن لعنتُه أو شتمتُه فاجعلْ ذلك له زكاة ورحمة "،ولا يستحي أن ينسبَ إلى النّبيّ صلى الله عليه و آله أنّه يلعنُ ويشتمُ مَن ليس أهلاً لذلك،وهذا ما يترفّع غنه آحاد المؤمنين ،فكيف بمن هو صاحب الخلق العظيم.نعم، إنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله يلعنُ من يستحقّ اللّعن،ولا يلعنُه إلاّ بعدَ أن يكون قد استحقّ اللّعن في السّماء ومن استحقّ اللعن من الله و رسوله فليس ينفعه ((لعلّ )) من الذّهبيّ.

ثمّ إن الذّهبيّ يذكر بخصوص النّسائيّ [39]ما يلي :                      

وقال محمّد بن المظفّر الحافظ سمعت مشايخَنا بمصر يصفون اجتهاد النّسائيّ في العبادة بالليل والنّهار وأنّه خرج إلى الغزو مع أمير مصر فوصف من شهامته وإقامته السّنن المأثورة في فداء المسلمين واحترازه عن مجالس السّلطان الذى خرج معه والانبساط في المأكل وأنّه لم يزل ذلك دأبه إلى أن استشهد بدمشق من جهة الخوارج(اهـ).

قلتُ:المعلومُ أنّ الذين قتلوا النّسائيّ هم أهلُ دمشق النّواصب،انتصاراً منهم لمُعاويَة،لأنّ النّسائيّ ألّف كتاب خصائص أمير المؤنين في فضل على بن أبي طالب عليه السلام ،ورفض أن يكتب في معاوية؛والذّهبيّ نفسه يقول بعد ذلك :[ قال أبو عبد الله بن منده عن حمزة العقبيّ المصريّ وغيره إنّ النّسائيّ خرج من مصر في آخر عمره إلى دمشق فسُئل بها عن مُعاويَة وما جاء من فضائله،فقال ألا يرضى رأسا برأس حتى يفضّل ؟ قال فما زالوا يدفعون في خصييه حتّى أُخرج من المسجد ثمّ حُمل إلى مكّة فتوفّي بها . كذا في هذه الرّواية إلى مكّة ، وصوابه الرّملة ](اهـ) فمتى سكن الخوارج دمشق؟! ومتى كانوا ينتصرون لمعاوية؟!

وقال بعد ذلك [40]:قال الدّار قطنيّ:خرج حاجّّاً فامتُحن بدمشق وأدرك الشّهادة فقال احملوني إلى مكّة فحُمل وتوفّي بها وهو مدفون بين الصّفا والمَروَة وكانت

وفاته في شعبان سنة ثلاث وثلاثمائة قال وكان أفقه مشايخ مصر في عصره وأعلمهم بالحديث والرّجال(اهـ).

والدّارقطنيّ أقربُ عصراً إلى النّسائي من الذّهبيّ.

 أما المزّيّ فإنّه ذكر القصّة في كتابه " تهذيب الكمال " ثم أورد بعدها تعقيبا، قال[41] :قال الحاكم أبو عبد الله الحافظ : سمعتُ عليّ بن عمر يقول:كان أبو عبد

الرّحمن النّسائيّ أفقهَ مشايخ مصر في عصره ، وأعرفَهم بالصّحيح والسّقيم من الآثار،وأعلمهم بالرّجال ، فلمّا بلغ هذا المبلغ حسدوه فخرج إلى الرّملة، فسُئل عن فضائل مُعاويَة،فأمسك عنه،فضربوه في الجامع.فقال: أخْرجُوني إلى مكّة،فأخرجُوه إلى مكّة وهو عليل،وتوفّي بها مقتولا شهيداً . قال الحاكم أبو عبد الله: ومع ما جمع أبوعبد الرّحمن من الفضائل رُزقَ الشّهادةَ في آخرعُمره،فحدّثني محمّد بن إسحاق الأصبهاني ، قال:سمعت مشايخَنا بمصريذكرون أنّ أبا عبد الرّحمن فارق مصرفي آخرعمره ، وخرج إلى دمشق ، فسُئل بها عن مُعاويَة بن أبي سُفْيان وما رُوي من فضائله ، فقال : ألا يرضى مُعاويَة رأساً برأس حتى يُفضّل ؟! فما زالوا يدفعُون في حضْنيْه حتى أُخرج من المسجد ثمّ حُمل إلى مكّة ومات بها سنة ثلاث وثلاث مئة وهو مدفون بمكّة . قال الحافظ أبو القاسم: وهذه الحكاية لاتدلّ على سوء اعتقاد أبي عبد الرّحمن في مُعاويَة بن أبي سُفْيان وإنّما تدلّ على الكفّ في ذكره بكلّ حال (اهـ).

والذّهبيّ يرى كُفرَ من يكفّرالشّيخين، لكنّه لا يرى ذلك بخصوص من يكفّرُعليّاً عليه السلام ويلعنُه ويسبّه ويشتمه،علماً أنّه قد صحّ أنّ من سبّ عليّاً فقد سبّ النّبيّ صلى الله عليه وآله كما روى الحاكم وغيره.ومعنى هذا أنّ الذّهبيّ يرى كُفر من يسبّ الشيخين ولا يرى كُفر مَن يسبّ النبيّ صلى الله عليه وآله! ويرى الذّهبيّ أنّ من تكلّم في الشّيخين فهو غال مُفتر،وقد ثبتَ أنّ فاطمة بنت النّبيّ صلى الله عليه وآله هَجَرَتْهُما ولمْ تكلّمْهُما وأوصتْ ألاّ يُصلّيا عليها، ولم تكن ـ سلام الله عليهاـ ترى خلافةَ أبي بكر شرعيّةً وهذا أعظم من التكلّم فيهما،ويؤولُ الأمرُإلى أنْ تكونَ فاطمةُ ـ سلام الله عليها ـ في نظر الذّهبيّ غاليةً مفتريةً (مغترة)،نعوذُ بالله تعالى من سوء الظنّ في المطهّرين!

وقال الذّهبيّ في تذكرة الحفاظ ج 2ص 775 في ترجمة أبي عروبة :

وقد ذكره ابن عساكر في ترجمة مُعاويَة فقال:كان أبو عروبة غالياً في التّشيّع شديدَ الميل على بني أُميّة.قلت كلّ مَن أحبّ الشيخين فليس بِغالٍ ، بلى من تكلّم فيهما فهُو غال مغتر فإن كفّرهما والعياذ بالله جاز عليه التّكفير واللّعنة ،وأبو عروبة فمن أين جاءَه التّشيّع المفرط ؟ نعم قد يكون ينال من ظلمة بنى أُميّة كالوليد وغيره (اهـ) !

وللذّهبيّ جولات مع كلّ من يشتمّ منه رائحة الولاء لأهل البيت عليهم السّلام وإن كان راضياً عن الشّيخين.وقد ضاق الذّهبيّ بحديث الطّير المشويّ وخشي أن يأتيَ بعدَه من أهل الفنّ مَن يستدرك عليه وينسبه إلى قلّة الحفظ – فأقرّ على مَضَض أن يكونَ له أصْل.قال في ترجمة الحاكم في تذكرة الحفاظ ج3ص1042:قلتُ ثُمّ تغيّررأيُ الحاكم وأخرج حديث الطّير في مُستَدركه،ولاريب أنّ في المُستَدرك أحاديث كثيرة ليست على شرْط الصّحّة بل فيه أحاديث موضوعة شانَ المُستَدرك بإخراجها فيه.وأمّا حديث الطّيرفلَه طرق كثيرة جدّاً قد أفردتُها بمصنّف ومجموعهاهو يوجب أن يكون الحديث له أصل.وأما حديث " من كنت مولاه " فله طرق جيّدة وقد أفردت ذلك أيضاً (اهـ).

وختم الذّهبيّ ترجمةَ الحاكم بكلام أملاهُ عليه هواه الأُمويّ لا غير،فقد قال في تذكرة الحفاظ ج3ص1045 ما يلي:قال ابن طاهر سألت أبا إسماعيل الأنصاريّ عن الحاكم فقال:ثقة في الحديث رافضيّ خبيث - ثمّ قال ابن طاهر:كان شديد التعصّب للشّيعة في الباطن،وكان يُظهر التّسنّن في التّقديم والخلافة،وكان منحرفاً عن مُعاويَة وآله متظاهراً بذلك ولا يعتذرمنه.قلتُ أمّا انحرافه عن خُصوم عليّ فظاهر،وأما أمرُالشّيخين فمُعظّم لهما بكلّ حال فهو شيعيّ لا رافضيّ،وليتَه لم يصنّف المُستَدرك فإنه غضّ من فضائله بسوء تصرّفه . اهـ

إذاً فالذّهبيّ يودّ لو أنّ الحاكم لم يصنّف المُستَدرك حتى يتمّ للبخاريّ ومسلم ما أراداه من إخفاء الحقيقة عن طالبيها.ولاشكّ أنّ الحاكم قد قضى زمناً معتبراً في تصنيف المُستَدرك،والذّهبيّ يعلم ما يلاقيه المحدّث في تصحيح الأسانيد وتنقيح المتون،لكنّ ذلك لا يكون له شأن لديْه إذا لم يكن مشفوعاً بمحبّة آل أُميّة.و لوأنّ المُستَدرك كان حافلاً بمَديح آل أبي سُفْيان وآل مَرْوان وآل زياد لتلقّاه الذّهبيّ بالقبول .

ويربط الذّهبيّ مسألة استحقاق الإمامة بالتخلّف عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام، ومن ذلك ما ذكره في سير أعلام النبلاء ج 1ص 122 حيث يقول: وروى عمر بن الحكم عن عوانة قال دخل سعد على مُعاويَة فلم يسلّمْ عليه بالإمْرة فقال مُعاويَة لو شئتَ أن تقولَ غيرَها لقلتَ قال فنحنُ المؤمنون ولم نؤمّرْك فإنّك مُعجَب بما أنت فيه والله ما يسرّني أنّي على الذي أنت عليه وأنّي هرقت محْجَمَة دَم . قلت اعتزل سعد الفتنةَ فلا حضر الجَمل ولا صفّين ولا التّحكيم ولقد كان أهلا للإمامة كبيرالشّأن رضي الله عنه(اهـ).

 إذاً فسعدُ بن أبي وقّاص في نظر الذّهبيّ أهل للإمامة كبيرالشّأن لأنّه لم يحضر الجمل ولا صفّين ولا التّحكيم.وهذا يعني أنّ الذّهبيّ لا يبالي أين يكون الحقّ،لأنّ القرآن الكريم يقول:" فقاتلوا التي تبغي حتى تفيء إلى أمر الله "ولم يستجبْ سعْد بن أبي وقّاص للأمر الإلهيّ ولم يقاتل التي تبغي،فهو مقصّر،ومع ذلك أُعجبَ به الذهبيّ ورآه بذلك التقصير مستحقّاً للإمامة لأنّ من دَيْدَن الذّهبيّ أن يُعجب بكلّ ما فيه مخالفة لعليّ بن أبي طالب عليه السلام. وللعلْم،فقد ذكرَ القرطبيّ أنّ سعداً واجهَ معاوية بنَدَمه على عَدَم قتال الفئة الباغية[42].

ومن الأمثلة على انحراف الذّهبيّ عن عليّ بن أبي طالب عليه السلام ما ذكره في ميزان الاعتدال ج1ص428 في ترجمة حابس تحت رقم 1594:

حابس اليمانيّ [ق].عن أبى بكرالصدّيق.قال الدّارقطنيّ:وقد سأله عنه البرقانيّ فقال:مجهول متروك ، قلتُ:ذا يقالُ له صُحبة.روى عنه أبوالطّفيل وجبيربن نفير،وهومن كبارأمراء مُعاويَة قتل يوم صفّين موصوف بالعلم والتعبّد(اهـ).فالذّهبيّ يصف بالعلْم من يحارب باب مدينة العلم،ويصف بالتعبّد من يحارب سيّد العابدين ويموتُ مُصرّاً على حرْبه فإنّ الرجل قُتل يوم صفّين.هذا موقف الذّهبيّ من أفراد الفئة الباغية التي شهد عليها النبيّ صلى الله عليه وآله وسمّاها فرقة القاسطين وقد قال الله تعالى:وأمّا القاسطون فكانوا لجهنّم حطباً.

ومن أمثلة انحراف الذّهبيّ عن عليّ عليه السلام موقفُه من حريز بن عثمان الذي كان عَلَماً في النّصب،وكان يصرّح ببُغْض عليّ ويشتمه.وإليك بعض ما جاء في حريز:

في التاريخ الكبير للبخاريّ ج3ص103 تحت رقم356:حريز بن عثمان أبو عثمان الحمصيّ الرّحبيّ عن راشد بن سعد سمع منه الحكم بن نافع وقال محمّد بن المثنّى حدّثنا معاذ بن معاذ قال حدّثنا حريز بن عثمان أبو عثمان ولا أعلم أني رأيت أحدا من أهل الشام أفضّله عليه وقال أبو اليمان كان حريز يتناول من رجل [!]ثم ترك ذلك وقال يزيد بن عبد ربّه مات حريز سنة ثلاث وستين ومائة ومولده سنة ثمانين (اهـ).

وفي كتاب من تُكُلّم فيه ج1ص66 تحت رقم 84 : حريز بن عثمان الرّحبيّ [خ] ثقة متين تُكُلّم فيه لنصبه(اهـ).

و قال القُرْطبيّ في تفْسيره[43]:وقد بيّنّاهذا الباب في كتاب التّذكرة،وبيّنا هناك من يفتن في قبره ويُسأل فمن أراد الوقوف عليه تأمّلَه هناك.وقال سهل بن عمّار

رأيت يزيد بن هرون في المنام بعد موته فقلت له مافعل الله بك فقال أتاني في قبري مَلَكان فظّان غليظان فقالا مادينُك ومَن ربُّك ومن نبيّك فأخذت بلحيتي البيضاء وقلت ألمثْلي يُقال هذا وقد علّمْتُ النّاس جَوابَكما ثمانين سنة قالا أكتبْتَ عن حريزبن عثمان قلت نعم فقالا إنّه كان يبغض عليّاً فأبغضه الله(اهـ).

والقرطبيّ في الأندلس، وحريز بن عثمان في الشّام.

والذّهبيّ نفسه يُوردُ أقوالاً في ترجمة حريز فيقول في سير أعلام النبلاء ج7ص79:الحافظ العالم المتقن أبو عثمان الرّحبيّ المشرقيّ الحمصيّ محدّث حمص من بقايا التّابعين الصّغار سمع من عبد الله بن بشر رضي الله عنه وخالد بن معدان وراشد بن سعد وعبد الرحمن بن ميسرة وحبيب بن عبيد وعدّة . حدّث عنه بقيّة بن الوليد ويحيي القطّان ويزيد بن هارون وحجّاج الأعور وأبو اليمان الحكم بن نافع وعليّ بن عيّاش وآدم بن أبي إياس وأبو المغيرة ويحيى بن صالح وعليّ بن الجعد وخَلْق سواهم.حدّث بالشّام وبالعراق وحديثُه نحو المئتين ويُرمَى بالنّصب! وقد قال أبو حاتم لا يصحّ عندي ما يقال في رأيه ولا أعلم بالشّام أحدا أثبت منه. وقال أحمد بن حنبل حريز ثقة ثقة ثقة لم يكن يرى القَدَر وقال أبو اليمان كان ينال من رجل ثم ترك ذلك..ورُوي عن عليّ بن عيّاش عن حريز أنّه قال أأنا أشتم عليّاً والله ما شتمتُه وجاء عنه أنّه قال لا أحبه لأنّه قتل من قومي يوم صفّين جماعة. وقال أحمد بن سليمان الرّهاوي حدّثنا يزيد قال كان حريز يقول : لنا إمامُنا ولكم إمامُكم يعني مُعاويَة وعليا رضي الله عنهما[!!].قال عمرانُ بن أبان سمعت حريزاً يقول لا أحبّه قَتَل آبائي. وقال شبابة سمعت رجلاً قال لحريز بن عثمان بلغني أنّك لا تترحّم على عليّ قال أسكت رحمة الله مئة مرة .وقال عليّ بن عياش سمعت حريز بن عثمان يقول والله ما سببتُ عليّاً قطّ.

قلت [44]: هذا الشّيخ كان أورعَ من ذلك وقد قال معاذ بن معاذ لا أعلم أنّي رأيت شاميّاً أفضلَ من حريز وقال يحيى بن معين وجماعة ثقة.اهـ

هكذا يحكم الذّهبيّ حُكمَه الفَصل، ولا يلتفت إلى أحاديث النّبيّ صلى الله عليه وآله عن مبغضي عليّ عليه السلام،ولو كان حريز ممّن لايقولون بإمامة الشّيخين لطردَه الذّهبيّ من رحمة الله بكلّ سهولة،لكنّه يلتقي معه في الحطّ من شأن عليّ عليه السلام وموالاة عدوّه.  

وإذا وجدَ الذّهبيّ في الحديث فضيلةً لعليّ أو الحَسَنَيْن سلام الله عليهم جميعاً فإن همّه قبل كلّ شيء أن يقول عن الحديث إّنه كذب، ومن ذلك :قوله في ميزان الاعتدال ج 1 ص 496 في ترجمة ابن صابر الكسائيّ تحت رقم 1866 : الحسن بن صابر الكسائيّ عن وكيع . قال ابن حبّان : مُنكَر الحديث ، ثمّ ساق له عن وكيع ، عن هشام ، عن أبيه ، عن عائشة - مرفوعاً : لما خلق الله الفردوس قالت : ربّ زيّنّى . قال : زيّنتك بالحسن والحسين . رواه عنه الفضل بن يوسف القصبانيّ.وهذا كذب (اهـ).

وليس القصد مناقشة الذّهبيّ في مجال تخصّصه،وإن كان له فيه تناقُضات وتضارُبات حتى قيل ما سُمّي الذّهبيّ إلاّ لذهاب عقله " ، ولكنّ الرّجُل دائمُ المُسارعة إلى نقض ما فيه فضيلة لعليّ وأولاده عليهم السلام وقد ردّ عليه بكلّ جدارة وكفاءة الحافظُ شهاب الدّين أحمد بن الصّدّيق الغماريّ المغربيّ في أكثر من موضع من مؤلّفاته. ولوكان الذّهبيّ يعرف حُرمة الحسنيْن ومنزلتَهما عند الله تعالى لما استكثر فيهما هذا الحديث. وكم من حديث ردّه الذهب ونسبَ راويَه إلى الكذب لا لشيء إلا لأنّ فيه فضيلة لأهْل البيت عليهم السّلام،والذّهبيّ قد سخّر وَقْتَه وبَدَنَه وقَلَمَه لمُحَاربة أهْل البيت عليهم السّلام.

 وهذا مثال آخر يكشف عن مدى تناقض الذّهبيّ وتهّربه من الاعتراف بالحقيقة حينما يتعلّق الأمر ببني أُميّة ؛ومَن تَدبّرما كتبه الرّجل في صفحة واحدة يضربُ بعضُه بعضاً وينقُضُ أوّلَه آخرُه لم يخْفَ عليه بعدَها أنّ الذّهبيّ ممّن أضلّه الله على علم، وأنّه إنّما يُصدرأحكامَه عن هَوىً لا عن إنْصاف. قال الذّهبيّ في ترجمة يزيد بن أبي سُفْيان في سيرأعلام النبلاء ج1ص329 :أخو مُعاويَة من أبيه ويقال له يزيد الخير، وأمّه هي زينب بنت نوفل الكنانيّة وهو أخو أمّ المؤمنين أمّ حبيبة كان من العقلاء الألبّاء والشّجعان المذكورين؛أسلمَ يومَ الفتح ،وحسُن إسلامه وشهد حنيناً فقيل إنّ النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم أعطاه من غنائم حنين مئة من الإبل وأربعين أوقية فضّة وهو أحد الأمراء الأربعة الذين ندبهم أبو بكر لغزوالرّوم،عقد له أبو بكر ومشى معه تحت ركابه يسايرُه ويودّعه ويوصيه وما ذاك إلاّ لشرفه وكمال

دينه  [45]ولما  فُتحتْ دمشق أمّره عُمر عليها.له حديث في الوضوء رواه ابن ماجه وله عن أبي بكر.حدّث عنه أبو عبد الله الأشعريّ وجنادة بن أبي أُميّة وله

ترجمة طويلة في تاريخ الحافظ أبي القاسم وعلى يده كان فتح قيسارية التي بالشّام.روى عوف الأعرابي عن مهاجر أبي مخلد قال حدّثني أبو العالية قال غزا يزيد بن أبي سُفْيان بالنّاس فوقعت جارية نفيسة في سهم رجل فاغتصبها يزيد [!] فأتاه أبو ذرّ فقال رُدَّ على الرّجل جاريته فتلكّأ فقال لئن فعلتَ ذلك لقد سمعتُ النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم يقول أوّلُ من يبدّل سُنّتي رجُلٌ من بني أُميّة يقال له يزيد فقال نشدتك الله أنا منهم قال لا فردّ على الرجل جاريته أخرجه الروياني في مسنده(اهـ).

فأنت ترى أنّ الذّهبيّ وصفه في بداية التّرجمة بأنّه من الألبّاء،والألباء جمع لبيب،واللبيبُ صاحب اللب.ولعلّ الألبّاء هم المقصودون في القرآن الكريم بـ((أولي الألباب ))،ولم يذكُرْهم القرآن الكريم إلا بخيْر.ومن بين صفاتهم أنهم يتذكرون " إنما يتذكرأولوالألباب " وأنّهم مُهتدون " أولئك الذين هدى لله وأولئك هم أولوالألباب ".،فهل كان في يزيد بن أبي سُفْيان من هذا شيء؟

 حسب الرواية التي أوردها الذّهبيّ فإنّ يزيد بن أبي سُفْيان اغتصب جاريةً وقعتْ في سهم أحد المجاهدين، وهذا معناه أنّ يزيد بن أبي سُفْيان استغلّ منصبه باعتباره قائداً للجيش ليقتطع حق امرئ مسلم ظلماً وعُدواناً.ولا يستطيع الذّهبيّ ومن في الأرض جميعاً نفيَ صفة الظّلم عن هذا العمل الشّنيع، فهل هذا عمل العُقلاء الألبّاء؟!

ثم تقول الرّواية: " فأتاه أبوذرّ فقال: رُدَّ على الرّجُل جاريتَه فتلكّأ .." فما معنى أن يتلكّأ وقد علم الذّهبيّ وغيرُه أنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله وصفَ أبا ذرّ بصدق اللّهجة ؟! لقد كان الأولى بيزيد بن أبي سُفْيان أن يعتذرإلى أبي ذرّ وإلى الرّجل الذي غصبه حقّه، لكنّه تلكّأ،ولم يُذْعن إلا بعد أن صدع أبو ذرّ بحديث سمعه من النبيّ صلى الله عليه وآله يضعُ يزيد بن أبي سُفْيان أمام الأمرالواقع بحيث يصحّ أن يُقال فيه بعدها إذا لم يُعد الحقّ إلى أهله إنّه " أوّل مَن يغيّر سنّة النبيّ صلى الله عليه وآله " وهذا عنوان لا يرغبُ فيه أحد!

ويقول الذّهبيّ عن يزيد بن أبي سُفْيان إنّه " كان من العُقلاء الألبّاء "، فما بالُ العقْل واللّبّ لم ينفعاه في المقام فغاب عنْه رشدُه أمام جارية نفيسة ؟!وكيف يصلح لقيادة جيش المسلمين مَن هُو ضعيف أمام الشهوة إلى هذه الدرجة[46]؟!

ويقول عنه الذّهبيّ إنه كان من " الشّجعان المذكورين " ولم يحسّ به أحد ولم يسْمع له ركزا لا في بدْروأُحُد مع المُشركين،ولا يوم حنين مع المسلمين!

ويقول عنه الذّهبيّ "حسُن إسلامُه " و الحقّ أنّ هذه القصّة دليل على حُسن إسلامه على طريقة الذّهبيّ في فهم الإسْلام لا على طريقة أبي ذرّ !!

وإنّما أوردت هذه الأمثلة حتى لا يتوهّم القارئُ إجحافاً في حقّ الرّجل ، وليطّلع عليها من لم يكن مطّلعا عليها من قبل.وأختم الكلام عن الذّهبيّ بما خطّته يدُه بخصوص شيعة أهل البيت عليهم السّلام،ولا أدري في أيّ دين يجوزأن يُكتب مثلُ هذا بعد أن قال الله سبحانه و تعالى " ولقد كرّمنا بني آدم..." ! نعم،أختمُه بهذه الكلمة التي يجدها الذّهبيّ في صحيفته يوم يخسرُ المُبطلُون. قال الذّهبيّ في ميزان الاعتدال (ج3ص242 )في ترجمة عمران بن مسلم الفزاريّ : كوفيّ . عن مجاهد،وعطية.وعنه الفضل السينانيّ،وأبو نعيم. قال أبو أحمد الزّبيريّ : رافضيّ،كأنّه جرْوُ كلْب.قلت:خراء الكلاب كالرّافضيّ !!

فالنّبيّ صلى الله عليه وآله يقول عن شيعة عليّ عليه السلام إنّهم " خير البريّة " الذين عناهم القرآن الكريم،والذّهبي يقول عنهم ما قال،والقَولان كما ترى.

***

 6 ـ ابن حجر الهيتمي

انفرد ابن حجر الهيتميّ عن سابقيه بأنه الّف كتاباً في الدفاع عن مُعاويَة بن أبي سُفْيان، سماه " تطهيرالجنان واللسان عن الخطوروالتّفوّه بثلب سيدّنا مُعاويَة بن أبي سُفْيان " وليس من شأن هذا البحث أن يتطرّق إلى كلّ تفاصيل هذا الكتاب، وإنّما مِن حقّ القارئ أن يكون لديه صورة إجمالية عمّا ورد فيه،لأنّ ابن حجر الهيتميّ جاء فيه بالغثّ والسّمين فوقع في التناقض والاختلاف وابتعدَ عن الموضوعيّة والإنصاف.و أنا مُوردٌ بعضَ ذلك من كتابه المذكور.

فمن ذلك قولُه بخصوص فئة مُعاويَة[47]: " لكنّهم لا يسمّون قاسطين ولا مارقين،نعم جاء عن عمّارما يُخالف هذا الحمل لكنّ سنده ضعيف،أن عمّاراً قال وهو

يريد صفّين أمرني النّبيّ صلى الله عليه وآله بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين،وحينئذ فبتقدير صحّة هذا كالأوّل يؤول بكون مُعاويَة وأصحابه كذلك بأنّهم ناكثون عن متابعة عليّ،ومارقون من طاعته،وقاسطون بانفرادهم عنه، وإن كان لهم تأويل منع إثمهم " (اهـ).

 هذا مع ما تسالم عليه علماء الجمهورمن أنّ فئةَ النّاكثين تعني جماعة الجمل،وفئةَ المارقين تعني الخوارج وفئة القاسطين تعني جماعة مُعاويَة.

ويحارُاللّبيبُ حين يقول ابن حجرالهيتميّ في " تطهيرالجنان " ص 25 :ومنها ثناء عليّ كرّم الله وجهه عليه[!] بقوله:" قتلاي وقتلى مُعاويَة في الجنّة "رواه الطّبرانيّ بسند رجاله موثّقون على اختلاف في بعضهم(اهـ).[48]

وقد ذكرُوا أنّ عليّاً عليه السلام كان يقنُت بلعن جماعة منهم مُعاويَة.وكلمات الإمام عليّ عليه السلام بخصوص موقفه من مُعاويَة لا تزال بحمد الله محفوظة في كتب المسلمين.وقد ذكرتُ بعضها في فصل سابق تحت عنوان " أنصار مُعاويَة ".فكيف يلعنُ عليّ عليه السلام معاويةَ إذا كان قتلاه في الجنّة ؟!

ثمّ يقول ابن حجرالهيتميّ بعد ذلك[49]:"فهذا من عليّ صريح لايقبل تأويلا بأنّ مُعاويَة مُجتهد توفّرت فيه شروط الاجتهاد الموجبة لتحريم تقليد الغير[!]إذ

لايجوز للمجتهد أن يقلّد مجتهداً بالاتّفاق سواء خالفه في اجتهاده،وهوواضح،أم وافقه لأنّ كلاّ إنّما أخذ ماقاله من الدّليل لاغير "(اهـ).

وهذا استنباط سخيف من جهة رجل مثل ابن حجر الهيتميّ،لأنّ الاجتهاد إنّما يكون عند غموض الأمر وفُقدان الدّليل الواضح ،وليس الشّأن كذلك في قضيّة يحضرها عليّ بن أبي طالب عليه السّلام لأنّه مع الحقّ والحقّ معه

ولأنّه باب مدينة العلم ولأنّه أقضى الأمّة ولأنّه مع القرآن والقرآن معه،وماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال. فإضافةً إلى ضعف الإسناد كما صرّح به ابنُ حجر نفسُه، فإنّ دعوى اجتهاد مُعاويَة مردودة بأقوال وأفعال عليّ بن أبي طالب عليه السلام الذي لا يفارق القرآن. وابنُ حجر إنّما ينطلق في دعواه ممّا يوحيه إليه النّصب وسوء الاعتقاد ، والدّعاوى إن لم تقيموا عليها***بيّنات أبناؤها أدعياء.

قال ابن حجر في تطهير الجنان (ص 26): " وتأمّل كون عليّ كرم الله وجهه مع اعتقاده حقّيّةَ ماهوَعليه وبطلانَ ماعليه مُعاويَة حَكمَ مع ذلك بإثابة مُعاويَة وأتباعه[!] وأنّهم كلّهم في الجنّة،فعُلم بصحّة ما ذكرتُه أنّ هذا من عليّ صريح لايقبل تأويلاً بأنّ مُعاويَة وأتباعَه مُثابون غيرُ مأثومين بما فعلوه من قتال عليّ،وإنّما قاتلهم مع ذلك لأنّ البغاةَ يجب على الإمام قتالهم،وهؤلاء بُغاةٌ إذ ليس من شرط البغْي الإثم بل من شرطه التّأويل غيرالقطعيّ البطلان، ومن ثمّ قال أئمّتُنا ليس البغي اسم ذمّ..."(اهـ).

قلتُ:الحمدُ لله الذي أنطقَ الهيتميّ بما يهدمُ بنيانَه،فشهدَ على معاوية وأصحابه أنّهم بُغاة وأوردَ وجوبَ قتالهم.فكيف يجتمع وجوب قتالهم والقطع بأنّهم من أهل الجنّة ؟ويكفي هنا لإبطال تهافُت ابن حجر قول الله تعالى في سورة الأعراف:((قل إنّما حرّم ربّي الفواحشَ ما ظهرَ منْها وما بطنَ والإثمَ والبغْيَ بغيْر الحقّ وأن تُشركوا بالله ما لم ينزلْ به سُلطاناً وأن تقولوا على الله ما لا تعلمون))،فالآية تصرّح بتحريم البغي،وتجعله قرينَ الإثم وتاليَه في التّرتيب فالبغي محرّم ، فكيف يقال بعد ذلك عن البغي إنّه ليس بملازم للإثم؟

 وعلى هذا النسق قال ابن حجرفي كتابه أقوالاً كثيرة دفعه إلى قولها حُبُّه لبني أُميّة وبُغضُه لآل النّبيّ صلى الله عليه وآله ،وهذا الصّنف من النّاس لاجدوى من الإطالة معه إلا بقدرما تقوم به الحُجّة،ومن لم يجعل الله له نوراً فما له من نور.وحتّى يكون القارئ على علْم بمَرَامي الرّجُل من كلامه،أُوردُ هُنا ما ذكره في كتابه تطهيرالجنان[50]فقد قال: " ومنها ما جاء عن الأعمش بسند فيه ضعف أنه قال:لورَأيتُم مُعاويَة لقُلتُم هذا المهديّ!والأعمش من أجلاّء التّابعين وعلمائهم.فشهادته بذلك

لمُعاويَة تستدعي مدحاً عليّاً لمُعاويَة،وثناء جليلاً عليه "(أهـ).

أقولُ: إلى هذا المستوى هانَ قدرُ المهديّ عليه السلام عندهم،وإلاّ فكيف يشبّهون به من قال عنه صديقُه وحليفُه المغيرةُ بن شُعبة إنّه " أخبث النّاس " ؟ وإنّ الذين يعرفون الأعمش وإجلالَه لعليّ عليه السلام لا يخامرُهم شكٌّ في أنّ هذا وأمثالَه ممّا افتُريَ عليه.ويكفي لذلك أنّ ابن حجر الهيتميّ نفسَه يشهدُ على الإسناد أنّ فيه ضعفا،وليس ضعفاً فقط كما يقول،وإنما هو وَهنٌ،وإنّ أوهنَ البيوت لبيْتُ العنكبوت؛فهذه الرّواية من الرّوايات المفضوحة لأنّ الأعمش وُلدَ عام 61هـ على الأرجح،أي بعدَ موت مُعاوية بسنة[51]!! فكيف أدركَه ومتى رآه حتّى يقول لَوْ رأيتُم معاوية؟! ثمّ هو من شيعة الكوفة،وشيعة الكوفة لا يذكرون معاوية بخيْر،وقد

سبق قولُ يحي بن عبد الحميد الحمانيّ الكوفيّ " مات معاوية على غيْرالإٍسلام ".

وقد غلا أقوام في هَوَى مُعاويَة حتى جَعَلوه علامةً يحكمون من خلالها على صحّة مُعتقَد المرْء أو فساده،وأكثرُ ما كانت هذه الآفة متفشّية في المحدّثين.وليس عجيباً أن يفشوَ فيهم ذلك إذا علمْنا أنّ ترقّيَ المحدّث أيّامها كان متوقّفاً على القدْح في شيعة أهل البيت عليهم السّلام والتّعصب لمُعاويَة،وسيأتي لاحقاً كلامٌ لابْن قيّم الجوزيّة يتبيّن منه أنّ النّاس في زمانه كانوا يعتقدون أنّ السّنّة تكمُن في التّعصّب لمُعاويَة وابنه يزيد.ومن الأمثلة على غلوّهم في ذلك ما ذكره ياقوت الحمويّ في معجم البلدان ج2ص177 قال:جوبر بالرّاء قرية بالغوطة من دمشق وقيل نهْرٌ بها،قال بعضهم:

إذا افتخرالقيسيّ فاذكربلاءه **بزراعة الضّحّاك شرْقي جوبرا

 وقد نُسب إليها جماعة من المحدّثين وافرةٌ منهم أبو الحسن عبد الرحمن بن محمّد بن يحيى بن ياسرالتّيميّ الجوبريّ الدّمشقيّ قال عبد العزيزالكنانيّ مات في سنة425لاثنتي عشرة ليلة خلت من صفر ولم يكن يحسن يقرأ ولا يكتب! وكان أبوه قد سمعه وضبط عليه السّماع وكان يحفظ مُتون الحديث الذي يحدّث به.حدّث عن أبي سنان والزّجّاج وابن مَرْوان وغيرهم ولما مضيتُ إليه لأسمعَ منه وجدتُ له بلاغاً في كتاب الجامع الصّحيح ووجدتُ سماعَه في جميعه فلمّا صرتُ إليه قال قد سمعت الكثيرسمعني والدي وكان والدُه محدّثاً ولكن ماأُحدّثُك أو أدري إيش مذهبك قلت له عن أيّ شيء تسألني من مذهبي قال ما تقول في مُعاويَة قلت وماعسى أن أقول في صاحب النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم فقال الآن أحدّثك وأخرج إليّ كتباً لأبيه كلّها..(اهـ).

   المهمّ في نظرهذا المحدّث الكبيرالذي لا يحسن القراءة ولا الكتابة أن يكون سائلُه معظّماً لمُعاويَة،هذا هوالشّرط الأوّل والآخر.وللباحث أن يتخيّل خفايا وبواطن مَن يكون تفكيرُه بهذا المستوى.والذي يَحارُ له اللبيب في هذه القصّة ومثيلاتها أنّ معاويةَ وحدَه يشكّلُ معتقداً ومذْهباً،ومُعاوية نفسه لم يكنْ ليطمعَ في هذا ولا عُشُره،وهذا ممّا يقوّي امتداد الأيدي اليهوديّة إلى التراث وصرفها الأنظارَوالعقولَ عمّاهُوَ أصيلٌ مُشارٌإليه في القرآن الكريم إلى مالا أصلَ له.فالموحّدُ لا يُنْكرُأنّ مودّة أهل البيت عليهم السلام فرض أوجبه الله تعالى في كتابه الكريم [52] ومعاوية بن أبي سفيان كان يكفُر بهذا الفرض قولاً وعملاً،وهذا المحدّثُ المسكينُ قد قَلَبَ الأمرَ

وحرّف الكلم عن مواضعه فجعلَ مودّةَ مُعاويةَ مكانَ مودّة أهل البيت،وراح يُحاسب الناس عليها،وتلك الأمثالُ نضربُها للنّاس وما يعقلُها إلاّ العالمون

***

7 ـ السّاكتون عن الحقّ:

وقد كان في الأمّة ولا يزالُ أناسٌ يصدق أن يُقالَ عنهم إنّهم " السّاكتون عن الحقّ " لأنّهم تردّدوا بين الحقّ والباطل وبقوا في تردّدهم مع تظافر الأدلّة من آي وحديث وسيرة عقلائيّة.فلولم يكنْ سوى قول النّبيّ صلى الله عليه وآله لعليّ عليه السلام "تقاتلُ بعدي النّاكثين والقاسطين والمارقين " لَكَفى لكنْ ما الحيلة حينما يكون الإنسان " أكثرَ شيْء جدلاً " ويكون المعنيّون بالقضيّة مصداقَ قوله تعالى " وإن يكُنْ لهم الحقّ يأتوا إليْه مذعنين " ؟

لقد طغتْ فكرةُ عدالة جميع الصّحابة على الأذْهان حتى منعت النّاس منْ إبْداء الرّأي الموافق للقرآن الكريم والسنّة النّبويّة المطهّرة،وغدا الحقّ أسيرَ المزاج والهوى.وفي اعتقادي أنّ مُعاويَة بن أبي سُفْيان إنّما حَظيَ بما حَظيَ به من حَصَانَة لأنّه تولّى الحُكم وتربّع على الكرسيّ،وإلاّ فلوأنّه انْدحَر في صفّين وتفرّقت فلولُه وتبخّرمشْرُوعُه لَكَان أولئك الذين يُدافعون عنه اليوم هم أنفسهم يعلنون البراءة منه ومن أتباعه.لكنّه وصل إلى الحُكم والنّاس مع من غَلب،فلم يكْتفُوا بتَصْويب فعْله بل جعلُوا تعظيمَه علامةَ التّمسّك بالسّنّة! وللقضيّة جذورتعود إلى عهد مُعاويَة نفسه،فإنّ قوما من الصّحابة توقّفوا ولم يلْتحقُوا بعليّ بن أبي طالب عليه السلام في معاركه ومن بينها صفّين،ثمّ ندمُوا على تخلّفهم وصرّحوا بذلك.وجاء بعدهم من زعم أنّ ترْك الخوض في ذلك أسلمُ وأقرب للتّقوى؛ قال أبو نعيم في حلية الأولياء ج9ص114 : حدّثنا محمد بن عبدالرحمن حدّثنا أحمد بن إبراهيم بن مكويه حدّثنا يونس بن عبد الأعلى حدّثنا الشافعيّ قال قيل لعمر بن عبدالعزيزما تقولُ في أهل صفّين قال:" تلك دماء طهّر الله يدي منها فلا أحبّ أن أخضب لساني فيها". وقال شمس الدين الذّهبيّ [53]: " وقد كان بين الطائفتين من أهل صفّين ما هو أبلغ من السّبّ السيّف،

فإن صحّ شيءٌ فسبيلُنا الكفّ والاستغفارُ للصّحابة ولا نحبّ ما شجرَ بيْنَهم ،ونعوذ بالله منْه ونتولّى أميرَ المؤمنين عليّاً ".

والذّهبيّ هذا،الذي يدّعي أنّه يتولّى أميرَ المؤمنين عليّا عليه السلام يتّخذُ من ولاء الآخرين لعليّ عليه السلام جريمةً لا تُغفَر،ويتهجّم على مُحبّي الحسن والحسين بألفاظ يترفّع عن التّفوّه بها كلّ مَن يربأ بنفْسه عن بذيء الكلام وفاحشه،ويرى في كلّ حديث يُشير إلى فضائل الحسنين عليهما السّلام غُلوّا وضلالاً ؛ًوقد أخذ عليه الحافظ المغربيّ ابن الصّدّيق الغماريّ في ذلك مآخذ لا ينفع معها التّبريروالتوّجيه،ودون تفْنيدها خرط القتاد.

ولا يخفى أنّ موقف مدرسة أهل البيت عليهم السّلام من مُعاويَة بن أبي سُفْيان هو نفس موقف النّبيّ وأهل بيته،لا يزيد ولا ينقص.ومن زعم أنّه صدرَ من أحدهم مدحٌ في حقّ مُعاويَة جَبَهَه الواقع بالرّدّ المُناسب،فهذه كلماتُهم محفوظة في كتب التّاريخ والأدب يرويها المُوالي والمُخالف.وكما لايَضُرُّ المسلمين ما يفتريه عليهم اليهودُ والنّصارى وغيرُهم من خُصوم محمّد صلى الله عليه وآله كذلك لا يضُرُّ شيعةَ أهْل البيْت عليهم السّلام ما يفتريه عليهم خُصومُهم من النّواصب والخوارج ووُعَّاظ السّلاطين.لكنّ الأمرعنْد مدرسة الخلفاء مُختلف عن ذلك بناءً على أمورلا تَمتُّ إلى القرآن الكريم والسّنّة النّبويّة بشيء،وإنّما اعتُمدت فيها أقوالٌ لأُناس زعمُوا أنّ الدّين لا يتمّ إلاّ بالدّفاع عن جميع الصّحابة أحسنوا أمْ أساءُوا.والجواب عن تلك المزاعم أنّ المسلمَ ليس مُلزَماً بأقوال أناس لمُجرّد أنّ لهم أتباعاً،وأنّ أتباعهم يُضْفُون عليهم من القداسة ما يستكثرونه في الأنبياء وصالحي المؤمنين.وأوردُ ههنا بعضَ تلك الأقوال التي يصدق فيها ـ في نظري ـ المَثَلُ القائلُ:" رُبّ عُذر أقبحُ من ذَنْب ".

قال الخطيب البغدادي في تاريخ بغداد ج1ص223: أخبرنا محمّد بن أحمد بن رزق [..]أبو عمر وأحمد بن محمّد بن أحمد الحيري قراءة عليه بمكّة قال نا عثمان بن سعيد قال سمعت الرّبيع بن نافع يقول مُعاويَة بن أبي سُفْيان سترُ أصحاب النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم فإذا كشف الرّجل السّتر اجترأ على ما وراءَه(اهـ).

وقد بلغ بهم التّعصّب أنّهم يروْن مُباينةَ الرّجُل لمُعاويَة مُوجبَةً لإسقاط حديثه،ولوصحّ زعمُهم لوجبَ طرحُ كثير من أحاديث الصّحابة الذين لم يكتفُوا بمباينة مُعاويَة بلْ حاربُوه،ولو تمكّنوا من قتْله لما تردّدُوا في ذلك.قال الخطيب[54]: أخبرني محمّد بن عليّ الأصبهانيّ حدّثنا أبو عليّ الحسين بن محمّد الشّافعيّ بالأهواز

حدّثنا أبو عبيد محمّد بن عليّ الآجريّ قال قلت لأبي داود أيّما أعْلى عندَك عليّ بن الجعْد أو عمْرو بن مرْزوق فقال عمْرُو أعْلَى عنْدنا،عليّ بنُ الجعْد وُسمَ بمَيْسم سوء قال "ما يَسُوؤُني أنْ يعذّبَ اللهُ مُعاويَة " وقال " ابنُ عمر ذاك الصّبيّ "(اهـ).

وقال الخطيب [55]:أخبرني محمّد بن الحسين بن الفضل القطّان أخبرنا محمّد بن عبد الله بن أحمد بن عتاب حدّثنا أحمد بن ملاعب قال حدّثني صديق لي يُقال

له يوسف بن حسّان ثقة قال قال أبو نعيم ما كتبت عَلَيّ الحفظةُ أنّي سببتُ مُعاويَة قال قلت أحْكي هذا عنْك قال نعم احْكه عنّي(اهـ).

 قلتُ:إنّ مُعاويَة بن أبي سُفْيان واحدٌ من بني آدم،ولن يَحيفَ الله عليه،فإن كان أهلاً للعذاب وعذّبه الله تعالى فلا مُعقّبَ لحُكم الله ،وكيفَ يعترضُ عبدٌ مُؤمنٌ على حُكم مولاه وقد قال تعالى في سورة المائدة (قل فمن يملك من الله شيئاً إنْ أرادَ أن يُهلك المسيحَ ابنَ مريمَ وأمّه ومن في الأرض جميعاً ولله ملك السماوات والأرض وما بينهما يخلق ما يشاء والله على كلّ شئ قدير).وقال تعالى في نفس السورة[56]على لسان عيسى بن مريم عليهما السلام( إن تعذّبهم فإنّهم عبادك وإن تغفر لهم فإنّك

أنت العزيز الحكيم).وإن يكن معاوية من أهل النّجاة فإنّه لا يضرّه ما يُكتب عنه ويُروى من مثالبه وجرائمه.غير أنّنا ننْتمي إلى دين يُمجّد الفضيلة ويندّد بالرّذيلة،ويدعوإلى مكارم الأخلاق وينهى عن سفاسفها؛ولم يمدح المولى سبحانه وتعالى نبيّه صلى الله عليه وآله بكثرة العبادة،وإنّما مَدَحهُ بالخُلُق العظيم.ولو كانت العبادة وحدها تَصُون صاحبَها وترفعُ مقامَه لكان إبليسُ من أرْفع المصُونين،لكنّ الدّين كلّ الدّين في الأخلاق الحميدة والانقياد للأوامروالنّواهي الإلهيّة وموالاة أولياء الله ومعاداة أعدائه؛وحين التمعّن في سلوك معاوية تبدونُقْطة الاشتراك بينَه وبين إبليس،فإنّ معاوية كان يجسّد كبْرإبْليسَ على الأرض تجسيداً لا يخفَى على من كان له قلْب أوألقى السّمعَ وهو شَهيد.لقد كان معاوية يُظهراستخفافَه بالدّين في كلّ شيء ولا يُبالي بحُرمة النبيّ صلى الله ليه وآله في ذويه وأصحابه والكتاب الذي جاء به والسنّة التي بثّها.وكان حقْدُه على حبيب الله ورسوله لا يُوصف،بل يصحّ أن يُقالَ إنّ صدرَه قد انْطوى على الشّرّ وراح يغذّيه إلى أن صارهُوَنفسه كُتلَةً من الشّرّ.والذين يدافعون عنه على الرّغم من كلّ ما جاء به إنّما يفعلون ذلك لخُلُوّ قلُوبهم من محبّة الله ورسُوله،إذ لوْ كَان فيها من ذلك شيء لأحبّوا حبيب الله ورسوله ولأبغضُوا مَن يُؤذي الله ورسولَه،ولتبرّأوا من معاوية وأخيه وأمّه وأبيه وصاحبته وبنيه وفصيلته التي تؤويه.وعلامةُ الإيمان الصّحيح الحبّ في الله و البغضُ في الله،وما عدالة الصّحابة التي يتذرّعُ بها من يُدافعون عن الجريمة وأصحابها إلاّ صَنَمٌ ابتدَعَه من لا حُرمة لله في قلوبهم فضربُوا بالقرآن عرض الحائط وردّوا على الله تعالى مُحكَمَ آياته فزعَمُوا أنّ المؤمنَ والفاسقَ سواءٌ وأنّ الطيّبَ والخبيثَ سواءٌ ونسبوا ذلك إلى الله سبحانه وتعالى وقرآنُه يُدوّي في مسامع الزّمن " أفَمَن كانَ مُؤمناً كمن كانَ فاسقاً لايستوون ".والذين يُدافعون عن معاوية وأضرابه لم يعْرفوا عُلُوّ الهمّة فيطلبُوها ولم يذوقوا لذّة المحبّة في الله ولم يستشعروا النّشوة الرّوحيّة التي تسمُو بصاحبها نحوَ الكمال فيحنّوا إليها ويهفُوا نحوَها،وإنّما رأوا الكمالَ في شُيوخهم وما ورثُوه عن قُلوب أعماها النّصْبُ حتى صارت تُنكر ضوءَ الشّمس وتجد الحلاوةَ في الحنظل والمرارةَ في العَسَل،وإلاّ فإنّهم هم أنفسهم حينَما يتعرّضون لقليل الأذى ـ وهو لا يساوي عُشرَالعُشرممّا تعرّض له ضحايا معاوية ـ ينْبَرون للحديث عن الكرامة والحُرْمة والعرْض!ويصبجون من دعاة حُقوق الإنسان في كل زمان ومكان!إذاً فما بالهم لايَروْن لحجْربن عديّ وَعمْروبن الحمق وَعبد الرحمن بن عديس البلويّ وَعبد الرحمن العنزي ومحمد بن أبي بكر حُرْمَةً؟ فإنّها لا تعمى الأبصار ولكن تعمى القلوب التي في الصدور.

 

***

 مُعاويَة في عالم الرؤيا

  والواقع أنّ المدافعين عن مُعاويَة أجهدوا أنفسَهم في تحصين بُنيان أُسّس على شفا جُرف هار،لذلك فإنهم عمدوا إلى عالم الرؤيا كماهيَ عادتُهم حين تعييهم الحيَلُ في إصلاح ما أفسد الدهر،وتركوا البيّنات الواضحات وجحدوا بها واستيقنتها أنفسهم ظلما وعلوّاً؛ومن ذلك ما ذكره ابن قيّم الجوزية وأذكّر أنّ ابن القيّم وابن كثير وابن تَيْميَة شاميّون،نَمَوا وترعْرعُوا وكَبروا في مجتمع كان يُلعَن فيه علي بن أبي طالب عليه السلام ليل نهار.قال ابن قيّم الجوزيّة في كتاب " الرّوح "[57]: قال

سعيد بن أبى عروبة عن عمر بن عبد العزيز رأيت النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم وأبو بكر وعُمرجالسان عنده فسلّمت فبينا أنا جالس إذ أُتى بعليّ ومُعاويَة فأُدخلا بيْتاً وأجيف عليهما الباب وأنا أنظر فما كان بأسرع من أنْ خرجَ عليّ وهو يقول قُضيَ لى وربّ الكعبة وما كان بأسرع من أن خرج مُعاويَة على أثره وهو يقول غُفرلي وربّ الكعبة(اهـ).

قلتُ: للعاقل أن يتساءل لماذا أُجيفَ الباب؟ ومَن الذي أسّس الجلسات المُغلقة على طريقة الدكتاتوريين ودُوَل الحزب الواحد في يوم تُبلى فيه السرائر؟ ومادامت القضيّة قد تمّت بسلام وقُضيَ لعليّ عليه السلام وغُفرَ لمُعاوية فلماذا لم يَخرجا معاً مُتصافحَين متعانقين يضحكُ أحدُهما إلى الآخروَنزعْنا ما في صُدورهم من غلّ ؟!

والقصة نفسُها في كتاب المنامات ج1ص74،ولا أملكُ هنا إلا أن أُردّدَ ما سبق أن قُلتُه في كتاب(قراءة في سلوك الصحابة):"هؤُلاء قَوْمٌ وَجَدُوا الطُّرُقَ الشّرْعيَّةَ مَسْدُودَةً في وُجُوههمْ بَعْدَ أَنْ خَالَفُوا النّبيّ صلى الله عليه و آله مُخَالَفَةً لا عُذْرَ لَهُمْ فيها،فَعمَدُوا إلى عَالَمٍ صَعْبٍ تَحْدِيدُ مَعَالِمِهِ،وانْتهَجُوا في ذلك طريقَةَ الدَّرَاويش ".

***

كلامٌ حول " صفّين " :

 ما هي أسباب قيام حرب صفّين وما هي نتائجها ؟

ما هي آثارها على الإسْلام والمسلمين على مختلف المستويات؟

هذه أسئلة أطرحُها رجاءَ أن يبحث القارئ بنفسه ويصلَ إلى نتيجة يُمليها عليه ضميرُه.وفي اعتقادي – بعد الذي اطّلعت عليه – أنّ الذي يُطالع الكُتب التي اعتنتْ بوقعة صفّين ويتتبّع الأقوال التي وردت بخصوصها معبّرة عن مواقف الفقهاء والمؤرّخين والأصوليّين وغيرهم لا يرتابُ في أنّ القضيّة كانت من الوضوح بحيث يصعُب التّلفيق والتّمويه فيها إلاّ على من حُرم نعمَة البصيرة،وإنّما تحكّمت الانتماءاتُ المذهبيّةُ فكمّمت الأفْوَاه وقيّدت الأيدي ومورس الإرهابُ الفكْريُّ باسْم الدّين.ولأنّ " صفين " ذات أهمّية كبيرة في تاريخ المسلمين فقد اهتمّ بها المؤرّخون وغيرهم منذ العصرالأمويّ وأُلّفت فيها كُتب منها " كتاب صفين " للُوط بن يحي و" وقعة صفين " لنصر بن مزاحم المنقريّ ، و" كتاب صفّين " لمحمد بن عمر الواقديّ و " إعلام النّص المبين في المفاصلة بين أهل صفّين " لعمر بن دحية و" وقعة صفين " لعبد الله بن شبيب البصريّ و" كتاب صفّين " لإسماعيل بن عيسى العطّار و " كتاب صفّين " لابن أبي شيبة المحدّث. وهذه جملة من أقوال كبار العلماء ممّن يخالف مدرسة أهل البيت عليهم السّلام ولا يُتّهَم في الموقف من مُعاويَة.

قال المناويّ[58]:قال الإمام عبد القاهر الجرجانيّ في كتاب الإمامة: " أجمعَ فقهاءُ الحجاز والعراق من فريق الحديث والرّأي منْهُم مالكُ والشافعيّ وأبو حنيفة

والأوزاعيّ والجُمهور الأعظم من المتكلّمين والمسلمين أنّ عليّاً مُصيبٌ في قتاله لأهل صفّين كما هو مُصيب في أهْل الجَمل وأنّ الذين قاتلوهُ بُغَاةٌ ظالمون له لكنْ لا يُكفّرون ببَغْيهم وقال الإمام أبو منصور في كتاب الفرق في بيان عقيدة أهل السّنّة أجمعوا أنّ عليّاً مُصيبٌ في قتَاله أهلَ الجَمل طلحة والزّبير وعائشة بالبصرة وأهلَ صفّين مُعاويَة وعسكره .اهـ

وقال ابن كثيرفي البداية والنهاية ج 3 ص 265 : وهذا الحديث [حديث تقتلك الفئة الباغية] من دلائل النّبوّة حيث أخبرَ صلوات الله وسلامه عليه عن عمّار أنّه تقتُله الفئةُ الباغية،وقد قتلَه أهل الشّام في وقعة صفّين،وعمّارمع عليّ وأهل العراق كما سيأتي بيانه وتفصيله في موضعه.وقد كان عليّ أحقّ بالأمرمن مُعاويَة.ولا يلزم من تسمية أصحاب مُعاويَة بغاةً تكفيرُهم كما يحاولُه جهلةُ الفرقة الضّالّة من الشّيعة وغيْرهم لأنّهم وإن كانوا بغاةً في نفس الأمر فإنّهم كانوا مُجتهدين فيما تَعاطوْه من القتال [!] وليس كُلّ مُجتهد مصيباً بل المصيبُ له أجران والمُخطئ له أجر،ومن زاد في هذا الحديث بعد تقتلك الفئة الباغية - لا أنالها الله شفاعتي يوم القيامة - فقد افترى في هذه الزّيادة على النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم ، فإنّه لم يَقُلْها إذْ لم تُنْقَل من طريق تُقبل والله أعلم[59].وأما قوله يدعوهم إلى الجنّة ويدعونه إلى النّار،فإنّ عمّاراً وأصحابَه

يدْعون أهل الشّام إلى الألفة واجتماع الكلمة،وأهل الشّام يريدون أن يستأثروا بالأمْر دُون مَن هُو أحقُّ به،وأن يكون الناس أوزاعاً على كل قطر إمام برأسه ، وهذا يؤدّي إلى افتراق الكلمة واختلاف الأمّة فهو لازمُ مذْهَبهم وناشئٌ عنْ مَسْلَكهم،وإن كانوا لا يقصدونه والله أعلم.اهـ

أقول:وهذا الكلام وإن كان يصرّح بخطإ مُعاويَة وحزْبه وفئَته الباغيَة ،إلاّ أنّه لم يخْلُ من خلْط وتشْويش؛ فإنّ المجتهدَ إنّما يجتهد في غياب النّصّ ،أمّا في هذا المقام فالأمرُ على غير ما توهّمَه ابنُ كثير والمدرسة الشاميّة،فإنّ النّبيّ صلى الله عليه وآله قال:"عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ يدور معه حيث دار" وقال أيضاً صلى الله عليه وآله :"عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ و لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض".فإذا كان عليّ مع الحقّ و الحقّ مع عليّ ، وقد شهد القرآن أنّه " ماذا بعد الحقّ إلاّ الضّلال " فأيّ اجتهاد يبقى بعد ذلك ؟! وأيّة إصابة يمكنُ تحقيقها في الضّلال؟! وإذا كان عليّ مع القرآن والقرآن مع عليّ، فأية نتيجَة صالحة يُمكنُ تحصيلُها خارجَ القرآن؟!

ولا يخفى ما في كلام ابن كثيرمن المُغالطة بنفْيه صفةَ البغْي عن فئَة مُعاويَة وإضفاء رتبة المجتهد على الزّعيم والأتباع ،ويأْبَى عليه ذلك أحاديثُ عُدّتْ من دلائل النّبوّة، وكلماتٌ لصحابة عاشُوا الأحداثَ عن كَثَب لا عن كُتُب، بل كانوا في قلْبها،ومن ذلك ما رواهُ الخطيب البغداديّ في تاريخ بغداد ج 13 ص188:أخبرني الحسن بن عليّ بن عبد الله المقرئ حدّثنا أحمد بن محمّد بن يوسف أخبرنا محمّد بن جعفر المطيري حدّثنا أحمد بن عبد الله المؤدّب بسرّ من رأى حدّثنا المعلى بن عبد الرحمن ببغداد حدّثنا شريك عن سليمان بن مهران الأعمش قال:حدّثنا إبراهيم عن علقمة والأسود قالا أتينا أبا أيّوب الأنصاريّ عند منصرفه من صفّين فقلنا له يا أبا أيّوب إنّ الله أكرمك بنزول محمّد صلّى اللّه عليْه وسلّم وبمجيء ناقته تفضّلاً من الله واكراماً لك حتى أناخت ببابك دون النّاس ثمّ جئت بسيفك على عاتقك تضربُ به أهلَ لا إله إلا الله فقال ياهذا إنّ الرّائدَ لا يكذبُ أهلَه وإنّ النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم أمرَنا بقتال ثلاثة مع عليّ بقتال النّاكثين والقاسطين والمارقين فأمّا الناكثُون فقد قابلناهم أهل الجمل طلحة والزّبيروَأمّا القاسطون فهذا منصرفُنا من عندهم يعني مُعاويَة وعمراً وأمّا المارقون فهُم أهل الطرفاوات وأهل السعيفات وأهل النّخيلات وأهل النّهروانات والله ما أدري أينَ هُم ولكنْ لا بدّ من قتالهم إن شاء الله قال وسمعت النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم يقول لعمّار ياعمّار تقتُلُك الفئةُ الباغية وأنت إذ ذاك مع الحقّ والحقّ معك يا عمّاربْن ياسرإنْ رأيت عليّاً قد سلك وادياًً وسلك النّاسُ وادياً غيرَه فاسلُكْ مَع عليّ فإنّه لنْ يُدليَك في ردىً ولنْ يُخرجَك من هُدىً،يا عمّارُمَنْ تقلّد سيفاً أعانَ به عليّاً على عدُوِّه قلّدَهُ الله يومَ القيامَة وشَاحيْن من دُرّ ومَنْ تقلّدَ سيفاً أعانَ به عدوَّ عليّ عليه قلّدَهُ الله يومَ القيامة وشاحيْن من نار،قُلْنا:ياهذا حسبُك رحمَك اللهُ حسبُك رحمك الله .اهـ

 ولأنّ المُعاندين من مخالفي أهل البيت عليهم السّلام لا يستطيعون ردّ الأحاديث المُثبتة ضلالَ الفئةِ الباغيَة فإنّهُم راحُوا يستَعينُون بالمَنامَات والتّأويلات التي لا تقبَلُها العقولُ السّليمة،ولم يتورَّعُوا عنْ وضْع أحاديثَ ونسْبَتها إلى عليّ بن أبي طالب عليه السلام،ونسُوا أنّ الله لا يخفى عليه شيء في الأرض ولا في السّماء؛ومنْ ذلك ما جاء في كتاب إيثار الحقّ على الخلق ج1ص410 قال فيه:الحديث السابع عن أبي هُرَيْرَة نحوه رواه الطّبرانيّ في الأوسط من حديث سعيد بن مسلمة الأُمويّ وعضدوا هذه الأخبار بما رواه زيد بن أبي الزّرقاء عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصمّ قال قال عليّ عليه السلام قتلايَ وقتْلى مُعاويَةَ في الجنّة رواه الذّهبيّ في ترجمة مُعاويَة من النّبلاء وجعفر ويزيد من رجال مُسلم وزيْد من رجال النّسائيّ قال في الكاشف صدوق وكذلك قال في الميزان وفيه عن ابن معين لا بأس به ولم يورد فيه جرحاً إلاّ قول ابن حبّان إنّه يغرب وليس ذلك بجَرْح وقال فيه إنّه صدوق مشهورعابد وإنّ ابن عمار قال ما رأيتُ في الفضل مثله ومثل المعافي وقاسم الجرمي رحمهم الله تعالى وهذا من أحسن ما في الباب وإنّما أخّرته لأنّه موقوف ومع ذلك فله قوّة المرفوع والله أعلم بصحّة ذلك عنه(اهـ).

ومن الأحاديث التي أوردُوها ليصحّحوا بها مواقف مُعاويَة وأهل الشّام غافلين على أنّ في ذلك تكذيباً للنّبيّ صلى الله عليه وآله ،ما أوردَه ابنُ عساكر قال[60]:وأمّا

حديث الشعيثيّ فحدّثنيه أبوالفضل محمّد بن محمّد بن محمّد بن عطّاف الموصليّ الهمدانيّ الفقيه ببغداد وأنبأنا أبو جعفر محمّد بن أبي منصور بن أبي علي البزازي بالرّيّ أخبرنا أبو الوليد الحسن بن محمّد بن عليّ بن محمّد البلخيّ الحافظ بالرّيّ أنبأنا أبو بكر محمّد بن رزق الله المقرئ قراءةً عليه بمنين أنبأنا أبو عمرمحمّد بن موسى بن فضالة أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عبد الله بن عبد الرحمن بن إبراهيم بن عمروالقُرَشيّ أخبرنا أبي أخبرنا الوليد بن مسلم أخبرنا محمّد بن عبد الله الشعيثي عن مكحول عن عبد الله بن حوالة الأزديّ وأَمَرَهُ مُعاويَةُ وأبو الدرداء أن يجمع بالنّاس ففعل فقال في كلامه ما أنا أبو الخطيب ..ولا أحسن الخطبة ولكنّي سمعت النّبيّ صلّى اللّه عليْه وسلّم يقول إنّكم ستجندون أجنادا جنداً بالشّام وجنداً بالعراق وجنداً باليمن بعْدي فقلتُ خرْ لي يا رسول الله إن أدركني ذلك قال عليكم بالشّام فمن أبى فليلحق بيمنه وليستق من غدره فإن الله تعالى قد تكفّل لي بالشام وأهله(اهـ).

 أقول:تكفّل الله بالشّام الذي اتّخذ لعْنَ حبيبه سُنّةً جاريةً حتى إذا نسيَ الخطيب يوماً ذلك أو تناساه تعالت الهُتافات من جنَبَات المسجد " السّنّة ، السّنّة "!

تكفّل الله بالشّام الذي خرج منه جيش استباح المدينة المنوّرة حَرَم النّبيّ  صلى الله عليه وآله وفعل فيها ما يندى له الجبين وتنفلق له الأكباد!

تكفّل الله بالشّام الذي خرج منه جيش ليرْميَ الكعبةَ البيت الحرام بالمنجنيق في طاعة بني أميّة!

   ومع كلّ المُمارسات التي قام بها أبوهُرَيْرَة والمغيرةُ بن شعبة وعمرُوبنُ العاص والنعمان بن بشيروسمرة بن جندب ومَن مَعهم،فإنّه لم يَفُتْ أهلَ الفطرة السّليمة من الذين صدقوا نيّاتهم وكانوا مع مُعاويَة جهلاً بالحقيقة واندفاعاً تحت تأثيرالدّعاية الكاذبةـ لَمْ يَفُتْهُم ـ أن يستمعوا القول فيتّبعوا أحسنَه.وقد كان قول النّبيّ صلى الله عليه وآله لعمّاربن ياسررضي الله عنهما " تقتلك الفئة الباغية " يتردّد في المسامع،فلما استُشهدَ عمّاربن ياسررضي الله عنهما بيّن الصّبح لذي عيْنيْن والْتحَقَ الذين يحترمُون كلام النّبيّ صلى الله عليه وآله بالفئة المهتدية.قال ابن عساكر في ترجمة زبيد بن عبد الخولانيّ[61]:زبيد بن عبد الخولانيّ المصريّ له ذكر في كتب المصريّين وفد على

مُعاويَة وشهد معه صفّين ثمّ لحق بعليّ بن أبي طالب كتب إلي أبو الفضل أحمد بن يوسف بن الحسن بن سليم ثمّ حدثني أبو بكر اللّفتوانيّ عنه أنا أبو بكر الباطرقانيّ حدثنا أبو عبد الله بن مندة قال قال لنا أبو سعيد بن يونس: زبيدُ بن عبد الخولانيّ من بني يعلى شهد الفتح بمصر وكانت معه راية خولان بصفّين فلمّا قُتل عمّار بن ياسر انكفأ إلى عليّ بن أبي طالب.قرأت على أبي محمّد السّلميّ عن أبي نصْربْن ماكولا قال أمّا زُبَيْد بضمّ الزّاي وفتح الباء المُعجمة بواحدة وسكون الياء التي تليها فهو زُبَيد بن عبد الخولانيّ كانت معه راية خولان بصفّين مع مُعاويَة بن أبي سُفْيان فلمّا قُتل عمار بن ياسر انكفأ إلى عليّ بن أبي طالب قاله ابن يونس(اهـ).

وقال القرطبي[62]: ويروى أنّ مُعاويَة رضي الله عنه لمّا أفضى إليه الأمرعاتب سعداً على ما فعلَ وقال له لم تكن ممّن أصلح بين الفئتين حين اقتتلا ولا ممّن قاتل

الفئةَ الباغيةَ فقال له سعد ندمتُ على ترْكي قتالَ الفئة الباغية(اهـ).

وكان عبد الله بن عمروبن العاص أيضاً لا ينفكّ يظهرنَدَمَه على قتال عليّ عليه السلام في صفّين.قال ابنُ سعد " أخبرنا هشام أبو الوليد الطّيالسيّ قال حدّثنا نافع بن عمرعن ابن أبي مليكة قال قال عبد الله بن عمرو ما لي ولصفّين ما لي ولقتال المسلمين لوددْتُ أنّي متّ قبله بعشرسنين أما والله على ذلك ما ضربتُ بسيْف ولا طعنت برُمْح ولا رميتُ بسهْم وما رجل أجهد مني من رجل لم يفعل شيئاً من ذلك قال نافع حسبته ذكر أنّه كانت بيده الرّاية فقدم النّاس منزلة أو منزلتين " .[63]

 

[1] قال العقاد: [ ...فالدولة الأموية في الأندلس أنشأت للشرق الإسلاميّ تاريخا لم يكتبه مؤرخوه ولا يكتبونه على هذا النحو لو أنهم كتبوه،وجاءت تلك الدولة الأندلسية بمؤرخين من الأعلام ينصبون الميزان راجحا لكل سيرة أموية لا يقصدونها بالمحاباة ولكنهم لا يستطيعون أن يقصدوها بالنقد والملامة لأنهم مصروفون بهواهم عن هذا الطريق. من هؤلاء اناس في طبقة ابن خَلْدُونن يضع معاوية في ميزانه فيكاد يحسبه بقية الخلفاء الراشدين ويتمحل المعاذير له في إسناد ولاية العهد إليه مع فسوقه وخلل سياسته وكراهة الناس لحكمه حتى من أبناء قومه.ولا يهولن قارئ التاريخ اسم ابن خَلْدُون فيذكره وينسى الحقائق البديهية التي لا تكلفه اكثر من نظرة مستقيمة إلى الواقع الميسر لكل ناظر في تواريخ الخلفاء الراشدين وتاريخ معاوية.فما في وسع ابن خَلْدُون ان يخرج من هذه التواريخ بمشابهة بعيدة تجمع بين معاوية والصّدّيق والفاروق وعثمان وعلي في مسلك من مسالك الدين أو الدنيا وفي حالة من أحوال الحكم أو المعيشة، وإنه لفي وسع كل قارئ أن يجد المشابهات الكثيرة التي تجمع بين معاوية ومروان وعبد الملك وسليمان وهشام، فلا يفترقون إلا بالدرجة والمقدار،أو بالتقديم والتأخير.وإذا كان هذا شأن ابن خَلْدُون ، فقل ما شئت في سائر المؤرخين وسائر المستمعين للتواريخ، من مشارقة شهدوا زمان الدولة ومشارقة لم يشهدوه، ومن مغاربة عاشوا في ظل تلك الدولة، وتعلقت أقدارهم بأقدارها،وأيقنوا أنهم لا ينقصون منها شيئا ثم يستطيعون تعويضه من الأندلس بما يغنيهم عنه، وما زال العهد بالمنبت عن أرومته أن يلصق بها أشدّ من لصوق القائمين عليها.] موسوعة أعمال عباس محمود العقاد/المجلد الرابع ص325ـ326/دار الكتاب اللبناني

[2] تاريخ ابن خَلْدُون ج1ص212

[3] البدر الطالع الشّوكانيّ ـ ج1ص337

[4] الحديث رواه البلاذري بسندين في ترجمة معاوية من كتاب أنساب الاشراف : ج 2 الورق / 75 / أ / من مخطوطة تركيا - قال :[ حدثني عبد الله بن صالح حدثني يحيي بن آدم عن شريك عن ليث عن طاووس : عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال : كنت جالسا عند النبي صلى الله عليه وسلم فقال : يطلع عليكم من هذا الفج رجل يموت يوم يموت على غير ملتي . قال [ عبد الله ] : وتركت أبي يلبس ثيابه فخشيت أن يطلع فطلع معاوية . وحدثني إسحاق قال :حدثنا عبد الرزاق بن همام أنبأنا معمر عن ابن طاووس عن أبيه عن عبد الله بن عمرو بن العاص ..]لكنّ أيدي الرقابة امتدت إليه وتلاعبت بالمفردات،وقد تناول القضية الحافظ أحمد بن الصديق المغربي وقال من بين ما قال : ومن أعجب ما تسمعه أن هذا الحديث خرَّجه كثير من الحفاظ في مصنفاتهم ومعاجمهم المشهورة ولكنهم يقولون : فطلع رجل ولا يصرِّحون باسم اللعين معاوية ستراً عليه وعلى مذاهبهم الضلالية في النَّصْب وهضم حقوق آل البيت ولو برفع منار أعدائهم فالحمد لله الذي حفظ هذه الشريعة رغماً على دسّ الدسّاسين وتحريف المبطلين )).

[5] رواه الحاكم في المُستَدرك ج4 ص 534

[6] تاريخ ابن خَلْدُون ج 3 ص 3

[7] خذا الحديث حديث شكك في صحته النواصب وردّ عليهم الحافظ أحمد بن الصديق المغربي وفنّد مزاعمهم في كتابه " فتح الملك العليّ بصحّة باب مدينة العلم علي "

[8] فضل بني هاشم على سائر العرب قبل الإسلام معلوم، وقد ذكرت أمثلة لذلك في كتاب " قراءة في سلوك الصحابة ".

[9] الصواب : ولم يكن لمعاوية إلاّ أن يدفع عن نفسه وقومه

[10] هذا الحديث نفى ابن تيمية في منهاج السنة أن يكون رواه أحد بسند صحيح أو ضعيف، والحال أنه ورد في عشرين مصدرا من أهم المصادر عند المسلمين بأسانيد بعضها صحيح وبعضها

ضعيف، والواقع يشهد لعليّ عليه السلام أنّه كان دائما مع الحقّ.

[11] البداية والنهاية ج 8 ص 140[ دار إحياء التراث العربي 1408هـ ]:

[12] صحيح مسلم ج 6ص 20

[13] [ النور 50 ]

[14] تفاصيل القصة ذكرها ابن كثير في تاريخه في أحداث سنة تسع وستين ( البداية والنهاية ج8ص337 وما بعدها ـ دار إحياء التراث العربي ـ بيروت 1408 هـ ) وهي جديرة بالمطالعة،ومن بين ما جاء فيها : " وقد كان عبد الملك بعث إلى امرأة عمرو بن سعيد أن ابعثي إليّ بكتاب الأمان الذي كنت كتبته لعمرو ، فقالت : إني دفنته معه ليحاكمك به يوم القيامة عند الله " .

[15]  قال الزيعلي ( ت سنة 762 ) في نصب الراية ج 5 ص 37 :

الحديث الثاني قال عليه السلام من قلّد إنسانا عملاً وفي رعيّته من هو أولى منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين قلت روى من حديث ابن عباس ومن حديث حذيفة فحديث ابن عباس أخرجه الحاكم في المستدرك في كتاب الأحكام عن حسين بن قيس الحربيّ عن عكرمة عن ابن عباس قال قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم من استعمل رجلاً على عصابة وفي تلك العصابة من هو أرضى لله منه فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين (انتهى) وقال حديث صحيح الإسناد ولم يخرجاه وتعقبه شيخنا شمس الدّين الذهبيّ في مختصره وقال حسين بن قيس ضعيف (انتهى) قلت رواه بن عدي في الكامل وضعف حسين بن قيس عن النّسائيّ وأحمد بن حنبل ورواه العقيلي أيضا في كتابه وأعلّّه بحسين بن قيس وقال إنّما يعرف هذا من كلام عمر بن الخطاب (انتهى) وأخرجه الطبراني في معجمه عن حمزة النصيبيني عن عمرو بن دينار عن ابن عباس قال قال النّبيّ صلى الله عليه وسلم من تولّى من أمر المسلمين شيئا فاستعمل عليهم رجلا وهو يعلم أنّ فيهم من هو أولى بذلك وأعلم منه بكتاب الله وسنّة رسوله فقد خان الله ورسوله وجماعة المسلمين مختصر وأخرجه الخطيب البغداديّ في تاريخ بغداد عن إبراهيم بن زياد القرشي عن خصيف عن عكرمة عن ابن عباس مرفوعا بلفظ الطبراني قال الخطيب وإبراهيم بن زياد في حديثه نكرة وقال بن معين لا أعرفه (انتهى) وأما حديث حذيفة فرواه أبو يعلى الموصلي في مسنده حدثنا أبو وائل خالد بن محمد البصري ثنا عبد الله بن بكر السهمي حدّثنا خلف بن خلف عن إبراهيم بن سالم عن عمرو بن ضرار عن حذيفة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال أيّما رجل استعمل رجلاً على عشرة أنفس وعلم أنّ في العشرة من هو أفضل منه فقد غشّ الله ورسوله وجماعة المسلمين (انتهى)

[16] تاريخ مدينة دمشق - ابن عساكر ـ ج 31 ص 178

[17] الحديث رواه مسلم (ج6ص20) و البخاري في صحيحه ج8ص88 و105وفي سنن النسائي ج7ص123 وسنن البيهقي ج8ص156 و157و وسنن الدارمي ج2ص241 و مجمع الزوائد ج1ص324 وج 5ص218وما بعدها وهو أيضا في مسند أحمد ج1ص297و310 ومسند أحمد ج2ص70و83 و93 و123 و154وج3ص445وج4ص96 ومسند أبي داوودص259ومصنف عبد الرزاق ج2ص 379و مصنف ابن أبي شيبة ج 8ص598 و605ومسند ابن راهويه ج1ص192 تفسير القرطبي ج14 ص56 وتفسير ابن كثير ج1ص518 والمعيار و الموازنة لأبي جعفر الإسكافي ص24 ومسند ابن الجعد ص330 ومصادر أخرى..

 [18] قال ابن أبي الحديد في شرح نهج البلاغة ج 2 ص 297 : قد ثبت عنه (صلى الله عليه وآله ) في الاخبار الصحيحة أنّه قال : ( عليّ مع الحقّ ، والحقّ مع عليّ ، يدور حيثما دار ، ) وقال له غير مرة : ( حربك حربى وسلمك سلمى ).

2 البدر الطالع ـ الشوكاني ـ ج1ص339

 

[20] توفّي الحافظ الهيثميّ سنة807وتوفّي ابن خَلْدُون سنة808

[21] في متتن هذا الحديث كلام وأيّ كلام،فقد جاء في صحيح البخاريّ في حديث الحوض : "ارتدوا على أدبارهم القهقرى " وأيضاً : " لا أراه يخلص منهم إلا مثل همل النعم ".فكيف يكون الهالكون خير القرون؟!!

[22] تاريخ ابن خَلْدُون ق2 - ابن خَلْدُون ج 2 ص 188

[23] - فتح الباري ـ ابن حجر ـ ج 8 ص 61

[24] - فتح الباري - ابن حجر ج 12  ص 346

[25] تاريخ ابن خَلْدُون ج 1 ص 446

 [26] هذا القول من الشافعيّ مشروط بصحّة نسبة الكلمة الكبيرة "قتل الحسين بسيف جدّه " إلى ابن خَلْدُون.وقد كان معاصره الهيثميّ يعتقد بصحّة نسبتها إليه ويلعنه لأجلها،كما أنّ تليذه ابن حجر لم ينف وجودها في النسخة التي رجع عنها.والقرائن تقوّي صدورها منه وإن كان يخطّئ ابن العربي في عبارة مشابهة، فإنّ دفاعه عن يزيد وطواغيت بني أميّة هو بذاته تهجّم على الحسين و آل النّبيّ صلى الله عليه وآله.

[27] لا شك أن ابن خَلْدُون يقصد نفسه فإنّه لم يعرف من الأعلام من ينكر المهدي في زمان ابن خَلْدُون وقبله.وكان يُذكرأيام قصة الجهيمان في الحرم المكي أنّ الشيخ عبد العزيز بن باز استدلّ بحديث الجيش الذي يغزو مكة من تبوك، وهذا ديل على إيمانه بحديث المهدي .

 [28] دررالسّمط في خبر السّبط  لابن الأبّار القضاعيّ ص 34 . تحقيق عز الدين عمر موسى

[29] نفح الطيب –المقري التلمساني ـ ج2ص984

[30] أسقط ابن عبد ربّه اسم عليّ من الخلفاء في أرجوزته، لكنّه أورده في العقد الفريد في فصل تحت عنوان " خلافة علي بن أبي طالب رضي الله عنه " وقال. وقُتل يوم الجمعة بالكوفة، وهو خارج إلى المسجد لصلاة الصِبح، لسبع بَقين من شهر رمضان، فكانت خلافته أربعَ سنين وتسعةَ أشهر، صلى عليه ولدُه الحسن.

[31] البداية والنهاية - ابن كثير ج 11 ص 219

[32] أورد الأمينيّ ـ رحمه الله تعالى ـ في موسوعته (الغدير) كثيرا من أقوال ابن عبد ربّه وافتراءاته على شيعة أهل البيت عليهم السلام وردّ عليه بما يثلج الصدر، وهذا أيضاً ممّا يؤكّد غلط ابن كثير في نسبة الرَّجُل إلى التشيّع.

[33] توجد ترجمة القاضي منذر بن سعيد في سير أعلام النبلاء ج16 من آخر الصفحة173 إلى آخر الصفحة 179.

[34] منهاج السنة النبوية ـ ابن تيمية ـ ج1 ص 539

[35] منهاج السّنّة النّبويّة ج2ص62

[36] يقول الذهبي في سير أعلام النبلاء ج10ص92:" قلت كلام الأقران إذا تبرهن لنا أنه بهوى وعصبية لا يلتفت إليه بل يطوى ولا يروى كما تقرر عن الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة وقتالهم رضي الله عنهم أجمعين

وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء ولكن أكثر ذلك منقطع وضعيف وبعضه كذب وهذا فيما بأيدينا وبين علمائنا فنبغي طيّه وإخفاؤه بل إعدامه لتصفو القلوب وتتوفرعلى حب الصحابة والترضي عنهم وكتمان ذلك متعين عن العامة وآحاد العلماء وقد يرخّص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العريّ من الهوى بشرط أن يستغفرلهم كما علمنا الله تعالى.

[37] تذكرة الحفّاظ ـ الذهبي ـ ج2ص699

[38] القائل هو الذّهبيّ

[39] تذكرة الحفّاظ ـ الذهبي ـ ج 2ص 700

[40] تذكرة الحفاظ ج 2ص 701

[41] تهذيب الكمال ـ المزّي ـ ج 1 ص 338

 [42] تفْسير القُرْطبيّ ج16ص319

[43] تفْسير القُرْطبيّ ج9ص363[ دار الشعب –القاهرة 1373 هـ ]

[44] القائل هو الذّهبيّ 

[45] وجاء في صحيح مسلم 7 ص172 أن أبا سفيان - وهو شيخ قريش - أتى على سلمان وصهيب وبلال في نفر ، فقالوا : والله ما أخذت سيوف الله من عنق عدو الله مأخذها . فقال أبو بكر : اتقولون هذا لشيخ قريش وسيدهم ! ؟ فأتى النبي (صلى الله عليه وآله فأخبره . فقال يا أبا بكر : لعلك أغضبتهم ! لئن كنت أغضبتهم لقد أغضبت ربك اهـ و الحديث موجود أيضاً في وفي سير سير أعلام النبلاء (الذهبي ) ج 1 ص 540و تاريخ دمشق ج 10 ص 463 . قلت : وع ذلك فقد بقي أبو بكر مصرّاً على تعظيم آل أبي سفيان، ومخالفته للنبيّ صلى الله عغليه و آله في ذلك واضحة.  

[46] مثل هذه القصة وقعت لخالد بن الوليد الذي كان على رأس الجيش أيضاً من طرف أبي بكر، وانبهر بجمال امرأة مالك بن نويرة فقتله زعما منه أنّه ارتد ،وتبيّن فيما بعد أنّ مالكا بن نورية كان على الإسلام ،ووداه أبة بكر( أي دفع ديته ) ولكنّ خالداً احتفظ بامرأة مالك !!

[47] تطهيرالجنان ـ ابن حجر الهيتمي ص71

[48] سند الحديث كما في المعجم الكبير ج19 ص307 :حدّثنا الحسين بن إسحاق التّستري حدّثنا الحسين بن أبي السّريّ العسقلانيّ حدّثنا زيد بن أبي الزّرقاء عن جعفر بن برقان عن يزيد بن الأصمّ قال: قال علي قتلاي وقتلى معاوية في الجنة".

 [49] تطهيرالجنان ص25

[50] تطهير الجنان ـ ابن حجر الهيتميّ ـ ص35 [ دار الكتب العلمية 1420 هـ ]

[51] سير أعلام النبلاء ج6ص227 [ وقيل ولد سنة 60عاشر محرم يوم قتل الحسين عليه السلام ] ومات سنة148.

[52] قل لا أسالكم عليه أجراً إلا المودة في القربى ومن يقترف حسنة نزد له فيها حسناًُ إنّ الله غفور شكور ( الشورى 23 ).

[53] سير أعلام النبلاء ـ شمس الدين الذّهبيّ  ـ ج3 ص 39

[54] تاريخ بغداد ـ الخطيب البغداديّ ـ ج 11ص 364

[55] تاريخ بغداد ـ الخطيب البغدادي ـ ج 12 ص 347

[56] [ المائدة 118 ]

[57] الرّوح ـ ابن قيّم الجوزيّة ـ ج1ص26   

[58] فيض القديرـ المناويّ ـ ج6ص366

[59] هذا خطأ فاحش من طرف ابن كثير إذْ جزم بأنّه لم يقلها دون أن يورد في ذلك دليلا قاطعا ، والجزم لا يكون إلاّ عن يقين ، ثمّ إنّه إن كان يريدُ أن تُنْقَلَ من طريق الذين حاربوا عليّاً وسبّوه وشتموه ولعنوه بعد أن فارق الدنيا فإنّا لله و إنّا إليه راجعون وعلى العقول السّلام.ولاحظْ بعدها اضطرابَه وهو يحاول أن يعطي كلام النّبي (صلى الله عليه وآله معنى غير ما يتبادر، مع أنّ النّبي (صلى الله عليه وآله  تكلّم بلسان عربيّ مبين، ومتى كانت الجنّة تعني الألفة واجتماع الكلمة؟!

[60] تاريخ مدينة دمشق ـ ابنُ عساكر ـ ج1ص64

[61] تاريخ مدينة دمشق ـ ابن عساكرـ ج18 ص305 تحت رقم 2232

[62] تفْسير القُرْطبيّ ج16ص319

[63] الطبقات الكبرى - محمد بن سعد ج 4 ص 266

.. قبل ..        .. الرئيسية ..         .. بعد ..